الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال
المستقبل (4) الباب الرابع
كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟
الباب الخامس
قيم التقدم في المجتمع الإسلامي
الباب السادس
حقيقة الحضارة الإسلامية-جمع وإعداد-الباحث في القرآن والسنة-علي بن نايف الشحود
الباب الرابع
كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟
المرجع الديني
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
الاستباق في الخيرات
المحور الأساسي في الحياة الإسلامية هو: العمل الصالح النابع عن الإيمان الحق .
ينبغي أن يكون التنافس في المجتمع الإسلامي حول الإيمان والعمل الصالح (أي حول محور التقوى)
للتنافس والإستباق إلى الخيرات، والمسارعة إلى الجنة، دور حاسمٌ وأساسي في دفع المجتمع إلى الامام وفي المحافظة على خطه العام. ويضع الإسلام، باعتباره الرسالة التي اُنزلت بعلم الله المحيط بكل شيء، يضع مناهجه الحياتية على أساسين:
الأول: الشعور الذاتي الفطري.
الثاني: الأنظمة الاجتماعية.
وتتوافق الأنظمة الاجتماعية في الإسلام مع ذلك الشعور النابع من أعماق الفطرة البشرية. فالإسلام، من جهة، يبعث فيك الاحساس بالتنافس والشعور بالاستباق، وبالتالي يريدك أن تنظر إلى الآخرين وتتخذ من عملهم مقياساً لحجم عملك، ومن جهة ثانية يدفعك إلى ذات القيم التي تدفعك إليها فطرتك وقلبك وعقلك.
وهكذا فإن النصوص التي تؤكّد على ضرورة العمل، ليست بعيدة عن تلك التي تؤكد على التنافس والمسارعة إلى الخيرات، فالنصوص التي تدعونا إلى التنافس، من أجل أن يكون أحدنا أقرب إلى الله من الآخرين، إنّما تبلور فينا تلك الفطرة القائمة فعلاً.
والشعور بالتنافس جزء من النزعة الإجتماعية في المجتمع، وهي تشبه الروح في الإنسان، والإسلام حين ينمّي هذه النزعة ويطهّرها، فإنّما يضرب على الوتر الحساس.
يقول تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة،62
محور التقوى
يوحي هذا النص إِن التنافس يجب أن يكون حول الايمان والعمل الصالح أي حول محور التقوى، وأن ما عدا ذلك من القيم والاسماء والانتماءات لا تعني شيئاً بل إنّها سوف تتلاشى.
وفي آية أخرى يؤكد القرآن الحكيم لنا على أن ما نعمله سنجده عند الله سبحانه، يقول تعالى:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لاَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ البقرة،110
هذه الآية تثير فينا حوافز هائلة نحو العمل، لأن الإنسان إذا اكتشف أن عمله سيبقى ولن يضيع فانه سيندفع إلى العمل الصالح بشكل كبير، لأنه يرى أن عمره يذهب، أما عمله فيبقى، فلماذا لا يستفيد من عمره الزائل من أجل عمله الباقي؟
إن كل عمل تعمله في طريق الخير فهو لك، حتى لو كان في مظهره من أجل الآخرين، لأنّك حينما تعمل للآخرين، فان هذا العمل سيتضاعف وتعود اليك نتائجه من حيث تشعر أو لا تشعر.
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَقَدِّمُواْ لأنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشّرِ المؤمِنِينَ﴾ البقرة،223
ونقرأ في آية ثالثة قول الله عز وجل:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران،30
ونقرأ في سورة النساء ما يدل على: أن المحور الأساسي في الحياة هو العمل الصالح النابع عن الايمان الحق:
﴿لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ وَلآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ اُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ النساء،123-124
العمل والجزاء
ويقول سبحانه:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ الزَّلزَلَةِ،7-8
إذن، فإن أعمال الخير وأعمال الشر تبقى ولا تزول، وهي محور جزاء الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن أجل أن يدفعك الإسلام إلى أن تجتهد في سبيل عمل الخير، ولا تدع عمل خير الا وتقوم به، ولا تبقي من عمرك لحظة الا وتعمرها بعمل الخير، فان القرآن يبين أنّه في يوم القيامة سيُنصب ميزان توضع في كفة منه أعمال الإنسان الخيرة وفي الكفة الأخرى أعماله الشريرة، وآنئذ يشعر الإنسان بقيمة حبة الخردل من عمله، هذه الأعمال الصغيرة التي قد نستهين بها اليوم، إلاّ أننا نشعر بقيمتها غداً، واذا كنا الآن عقلاء واستشعرنا أنفسنا وتحسسنا بذلك الموقف، فإننا نستطيع أن نعمل اليوم، لكي ننتفع به في الآخرة، أما بعد فوات الأوان فإننا لا نستطيع أن نعمل، فنندم، والندم لا ينفع شيئاً وأعوذ بالله من ذلك اليوم. لذلك جاء في الحديث: (ودع فخرك إلى الميزان).
ففي ذلك اليوم إذا رجحت كفة الحسنات على كفة السيئات، يحق لك أن تفتخر، أما اليوم وقبل أن تعرف مصيرك فلا تستطيع أن تقول شيئاً.
يقول تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ القَارِعَةِ،8-11
إن الهاوية التي هي نار حامية، هي مصير من خَفَّت موازينه في مجال عمل الخير، فهل الأفضل أن يعمل الإنسان الخير أو لا يعمل؟ أن يجتهد أو لا يجتهد؟
إن القرآن الحكيم ورسالات الله تبلور للإنسان هذا الإحساس الذي تعيشه أنت بينك وبين الله، فحتى لو كنت على قمة جبل فإن هذا الإحساس يزيدك إندفاعاً نحو العمل. لذلك نرى المؤمنين المتقين الذين أيقنوا بأن الآخرة حق، يتعبون أنفسهم ويجهدون، بل يكادون يهلكونها بالعمل في سبيل الله.
وهذا الإحساس الديني هو الإحساس الذي لم يفهمه كثير من علماء الاجتماع، لذلك أخطأوا في فهمهم للدوافع الذاتية عند الإنسان.
الفطرة والتنافس
وحينما يقترب الإنسان إلى الله سبحانه بفطرته الأولية النقية، فانه يفعل ذلك حبا في الله، واحساسا بضرورة الاتصال بينبوع المحبة والعظمة والجمال.
وإن الأدعية المأثورة عن النبي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام)، مثل دعاء البهاء لأسحار شهر رمضان المبارك الذي يقول:
(اللهم اني أسألك من بهائك بأبهاه، وكل بهائك بهي . اللهم اني أسألك ببهائك كله. اللهم اني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم اني أسألك بجمالك كله..)
إن هذه الأدعية تثير في أعماق وجدان الإنسان ذلك الأحساس الديني النقي النظيف المفعم حيوية وروحاً وصفاءً ونقاءً. ولو لم يمتلك الإنسان هذا الاحساس، فإن آلاف الأدعية والنصوص والتوجيهات لا تنفعه شيئاً.
إنّ هذا الاحساس الديني العميق في فطرة الإنسان بالعمل وبضرورة خلاص الذات من أهوال يوم القيامة ومن النار، يستفيد منه الإسلام اجتماعياً أيضاً، فيجعله متوافقاً مع الشعور الإجتماعي، هذا هو الفرق الكبير بين المجتمع الإسلامي الذي يعيش حالة التنافس والمسارعة إلى الخيرات، والمجتمع الجاهلي الذي يعيش حالة الإنفصام والتقاعس.
التنافس الزائف
ففي المجتمع الإسلامي يدعوك إحساسك الداخلي إلى الايمان، والى الإجتهاد من أجل الله، والى النقاء، والى التقوى. بينما تجد المجتمع الجاهلي يدفع الشخص إلى التنافس على المال، وعلى الجاه، وعلى السلطة، وعلى القيم الفاسدة فيعيش آنئذ الانفصام، وكلما تناول عقاقير مهدئة، ولجأ إلى معاقرة الخمرة، والى القمار، والعياذ بالله، فإنه لا يجد الراحة، لأنّ الإنسان الذي تتجاذبه قوتان في اتجاهين متضادين، لا يقدر أن يحصل على الراحة والسكينة.
ان المجتمع الجاهلي مجتمع يعيش التنافس على القيم الزائفة في الخارج، وبينما يعيش الاندفاع نحو الدين في الداخل كبشر مفطور على حب الله، لذلك لا يكون مجتمعاً هادئاً فاضلاً، أما المجتمع الإسلامي فان ذلك التنافس الخارجي سيتمحور هو الآخر حول ذلك الاحساس الداخلي، وبالتالي يعمق الحياة في هذا المجتمع، لأنّ ذلك الاحساس الروحي الداخلي هو الذي يجمعنا مع بعضنا ويفجر فينا ينبوع الحياة ويجعلنا أمة واحدة.
لنقرأ الآيات الكريمة التي تدعونا إلى التنافس على الخير وعلى العمل الصالح، يقول القرآن الحكيم في سورة البقرة:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة،148
فلا بأس أن يختلف الناس ويتفاضلوا بالميزات والإتجاهات العلمية والعملية، ولكن بشرط أن تكون وجهات الجميع خيراً، فالأعمال اذا كانت جميعها صالحة فإنها ستجتمع بالتالي في اتجاه واحد.
التنافس والإبتلاء
وفي آية أخرى يبين القرآن الحكيم ان اختلاف شرائع الناس انما تخدم هدفاً واحداً، وهو المسارعة إلى الخيرات والمنافسة عليها.
يقول تعالى:
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فَاُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ المائدة،47-48
كان من الممكن أن يجعل الله الناس أمة واحدة، ولكن أبى أن يخلق البشر هكذا، إنّما جعل لكلٍ شرعة ومنهاجاً، لماذا؟
﴿ليبلوكم فيما آتاكم﴾
فهذا الاختلاف يخدم حكمة الله سبحانه وتعالى في الكون، القاضية بأن يبلو الله البشر بالنعم التي أعطاها اياهم، من العقل والقوة والمال.
فالله يختبرك عن طريق وجود الاختلاف الذي يدفعك أنت ويدفع الآخرين إلى العمل، فالأعمال تتفجر من كل صوب، وبالتالي تعمر الارض وتستخرج ما في الإنسان والطبيعة من طاقات وامكانات، وتسخرها من أجل مصلحة البشر.
ان للإنسان طاقات لا تحد، وفي الطبيعة قوى لا تنفد، والخلاف يفجّر طاقات البشر باتجاه تسخير الطبيعة، واستخراج كنوزها.
إن أضخم الانجازات البشرية، كانت في ظروف الصراع الحاد، وفي أيام الحرب الساخنة، لذلك قيل إن (الحاجة أم الإختراع).
بيد أن اتجاه الخلافات البشرية سار في طريق الهدم. فالقوى العظمى في العالم كانت ولا تزال تتسابق في صنع المزيد من اسلحة الدمار التقليدية والنووية التي يكفي المخزون الجاهز منها لتدمير العالم عشرات المرات.
إنّها لم تتنافس في القضاء على السرطان أو تنمية العالم الثالث أو إستغلال المحيطات لخير البشرية.
وخلاصة القول: إن التسابق أمر طبيعي بين الناس، ولكن الشيء المهم عند الإسلام هو أن يكون هذا التسابق في تجاه الخير ومرضاة الله سبحانه.
صفوة الكلام
1- إن التنافس في العمل الصالح والمسارعة إلى الخيرات، يؤديان دوراً حاسماً في دفع المجتمع الاسلامي إلى الأمام .
2- وفي الإسلام تتوافق الأنظمة الإجتماعية مع ذلك الشعور النابع من أعماق الفطرة البشرية .
3- والشعور بالتنافس هو جزء من النزعة الإجتماعية في المجتمع وهي تشبه الروح في الإنسان .
4- وتوحي آيات القرآن الحكيم أن التنافس يجب أن يكون حول الايمان والعمل الصالح . أما ما عدا ذلك من القيم والأسماء والإنتماءات، فهي لا تعني شيئاً .
5- إن كل عمل يقوم به الإنسان في طريق الخير فهو له حتى لو كان في ظاهره من أجل الآخرين .
6- وإن رجحان كفّة الحسنات في ميزان الأعمال هو الذي يبعث على الاعتزاز .
7- والفارق الأساسي بين المجتمع الإسلامي ومجتمع الجاهلية هو أن الأول يعيش حالة التنافس والمسارعة الى الخيرات، بينما الثاني يعيش حالة الإنفصام والتقاعس .======================
الحوافز الاجتماعية
العلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي ليست علاقة تراكمية وكمية، وإنما هي علاقة تفاعلية وعضوية .
المجتمع الحي هو الذي يتفاعل أبناؤه بحيث يُضاف كل واحد منهم إلى الآخرين إضافة كيفية، ويتعاون ويتكافل معهم .
نظريات حس التوافق الاجتماعي
هناك نظريتان متناقضتان حول تطبيق الأنظمة الاجتماعية .
تقول الأولى بأن الأنظمة الاجتماعية مفروضة على الإنسان، كما الحقائق الطبيعية مفروضة عليه، فكما أن الحرّ والبرد والظلام والنور والليل والنهار، وكما أن الصحة والمرض والشباب والشيخوخة، تفرض ذاتها على الإنسان بحيث لا يستطيع الفرد التخلص من ضغطها، فكذلك الأنظمة الاجتماعية.
أمّا النظرية الثانية، وهي أحدث من الأولى وأقرب إلى العقل والعلم، فتقول: أن النظام الاجتماعي يستلهم قوته وشرعيته من داخل الإنسان، فكل فرد من أبناء المجتمع ينجذب بدافع ذاتي نحو تطبيق الانظمة والقوانين الاجتماعية على نفسه وبدون ضغط خارجي، فأول ما يتعلم الإنسان الطاعة إنّما يتعلمها من أمه، والأم هي ينبوع الحنان والحب، والطفل الرضيع لا يطيع أمه خوفاً منها أو طمعاً في لبنها وانّما حباً لها، ومن ثم حينما ينمو الطفل في محيط ملؤه الحب والحنان والعاطفة، تراه يكون أكثر رغبة في اقتباس القيم والعادات التي تسود ذلك الجو العائلي.
بينما الطفل الذي يعيش في مجتمع الصرامة والقسوة، قد تكون ردة الفعل عنده تجاه هذه الصرامة أقوى من حس توافقه مع المجتمع الصارم.
فالمجتمعات التي تعيش الحب والحنان ويحسب كل فرد فيها نفسه أباً وأخاً وإبناً لسائر المجتمع، تعيش التوافق الاجتماعي، وأبناؤها يطيعون قيمها وتقاليدها أكثر من المجتمعات التي تسودها الصرامة والعنف.
التكيف الاجتماعي
وتضيف هذه النظرية: إن إحساس الإنسان الداخلي هو الذي يدفعه نحو التنافس مع الآخرين، أو تقليدهم، والكلمة العربية الشائعة التي تقول (حشر مع الناس عيد) لا تدل على أن الناس هم الذين يفرضون على الفرد أن يحشر نفسه معهم، انّما هو الذي يحب أن يصبح جزءاً منهم.
إن التجارب والبحوث الحديثة التي قام بها علماء النفس والاجتماع وعلماء التربية، دلت على أن أقوى الغرائز عند البشر هو حسّ التوافق الاجتماعي أي التكيّف مع سائر أبناء المجتمع.
والمثال التالي يسوقه علماء الاجتماع في هذا الحقل: لقد دلت التجارب على أن العمل الجماعي أكثر حيوية وإنتاجاً من العمل الفردي، حيث جعلوا فرداً يعمل لوحده في غرفة، ويجاوره آخرون في غرفة أخرى يعملون أيضاً. فاذا قيل لهذا الفرد بأن أولئك الذين هم في الغرفة المجاورة يعملون مثلما تعمل، فانه يزداد نشاطاً وبالتالي يزداد إنتاجاً. أمّا اذا لم يفهم ذلك فانه سيتباطأ عن العمل. فعندما يشعر الإنسان بأن هناك آخرين يعملون نفس العمل الذي يقوم به، فان ذلك يدفعه إلى زيادة نشاطه.
وهناك تجربة بسيطة يمكنك أن تجربها بنفسك: إحكِ لإنسان ما قصة عن نشاط فرد آخر، حتى ولو كان بطل القصة شخصاً تاريخياً وليس معاصراً، فسوف ترى أن هذه القصة ستخلف أثرها العاجل عليه، حيث يزداد نشاطه.
اذن، وفق هذه النظرية وهي النظرية الأحدث والأقرب إلى التجارب العلمية، كما هي الاقرب إلى البصائر الإسلامية، نستنتج أن التوافق مع أبناء المجتمع ومحاكاة الناس الآخرين، وبالتالي إتباع سلوكياتهم وطرق عملهم ومستويات إنتاجهم إنما هو نابع من فطرة البشر ومن غريزته الذاتية.
والإسلام يحفّزك نحو المزيد من العمل، بإثارة إحساس التوافق مع الآخرين، وذلك عبر أسلوبين:
الاول: القدوات الصالحة
يجعل الإسلام للفرد قدوات صالحة، يعطي لها شرعية اجتماعية، ويرفعها عالية أمام عينيه ليتخذ أبناء المجتمع منها منهاجاً لعملهم ومقياساً لمدى انتاجهم وحيويتهم.
فالانبياء مثلاً، نرى أن القرآن يركّز عليهم فيذكر قصصهم ولعشرات المرات.. بينما لا نجده يحدثنا عن الملائكة، وما يتميزون به من مثابرة واجتهاد وقوة عظيمة، مع أن الحديث عن الملائكة ربما يكون أفضل ظاهراً من صبر أيوب أو استقامة نوح، أو جهاد هود وما أشبه، والسبب في ذلك هو أن الأنبياء بشر مثلك، فعندما تسمع قصة نبي كأيوب عليه السلام الذي صبر على البلاء، فانك ستتفجر حيوية وتندفع نحو اتباع سيرته وإنتهاج نهجه. وكذلك تأكيد الإسلام على الأئمة عليهم السلام ووجوب ولايتهم، لأنك حينما تحب وليا من أولياء الله، وتعتبره إماما لك وحجة بينك وبين الله سبحانه وتعالى، فإنك ستبحث دائماً عن سيرته وتفتش عن نهجه، وتحاول تطبيق ذلك المنهج وتلك السيرة على نفسك.
وكذلك تأكيد الإسلام على المؤمنين الصادقين، وتأكيده على الأب الصالح، والمعلم الصالح، والصديق الصالح وضرورة إتباعهم.
فاذا كان في المنطقة التي تعيش فيها رجل صالح، صادق اللسان والعهد، محسناً مخلصاً، سبّاقاً إلى الخيرات.. فإن الإسلام يأمرك بأتخاذه قدوة، لأن هذا الرجل الصالح سيحشر يوم القيامة حجة عليك كما جاء في الأحاديث، حيث أن الله سبحانه وتعالى سيأتي بهذا الرجل ويأتي بك ويقول لك.. هذا رجل كان يعيش في المنطقة التي كنت تعيش فيها، وأنت كنت تعرفه، وظروفه كانت تشبه ظروفك، والضغوط التي كانت عليه مشابهة للضغوط التي واجهتها فلماذا أصبح هذا مؤمناً صادقاً، وأنت لم تصبح كذلك؟.
الثاني: التنافس الإيجابي
لماذا يشدّد الإسلام على صلاة الجماعة في المسجد أو خارجه.. ويقرّر أن المجتمعين فيها اذا زاد عددهم على خمسين شخصاً، فلا يحصي ثواب تلك الصلاة الا الله سبحانه وتعالى؟
إن الصلاة هي الصلاة، ولكن من أحد أهداف صلاة الجماعة انك حين تقف مع الآخرين تصلي، فانك ستسعى لأن تصبح صلاتك أكثر خشوعاً وأقرب إلى السنة والآداب والمستحبات، لان الله فطر البشرية على حس التوافق مع الآخرين. فإذا كنت في صلاة الجماعة، واستولت على أحد المصلين حالة الخشوع والتهجد وأخذ يبكي في صلاته، فإنك تحس بنقص، فتقول في نفسك: لماذا يخشع ويبكي في صلاته وأنا لا أخشع ولا أبكي؟ لماذا تحصل عنده هذه الحالة ولا تحصل عندي؟ وحينها تشعر عميقاً بضرورة الوصول إلى مستواه، وهذا شعور طبيعي بالنسبة لك، لذلك يحرص الإسلام على إقامة الصلاة جماعة.
والإسلام يأمرنا بأن نعلن بعض الأعمال الصالحة التي نقوم بها. فالصدقة مثلاً مستحبة في السر والعلن. فالصدقة الواجبة يستحب أن تكون علناً لأنك حينما تدفع الزكاة والخمس والكفارة وما أشبه من الصدقات الواجبة أمام الآخرين، فانّهم يتشجعون على دفع صدقاتهم اذ ينمو فيهم الاحساس بالتنافس والتوافق الاجتماعي.
والإسلام حين يأمر بالتنافس مع الآخرين على الخيرات، فانّه يضرب سورا بين المجتمع المؤمن الموحّد وبين المجتمع الكافر المشرك، ويثير حسن التوافق الاجتماعي فقط بينك وبين المؤمنين من إخوتك. وهذا الفصل بين المجتمعين يجعلك منتمياً إلى ذلك المجتمع المؤمن الصادق، ويجعل حس التوافق فيك متوجها إلى هذا المجتمع، وليس إلى المجتمعات المنحرفة. لذلك ترى الإسلام يؤكد بأنك اذا كنت في مجتمع فاسد فمن الضروري ان تكبح جماح هذا الإحساس الذاتي الذي فطرت عليه، وهو الإحساس بالتوافق الاجتماعي، وعليك أن تحصن نفسك ضد التأثر بذلك المجتمع، وأن تجعل من إرادتك حاجزاً يمنع حس التوافق الإجتماعي من التأثير عليك.
قواعد التعامل الإجتماعي
إن العلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي ليست علاقة تراكميّة وكميّة وانّما هي علاقة تفاعلية عضوية. فالإسلام لا يريد أن يجمع الناس في المسجد كجمع البرتقال في صناديقه، وانّما يريد أن يجمعهم كما تجتمع قطرات الماء فتتحول إلى سيل عظيم. وهذه صفة المجتمع الحي الذي يتفاعل أبناؤه بحيث يضاف كل واحد إلى الآخر إضافة كيفية يتشجع بالآخر، ويتعاون ويتكامل معه. فكل جزء من أجزاء الإنسان وكل حركة من حركاته وكل نشاط من نشاطاته، يتكامل مع الجزء المماثل عند الإنسان الآخر.
ونقرأ في وصية للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يوضح لنا هذه الحقيقة. يقول عليه السلام :
(وأحسن كلمة حكم جامعة، أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لها).
إن هذه هي الكلمة الجامعة والحكمة الرشيدة التي تعتبر قاعدة لسائر الحكم والمواعظ والوصايا، حيث تعلمنا كيف نتكامل مع الآخرين، ونتفاعل معهم. ثم يضيف الامام قائلا:
(إنّك قلّما تسلم ممن تسرعت اليه، أو تندم اذا فضلت عليه، واعلم إن من الكرم الوفاء بالذمم، والصدود آية المقت، وكثرة العلل آية البخل).
فالإنسان الذي يصد خيره عن الآخرين، إنّما يجلب مقتهم وغضبهم على نفسه، وإن من يتعلل ويتعذّر بأعذار واهية، انّما يكشف عن البخل الكامن في ذاته. فحينما تواجه شخصاً يطلب منك حاجة فاعطه حاجته، ولا تتعلل بالأعذار إن كنتَ قادراً على الإستجابة له.
ويقول الإمام عليه السلام:
(ولبعض امساكك على أخيك مع لطف خير من بذل مع جنف).
فحينما تريد أن تعطي للآخرين لا تعطهم تمننا، أعطهم ولو شيئا قليلاً ولكن مع اللطف وهو خير من أن تعطيهم شيئاً كثيراً ثم تحملهم المنّة.
ويضيف الإمام:
(ومن الكرم صلة الرحم، ومن يثق بك أو يرجو صلتك اذا قطعت قرابتك؟).
أي أنك اذا قطعت قرابتك وعلاقتك بالآخرين فمن الذي يرجو منك الصلة.
(والتجرّم وجه القطيعة، إحمل نفسك من أخيك عند صرمه اياك على الصلة، وعند صدوده على لطف المسألة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنوّ، وعند شدّته على اللّين، وعند تجرّمه على الإعذار، حتى كأنك له عبد وكأنه ذو النعمة عليك، وإياك أن تصنع ذلك في غير موضعه، أو تفعله في غير أهله).
فالإسلام يريدك أن تندفع للعمل على إصلاح ما بينك وبين أبناء المجتمع، فاذا رأيت صدودا أو منعا أو قطيعة من قبل الآخرين، فحاول أن تبادر بالخير اليهم. ان هذا الاحساس الذي ينبع من ذات الإنسان هو الذي يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً حيوياً، لذلك يؤكّد الإمام علي عليه السلام على هذه الفكرة ويضيف:
(ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك).
الى هذا المستوى يأمرك الإسلام بأن تحافظ على مشاعر أصدقائك. فاذا رأيت شخصاً يعادي صديقاً من أصدقائك فلا تقترب إلى ذلك الشخص لأن ذلك جفاء لصداقتك مع صديقك.
(ولا تعمل بالخديعة فانه خُلقٌ لئيم. وامحض اخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة).
اذا رأيت فعلا حسناً عند أخيك أو قبيحاً فأعطه النصيحة محضاً دون تشويه أو تضليل، ودون زيادة أو نقيصة.
(وساعده على كل حال، وزل معه حيث زال، ولا تطلبن مجازاة أخيك وإن حثا التراب بفيك).
(وجُد على عدوك بالفضل، فانّه أحرى للظفر).
أي حتى اذا كان هناك عدو لك فحاول أن تجود عليه بالفضل طالما أنّه لم يعلن الحرب ويشهر السيف عليك.
(وتَسلَّم من الدنيا بحسن الخلق وتجرُّع الغيظ، فاني لم أرَ جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذ منها مغبة. ولا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، ولِن لمن غالظك فانّه يوشك أن يلين لك).
إذا رأيت من أخيك ما لا يحمد وأردت ان تقاطعه، فقبل ذلك إذهب اليه وعاتبه فاذا لان فلِن له، أمّا اذا بقي على تلك الأخلاق غير الحميدة فيمكنك أن تقاطعه.
انظروا إلى هذه التعاليم، وتدبروا فيها.. إنّها تهدف إلى خلق الحيوية الذاتية داخل المجتمع المسلم، وليس فقط جمع أبناء المجتمع إلى بعضهم، انّما إيجاد الروابط الداخلية الوشيجة بين القلوب، لتكون هي الحصن لهذا المجتمع.
صفوة الكلام
1- نظريتان حول الأنظمة الإجتماعية .
ألف: إنها مفروضة على الإنسان، كما الحقائق الطبيعية .
باء: إنها تستلهم قوتها وشرعيتها من داخل الإنسان، ومدى انجذابه لتطبيقها . وهذه النظرية هي الأقرب إلى العقل والعلم وبصائر الدين .
2- المجتمعات التي تعيش أجواء الحب والحنان، يحسب كل شخص فيها نفسه أباً وأخاً وإبناً لسائر أعضاء المجتمع، تعيش التوافق الإجتماعي . وأبناؤها يطيعون قيمها وتقاليدها أكثر من المجتمعات التي تسودها الصرامة والعنف .
3- إن أقوى الغرائز عند البشر هو حس التوافق الإجتماعي، أي التكيّف مع سائر أبناء المجتمع .
4- والإسلام يحفِّز الأنسان نحو المزيد من العطاء والعمل بإثارة إحساس التوافق مع الآخرين، وذلك عبر أسلوبين .
ألف: تسليط الضوء على القدوات الصالحة .
باء: التأكيد على التنافس الإيجابي .
5- ويحبِّذ الإسلام أداء بعض الأعمال الصالحة علناً (كالصدقات الواجبة) وذلك لتنمية الإحساس بالتنافس في أبناء المجتمع الإسلامي .
=====================
المطلوب: بناء مجتمع حيوي
الإسلام يبني المجتمع على أساس العقل وليس الشهوات .
إن قاعدة المجتمع الإسلامي الرسالي هي : الحب والعطاء والإيثار .
كيف يجعل الإسلام المجتمع حيوياً فاعلاً؟
هناك مرحلتان للوصول إلى هذا الهدف:
اولاً: ايجاد التماسك داخل كيان المجتمع.
ثانياً: القضاء على العقبات التي تعترض فاعلية المجتمع.
وهنا نتساءل: كيف يربط الإسلام البشر بعضهم ببعض ويجعلهم متماسكين حتى يحقق المرحلة الأولى؟
للإجابة على هذا السؤال لابد أن نعرف، أن هناك قوتين تتجاذبان أنشطة الإنسان: قوة العقل، وقوة الشهوات، وكل مجتمع إمّا أن يكون قائماً على أساس قوة العقل، أو على اساس طاقة الشهوات، بينما نجد بعض المجتمعات تخلط بين الشهوات والعقل، ولكنها في ساعات الحسم تعود إمّا إلى العقل وإمّا إلى الشهوات. والمجتمع الإسلامي يبني أساسه على قوة العقل لا قوة الشهوات، فالقيم الزائفة، مثل قيمة الأرض، وقيمة العنصر، وقيمة المصلحة وما أشبه، ينسفها الإسلام نسفاً وينظف المجتمع منها ولا يبقي الا قيمة واحدة، وهي قيمة التقوى التي تعتمد أساساً على قوة العقل.
بين الحب و الشهوة
وهذه القيمة حينما تدخل علاقات المجتمع تسمى بالحب، وهنا لا بد أن نذكِّر بالفرق الكبير بين الحب والشهوة. فحينما تقول أنا أشتهي البرتقال، فذلك يعني أنك تريد أن تأكله، وحينما تقول أشتهي السيارة فذلك يعني أنك تريد أن تركبها وتستهلكها..
أمّا الحب فهو شيء آخر.. أنت تحب الله يعني تحب أن تعبد الله، وتخضع له وتطيعه. وأنت تحب المستضعفين يعني تريد أن تخدمهم وتضحي من أجلهم، وليس أن تستخدمهم وتضحي بهم من أجل مصالحك، وأنت تحب الصالحين يعني تريد أن تعمل بهداهم وتنصرهم، اذن فالشهوة هي أنك تريد شيئاً أو شخصاً من أجل مصلحتك، ومن أجل غريزتك، ومن أجل أهوائك، أمّا الحب فهو يعني أنك تريد نفسك من أجل ما تحبّه.
إن الحب هو أعمق مشاعر العطاء والاحسان والبذل والإنفاق عند الإنسان، فكما خلق الله سبحانه وتعالى فيك قوة تدعوك إلى إتلاف الأشياء واستخدام الأشخاص من أجل ذاتك وهي قوة الشهوات، كذلك أغرز في قلبك قوة تدعوك إلى العطاء للأشياء وللأشخاص والبذل من أجلهم، وهي قوة العقل التي يولد منها الحب والإيثار . وكما تشعر باللذة والمتعة تجاه استفادتك من الأشياء، كذلك وبنفس المقدار بل وأكثر من ذلك تشعر باللذة حينما تعطي نفسك للأشياء والأشخاص.
إن لذة الإنسان الذي يجلس في مطعم كبير ويطلب مائدة من ألذ الموائد، ليست أكبر من لذة ذلك الإنسان الغني الذي يفرش لمجموعة من الأيتام والأرامل والمستضعفين والمساكين مائدة غنية فيأكلون منها وهو ينظر اليهم.
وإن لذة الإنسان الذي يعدم رجلا من أجل مصلحته ومن أجل ذاته ومن أجل سلطانه وطغيانه، ليست بالتأكيد أكثر من متعة الإنسان الذي ينقذ غريقاً من الماء، أو يقوم بجراحة ناجحة لقلب مريض مشرف على الموت. إنّ اللذة ذات اللذة، وانك في كلتا الحالتين ستحصل على نفس المطاليب، وتحقق نفس الأهداف والغايات، ولكن إمّا عن طريق الشهوات الدنيئة وإمّا عن طريق العقل الرفيع.
ان المجتمع الإسلامي مبني على أساس الحب، ونقرأ في القرآن الحكيم تلك الآية التي تحدد ملامح المجتمع الإسلامي، ملامح المجتمع الذي لا يعرف الحدود والالفاظ والشعارات وما أشبه حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ المائدة،54
الحب في الله والبغض في الله
إن قاعدة التجمّع الإسلامي الرسالي هي الحب والعطاء والإيثار، وعندما تحب الآخرين، فإنك لا تبحث كيف تستفيد منهم وتستثمرهم وتستغل طاقاتهم، وانّما تبحث ابداً كيف تخدمهم، وكيف تضحي بذاتك من أجلهم. ونجد في كثير من الأحاديث المأثورة عن الأئمة عليهم السلام، إن أرفع درجات الايمان، أن تحب لله وتبغض لله. فإذا أردت أن تجرّب نفسك هل أنت مؤمن، أم لا تزال نسبة من الشرك والنفاق توجد في نفسك، فانظر إلى علاقتك بالآخرين: ما حقيقتها. ولماذا ترتبط بهم؟ هل من أجل أن يخدموك، أو من أجل أن تخدمهم؟
فان كانت علاقتك بهم لإستغلالهم فاعلم بأن نسبة من النفاق ما تزال تعشعش في قلبك، واذا رأيت العكس فاعلم بأنك نقي القلب، صافي الايمان، وانك اذا متّ في تلك اللحظة سوف تحشر مع المحسنين لانّ هذه هي صفتهم، فهم يحبون الناس، ويخدمونهم، وتؤكّد الاحاديث على هذه الحقيقة مرة أخرى حينما تقول:
(أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لنفسك)
هذا هو الايمان: إذا أردت أن تغتاب أحدا، فقل في نفسك: هل أرضى بأن يغتابني أحد؟ بالطبع .. لا، إذن لا تغتبه. وكذلك إذا أردت أن تتهم الآخرين، إذا أردت ان تسيء الظن بهم، واذا أردت أن تغلبهم، واذا أردت سوءً بهم .. كلما أردت من هذه الصفات السيئة شيئاً فاجعل نفسك مكان الطرف الآخر، فإذا كنت لا ترضى بهذه الصفات لنفسك فحريّ بك ألا ترضاها للآخرين وهم اخوتك.
اذا ثبّتنا هذه القاعدة الأصيلة وهي قاعدة الحب الاجتماعي، آنئذ نستطيع أن نبني على هذه القاعدة بناءنا الإجتماعي. وهناك بعض العقبات تعترض بناء هذه القاعدة ولكن الإسلام سرعان ما يصفيها، ثم يوجد بالمقابل العوامل التي تشجّع على الحب.
عقبات حب الآخرين
من العقبات الرئيسية الكأداء التي تعترض حبك للآخرين هو سوء الظن بهم، لذلك يقول القرآن الحكيم
﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ الحُجُرات،12
إن بعض القلوب معقّدة، فهي تفسر كل عمل تفسيراً معكوساً. فإن صلى أحد أمام الناس قالوا: هذا مرائي، وإن صلّى في الخفاء قالوا: هذا تارك لصلاته! وإن أعطى الزكاة علانية، قالوا: يريد الشهرة، وإن أعطاها بالسِّر، قالوا عنه: إنه بخيل!
وكثيراً ما يسيء الإنسان الظن بأخيه المؤمن، بينما هو من أولياء الله. وقد جاء في الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى قد أخفى أولياءه في الناس ، وكثيراً ما ترى شخصاً فتستصغره وتذكره بسوء فاذا به من أولياء الله الصدّيقين.
لنقرأ معاً هذه الرواية التاريخية ففيها الكثير من الدروس والعبر:
(قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهو يرتعد بعد ما خلا به: يا ابن رسول الله، ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره إعتقادَه وصيتك وإمامتك ، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام): وكيف ذاك؟ قال: لإني حضرت معه اليوم في مجلس فلان -رجل من كبار أهل بغداد- فقال له صاحب المجلس: أنت تزعم أن موسى بن جعفر إمام، دون هذا الخليفة القاعد على سريره ، قال له صاحبك هذا : ما أقول هذا : بل أزعم أن موسى بن جعفر غير إمام ، وإن لم أكن اعتقد أنه غير إمام، فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، قال له صاحب المجلس : جزاك الله خيرا ولعن من وشى بك .
فقال له الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه منك، إنما قال: موسى غير إمام، أي أن الذي هو غير إمام فموسى غيره ، فهو إذا إمام، فإنما أثبت بقوله هذا إمامتي، ونفى إمامة غيري.
ثم أضاف الإمام عليه السلام:
يا عبد الله، متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك؟ هذا من النفاق، تب إلى الله.
ففهم الرجل ما قاله واغتم وقال: يا بن رسول الله، مالي مال فارضيه به، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله وتعبدي من صلواتي علكيم أهل البيت ومن لعنتي على أعدائكم.
قال الإمام الكاظم عليه السلام: الآن خرجت من النار) .
نسف الحواجز الاجتماعية
أمّا العقبة الثانية التي ينسفها الإسلام فهي الحواجز الاجتماعية التي تفصل الناس عن بعضهم، وعندما يحدثنا الإسلام عن هذه النقطة فانّه يتفجّر غضباً، وتأتي كلمات النصوص لاهبة وكأنها الحمم البركانية، حينما تتحدث عن الغيبة وعن التهمة وعن النميمة وعن الفحش، بل وأكثر من ذلك تجد الإسلام مع تأكيده على حرمة الكذب وأن الكذب مفتاح الشر ، مع ذلك يقول (على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله أحب الكذب في الصلاح، وأبغض الصدق في الفساد.) . لماذا؟
لانّ العلاقات الاجتماعية يجب أن تكون نظيفة، فحينما يأتيك شخص ويتحدث لك عن شخص آخر بحديث سوء، فهو يخلق في قلبك عقدة نفسية تجاه ذلك الشخص، وهذه العقدة تبقى، كلما تراه من بعيد تتذكر كلام ذاك الشخص في حقّه، حتى لو كان كلامه عنه خطأ، ولكن النفس البشرية تتأثر حتى بالكذب ولا يريد الإسلام أن تحدث بين الاخوة حواجز نفسية، فمن جهة يقول لك لا تغتب، ومن جهة ثانية يقول لذلك الشخص لا تسمع غيبة. فاذا جاءك أحد وأراد أن يغتاب شخصاً عندك فاذا أصغيت اليه فأنت شريكه في الجريمة، فقد جاء في الحديث الشريف: (ما عمر مجلس بالغيبة إلاّ خرب من الدين، فنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل والمستمع لها شريكان في الإثم) .
صفوة الكلام
1- لبناء المجتمع الإسلامي الحيوي لابد من:
ألف: ايجاد التماسك الداخلي .
باء: القضاء على عقبات الحيوية .
2- ولكي يكون المجتمع متماسكاً قإن الإسلام يبنيه على أساس العقل وليس الشهوات .
3- وينسف الإسلام القيم الزائفة (الإرض، العنصر، المصلحة) ولا يُبقي إلا قيمة التقوى التي تعتمد على العقل .
4- إن الحب - النابع من قيمة التقوى - هو أعمق مشاعر العطاء والإحسان والبذل عند الإنسان . وإذا كان الإنسان يشعر باللذة حينما يأخذ، فإن شعوره باللذة عندما يعطي يكون أقوى .
5- وحب المؤمن للآخرين ليس حباً إستغلالياً، بل هو حب العطاء والايثار من أجلهم .
6- والإسلام يصفي العقبات التي تعترض نمو هذه العلاقة الايجابية بين أبناء المجتمع . وهي: سوء الظن، والغيبة، والنميمة، والتهمة، والفحش، وما إلى ذلك .
=======================
الصفوة الرسالية .. أولاً
علينا العودة إلى مرحلة الرسالة الإسلامية في مكة المكرمة، والعمل على بناء الصفوة الرسالية .
إذا أراد الإنسان شيئاً، فليس هناك في الحياة ما يحول بينه وبين إرادته . هذه سنّة الله التي جعلها في البشرية .
إنّ تفوّق المجتمعات على بعضها لا يكون بالكميّة العددية، ولا بالامكانيات المادية، ولا بالقادة الافذاذ الذين قد يبرعون في هذا المجتمع دون غيره، وإنّما بحجم الحيوية والتفاعل اللذين يتمتع بهما المجتمع.
كما إن التطورات الحضارية على مختلف أبعادها لا تحدث أساساً إلاّ بهذا السبب، ففي داخل المجتمع الكبير المتراخي الذي يفقد السلطة المركزية، ولا يملك تفاعلاً ذاتياً، ولا قدرة إتخاذ القرار الحاسم، ولا سرعة التحدي والمواجهة، في داخل هذا المجتمع تنبت نبتة إجتماعية صغيرة تتسم بالفاعلية والحيوية والقدرة على الجذب والاستقطاب، وبسرعة تستطيع هذه النبتة اليانعة المتواضعة ظاهراً، النشيطة والمتماسكة واقعاً، على أن تجمع الأفراد الأكثر نشاطاً وطهارة وفداء من بين أبناء المجتمع الكبير وتستقطبهم حول محورها، وتجتذب صفوة الفكر والمعارف والتجارب، وتمتص خيرة القدرات والامكانات، وبالتالي تتخذ القرارات الحاسمة بسرعة، وتملك القدرة المركزية لتنفيذها، وتملك إرادة التحدي والمواجهة في مقابل الأعداء.
إن هذه النبتة الصغيرة تتحول بعد فترة إلى قوة هائلة، بينما يذوب شيئاً فشيئاً ذلك المجتمع الكبير في تيار هذا المجتمع الحيوي الصغير.
وبوضوح نتلمس هذه الحقيقة في حركة الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله، فالذين كانوا مع نوح.. والذين كانوا مع شعيب وصالح وهود.. والذين آمنوا بموسى وعيسى.. والذين كانوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا فئة قليلة في العدد، ولكنهم الأكثرية في النوعيّة، ليس فقط لأن الواحد منهم كان يقابل عشرة، بل وأيضاً لان الاثنين منهم كانا واحداً.. والثلاثة كانوا واحداً.. والعشرة كانوا واحداً. كانوا يتحركون باتجاه واحد، وكان تنفيذ القرارات سريعاً، وكان التعاون سائداً بينهم، وكان كل واحد منهم يكمّل الآخرين، فلا يبقى في المجموع أي نقص. لذلك إستطاعوا أن ينتصروا على تلك المجتمعات الكبيرة الجاهلية، وهذا هو معنى الحيوية.
الصفوة الرسالية
والظروف الراهنة التي تعيشها أمتنا الإسلامية تشبه إلى حد بعيد تلك الظروف التي عاشتها الرسالات الإلهية في بداية إنطلاقها. فمع أن عدد المسلمين اليوم يتجاوز الألف مليون مسلم، إلا أننا لا يمكننا أن نفجّر طاقاتهم الايمانية بصورة فجائية، ونكوّن منهم –بين ليلة وضحاها- المجتمع الإسلامي الفاضل الذي هو خطوة في طريق بناء المجتمع الإنساني المثالي، وإنقاذ جميع مستضعفي الأرض، فهذه طريقة بعيدة جداً، لأن أفكار الإنسان وقدراته والإمكانات المتاحة له كفرد أو كمجموعة إيمانية صغيرة محدودة جدّا، ومهما بذلت من محاولات للتوعية والتوجيه وكشف الحقائق أمام جماهير الأمة الإسلامية، فإنها بضآلتها الكمية لا تستطيع أن تواجه سيل الاذاعات والصحف والافلام والتوجيهات التي تبثها الجاهلية العالمية عبر شبكاتها الاعلامية.
إذن، فالذي ينبغي على الرسالي أن يفعله هو أن يبني تلك الصفوة التي تكوّن المجتمع الإسلامي الحقيقي، فيعود إلى مرحلة الرسالة الإسلامية في مكة المكرمة، حيث قام الرسول صلى الله عليه وآله بتكوين ذلك المجتمع الصغير عدديا والكبير نوعياً، وذلك عبر ثلاث عشرة سنة كان صلى الله عليه وآله وسلم يواصل فيها الليل بالنهار في بناء الطليعة الرسالية، وهم صفوة المؤمنين الذين أصبحوا روّاد الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.
وأقول لكل المؤمنين في الساحة الإسلامية: أن عليهم أن يكوّنوا من مجموعاتهم المتواضعة، هذا المجتمع الحيوي المنشود المؤلَّف من الصفوة المختارة، حيث لا يلبث هذا المجتمع الصغير بحيويته ونشاطه وتكامليته أن يكبر شيئاً فشيئاً حتى يحطّم كل الكيانات الجاهلية، ويفرض نفسه على الساحة الاجتماعية كلها، فيستقطب العناصر الجيدة، ويبعد العناصر الفاسدة، وهكذا عبر تحوِّل جذري، يشبه التحول الكيميائي في الحياة، يصبح هذا التجمع هو السائد على الساحة.
المجتمع النموذجي
إنّ الإسلام لا يمكن أن ينتصر الا بالإسلام، ولا يمكن أن نقيم المجتمع الإسلامي الا باقامة المجتمع الإسلامي، أي أننا اذا أردنا أن يسود الإسلام فيجب علينا أن نبدء بتطبيقه عملياً في واقعنا، واذا أردنا أن نقيم المجتمع الإسلامي فيجب أن نقيمه أولاً في بيتنا، وفي أوساطنا القريبة ، لكي نعطي النموذج الحي لفكرتنا التي نريد أن نطبقها.
وعندما يشاهد عامة الناس تعامل المؤمنين الايجابي والودود مع أزواجهم وأبنائهم وإخوانهم، وعندما يشاهدون تجمعهم الايماني الفاضل في المسجد، وفي السوق، وفي الجامعة، وفي الإدارة، وأنهم كيف يتحابون ويتوادون ويتعاونون في الله، وكيف يكمّل بعضهم بعضاً، وكيف يقف بعضهم مع بعض، فسوف يكفيهم هذا النموذج دليلاً وشاهداً على صدق الرسالة.
انني أدعو الجميع إلى أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: من أين يجب أن يتحركوا؟ وفي أي مجال يجب أن يبذلوا جهودهم؟
إن الإنسان كانسان، إذا أراد شيئاً فليس هناك في الحياة ما يحول بينه وبين إرادته، هذه سنَّة الله، وهذه هي الحقيقة التي ضمنها الله سبحانه وتعالى للبشرية، إنّه عهدٌ بين الله وبين الإنسان أن يتركه حرّاً في الدنيا. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ الاسراء،20
ولكن بالرغم من ذلك، نرى أن كثيراً من الحركات الإسلامية تود تطبيق الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي، ولكنها لا تفلح في ذلك، لماذا؟ لانّها لا تعرف أن الطريق الصحيح هو اقامة المجتمع الإسلامي أولاً في نفسها وواقعها، وأن هذا قد يقضي عليها بتحمّل كل التضحيات اللازمة من أجل صنع النواة الاجتماعية الحيوية الفاعلة.
والنصوص التي نذكرها فيما يلي من الكتاب والسنّة، إنّما هي برامج عمل لنا ولكل العاملين في الساحة، الذين يستبد بهم الألم من واقع أمتهم، ويهدفون إلى إقامة نظام إجتماعي ربّاني يقوم على قواعد إيمانية راسخة لا تتحقق إلاّ بالجدّ والإجتهاد، والتضحية والفداء.
لا.. للمجتمع الجاهلي
عندما دعا قوم موسى عليه السلام ربّهم أن ينجيهم من فرعون، قال الله سبحانه وتعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس،87
فَرفْض المجتمع الجاهلي، وإقامة المجتمع الإسلامي على شكل بيوت متقابلة إلى بعضها (إشارة إلى وجود علاقات متماسكة) وإقامة الصلاة، وإعطاء الأمل، كل ذلك يشكل الخطوة الاولى في طريق إقامة حكم الله، وهكذا فعل أصحاب الكهف، الذين يقول عنهم ربنا:
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُـمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّءْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً﴾ الكهف،16
إنّهم اعتزلوا المجتمع المنحرف، وبنوا مجتمعهم الخاص بعيداً عنه.
وكثيرة هي التوجيهات الإسلامية التي وردت بشأن رفض المجتمعات الجاهلية، وعدم الإندماج مع أولئك الذين لا يهتمّون بواقعهم الفاسد، الساكتين عن الظلم، المستسلمين للوضع الشاذ الفاسد.
إن المسلم لا يبقى في هذه القضية الحساسة غير عابىء، فعليك أن تفتش عن أصدقائك المؤمنين، وتعمل معهم على بناء المجتمع الفاضل، فليس لك الحق إذا كنت مؤمناً رسالياً أن تصادق أيا كان، وأن تعمل في أي عمل شئت. إنَّ عليك أن تجعل أعمالك وأفكارك وارتباطاتك وحتى علاقاتك الشخصية موجهة باتجاه بناء المجتمع الإسلامي الرسالي الفاضل، ثم التحرك لنشر هذا المجتمع داخل الأمة الإسلامية كلها، والله سبحانه وتعالى يؤكّد في بعض الآيات على هذه الفكرة فيقول:
﴿فَاَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العَنْكبُوت،26
وقد لا تكون الهجرة المطلوبة هنا هجرة جغرافية بالضرورة، بل قد يكون المطلوب هجرة نفسية ومعنوية، أي التصرف في العلاقات مع المجتمع الجاهلي والمنحرف بطريقة تصون المؤمن من أن يتأثر بالسلبيات والإنحرافات السائدة.. فالمهم هو أن يهاجر المؤمن رقعة الأفكار والمبادئ والسلوكيات المنحرفة، كي يتسنى له بناء المجتمع الفاضل في أجواء الطهر والفضيلة والعلاقات الإيمانية.
وربما إلى هذه الحقيقة يشير الإمام الصادق عليه السلام حين يوجِّه المؤمنين إلى الإبتعاد عن الأجواء السلبية للمجتمع الفاسد حيث يقول:
(إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبياء بني اسرائيل: إن أحببت أن تلقاني غداً في حظيرة القدس، فكن في الدنيا وحيداً غريباً مهموماً محزوناً مستوحشاً من الناس، بمنزلة الطير الواحد الذي يطير في أرض القفار، ويأكل من رؤوس الأشجار، ويشرب من ماء العيون، فاذا كان الليل آوى وحده ولم يأو مع الطيور. إستأنس بربه، واستوحش من الطيور) .
هذا الطير مثل يضربه الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي لأولئك الذين يفتشون عن هدفهم، ولو كان بالابتعاد عن الآخرين ممن لا يعيشون واقعهم وتطلعاتهم وأهدافهم.
وجاء في الحديث القدسي أيضاً:
(إن من أغبط أوليائي عندي عبداً مؤمناً ذا حظّ من صلاح، أحسن عبادة ربه، وعبد الله في السريرة، وكان غامضاً في الناس، فلم يُشر اليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً فصبر عليه، فعجلت به المنية فقلَّ تراثه وقلت بواكيه) .
ويقول الامام علي عليه السلام نقلا عن عيسى عليه السلام:
(طوبى لمن كان صمته فكراً، ونظره عبراً، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم الناس من يده ولسانه) .
وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام:
(طوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة) .
وفي حديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهشام، يقول عليه السلام:
(يا هشام.. الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى إعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزّه من غير عشيرة.
يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الجهل مردود) .
وروي عن الإمام الهادي عليه السلام أنه قال:
(لو سلك الناس وادياً وسيعاً، لسلكتُ وادي رجل عبدَ الله وحده خالصاً) .
فتش ولو عن صديق واحد يكون في طريقك فهذا أفضل من عدة أصدقاء يمشون في طريق الشر.
ركيزة التجمع الإيماني
إذن، الوصول إلى المجتمع الفاضل لا يكون إلاّ عبر عملين متكاملين، الاول: بناء حواجز بيننا وبين المجتمع الجاهلي، لكي لا نتأثر بسلبياته، والثاني: أن نبني داخل هذا الحصن الذي نحصن أنفسنا به، مجتمعنا المثالي الفاضل، ولكن حينما ندخل حصن الايمان وحصن المجتمع الإسلامي فلابد أن نبني هذا المجتمع على أساس الحب في الله، والبغض في الله، هذا الحب وهذا البغض النابعين من ايماننا بقيمة محوريّة واحدة في كل الحياة، هي قيمة التقوى.
يقول الامام أبو محمد العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال لبعض أصحابه ذات يوم:
(يا عبد الله، أحبب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فانّه لا تنال ولاية الله الا بذلك، ولا يجد رجل طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً.
فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله عزوجل؟ ومن وليّ الله عزوجل حتى أواليه، ومن عدوّه حتى أعاديه؟
فأشار له رسول الله إلى علي عليه السلام فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى، فقال: وليُّ هذا وليُّ الله فواله، وعدو هذا عدو الله فعاده.. والِ وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك، وعاد عدوّ هذا ولو أنّه أبوك وولدك) .
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(من أحب كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراًً فقد أحب الله).
ثم قال عليه السلام:
(صديق عدو الله عدو الله) .
فإذا رأيت رجلاً يعادي الله بعمله وفكره فصادقته، فانك تصبح عدوا لله سبحانه وتعالى.
وعنه عليه السلام:
(هل الدين الا الحب.. ان الله عزّوجل يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
يقول فُضيل بن يسار: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الحب والبغض أمن الأيمان هو؟ فقال: (وهل الإيمان إلاّ الحب والبغض. ) ثم تلا قوله ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾
وقال عليه السلام:
(مِن حُبِّ الرجل دينه حبه إخوانه) .
وقال الإمام العسكري عليه السلام:
(حب الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، وحب الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار، وبغض الفجّار للأبرار زين للأبرار، وبغض الأبرار للفجار خزيٌ على الفجّار) .
إن المحور في الحياة هم الأبرار، فاذا أحبوا أحداً دلّ ذلك على أنّه من الأبرار وهو زين له، واذا أحبهم أحد فهذا شيء طبيعي، واذا أبغضهم فاجر يدل على أنهم على حق، فإذا عاداك رجل فاجر فلابد أن تحمد الله وتعرف بأنّك على حق، فمقياس الحب والبغض يدور حول محور واحد وهو محور البر والفجور.
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فهو ممن كمل إيمانه) .
وفي حديث آخر يقول:
(من أحب الله وأبغض عدوه، لم يبغضه لوتر وتره في الدنيا، ثم جاء يوم القيامة، بمثل زبد البحر ذنوباً كفّرها الله له) .
وقال عليه السلام:
(من أوثق عرى الايمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله عز وجل) .
وقال عليه السلام:
(ان المتحابّين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم ونور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء حتّى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابّون في الله)
وقال الامام الباقر عليه السلام:
(إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّوجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك. وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب) .
وقال الامام الصادق عليه السلام:
(كلّ من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له) .
وقال الباقر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(ودُّ المومن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله) .
صفوة الكلام
1- إن تفوق المجتمعات، وتطور الحضارات لا يكون بالكم والعدد، وإنما بحجم الحيوية والتفاعل في المجتمع .
2- وإن النبتة الإجتماعية الصغيرة التي تتسم بالحيوية والتفاعل تتحول بعد فترة إلى قوة هائلة يذوب فيها المجتمع الكبير، ونتلمس هذه الحقيقة بوضوح في حركة الرسل والانبياء عليهم السلام .
3- والظروق الراهنة تشبه إلى حد بعيد ظروف الرسالات الإلهية في بداية إنطلاقتها، لذلك ينبغي على الرسالي أن يعمل على بناء الصفوة المؤمنة التي تكوِّن المجتمع الإسلامي الحقيقي .
4- إن رفض المجتمع الجاهلي، وإقامة المجتمع الاسلامي على شكل مجموعات ذات علاقات متماسكة، وإقامة الصلاة، وإعطاء الأمل، كل ذلك يشكل الخطوة الأساسية في طريق إقامة حكم الله .
5- وكثيرة هي التوجيهات الاسلامية بشأن هجرة المجتمعات الجاهلية، ولكن قد لا تكون هذه الهجرة، هجرة جغرافية بالضرورة، بل قد يكون المطلوب هجرة نفسية ومعنوية .
6- إذن، فالوصول إلى المجتمع الفاضل لا يكون إلا عبر عملين:
ألف: بناء حواجز بيننا وبين المجتمع الجاهلي .
باء: بناء مجتمعنا المثالي الفاضل داخل هذا الحصن .. حصن الايمان، وحصن المجتمع الإسلامي .
ولابد أن نبني هذا المجتمع على أساس الحب في الله والبغض في الله .
===================
التكامل العضوي والتنظيم الداخلي
المطلوب هو العمل على بناء مجتمع التكامل والتفاعل، والذي يهدم الحواجز بين أبنائه، وينظم نفسه داخلياً .
إن مجتمع الحسد والبغضاء ليس مجتمعاً إسلامياً، ولا يمكن أن ينبعث الخير منه
ما هو الفرق بين زُبَر الحديد ومحرك السيارة؟
الفرق هو أن زبر الحديد لا تملك تنظيماً داخلياً، فلو جئت بقطع من الحديد الخردة تتألف من البراغي والإسطوانات والمكابس وما أشبه، وأوقدت تحتها طناً من البنزين فإنّها لا تتحرك بوصة واحدة. أمّا لو جئت بلتر واحد من البنزين، وأوقدته في بيت النار في محرك السيارة، فإنّها ستتحرك مسافة عدة كيلومترات.
إن محرِّك السيارة يتكون أيضاً من مجموعة قطع حديدية، ولكنها منظمة تنظيماً علمياً، ومترابطة فيما بينها بشكل دقيق، بحيث تستفيد من طاقة البنزين في المجال المحدد لها.
هكذا هو الفرق بين المجتمع المنظّم والمجتمع غير المنظم. وفي القرآن الكريم نجد مثلاً لمجتمع غير منظم كان يتعرض لهجوم الأعداء دون أن يستطيع أن يصدهم. يقول تعالى:
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الاَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَاَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * ءاَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي اُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ الكهف،94-97
لقد كانوا يواجهون مشكلة خطيرة تهدد حياتهم وكيانهم، ولكنهم لم يعرفوا كيف يحلّونها برغم توفر كل عناصر الحل عندهم، فما كان من ذي القرنين إلاّ أن وحّدهم ونظم قواهم ووجههم بحيث يستفيدون من الامكانات والطاقات التي كانت متوفرة لديهم، وإذا بهم يقومون بانجاز صناعي حضاري وهو ذلك السدّ الضخم الذي حيّر أعداءهم وأفشل خططهم في الغزو والاحتلال.
المفهوم الإسلامي للتنظيم
والمجتمع الإسلامي الرسالي الذي ذكرنا ضرورة انشائه، ولو ضمن مجموعة صغيرة كمرحلة أولية، يتميّز بالتنظيم والتكامل العضوي بين أفراده، وهذا هو السر في انتصار المسلمين في بادىء أمرهم، حيث كونوا مجموعات صغيرة من المجاهدين كانت تتحرك عبر الفيافي المترامية، فاذا بهم يسحقون الجيوش الضخمة التي كانت مجهزة بكل الوسائل الحربية والإمكانيات المادية المتوفرة آنذاك.
وعندما ينادي الإسلام بضرورة التنظيم، فانّه لا يريده –بالطبع- على غرار النمط الغربي الذي يقوم على مجموعة من الإجراءات المعقدة المتشابكة التي يصبح الفرد جزءاً منها، ولا يعرف من أين يبدأ والى أين ينتهي في خضم ذلك الروتين المحيّر والمعطّل للكثير من النشاطات البشرية البنّاءة.
إن التنظيم في الإسلام يعني التعاون السهل الميسور بين المسلمين، والتكامل العميق بين أفكارهم ومشاعرهم ونشاطاتهم في اتجاه تطبيق شريعة السماء السمحة، والتي تمكّن المجتمع من الاستفادة من كل طاقاته وامكاناته كما يستفيد محرك السيارة من كل قطرة من الوقود الموجود في خزانها.
إنني لم أعثر في خلال تتبعي ودراستي للجيوش الإسلامية في التاريخ على كلمة تعبّر عما يسمى اليوم بالتعبئة (لوجستيك) أي فن تحريك الجيوش ونقل المُؤَن والامدادات وما أشبه.
فقد كان المجاهدون الذين يؤلفون الجيوش الإسلامية في صدر الإسلام يقومون في الليل بتنظيف أسلحتهم، وترتيب معداتهم بأنفسهم، وكانت بعض نسائهم معهم يقمن بخدمتهم وتضميد جرحاهم، وكانوا يندفعون في النهار للقيام بالأعمال العظيمة، والانجازات الكبيرة بعفوية وبدون أي تعقيد او نظام روتيني جامد، وبدون أن يكون لديهم ما يسمّى بالانضباط الحربي الذي يستخدم اليوم لمراقبة الجنود وإكراههم على القيام بالأعمال المطلوبة عن طريق فرض العقوبات المختلفة.
وكان المجاهدون المسلمون وهم في عز المعركة وفي الساحات الدامية يتفقهون ايضاً في الدين، كما يقول القرآن الحكيم:
﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ التوبة،22
هذه الآية نزلت - حسب أغلب التفاسير - حين كان المسلمون في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان بين المحاربين مجموعة من كبار المهاجرين والأنصار يلتفون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتلقّون منه تعليمات الرسالة الإسلامية، وعندما يعودون إلى قومهم، كانوا يعلمونهم ما تعلموه، فيشكلون بذلك جهازاً تنظيمياً لنشر التعاليم الإسلامية من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجماهير العريضة، في وقت كانت وسائل النشر والاعلام بدائية ومحدودة.
والآن حينما نريد أن ننشىء ذلك المجتمع الحيوي الصغير القادر على استقطاب طاقات الأمّة نحتاج إلى هذه الحالة التنظيمية التي لا يتحكم بها الروتين المعقد ولا المزيد من الشعارات والقرارات والدساتير التي لا يتعدى كونها حبراً على ورق، وإنّما تخلقها التعاليم الإسلامية العظيمة عبر توجيهاتها الصائبة التي تعود على الأمة الإسلامية بالمكاسب الهائلة.
ومن هذه التعاليم:
اولاً: مبدأ الشورى
يقول القرآن الحكيم: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ الشورى،38
ويقول:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر﴾ آل عمران،159
ويقول الإمام علي عليه السلام:
(من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)
إن المسلم ينبغي أن يعلم أن قراره في أي أمر، يجب ألاّ يكون نابعاً من هواه وشهوته وجهله، بل من عقله وإرادته، ومن رؤيته وبصيرته. لذلك فهو دائماً يفتش عمّن يستشيره في القضايا الهامة، من أصحاب العلم والخبرة، وأهل الاخلاص والتقوى، وبهذا يكون قادرا على مزج فكره وتجربته مع ما يمكن أن يستفيده من أفكار وتجارب الآخرين، فتكون قراراته بالتالي حكيمة ورشيدة دون أن يحتاج الأمر إلى دراسات مطولة وإجراءات معقدة، لأنّ تفاعل العقول مع بعضها يختصر الزمن إلى حد كبير، وهذه سنة طبيعية لا سبيل إلى إنكارها.
ثانياً: القيادة
يهتم الإسلام كثيراً بمسألة القيادة في المجتمع ويضع لها مواصفات وشروطاً دقيقة، ليضمن بذلك سير المجتمع في الطريق الصحيح، ويحول دون تصادم وتناقض أفكار ونشاطات الأفراد مع بعضها البعض مما يخلق عقبات أمام تقدم المجتمع إن لم تؤدّ إلى تراجعه وتخلفه.
والقيادة الصحيحة في المجتمع الإسلامي تتركز امّا في شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في الائمة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام، الذين عيّنهم بأمر الله، أو فيمن تتوافر فيهم صفات العلم والعدالة والتقوى والكفاءة والشجاعة من العلماء الأعلام الذين هم نوّاب الامام المعصوم عليه السلام في غيبته ويكون لهم الحق في تحديد آلية إنتخاب أو تعيين القيادات التنفيذية على رأس كل تنظيم داخل المجتمع.
يقول تعالى:
﴿يَآ أيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾ النساء،59
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ المائدة،55
﴿فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ النّحل،43
هذه الآيات وكثير غيرها تعطي مواصفات واضحة للقيادة الإسلامية، وتضفي عليها أهمية بالغة بربطها مباشرة بطاعة الله وولايته.
ثالثاً: التشجيع المتبادل والنهي عن التثبيط
الإنسان بطبيعته يحتاج إلى من يشجعه على العمل والنشاط، ولذلك ترى المسلمين عندما يقوم أحدهم بمهمة، فان الآخرين يقبلون عليه فيشجعونه. وبهذه الطريقة يعطي البعض العزيمة والارادة للآخرين، وقد تلعب كلمة تشجيع واحدة دوراً مؤثراً في صنع مصير انسان وتقويم مسيرة حياته. يقول تعالى:
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ العصر،3
ويقول:
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ البلد،17
والتشجيع هو بعض أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاذا رأيت انساناً يصلي صلاة الليل –مثلاً- فقل له: أحسنت، إن صلاة الليل نور، ولا تقل له: يا مرائي.
إن مثل هذا الكلام التثبيطي مدعاة إلى الضلال والانحراف. والواقع ان التخذيل مرض اجتماعي يتفشّى أحياناً بين الناس بشكل يبعث على الأسى، لأنه يعرقل كثيراً من النشاطات البنّاءة، والأعمال الصالحة التي يمكن أن تستفيد منها المجتمعات بشكل فعّال.
رابعاً: إزالة الحجب القائمة بين الأفراد
إن نصف واجبات الإسلام ووصاياه على الأقل، إنما جاءت بهدف هدم الحواجز التي يمكن أن تفصل المؤمنين عن بعضهم، مثل العصبيات بسائر أقسامها وأسمائها، والكبر، والغرور، والحقد، والحسد، وسوء الظن.. هذه القائمة الطويلة السوداء من الصفات السيئة التي جاء الإسلام للقضاء عليها واجتثاثها من جذورها.
وقد تتعجب من قول الرسول صلى الله عليه وآله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) ولكن المجتمع الذي لا يقوم على قاعدة الحب في الله والبغض في الله.. هذا المجتمع لا يمكن أن يصلّي أو يزكّي أو يعبد الله أو يبني حضارة أو يعمل أي شيء مفيد، إن مجتمع الحسد، والبغضاء ليس مجتمعاً إسلامياً أبداً، ولا يمكن أن ينبعث الخير منه.
إذن، القضية الأساسية هي العمل على بناء مجتمع التكامل والتفاعل، والذي يهدم الحواجز بين أبنائه، و ينظم نفسه داخلياً، وآنئذٍ يستطيع أن ينتصر على كل قوة خارجية تريد إذلاله واستعباده ونهب خيراته وثرواته.
وهنا نورد نماذج من الأحاديث الشريفة التي تعالج بعض الحواجز الشيطانية التي تفتك بالمجتمع والتي من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها إلاّ بالتوكل على الله سبحانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) .
ويقول الأمام علي عليه السلام:
(إجتنب الغيبة فانها إدام كلاب النار) .
ويقول عليه السلام:
(كذب من زعم انه وُلِدَ مِنْ حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة) .
ويقول في النهي عن سوء الظن:
(ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً) .
ويقول الامام الصادق عليه السلام:
(من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور،19)
فرواية أقوال وتصرفات الآخرين غير اللائقة وان كانت صحيحة، هي من الغيبة التي ينهى الإسلام عنها، وتعليل ذلك كما تشير إليه الآية الكريمة، هو أن هذا الأمر مما يشيع الفاحشة في المجتمع، فيشجع الآخرين ويعطيهم المبرر لارتكاب ذات الأعمال السيئة.
وفي حديث آخر يؤكد الإمام عليه السلام فيه على هذه الفكرة فيقول:
(الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه. فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا﴾ ).
ويؤكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على بشاعة عمل ذي الوجهين ودور هذه الصفة في فصم عرى الاخوة الإسلامية وتفتيت المجتمع الرسالي فيقول:
(أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، يسقون من حميم الجحيم، ينادون بالويل والثبور. يقول أهل النار بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى؟!
فرجل معلق في تابوت من جمر، ورجل يجرّ أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على مابنا من الأذى؟ فيقول: ان الأ بعد قد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداء ولا وفاء.
ثم يقال للذي يجر أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده.
ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان يحاكي، فينظر إلى كل كلمة خبيثة فيسندها ويحاكي بها .
ثم يقال للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة) .
هذا هو تنظيم الله سبحانه.. إنه تنظيم لا يقوم على الشعارات والقرارات الجوفاء، وإنما يقوم على تبادل الحب، ورفع الحجب والتكامل العضوي في جوّ من الحيوية والنشاط والعزيمة الشديدة لتطبيق أحكام السماء.
صفوة الكلام
1- يتميز المجتمع الإسلامي الرسالي بالتنظيم والتكامل العضوي بين أبنائه، وهذا هو السر في إنتصار المسلمين في بادئ أمرهم .
2- والتنظيم الذي ينادي الاسلام بضرورته، ليس على غرار النمط الغربي الذي يقوم على مجموعة من الاجراءات المعقّدة التي تضيِّع الإنسان في خضم الروتين المحيِّر والمعطِّل للنشاطات البشرية البنَّاءة .
3- والتنظيم في الإسلام يعني :
التعاون السهل بين المسلمين، والتكامل بين أفكارهم ونشاطاتهم في اتجاه تطبيق الشريعة .
4- وتقوم الحالة التنظيمية في الامة على :
ألف: مبدء الشورى .
باء: القيادة الصحيحة .
جيم: التشجيع المتبادل، وعدم التثبيط .
دال: إزالة الحجب القائمة بين الأفراد .
=======================
البرامج الروحية والبناء الحضاري
علينا مقاومة الحضارة المادية بتأسيس حضارة إسلامية متكاملة الأبعاد .
عندما يصبح المجتمع الإسلامي كتلة متراصة، فلا يمكن إختراقها أبداً .
الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية صراع ذو أبعاد مختلفة، ثقافية وإجتماعية وإقتصادية وسياسية، وبالتالي فهو صراع حضاري شامل لا يمكن كسبه إلا بتكثيف الجهود وتركيزها.
فلا يمكن أن نقاوم القوى الساعية للتسلط علينا وقهرنا، عن طريق الحركة السياسية وحدها، أو بالتغيير الثقافي فقط، أو بالتحدي الاقتصادي والوصول إلى الاكتفاء الذاتي في حقل الانتاج فحسب، وإنّما علينا أن نقاوم الحضارات المادية، بتأسيس حضارة إسلامية متكاملة الأبعاد.
وحينما نقول (حضارة) فاننا نقصد بها: التحول الثقافي والإجتماعي ومن ثم الاقتصادي والسياسي والعمراني، وفي كل الجوانب وعلى مدى واسع. وكذلك العمل من أجل تكوين كياننا، لمقاومة التحديات عن طريق تكثيف وتركيز كل الجهود، وذلك غير ممكن إلا عن طريق البرامج الرسالية. ذلك لأن الحضارات المادية قد سبقت الحضارات الروحية من حيث تطوير الوسائل المادية، فلابد أن نجهز أنفسنا بعامل لا يوجد عند أصحاب تلك الحضارات، ونركب قاطرة أسرع من تلك التي إمتطوها حتى بلغوا هذا المستوى، وهذه القاطرة ليست فقط الأخذ بالعوامل المادية، وإنما كذلك الأخذ بالبرامج الروحية.
الانفتاح الواعي
وهذا لا يعني أن نسد كل الابواب، فلا نستفيد من تجارب الآخرين ولا نطّلع على ما يجري في المجتمعات الأخرى، وإنّما علينا أن ننفتح على العالم ولكن دون أن ننسى الميزات الحضارية التي نمتلكها.. وتلك العناصر الحاسمة التي لا تزال بأيدينا، والتي ينبغي أن نجعلها في حسابنا لنستفيد منها عملياً. فمن دون ذلك لا نصل إلى أي تغيير إيجابي.
ان الوصول إلى الحضارة الحق غير ممكن الا عبر البرامج الروحية، وان أولئك الذين يريدون أن يصلوا بأمتنا إلى مستوى حضاري ارفع من الحضارات الغربية دون أن يأخذوا الجانب الروحي بنظر الاعتبار، هؤلاء فاشلون سلفاً. وكل الإحصائيات العلمية والتحليلات السياسية والبحوث الاجتماعية تؤكد على فشلهم هذا، لأنّ الفجوة تتسع يوماً بعد آخر وبكل أبعادها بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة.
فكيف نلحق بهم؟ وكيف نردم هذه الفجوة الآخذة في الاتساع؟
إن الجهود التي بذلت عبر القنوات القومية أو الإقليمية، أو القنوات الحزبية المستوردة وما أشبه كانت جهوداً جبارة، ولكنها ليس فقط لم تنجح في ردم الفجوة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، وإنّما ساهمت في زيادة إتساعها، لأنّها كانت بضاعة الأجنبي ردّت إليه، ولان هذه الجهود صبت بالتالي في تلك القنوات التي حفرتها القوى المعادية لأمتنا بطريقة تعود مرة أخرى وتصب لصالحها.
تجربة السقوط
وآخر تجربة غربية ماثلة أمامنا هي تجربة حزب البعث الذي أسسه رجل غربي الأصالة والفكر، الذي إستوحى من الاشتراكية الأوروبية والفلسفة القومية الاوروبية جوهر نظريته وصبغها ببعض الألفاظ العربية، وكما يقول في بعض كتاباته فإنّه أراد أن يوحّد الامة العربية في ظل الشعار المثلث المعروف (وحدة، حرية، اشتراكية) ذلك الشعار المتناقض في ذاته والمناقض لأعمال البعثيين أنفسهم وممارساتهم.
وليس صدفة أن يفشل حزب البعث، لأن فكره كان فكراً إستعمارياً، يصب في قناة الغرب. لذلك حينما نؤكّد على البرامج الروحية والمناهج السماوية وضرورة العودة إلى كل التعاليم المحمدية لبناء حضارتنا المنشودة، فاننا نستوحي هذا التأكيد من الوقائع الحية التي نعيشها والتي تعمق الألم والمرارة في نفوسنا.
لقد عكفت مجموعات كبيرة من السياسيين والمثقفين تستجدي الأفكار من هذا وذاك دهراً طويلاً، وبعد أن أخذتها وعملت بها، رأينا أنّها أفكار تدعو إلى عبوديتنا لهم مرة أخرى، وتعمل على ذلتنا وتفتتنا واستضعافنا.
إننا ولكي نردم هذه الفجوة بين بلداننا وبين البلدان المتقدمة، ليس أمامنا طريق الا الرجوع إلى تلك البرامج الروحية التي وضعها الإسلام. هذه البرامج التي هي ليست كفيلة فقط بانتشالنا مما نحن فيه، وانّما هي أيضاً طريق واضح ومستقيم للوصول بنا إلى أسمى الأهداف في الدنيا قبل الآخرة.
طريق النهوض
وهنا نعرض شذرات من هذه البرامج تعلمنا كيف يجب أن يعامل أحدنا الآخر، علّنا نستضيء بنورها في طريقنا لإقامة الحضارة الإسلامية المتكاملة التي ننشدها بإذن الله.
قال الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إنّ من إجلال الله، إعظام ذوي القربى في الإسلام)
وقال أيضاً:
(من لم يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً فليس منّا)
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(لا يعظّم حرمة المسلمين الاّ من عظّم الله حرمته على المسلمين. ومن كان أبلغ حرمة لله ورسوله، كان أشدّ حرمة للمسلمين. ومن إستهان بحرمة المسلمين، فقد هتك ستر إيمانه) .
ولكي يعمق الإسلام شعورك بالوحدة مع المؤمنين، يقول:
(ان المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد)
بل يقول لك: حينما تجلس عند أخيك المؤمن فأكثر النظر إلى وجهه، فإنّ كثرة النظر تزيد الحب المتبادل، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة له عبادة) .
ويقول أيضاً:
(الا وإنّ ود المؤمن من أعظم سبب الايمان. ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله عز وجل فهو من أصفياء المؤمنين عند الله تبارك وتعالى. الا إنّ المؤمنَيْن اذا تحابّا في الله عزوجل وتصافيا في الله كانا كالجسد الواحد، اذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخر ألَمَ ذلك الموضع)
هكذا يرتفع مستوى الوحدة الايمانية بل الوحدة الروحية بين المؤمنين. ويؤكد على هذه الفكرة قول الأمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال للإمام: (اني لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه ذلك، فأحبه حباً شديداً. فاذا كلمته وجدته لي مثل ما انا عليه له. ويخبرني أنّه يجد لي مثل الذي أجد له). فقال الامام:
(صدقت يا سدير، إن ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة إختلاط قطر السماء على مياه الأنهار. وإن بُعد ائتلاف قلوب الفجار إذا التقوا وإن أظهروا التودد بألسنتهم كَبُعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على مزود واحد) .
قضاء حوائج المؤمنين
ومن جملة ما يؤكد الإسلام عليه في معرض التكامل الاجتماعي لبناء الحضارة، هو ضرورة قضاء حوائج المؤمنين بعضهم لبعض.
فالمؤمن عليه أن يطلب حوائجه من أخيه المؤمن ولا يستحي منه. وكلما يجد في نفسه حاجة يكشفها له بلا تحرّج. ويطلب منه في نفس الوقت أن لا يتوانى في تقديم ما يتمكن تقديمه.
وحينما تقضي أنتَ حاجتي وأقضي أنا أيضاً لك حاجتك فأنت تتكامل معي وأنا أتكامل معك، لأنّك تستطيع أن تقوم بعمل لا أستطيع هذه اللحظة أن أقوم به، وغدا قد أكون أستطيع القيام بهذا العمل وتعجز أنت عن ذلك. وهكذا فان عملية التعاون تبدأ من الجذور ومن الخلايا الصغيرة. وعندما يصبح المجتمع كله كتلة متراصة، آنئذ لا يمكن إختراقها.
وتأملوا هذا الحديث للامام الصادق عليه السلام وهو يقول:
(أوحى الله عزوجل إلى داود: إن العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فأبيحه جنتي.
فقال داود: يارب وما تلك الحسنة؟
قال: يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة.
فقال داود عليه السلام: حق لمن عرفك ألا يقطع رجاءه منك) .
وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله، قال:
(اتّباع سرور المسلم) . قيل: يا رسول الله وما إتّباع سرور المسلم؟ قال: (شبعة جوعه، وتنفيس كربته، وقضاء دينه.)
وفي حديث آخر يصور لنا مدى أهمية قضاء حوائج المؤمنين بهذا الاسلوب الرائع..
يروي حنان بن سدير عن أبيه أنه قال: كنت عند الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام فَذُكِر عنده المؤمن وما يجب من حقه، فالتفت إليّ أبو عبد الله عليه السلام فقال لي: ( يا أبا الفضل ألا أحدثك بحال المؤمن عند الله.) فقلت: بلى، فحدثني جُعلت فداك.. فقال:
(إذا قبض الله روح المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يارب عبدك ونعم العبد، كان سريعاً إلى طاعتك، بطيئاً عن معصيتك وقد قبضتََه اليك، فما تأمرنا من بعده؟ فيقول الجليل الجبّار: إهبطا إلى الدنيا وكونا عند قبر عبدي ومجّداني وسبّحاني وهلّلاني وكبّراني واكتبا ذلك لعبدي حتى أبعثه من قبره).
ثم قال لي: ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال:
(إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّوجل، فما يزال يبشره بالسرور والكرامة من الله سبحانه حتى يقف بين يدي الله عزوجل ويحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله نِعَم الخارج معي من قبري! مازلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزوجل حتى كان ما كان، فمن أنت؟
فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأبشرك) .
هذه هي البرامج الإسلامية لبناء المجتمع الفاضل. وكم يكون راقياً ذلك المجتمع الذي يسعى لادخال السرور والفرح على قلوب سائر أبنائه.
وللإمام جعفر الصادق عليه السلام حديث يبيّن فيه أن تعاون المؤمنين وترابطهم المادي والمعنوي أفضل من العبادات المستحبة.
عن المشمعل الأسدي قال: خرجتُ ذات سنة حاجّاً، فانصرفت إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال: من أين بك يا مشمعل؟ فقلت: جعلت فداك كنت حاجاً، فقال: أو تدري ما للحاج من الثواب؟ فقلت: ما أدري حتى تعلمني فقال:
(إن العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً - أي سبع مرات - وصلى ركعتيه وسعى بين الصفا والمروة كتب الله له ستة آلاف حسنة، وحط عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة، وقضى له ستة آلاف حاجة للدنيا وادّخر له للآخرة كذا).
فقلت له: جعلت فداك إن هذا لكثير.. فقال: أفلا أخبرك بما هو أكثر من ذاك؟ قلت بلى، فقال عليه السلام:
(لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجة وحجة حتى عدّ عشر حجج..) .
فهل تملك نفسك بعد ما تسمع هذا الحديث وتؤمن به إلا أن تهرع لقضاء حوائج إخوانك المؤمنين. وكم يكون سامياً ذلك المجتمع الذي يسعى بل يهرع كل واحد لقضاء حوائج اخوانه بهذه الروحية العالية والنية الخالصة. ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
(والله لقضاء حاجة المؤمن خير من صيام شهر واعتكافه) .
ويحدثنا الامام الصادق عليه السلام بحديث بالغ الأهمية نرجو أن يصبح مناراً نهتدي به:
(إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً اذا جاءته) .
فحينما يسألك شخص حاجته فبادر إلى قضائها ولا تماطل فقد يتغيّر الوضع ويستغني عنها فتفوتك بذلك فرصة عظيمة، ويقول عليه السلام في حديث آخر:
(من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه) .
والإسلام في الوقت الذي يقول للمقتدر: إقض حوائج اخوتك المؤمنين، يقول للمحتاج: أطلب من أخيك حوائجك.
يقول الإمام الصادق عليه السلام : (إذا ضاق أحدكم فليُعلم أخاه ولا يعين على نفسه) .
أي ينبغي لمن يقع في مشكلة أن يستعين بأخيه المؤمن على حلها ولا يتركها تستفحل.
وفي حديث آخر يشجعنا على الاجتماعات الايمانية ويقول:
(تبسّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرفه القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن) .
أوَلا تريد أيها المسلم ان تجلب لنفسك حب الله تبارك وتعالى؟
وأكثر من هذا، يقول الإسلام لو أن رجلاً كافراً قضى حاجة رجل مؤمن، فانّ الله لا ينسى لذلك الرجل المشرك عمله الحسن.
فقد روى عبيد الله بن الوليد الوصّافي أنه سمع أبا جعفر عليه السلام يقول:
(إن في ما ناجى الله عز وجل به عبده موسى قال: إن لي عباداً أبيحهم جنتي واحكّمهم فيها.
قال: يارب ومن هؤلاء الذين تبيحهم جنتك وتحكّمهم فيها؟ قال: من أدخل على مؤمن سروراً.
ثم قال: إنّ مؤمناً كان في مملكة جبّار، فولع به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه، فلمّا حضره الموت أوحى الله عزوجل إليه: وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها، ولكنها محرّمة على من مات بي مشركاً. ولكن يانار هيديه ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار. قلت: مِنَ الجنة؟ قال من حيث شاء الله) .
فليس المهم من أين يأتي رزقه في نار جهنم، من الجنة أو من أي مكان، إنّما المهم هو أن هذا المشرك الذي بقي مشركاً حتى مات، ولكن بسبب تعاونه مع مؤمن ولع به الطاغوت فهرب من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك خوفاً على دينه، فإن الله لا ينسى لهذا المشرك عمله الحسن بل يجازيه خيراً.
إن الإسلام ليس فقط يريدنا أن نسارع نحو قضاء حوائج إخوتنا المؤمنين، وانّما يشجعنا ايضاً على التعاون والتماسك والارتباط ببعضنا عبر تعاليم كثيرة، مثل أخذ الزينة عند المساجد، والتعطر، والحضور في المساجد وسائر الاماكن المقدسة، والاجتماع في المناسبات الإسلامية وحتى المشاركة في الاعراس وتشييع الجنائز وغير ذلك من آداب العلاقات الإجتماعية .
صفوة الكلام
1- إن الصراع بين الاسلام والجاهلية صراع شامل، فلا يمكن الإنتصار فيه إلا بعمل شامل وعلى كل المستويات .
2- من هنا، فإن مقاومة الحضارات المادية لا تتحقق إلا بتأسيس حضارة إسلامية ذات أبعاد متكاملة .
3- وفي البناء الحضاري ، لا يمكننا الإكتفاء بالعوامل المادية فقط والتي سبقتنا فيها الحضارات المادية ، بل يجب - إضافة إلى ذلك - الأخذ بالبرامج الروحية والمعنوية التي نتميَّز بها .
4- إن الجهود التي بذلتها مجموعات كبيرة من السياسيين والمثقفين في بلادنا باءت بالفشل، لأنها تجاهلت البعد الروحي والمعنوي الذي يُعتبر نقطة قوتنا الأساسية .
5- ولكي نردم الفجوة بين بلادنا وبين البلاد المتقدمة، علينا العودة الى البرامج الروحية والمعنوية التي وضعها الإسلام، والتي لا تنتشلنا مما نحن فيه فقط، بل ترسم لنا طريق الوصول إلى أسمى الأهداف في الدنيا قبل الآخرة .
====================
الجهاد من أجل التقدم
إن التخلف الذي ينخر عظامنا، هو سبب كل المآسي التي نعاني منها.
الإسلام هو المنهج الذي ينقذنا من التخلف كما أنقذ آباءَنا من قبل .
إنّ ما نشاهده في العالم الإسلامي - اليوم - من المآسي والويلات والحرمان، ومن سيطرة الطغاة والأجانب، ومن عربدة إسرائيل واغتصابها لحقوق شعبنا الفلسطيني، وتحولها من مغتصب لأرض وحقوق شعب، إلى سلاح مشهور على رقبة الأمة الإسلامية، وإلى أداة فعّالة بيد الاستعمار في هذه البقعة المقدسة من العالم.
كل ذلك انّما جاء كنتيجة مباشرة لتخلف أمتنا. إن أمتنا ضعيفة ومفتتة ولا تملك من وسائل التكنولوجيا الحديثة ما تردع به الأعداء.
فبينما تصنع إسرائيل مختلف الأسلحة المتطوِّرة، وتحصل على ثلث دخلها من بيع الأسلحة للعالم، وبينما تقوم هذه الدويلة اللقيطة ببناء قاعدة صناعية متكاملة، وتكاد تصبح في عداد الدول الصناعية في العالم، لا نزال نحن نلهث وراء الصناعة العالمية، ونتسابق لشراء المنتوجات الجاهزة الصنع من هذه الدولة أوتلك، وحتى لبناء جسر أو مدرسة أو لتنظيف مدننا، فإن بعض حكوماتنا تستعين بالشركات الأجنبية.
لقد زرت عاصمة إحدى الدول الإسلامية الغنية بالنفط، فرأيت عمالاً أجانب يعملون في تنظيف المدينة، ولما سألت عن ذلك، أجابني أحدهم مستنكراً: شركة إنجليزية تجلب عمالاً كوريين لتنظيف بلدنا!
إن للتخلف مفهوماً واضحاً هو: أن تبيع المواد الخام، وتشتري كل شيء مصنّع. ونحن نشتري حتى المياه الغازية من الخارج. ولقد سألت مرة أحدهم: لماذا نستورد المياه الغازية معلبة من اليابان، ولانقوم بتحضيرها، بالرغم من أن العملية ليست أكثر من إذابة مسحوق في المياه المتوفرة عندنا؟ أجاب: في الواقع لا نقدر على صنع ذلك بمثل إتقانهم!
إن هذا التخلف الذي ينخر عظامنا هو سبب كل المآسي التي نعاني منها.
إننا نلهث وراء الصناعة الأجنبية لهثاً، بينما الأجانب يفتشون في بلداننا عن أسواق وعن مواد خام، ليبيعونا كل شيء، ومادامت حالتنا في هذا المستوى من السوء فلابد أن ننتظر المزيد من إستكبار المستكبرين علينا، واستهتارهم بحقوقنا.
فما الذي ينقصنا عن الشعب الياباني الذي لم يملك غداة إنتهاء الحرب العالمية الثانية إلاّ ركام المدن المهدمة والمصانع المدمرة بالاضافة إلى مئات الألوف من القتلى والجرحى، لكنهم نهضوا من كبوتهم وشقوا طريقهم بعزيمة صادقة حتى غزت صناعتهم اليوم أسواق العالم؟
ولقد كان معدل دخل الفرد الياباني بعد الحرب مباشرة لا يزيد على ثلاثمائة دولار سنوياً، اما الآن فإن دخل الفرد في السنة(1980- 1981) قفز إلى اكثر من اثني عشرة آلاف دولار سنوياً.
هذا مع ان اليابان بلد مستعمَر ولا تزال أراضيه تحت الاحتلال العسكري الإمريكي.
وكذلك ألمانيا، التي تعتبر اليوم من أقوى الدولة الأوربية في الإقتصاد، هذه الدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي تحمل ذكرى عشرة ملايين قتيل خسرتهم، ولا تملك إلاّ أنقاضاً لحضارة سادت ثم بادت.
إننا ومع ما نملك من موارد اقتصادية، وأراضٍ واسعة، وموقع جغرافي متميز، ترى أن دويلة الصهاينة تعربد في المنطقة دون أن يرد عليها أحد من الجهات الرسمية بأي رد، اللهم إلاّ عربدة إعلامية فارغة.
إسرائيل تعربد عبر طائراتها المتطورة حيث تقصف المدنيين هنا وهناك، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي مقابل ذلك ترى المؤتمرات الرسمية تلو المؤتمرات، والتصريحات تلو التصريحات، والمؤتمرون والمصرحون هم أول من يعلم انهم غير صادقين، لأنهم حينما يصرّحون بتصريحات ضد العدو الصهيوني، فإنه يتعاونون معه من خلف الستار.
كيف نحقق التقدم الحضاري؟
إن الإسلام هو المنهاج الذي جاء لكي ينقذنا من تخلفنا كما أنقذ آباءنا من قبل. ولكن مع الأسف فإن هذا الجانب مهمل عادة في أحاديث المؤمنين وتوجهاتهم، وهذا غير صحيح لأن هناك تطلعاً كامناً في نفوس الشعوب الإسلامية النامية يدعوهم إلى اللحاق بركب الحضارة.
إن أعدائنا يحاولون أن يسرقوا هذا التطلع، وأن يجيِّروه في سبيل مصالحهم، وذلك بالكذب على شعوبنا، فمرة يأتون إليهم بنظام الرأسمالية ويقولون هذا النظام سوف يجلب لكم التقدم والحضارة، ومرة يأتون لهم بالنظام الاشتراكي ويدّعون أنّه الوحيد القادر على رفع التخلف والحرمان.
انهم يكذبون ليسرقوا تطلعنا، ويستغلوا جهلنا وقلة وعينا.
لذلك يجب على المفكرين الإسلاميين أن يركزوا على هذه المسألة، ويبينوا أن سبب تخلفنا، بالاضافة إلى الاستعمار والثقافات الدخيلة، هو بُعدنا عن ديننا وقيمنا، وفهمنا الخاطىء له.
الإسلام هو دين التقدم والحضارة، وهناك عدة عوامل يوفرها الإسلام لتحقيق ذلك:
أولاً: فك الأغلال النفسية والتحرر من الأغلال الاجتماعية.
فالإنسان بطبيعته إذا تحرر من أغلاله يصبح نشيطا وبنّاءً وفاعلا في الحياة، ولكن الأغلال التي يخلقها الجهل والجاهلية والعقد النفسية عند الإنسان هي التي تمنع إنطلاق البشر، والإسلام يفك هذه الأغلال الواحد تلو الآخر، يقول ربنا:
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ الأعراف،157
فهو يضع عنهم غلّ الإتكالية وانتظار الآخرين.. يضع عنهم الاعتماد على الجن والخرافة والأسطورة وما أشبه من الأغلال الثقافية، ويحررهم من قيود الارتباط بالاشخاص على حساب المبدأ. فاذا قال لك الآخرون: توقّف ولا تتحرك. فلا تسمع لهم، وإنّما إتبع منطق الحق.
هذه الأغلال وكثير غيرها يفكها الإسلام عن الناس ويدعهم ينطلقون ويتقدمون.
ثانياً: التمحور حول العمل الصالح.
إن الإسلام يعطي العمل الصالح القيمة الاساسية ويجعله محور التنافس في المجتمع. ففي أكثر من مائة وعشرين موضعاً، يؤكد القرآن الحكيم على الربط العضوي بين الايمان والعمل الصالح، ويصرح بأن الذين يرثون الأرض هم الصالحون.
والصلاح ليس شيئاً جامداً، وإنّما هو حركة وعمل في الاتجاه الصحيح. وهو ليس فقط في أمور الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وانّما كل عمل يحكم العقل والدين بصلاحه، فبناء المساكن صلاح، وتعبيد الشوارع صلاح، وإقامة المصانع صلاح، وزراعة الأرض صلاح، وكل ما كان من شأنه عمارة الأرض فهو عمل صالح.
ومن جهة أخرى فان الإسلام يحارب العمل الفاسد، ويهاجم المفسدين بعنف شديد ويتوعدهم بأشد العذاب، يقول تعالى:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ المائدة،33
ويقول ربنا:
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف،56
ثالثاً: الاهتمام بالعلم .
فالعلم هو قاطرة التقدم، وعلم الإنسان هو سلاحه ضد الطبيعة، وهو الذي يعطيه القدرة على تسخيرها. وكلمة العلم والعلماء لا تعني فقط العلم بالدين، بالرغم من أن علماء الدين في الإسلام لهم ميزتهم الخاصة بهم، إلا أن العلم بصفته الشاملة هو الذي يؤكد عليه الإسلام، بدليل أنّه يقول على لسان نبينا العظيم:
(اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم) .
فهل كان الفقه في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرس في الصين، أم كانت هناك العلوم المتنوعة؟ .
رابعاً: علمية العمل وعملية العلم .
إن العلم ينبغي أن لا يبقى غريباً وانّما يصبح موجها للعمل. والعمل ينبغي أن لا يكون أعمى وإنّما يتبصّر بالعلم.
خامساً: التعاون .
يأمر الإسلام بالتعاون، ويسن أنظمة من أجل التعاون البنّاء، ويؤكد على أخلاقيات وآداب تقرّب الأفراد إلى بعضهم لتسبب تعاونهم ولتتكامل فعالياتهم.
سادساً: حذف الزوائد التي تتطفل على حياة المجتمع .
إن الإنسان إنّما يسعى وينشط في سعيه، إذا عرف أن مكاسبه التي تأتيه من وراء السعي والعمل والجهاد، ستعود إليه شخصيا بالنفع أو إلى من يريد هو أن تعود اليه.
أمّا الإنسان الذي يُسرق جهده ويُستغل سعيه، فانّه لا ينشط في السعي.
والإسلام يؤكّد عبر قوانينه الصارمة على العدالة الاجتماعية، ويقضي على الطفيليات التي تمتص حقوق الآخرين. فحينما يحدد الإسلام الرأسمال ولا يدعه يتحكم في سعي الفقراء والكادحين، كما ويحدد السلطة السياسية ولا يدعها تستغل جهود المستضعفين، ويؤكد تأكيداً شديداً على الملكية الفردية في حدود العدالة الاجتماعية، فان كل ذلك من أجل أن يقول للانسان إن سعيك يعود إليك ولا يعود إلى غيرك. وبذلك يشجعه على العمل والسعي وبذل الجهد.
وكمثل على ذلك: حكمة الميراث في الإسلام، إذ تقوم على أساس أن الإنسان لا يملك سعيه في حياته فقط، وإنّما حتى بعد مماته سوف يوِّرث سعيه أولاده أو الآخرين، وبهذا يشجع الإسلام على العمل والانتاج.
سابعاً: تحديد الطرق الصالحة للعمل .
حينما يحدد الإسلام الطرق الصالحة للعمل، يبعّد الإنسان عن الكسل والجبن والهم، وكذلك عن إقتراف المعاصي التي تسبب ضعفه وابتعاده عن الآخرين. فهو بذلك يبني المجتمع الحيوي النقي جسدياً وعقلياً.
هذا هو البرنامج الذي يضعه الإسلام الحق، يبقى علينا أن نطبّقه بشكل سليم. إنها قضية أساسية في حياة شعوبنا النامية، لأن العالم اليوم يقف على أبواب تغييرات جذرية هائلة، وأننا لو بقينا هكذا، فإن الفجوة بين بلادنا والبلاد الصناعية تتوسع أكثر فأكثر، وقد تصل هذه الفجوة يوماً إلى حد أن بلادنا لا يمكنها أن تلحق بركب الحضارة أبداً.
إن فرصتنا الوحيدة هي التحرك الآن، برغم صعوبة هذا العمل البالغة. وربما لو كنا قبل خمسين سنة قد عقدنا العزم على اللحاق بركب الحضارة، وشددنا الأحزمة وسعينا، لكنّا قد ردمنا هذه الفجوة ولحقنا بمن سبقونا وربما تجاوزناهم.
إننا لا يحق لنا أن نتغافل عن مصيرنا ومصير الأجيال القادمة، وهذه ليست مسؤولية إجتماعية فقط، وانّما هي أيضاً مسؤولية فردية.. أي: كل إنسان يجب أن يجسد الإسلام بتعاليمه الحضارية لكي يكون رائداً في مجال تقدم بلده، ليعقد كل واحد منا العزم على أن يقلل شيئاً ما من تخلف بلده الذي يعيش فيه.
لا يكن همّ تجارنا أن يزيدوا من ثرواتهم فقط. ولا يكن همّ علمائنا ومثقفينا أن يوظَّفوا في إحدى الشركات أو الوزارات، وأن يبنوا بيتاً. ولا يكن همّ عمالنا زيادة الأجور. ولا يكن همّ حرفيينا وكسبتنا الحصول على مغانم مادية. بل ينبغي أن يكون همّ كل واحد منا أن يقدم بلده، وهذا هو العمل الصالح وهذا هو الجهاد الحقيقي في فترتنا الراهنة.
صفوة الكلام
1- إن ما نعانيه اليوم من المشاكل والمآسي في كل الأبعاد، ناجم عن التخلف المستشري في أوصال أمتنا .
2- إن أمتنا تملك الموارد الإقتصادية الكافية، والأراضي الواسعة، والموقع الجغرافي المتميز، إلا أنها لا تستطيع مواجهة العدو الصهيوني، إلا بالإعلام الفارغ .
3- وبالرغم من أن الإسلام هو المنهج الذي ينقذنا من التخلف، إلا أن هذه الحقيقة مهملة عادة في توجهات المؤمنين، من جهة وإن أعداءنا يحاولون سرقة هذا التطلع من جهة أخرى .
4- الإسلام يحارب التخلف، ويحقق التقدم والحضارة عبر العوامل التالية :
ألف: فك الأغلال النفسية والتحرير من الأغلال .
ب: التمحور حول العمل الصالح .
ج: الإهتمام بالعلم .
د: علمية العمل وعملية العلم .
هـ: التعاون .
و: حذف الزوائد الني تتطفل على حياة المجتمع .
ز: تحديد الطرق الصالحة للعمل .
===================
مراحل الحضارة
ليست عملية التغيير الجذري في حياة الأمم إلاّ الاستفادة الجيدة من عامل الإرادة البشرية، ومن قدرة الإنسان على تحدي واقعه السيء .
الأمة التي تعرف سرّ التغيير والإصلاح الجذريين في حياتها لا تموت أبداً .
الدورة التاريخية
إن الدورات التاريخية التي نراها عادة عبر التاريخ البشري، حيث أن الأمم تنشأ ثم تتقدم ثم تنكمش، ثم تتحدى ثم تنكسر، وقد يحدث في بعض الحالات أنها تنبعث من جديد، ثم تتقدم، ثم تنتهي. إن هذه الدورات التي غالباً ما نجدها صحيحة في تاريخ الحضارات لا تقع بطريقة واحدة في كل مكان، ولا يمكن أن نعتبرها قضية مطلقة، كالقضايا الرياضية التي قوامها القوانين المجردة والكلية، مثلاً (2×2=4 دائماً).
الدورات التاريخية ليست هكذا، وإنّما تحتفظ بالجانب الإنساني فيها وهو الجانب الإرادي المتميز، حيث أن كل عامل يؤثر في ظرف تاريخي معين تأثيراً بمقدار مختلف عن تأثيره في ظروف أخرى.
ويمكننا أن نقسم المراحل الحضارية للتاريخ بصفة عامة إلى:
أولاً: المرحلة البدائية
وهي عبارة عن وجود مجموعة من البشر، أجسادهم مجتمعة وأفكارهم متفرقة، لا يحملون رسالة ولا يطمحون لتحقيق هدف، ولا يبحثون عن تقدّم، ولا يعنيهم الاّ الحصول على ضرورات معاشهم. هذه المجموعة البشرية تبقى هكذا عبر مئات السنين، تعيش في عزلة عن العالم، كالعرب في الجاهلية، وشعوب أخرى غيرهم.
ثانياً: المرحلة الرسالية
ثم تنبعث فيها فكرة رسالية، عادة ما تكون مستوحاة من نبي بُعِثَ إليهم مباشرة من قبل الله عز وجل، أو رسالة نُقِلت إليهم عبر وسيط بشري من غير الأنبياء. وحين تنبعث فيهم هذه الرسالة، فانّها تقوم بدور إشعارهم بوضعهم المتردي الذي يتوجب عليهم تغييره، وإعطائهم رسالة هي فوق تطلعاتهم المادية الضيقة، حيث يتشبثون بها ويتمحورون حولها، ويفجرون طاقاتهم من أجل تحقيقها. وأخيراً تحدد لهم برامج ومناهج، وسلوكيات وأحكاماً وأنظمة معينة يسيرون على هداها، وهنا تنغرس النواة الأولى للمدنية التي لا تلبث أن تنمو حتى تحقق مدنية جديدة.
ثالثاً: مرحلة الإصطدام
هذه المدنية تصطدم أول ما تنمو بما حولها، من أفكار ومجتمعات صدمة عنيفة، قد تؤثر فيها تأثيراً سلبياً، فتنهزم أمام جيوش الأعداء، وتصاب بنواقص كثيرة. جاء في القرآن الحكيم:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة،155
هذه الآية تشير إلى المشاكل التي تنشأ بعد نمو الحضارة وتكوّن الأمة على أساس الرسالة.
وقد تسبب هذه الصدمة وهذا التحدي إنكماشاً في هذه المدنية حتى ليبدو، للذي يرى الصراع من بعيد، أن هذه الرسالة وهذه الحضارة التي ابتنيت عليها قد انتهت، ولم يبقَ لها فرصة للانتصار على أعدائها، وذلك بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها، والخلافات الداخلية التي تهزها. ولكن مع هذا الإنكماش، فإن هذه المدنية تتميز في هذه المرحلة بالشجاعة وروح الإقدام والتضحية من أجل الاهداف التي تحملها.
كما أنّها في هذه المرحلة، لا يهتم أبناؤها بالأسلحة والتنظيم والوسائل العلمية والطبيعية من أجل كسب المعركة، وإنّما يتحركون في الأرض تحركاً إرتجالياً، من أجل تحقيق أهدافها.
رابعاً: مرحلة المراجعة والتنظيم
ولكن هذه الرسالة لا تلبث أن تجدد نفسها بعد سنين قد تطول وقد تقصر، ويتجدد إيمان أتباعها بها، لأنّهم بعد أن ينهزموا شيئاً ما أمام الصعوبات والأعداء، فإنهم يعودون ليقيِّموا أوضاعهم، ويطرحوا على أنفسهم هذه الأسئلة: لماذا انهزمنا؟ وماهي الثغرات؟ وكيف نتقدم؟.
وهكذا تنبعث فيهم الروح مرّة أخرى فيتحركون، ولكن في هذه المرحلة تتميز إنطلاقتهم بعدم الاعتماد على الايمان وحده، بل يتوجه الاهتمام إلى التطوير والتنظيم، وتهيئة الوسائل، والسعي إلى زيادة الحلفاء والحصول على الأسلحة، والأخذ بكل الاسباب العلمية والمادية للبناء والتقدم، وذلك إعتباراً بما حصل لهم من دروس مُرّة، ومن إنتكاسات صعبة. وتدوم هذه المرحلة فترة طويلة نسبياً، تنمو خلالها الحضارة وتتقدم، وتحتفظ ذاكرتها بعبرها السابقة لكي لا تتكرر التجارب الفاشلة مرة أخرى.
خامساً: مرحلة التحجّر
ولكن مع إستمرار الوقت وطول الزمن، تهترىء الذاكرة الحضارية، وتنسى تجاربها تقريباً، سواء التجارب الايمانية كالشجاعة والتضحية، أو التجارب المادية التي حصلت عليها في المرحلة السابقة.
يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الحديد،16
وقسوة القلب عبارة عن التحجّر، وإصابة الأمة بحالة التعب والإرهاق، فتصبح في وضع لا تعطي فيه ولا تأخذ، ولا تتأثر بحقائق الحياة، ولا تستجيب للعوامل الطبيعية والسنن الصحيحة، فتصبح مثل الحجر الذي لا يتفاعل مع ما حوله.
والمقصود بالتعب والإرهاق هنا، والذي يعبِّر عنه القرآن الحكيم بـ "قسوة القلب" هو التبلد الفكري، والتوقف الذهني، وحسب تعبير بعض المؤرخين: توقف الابداع في عقل الحضارة.
سادساً: مرحلة التغني بالأمجاد
بعد هذه المرحلة، تبدأ مرحلة الصراعات الداخلية، حيث الأنانيات، والنزاعات القومية، والنعرات العنصرية والطائفية تعصف بتلك الحضارة. وهي مرحلة صعبة، تتشرذم فيها عناصر الحضارة، وربما تصل إلى مشارف النهاية، وبالتالي يسقط الكيان، ويتفتت المجتمع، وتنسى الأفكار.
إلاّ انّ الغرور والكبرياء الناشىء عن الأمجاد السابقة يبقى، لأنّ الأمجاد هي آخر ما ينساها الإنسان، حيث تتجسَّد في إنجازات بعضها ظاهرة كالآثار المعمارية، وبعضها خفيّة كالأحداث التاريخية المروية التي لها خطها في تفسير شيء يسميه بعض المؤرخين بطيف الحضارة، أي آخر مرحلة من إنتهاء هذه الحضارة.
إنّ الحالة العاطفية التي تنبع من الانتماء إلى الأمجاد والمكاسب التاريخية والافتخار بها، تعود لتصنع شيئاً ما، وعادة ما يكون ذلك الشيء دولة كبيرة ظاهراً، أو ألفاظاً ضخمة، ولكن دون أن يكون فيها أي نوع من الابداع والتطوير أو العطاء أو حمل رسالة حقيقية، وانّما هي فقط طيف الحضارة أو حلمها. هذه المرحلة غالباً ما تكون قصيرة الأمد، وبعدها ينتهي كل شيء، وبانتهائها، تذهب آخر فرصة لهذه الحضارة في البقاء.
إنّ كل الحضارات عبر التاريخ، وحسب ما يذكر المؤرخون، مرت بهذه المراحل، ولكن هل هذه المراحل حتمية وأنها دائماً بشكل واحد؟
كلا، إنّها ليست حتمية.. لأن الحضارة يمكنها أن تستوعب تجارب الحضارات الأخرى في أول مراحلها، فتضم إلى روح التضحية والشجاعة والاقدام، الأخذ بالعوامل المادية والسنن الطبيعية التي توصلت إليها الأمم السابقة، ولا تدع مجالاً للغرور أن يصيبها وبذلك يمكنها أن تبقى فترة أطول.
أثر الغرور في الحضارة
وهنا لا بأس أن أعرض تجربتين لبيان أثر الغرور في الحضارة، دون أن أحاول المقارنة الدقيقة، لان الامثلة التي أضربها ليست حضارات وإنّما هي دول، ولكن يمكننا أن نسوقها أمثلة على واقع الحضارات.
المثال الأول: ألمانيا في عهد (بسمارك) حيث كان رئيساً للوزراء في (بروسيا) فجعل من هذه الولاية نواة لدولة إتحادية كبيرة في أوربا وهي ألمانيا الإتحادية، بفضل جهوده، وبفضل نشاط وحيوية الشعب البروسي.
إلاّ أن بسمارك لم يلبث أن اغترّ بالسكك الحديدية الجديدة، والأسلحة الحديثة، والجيوش المنظمة، والطاعة التامة، والانضباط العسكري الكامل، والتقدم الاقتصادي الذي وصلت اليه ألمانيا الاتحادية، فقام يضرب ذات اليمين وذات الشمال، وخاض حروباً عديدة إلى أن ضعفت ألمانيا سريعاً وأصبحت دولة عادية، بينما كان بالامكان أن تصبح لفترة طويلة مركز الثقل الحضاري في أوربا.
أما المثال الثاني فهو الولايات المتحدة الأمريكية. فقد عاشت الولايات المتحدة فترة طويلة نسبياً بعد استقلالها ومزدهرة، والسبب في ذلك أنّ الشعب الأمريكي رفض كل المحاولات التي قامت لإقحامه في الحروب، والتدخل في شؤون الدول الأخرى. فقد رفض وبكل شدة في سنة 1913م النظرية التي دعت إلى إحتلال المكسيك، وقد كان سبب إنتصار (روزفلت) على منافسه الانتخابي هو رفعه شعار إبقاء أمريكا بعيدة عن مشاكل العالم، وقد واجه معارضة من الشعب الامريكي عندما إنحرف عن هذه السياسة، وقام بمحاولات عديدة لادخال الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
لقد كان الامريكيون يعلمون ماذا يعني التدخل العسكري هنا وهناك، وتحمّل مشاكل (لا ناقة لهم فيها ولا جمل) وكانوا يعرفون بالضبط ماذا يعني ذلك، وكانت ذاكرتهم لا تزال تحتفظ بالتجارب الأوروبية القاسية، لأنّهم أوروبيون إنتقلوا إلى أمريكا، فقرروا ألا يعيدوا التجربة هناك، وظلوا فترة طويلة هكذا، إلى أن تم إدخالهم في الحرب العالمية الثانية وبعدها أصبحوا ورثة الاستعمار القديم، وتدخّلوا في أكثر بقاع العالم، والآن هم يعانون مشاكل معقّدة في كثير من المجالات بسبب هذه التصرفات، وخصوصاً بعد الحرب الفيتنامية، فقد أصيب الشعب الأمريكي بهزة عميقة في كيانه الداخلي، ولا أعتقد أن بأمكان هذا الشعب أن ينسى هذه الهزة.
لقد كان الشعب الأمريكي في فترة، من الشعوب التي لا تقهر، فموارده كبيرة، وقواه عظيمة، وإنجازاته التكنولوجية باهرة. ولكن ثبت الآن بأن الأمريكيين ليس فقط يُقهرون وإنّما يتراجعون أيضاً.
الإرادة ودورها في وقف الإنهيار
وفي حالة هبوط روح الحضارة، والمدنية، وتكوّن قسوة القلب، أي تحول الحضارة إلى حقيقة جامدة، يمكن أن يلعب الفكر والثقافة والإرادة والقيم دوراً هاماً. فبعد أن تقسو القلوب، وتتحول النظرات الرسالية إلى توجهات مادية، ويحين وقت الإنهيار فإنّ بالامكان، وبتحول جذري داخل الحضارة وبهمة عالية من بعض أبنائها، أن يوقفوا إنهيارها وتدهورها. مثل ما حدث مع قوم يونس الذين يقص علينا القرآن قصتهم:
﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ يونس،98
فقد كان قوم يونس يعيشون في آخر لحظات حضارتهم، ولكنهم تداركوا التدهور الذي كان يرتقب أن ينتهي بصاعقة من السماء، بعد أن هجرهم نبيهم، ولاحت نذر العقاب الشديد، فلجأوا إلى علمائهم وسمعوا نصيحتهم ثم غيّروا مسيرتهم، وأوقفوا بذلك الإنهيار المحتوم.
هذه قضية هامة وفريدة في تأريخ الأمم، وأهميتها نابعة من أنها تدل على أن إرادة الإنسان أقوى من مسيرة الزمان وظروفه.
كيف نتحدى الإنهيار؟
والسؤال الكبير الذي نواجهه في نهاية البحث هو: هل هناك عامل يجعل الأمم تقاوم الإنهيار، ويُغذي فيها محاولات الإستمرار في الحضارة وتحدي عوامل السقوط؟
هل هي الصدفة؟ هل هو القضاء والقدر؟ أم أن هناك عاملاً آخر يمكن التخطيط له والإستفادة منه؟.
نحن نعتقد إن عامل الإرادة البشرية يلعب دوراً جذرياً وأساسياً في هذا المجال، ولعامل الإرادة قوانينه وأنظمته الذاتية والبعيدة عن تأثير العوامل الأخرى.
إن إثارة الإهتمام في المجتمعات البشرية بعامل الإرادة، ودوره الأساسي في الحفاظ على المسيرة الحضارية، يعطيها القدرة على الإستفادة من هذا العامل العظيم الذي يُعتبر المنطلق الرئيسي لحركات التغيير والإصلاح الجذريين في كل منعطفات التاريخ.
فعملية التغيير الجذري ما هي إلاّ الإستفادة الجيّدة من عامل الإرادة البشرية، ومن قدرة الإنسان - النابعة من إرادته الحديدية- على تحدي واقعه الذي قد يكون متجهاً نحو الإنهيار، ولكن ليس بالعناصر المادية، وإنما بالأفكار الروحية والقيم.
والأمة التي تعرف سرّ التغيير والإصلاح الجذريين في واقعها لا تموت أبداً، لأنه كلما ضعفت العوامل المادية في هذه الأمة، تدخَّل العامل الإرادي ليعوِّض عن النقص الناجم عن ضعف تلك العوامل، وليعطي الأمة إندفاعاً جديداً نحو الأمام، وذلك عن طريق إثارة روح التمسك بقيم الجهاد والعطاء والإيثار والتضحية.
وربما نستطيع القول أن الأمة الإسلامية هي من أكثر الأمم التي عرفت حتى الآن سرّ عملية التغيير الجذري وأهميتها في مسيرتها الطويلة. والمذهب الرسالي لأهل البيت عليهم السلام هو ذلك السرّ الذي يحمل في طيّاته أعلى درجات الإرادة الرسالية للتغيير، وأسمى مراتب العطاء والتضحية والإيثار والجهاد.
صفوة الكلام
1- ليست الدورات التاريخية التي نشاهدها في التاريخ البشري قضية مطلقة، بل للجانب الإنساني المتمثل في الإرادة المتميزة، دور فعّال فيها .
2- وتتلخص دور المراحل الحضارية فيما يلي :
ألف: المرحلة البدائية .
ب: المرحلة الرسالية .
ج: مرحلة الإصطدام .
د: مرحلة المراجعة والتنظيم .
هـ: مرحلة التحجّر .
و:مرحلة التغني بالأمجاد .
3- في حال هبوط الروح الحضارية، فإن بإمكان الفكر والثقافة والإرادة والقيم أن تلعب دوراً هاماً في ايجاد تحوّل جذري وبهمة عالية من بعض أبنائها .
4- إن إثارة الإهتمام في المجتمعات البشرية بعامل الإرادة، ودوره الأساسي في الحفاظ على المسيرة الحضارية، يعطيها القدرة على الإستفادة من هذا العامل العظيم الذي يعتبر المنطلق الرئيسي لحركات التغيير والإصلاح الجذريين في كل منعطفات التاريخ .
====================
أنظمة التطهير الذاتي في المجتمع
تعيش المجتمعات الحرة فترة أطول لأن الحرية تساعد على امتصاص النقمة، وتصحيح المسير، وتصفية الرواسب .
العلم حياة القلوب، وهو يؤدي إلى تجديد دم المجتمع، وتصفية رواسب الجهل والغفلة عنه .
المجتمع الإسلامي مجتمع يطهّر بعضه بعضا كماء النهر، فهو مجتمع شاهد على نفسه وشاهد على غيره، والأنظمة الإسلامية التي تجعل هذا المجتمع يطهر نفسه بنفسه كثيرة، سنشير إليها في السطور القادمة، ولكن علينا -قبل ذلك- أن نشير إلى أن عوامل الزمن والغفلة وتراكمات الجهل، وحالات الإرهاق والتعب وما أشبه قد تعترض مسيرة المجتمع فتبعده عن قيمه وعن الإستعداد لمواجهة التحديات.
لذلك نرى أن الكثير من المجتمعات في التأريخ لا تعيش إلا مدة قصيرة قد لا تتجاوز نصف قرن من الزمان، وبعد ذلك تبدأ رحلة الإنهيار.
وإنما تموت هذه المجتمعات لأنها تفقد عامل الديمومة الأساسي، وهو وجود نظام لتصفية الرواسب السلبية التي تخلفها المشاكل التي تعتريها، كالمريض الذي يشكو من تعطل كليته عن العمل، فلا يمر دمه بعملية تصفية تبعد عنه السموم، لذلك لا يستطيع هذا الإنسان أن يعيش طويلا، لأن الدم سيسمم كل الجسم، وهكذا المجتمع، فهو يتعرض بسبب الصراعات والتناقضات وظروف الجهل والغفلة إلى تراكم السموم في عروقه، وهذه السموم يجب أن تخرج عبر قنوات معينة بعيدا عن جسم المجتمع، حتى لا تتسبب في موته.
فالمجتمعات الديكتاتورية - مثلاً - تنفجر مرة واحدة، والسبب هو أن رواسبها تبقى في عروقها، إذ لا يوجد فيها جهاز تصفية لنقل هذه الرواسب بعيدا عن المجتمع، فتتجمع هذه الرواسب في المجتمع وتقضي عليه مرة واحدة، تماماً كالجلطة الدموية التي تفاجئ الفرد فتقتله.
أما المجتمعات التي تملك نوعا من الحرية، فهي تعيش فترة أطول، لأن وجود الحرية يساعد على إمتصاص النقمة وتصحيح المسيرة وتصفية الرواسب السامة وتنقية حياة المجتمع.
أنظمة التصفية
والإسلام يؤكد على مجموعة أنظمة تساعد على تجدد دم المجتمع وتعيد إليه حيويته ونقاءه، ومن هذه الأنظمة:
أولا: نظام تعليم الجاهل، وتحمل العلماء مسؤوليتهم.
يؤكد الإسلام على العلماء أن يتحملوا مسؤولية دورهم الارشادي والتوعوي، وأن يبينوا للناس علمهم بكل الأساليب الممكنة، ذلك لأن العلم حياة القلوب وهو الذي يجدد دم المجتمع، ويسبب تصفية رواسب الجهل والغفلة عنه. يقول الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
(أيما رجل آتاه الله علما فكتمه وهو يعلمه لقي الله عزوجل يوم القيامة ملجما بلجام من نار) .
فإذا كنت تعلم حقيقة واحدة فكتمتها ولم تنشرها بين الناس، فإنك سوف تقف بين يدي الله ملجماً بلجام من نار.
وفي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:
(تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم يوم القيامة) .
فحينما يكون لأحد من الناس عليك مال، ثم لا ترده إليه فإن تلك خيانة عظيمة، أما إذا كنتَ عالماً، وكان الناس بحاجة إلى علمك، وامتنعتَ عن بذله لهم، فإن هذه خيانة أعظم لأن ضررها على المجتمع أكبر.
فالعلم ليس حكرا على أحد، وإنما هو للناس جميعا، والعلم أمانة عند صاحبه يجب أن يؤديها إلى أهلها، ولا يحتفظ به لنفسه وإلا أعتبر خائنا، ومرتكبا للظلم بحق جميع أفراد المجتمع.
ومع إن الإسلام يؤمن بتنظيم نشر العلم عبر طرق ووسائل مثل الجامعات، والمدارس، والمساجد، والمجالس العلمية، والحلقات الدراسية، إلا أنه يؤمن أيضا بأسلوب آخر لنشر العلم، وهو أسلوب النشر الذاتي، أي أن يكون العالِم كالمصباح ينشر نوره في كل مكان بشكل ذاتي، ودون حاجة إلى دافع خارجي لنشره. وإذا إلتزم المجتمع بمنهج قيام كل شخص عالِم بنشر علمه في كل مكان وبكل وسيلة ممكنة، فلا يبقى في المجتمع الإسلامي جاهل واحد، لأن العلم يتدفق إليه من جميع جوانبه، وبهذا الأسلوب يحافظ الإسلام على نقاء المجتمع من شوائب الجهل.
ثانيا: نظام التذكير
إن تقادم الزمن على الإنسان ينسيه معلوماته، فيخفت نور معرفته، ويكون بحاجة ماسة إلى التذكير لتنشيط معارفه وإحيائها من جديد، وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستخدم أسلوب الوعظ حتى مع كبار أصحابه، كعلي ابن أبي طالب عليه السلام وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وكان صلى الله عليه وآله يحدِّث الواحد منهم - بين الحين والآخر - ويوصيه بأمور كان قد عرفها سابقاً، ويطرح عليه قضايا كان قد أحاط بها علماً وفقهاً من ذي قبل، وقد جاء في القرآن الحكيم أمر صريح له بذلك:
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ الغَاشِيَة،21-22
ثالثا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فللإنسان شعور فطري بضرورة التوافق مع الناس المحيطين به. فهو يلبس ما يلبسه الآخرون، ويتحدث باللغة التي يتحدثون بها، ويقوم بالأعمال التي يراها الناس صحيحة. والإسلام يثير هذا الحس، ويوجهه باتجاه تطبيق القيم السماوية.
إنك إذا عملت عملا سيئا، ثم خرجت إلى الشارع فرأيت الناس ينظرون إليك شزرا، وكل من رآك يؤنبك، ثم عدت إلى البيت لتسمع نفس الكلمات من زوجتك ومن والديك وإخوانك، فمن المستحيل أن تكرر نفس العمل، وهذا هو تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وآله هذا الحس، كعقاب رادع لبعض المتخلفين عن الجهاد.
حدث أن ثلاثة من الصحابة وهم كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة الرافقي تخلَّفوا عن الجهاد مع رسول الله في غزوة تبوك، يقول كعب: فلما وافى الرسول - أي عاد إلى المدينة - إستقبلناه نهنيّه بالسلامة، فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلم يسلِّم علينا أحد ولا يكلّمنا، فجئن نساؤنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا، أفنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تعتزلنّهم، ولكن لا يقربونكن..
وهكذا قاطعهم الجميع إنطلاقاً من واجب النهي عن المنكر حتى شعر المتخلّفون بالضيق الشديد، يقول القرآن الحكيم في وصفهم:
﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لامَلْجَاَ مِنَ اللّهِ إِلآَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة،118
لأنهم وجدوا مقاطعة إجتماعية، ولأن إحساسهم الذاتي بضرورة التوافق الإجتماعي مع الآخرين أرهقهم، فاضظروا للعودة إلى الطريق الإجتماعي وتابوا فتاب الله عليهم.
وهكذا المجتمع الإسلامي اليوم، فحينما ينحرف أحد عن القيم الإسلامية، فإن على الآخرين أن يؤنبوه و يظهروا عدم الرضا عنه، إنطلاقاً من واجب النهي عن المنكر، حتى يدفعوه بالاتجاه الصحيح.
رابعا: العمل وفق السنة
يؤكد الإسلام على ضرورة العمل وفق المسيرة العامة للمجتمع الإسلامي والتي ترسمها سنّة الرسول وأهل بيته، أي الإبتعاد عن البدعة التي هي حاجز أمام الإنسان يحجب عنه نور الحقيقة، وفي الحديث المعروف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:
(عليكم بِسُنَّةٍ، فعمل قليل في سُنَّة خير من عمل كثير في بدعة) .
فالإتجاه العام للمجتمع الصالح لابد أن يُحفظ، ولابد أن يتوافق الإنسان مع ذلك الإتجاه وأن لا ينحرف عن المسيرة السليمة للمجتمع.
خامسا: مسؤولية الإنسان في المجتمع
ويؤكد الإسلام على ضرورة تحمل الإنسان مسؤوليته في المجتمع، يقول الحديث الشريف:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
والمسؤولية الإجتماعية، هي غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنها تعني قيام الإنسان بدور الأب بالنسبة إلى الأسرة، وبدور المدير بالنسبة إلى المصنع، وبدور القائد بالنسبة إلى المجتمع، فإن القائد لا يكتفي بالنصح والكلام فقط، وإنما يصنع واقعا. فإذا رأى مجتمعه عاجزاً إقتصادياً، فانه يضع برنامجا إقتصاديا لكي يرفع عن مجتمعه العجز، وحينما يخشى الأب على إبنه من الإنحراف فإنه يزوجه، والزواج ليس كلاماً وإنما هو عمل، وهكذا يفرض الإسلام على أبناء المجتمع الإسلامي أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه الآخرين.
سادساً: القوانين الرادعة للمنحرفين
حينما يصل الإنحراف إلى رأس المجتمع أي إلى القيادة فحينذاك تجب النهضة للتغيير، والنهضة الرسالية تعني أنك حينما تجد إنحرافا في المجتمع فعليك أن تسعى لإصلاحه بالكلمة الشجاعة، فإن لم تنفع فبالتخطيط الجهادي العملي، حتى لو أدى ذلك إلى إستشهادك، لأن ذلك سيحدث موجة من المقاومة والتحدي داخل المجتمع.
إن القوانين الإسلامية التي تقول بأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن الدفاع عن المظلومين والمستضعفين واجب الإنسان المسلم، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام الحسين عليه السلام عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيِّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله) .
إن هذه القوانين إنما هي لأجل مواجهة الإنحراف في المجتمع الإسلامي، وإصلاح مسيرته العامة.
وفي المجتمع المنحرف لا يحدث أن ينطلق كل الناس لمواجهة الإنحراف، وانما تبدأ المواجهة من بعض العناصر الذين يقومون بتشكيل تجمعات صغيرة، تتحمل هذه المسؤولية، ثم تعم المواجهة والتحدي كل شرائح المجتمع.
وهكذا، فإن المجتمع الذي توجد فيه فئة يقاومون الإنحراف ويواجهونه بالتحدي الصارخ، يوجد فيه حس إجتماعي عام، على أساسه يقوم كل الناس بواجبهم فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتحملون مسؤوليتهم الإجتماعية، ويقومون بإرشاد الجاهل، وتذكرة الغافل، إن هذا المجتمع سوف يكون مجتمعا ذاتي التطهير، يتبادل التواصي بالحق وبالصبر، فكل إنسان يوصي الآخرين ويستمع لوصية الآخرين، وكل واحد يشجع الآخر على عمل الخير، حتى ليشبه المجتمع بناء يستند كل حجر فيه على غيره ولا يقوم بمفرده.
واذا وجدنا اليوم مجتمعا ضعيفا لا يتفاعل مع نفسه ومبادئه الأصيلة، ولا يواجه أعداءه، فلابد أن نعلم أنه يفتقر إلى تلك الأنظمة التي وضعها الإسلام من أجل تنقية المجتمع، وتطهيره من الرواسب السلبية القاتلة.
صفوة الكلام
1- المجتمع الإسلامي شاهد على نفسه وشاهد على غيره، ومجتمع يطهِّر بعضه بعضاً .
2- الكثير من المجتمعات لا تعيش إلاّ فترة قصيرة، لأنها تفقد عامل الديمومة الأساسي وهو: نظام لتصفية الرواسب .
3- يؤكد الاسلام على الأنظمة التالية التي تساعد على تنقية حياة المجتمع :
ألف: نظام تعليم الجاهل، وتحمل العلماء مسؤوليتهم .
ب: نظام التذكير .
ج: نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
د: العمل وفق السنة .
هـ: مسؤولية الإنسان في المجتمع .
و: القوانين الرادعة للمنحرفين .
4- إن المجتمع الذي يفتقر إلى الأنظمة الإسلامية للتطهير الذاتي من الرواسب السلبية، هو مجتمع ضعيف لا يتفاعل مع نفسه ومبادئه الأصيلة، ولا يواجه أعداءه
=====================
التطلع لنشر العدالة في الأرض
كلما كانت همة الإنسان وتطلعاته أعلى، كلما كانت حركته وحيويته وأمكاناته أكبر .
المجتمع الإسلامي، مجتمع رسالي مسؤول يتحسس المسؤولية تجاه كل الشعوب المضطهدة .
الإنسان إبن أهدافه
الإنسان كفرد، كتلة ضخمة من الطاقات الكامنة، وحينما يتصل بإنسان آخر تتضاعف طاقاته وإمكاناته، وهكذا يملك المجتمع إمكانات هائلة لا يتصور مداها. وعملية البناء الحضاري إنما هي تفجير طاقات الإنسان، كفرد وكمجتمع، وتحويلها إلى إمكانات فعلية.
ونتساءل: أليس إنسان اليوم هو إنسان ما قبل ألوف أو ملايين السنين، حينما هبط أول انسان على وجه كوكبنا، فلماذا بقي أحقابا عديدة، يعيش بشكل بدائي ولم يفجر طاقاته وإمكاناته وبقي يخشى الحيوانات المفترسة؟
والجواب: لأنه لم يكن يجد الحاجة إلى ذلك في نفسه، فقدرات الإنسان إنما تتفجر حينما يجد صاحبها الحاجة الفعلية إليها. فالحاجة أمّ الإختراع، وأم العلم، والإنسان لا يتحرك باتجاه شيء إلا حينما يكون بحاجة إليه، فاكتشافه للقمح كان بسبب حاجته إليه ليسد به جوعه، وإكتشافه لطريقة بناء البيوت كان بسبب حاجته إليها ليحتمي بها من الحر والبرد والشمس والرياح، واكتشافه للسلاح كان بسبب حاجته إليه ليدافع عن نفسه ضد العدو، وهكذا..
إن حاجات بعض الناس في الحياة محدودة، لذلك حينما يصلون إليها، تنتهي دوافعهم النفسية للتقدم. فهم لا يريدون من الدنيا إلا العفاف والكفاف.. قرصين من الخبز، وطمرين من اللباس، وشبرين من الأرض. إن مثل هؤلاء الناس لا يكونون عادة نشطين، لأنهم يعملون من أجل أن يوفروا هذه الحاجات البسيطة، التي لا يهدفون تحقيق أمور أكبر منها في الحياة، وحينما يحصلون عليها، تتجمد طاقاتهم التي تحولت إلى إمكانات فعلية.
الحضارات وليدة الحاجة
والحضارات في التاريخ إنما نمت في البلاد الباردة جدا، أو في البلاد التي كانت قريبة من الغابات حسب ما يذكره المؤرخون، وبالتالي حيث كان الخطر فيها على الإنسان كبيرا. والسبب لأن شعور الإنسان بالخطر كان يولد لديه حاجات شديدة تدفعه إلى العمل.
اما في المناطق ذات المناخ المعتدل، والتي كان الإنسان يجد فيها حاجاته ميسّرة كالطعام والمأوى والراحة، لذلك لم يكن يخشى من أخطار أو من ظروف الطقس الصعبة، فإنه لم يكن يجهد ليقي نفسه منها.
ان الإنسان الذي يكتفي بلقمة العيش ومكان يرتاح فيه، لا يمكن أن يكون بانيا لحضارة، لأنه لا يجد في نفسه حاجة إلى التحرك. أما الإنسان الذي يحمل هدفا كبيرا في حياته، تراه يتحرك ليلا ونهارا، ويجتهد ويستنفذ طاقاته، ويفجر إمكاناته، من أجل الوصول إلى هدفه.
ولذلك تقول الحكمة المأثورة:
(المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه).
فكلما كانت همة الإنسان وتطلعاته عالية، كلما كانت حركته وحيويته وإمكاناته أكبر. وهذه هي المعادلة الحضارية في العالم.
تطلع المجتمع الرسالي
ومن السمات الأساسية للمجتمع الإسلامي التي تجعله مجتمعا حيويا، هي تحمّله لمسؤولية نشر العدالة على وجه البسيطة كلها، وهداية البشرية جمعاء إلى الطريق السوي، حيث الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة.
فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع رسالي مسؤول، يتحسس المسؤولية تجاه كل إنسان ينام ليله طاويا على جوع، وتجاه كل إنسان يقض البرد مضجعه، وكل إنسان يلفه الخوف والحرمان، وتجاه مآت الملايين من البشر الذين يعيشون الآن في العالم دون مستوى التغذية التي يحددها الطب، وتجاه كل الشعوب المضطهدة سياسياً، والمحرومة إقتصادياً، التي تتعرض للقسر والإرهاب من قبل أصحاب القوة والثروة في العالم، وتُنهب ثرواتها بانتظام.
إن هذا الشعور بالمسؤولية لدى المجتمع الإسلامي يتحول إلى حاجة نفسية وهدف إجتماعي. وحينما تكون الحاجة النفسية عميقة، والهدف الإجتماعي واضحا، تتحرك الإمكانات من القوة إلى الفعل، ويتحرك المجتمع إلى تحقيق أهدافه، وبهذه المعادلة يتحول المجتمع إلى مجتمع ديناميكي حيوي، يحث الخطى في طريق بناء حضارته المنشودة.
إن المجتمع الإسلامي يحمل رسالة، ورسالة هذا المجتمع ليست عنصرية أو حزبية أو قومية.
إنه لا يفكر في نفسه كيف ينتصر على المجتمعات الأخرى لكي يعيش هو أفضل حياة مادية، ويحتفظ بسلطته عليهم.
إنه يحمل قضية مستضعفي العالم، ويندفع نحو تحرير الإنسان من الجهل والعبودية، ومن نوازع الحقد والحسد، ودواعي الكسل والفشل، وأغلال المادة، ثم يسعى من أجل عمارة الارض وتحقيق سيطرة البشر على موارد الطبيعة ليستخدمها لمصلحته. ومن أجل مكافحة الفقر والضعف والإستسلام لتحديات الطبيعة.
وما أوامر الجهاد، وتكريم الشهادة، ومفهوم الإنفاق والتضحية في الإسلام، إلاّ جزءا من التركيبة الداخلية لهذا المجتمع، فالإسلام يبني المجتمع بحيث يكون قادرا على حمل هذه الرسالة العظيمة، ومن دون ذلك لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يحقق أهدافه الرسالية الكبرى.
إن الإسلام يذكر أمر الجهاد والقتال في سبيل الله في أكثر من سبعين مورداً في القرآن الحكيم، بينما يشير إلى أمر الشهادة والتضحية في سبيل الله في عددٍ آخر من الآيات الكريمة، كما يتحدث في آيات اُخرى عما يرتبط بذلك من الإعداد والثبات والإستقامة.
وبالتالي فإن آيات قرآنية كثيرة تتحدث مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن الجهاد والقتال، وعن التضحية والإنفاق، وعن تحمل مسؤولية المستضعفين في الأرض، وكلها تهدف إلى بناء المجتمع الإسلامي على أساس حمل هذه الرسالة العالمية، رسالة إنقاذ الإنسان من أغلاله الإجتماعية والنفسية، ودفعه إلى الأمام باتجاه تسخير الطبيعة لمصلحته.
وحينما نتدبر في القرآن الحكيم نجد سورة كاملة تتحدث عن هذه الخصائص للمجتمع الإسلامي، تلك هي سورة النساء.
ففي البدء تتحدث السورة عن الأسرة كخلية طبيعية وحضارية يقررها الإسلام، ثم تتحدث عن العلاقات الإجتماعية، ثم عن المسجد والطهارة والصلاة، وعن كل ما يربط الإنسان بأخيه الإنسان، ثم تتحدث عن الجهاد، ليس فقط جهاد المسلمين ضد الأعداء الذين يبادرون بالهجوم المسلح على المجتمع الإسلامي، وإنما الجهاد لحمل رسالة الإسلام إلى كافة المستضعفين في الأرض. وهكذا يتصدر الجهاد في سبيل الله قائمة خصائص المجتمع الإسلامي.
وبصائر هذه السورة تدل بوضوح على واقع التطلع عند المجتمع الإسلامي، وانه ليس مجتمعا منغلقا على نفسه، مهتما بمصالحه الذاتية، وانما هو مجتمع يحمل رسالة إلهية إلى العالم، ولا يفكر في نفسه فحسب، بل يفكر في الآخرين أيضاً.
ففي بعض آياتها الكريمة نقرأ عن ضرورة الجهاد، والقيام بالعمل التغييري الجذري ضد الطغاة الذين يريدون خنق الإنسان وكبت حرياته، وبالتالي إستغلاله.
يقول تعالى:
﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً﴾ النساء،71
هنا يأمر الإسلام بالإعداد ويقول: إستعدوا للكفاح وللمسيرة الجهادية، ولا تحبسوا أنفسكم في حدودكم، تفكرون في بلدكم وأنفسكم فقط.
والنفر، المذكور في الآية الكريمة، ليس بالضرورة أن يكون جماعيا، فربما لا تسمح الظروف لكل الناس المتواجدين في البلاد الإسلامية بالتحرك. آنئذ يجب عليك أن تأخذ مجموعة من اخوتك وتنفر معهم في سبيل الله: ﴿فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً﴾ - أي إنفروا كأفراد أو كأمة -.
ثم يقول الله سبحانه:
﴿وإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَاَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ النساء،72-73
هاتان الآيتان تبينان حالة الأفراد الشاذين الذين لا يريدون تحمل مسؤولياتهم الإنسانية، بل يريدون لمجتمعهم الإنغلاق، ويريدون موارد وثروات بلدهم لأنفسهم فقط.
ولكن هؤلاء ليسوا منكم، أنتم المؤمنون يجب أن تتحركوا وتنفروا، ولكن من أجل ماذا؟ يجيب القرآن الكريم قائلا:
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ النساء،74
هذه المسيرة هي مسيرة الإنسان المؤمن، إنه يحمل رسالته على كتفه ويتحرك في العالم ليقاتل في سبيل الله، لله وحده وليس لأي شيء آخر، ويبيع نفسه لله لأنه يتعامل مع الله في صفقة رابحة على أساس أن يدفع نفسه ويأخذ من الله الجنة. يقول تعالى في سورة التوبة:
﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ التوبة،111
ونتساءل ما هو سبيل الله في الواقع الخارجي؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى موضّحاً:
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً﴾ النساء،75
فسبيل الله هو إنقاذ المستضفين الذين ينتشرون في آفاق الأرض، ويدعون الله أن ينقذهم عن طريق بعث ولي لهم، أي قائد، وبعث نصير لهم، أي جنود.
إن الله سبحانه وتعالى يأمر المجتمع الإسلامي أن يقوم بواجبه تجاه كل المستضعفين في الأرض. ونتسائل ايضاً: ضد من تجري الحرب؟ فيقول ربنا:
﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾ النساء،76
فالله سبحانه يأمرنا ان نحارب من أجل المستضعفين ضد أولياء الشيطان الذين يدعمون أنظمة الطاغوت ويقاتلون من أجله.
الصراع من أجل تصفية العناصر المنافقة
إن التحرك عبر الأرض لإنقاذ المستضعفين رسالة هامة يحملها المجتمع الرسالي، ولكن هناك ناحية أخرى تشير اليها سورة النساء أيضا، وهي ناحية الصراع الداخلي ضد المنافقين، والذي نبيّنه عبر النقاط التالية:
أولا: المنافقون لا يجيدون عادة القتال، لأن خطتهم هي التسلل إلى مواقع القيادة في المجتمع الإسلامي وهدمه من الداخل، ولكن الإسلام يأمرنا أن نقاتلهم ونجاهدهم.
يقول القرآن الحكيم مؤكدا على هذه الفكرة:
﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ النساء،88-89
ثانيا: إن المنافقين، بسبب نفاقهم وتظاهرهم بالدين، يخدعون بعض البسطاء من المسلمين، الذين قد يستنكرون موقف الرساليين ويقولون: لماذا تقاتلونهم؟ . انهم مواطنون شرفاء لا يطالبون الا بالحرية وان يسود الأمن في البلد.
ولكن القرآن يوبخنا على مثل هذا الموقف ويقول: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾
أي لماذا انقسمتم في قضية المنافقين على أنفسكم وأصبحتم فريقين: فريق يؤيد مجاهدة المنافقين واستئصالهم، وفريق لا يؤيد ذلك. بينما الله سبحانه وتعالى قد حدد الموقف من المنافقين اذ يقول: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا﴾
إن النفاق جريمة كبرى، ولا نحتاج بعد النفاق إلى إثبات جريمة أخرى عليهم.
ثالثا: يبين القرآن قضية أخرى وهي: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾
ذلك لأن بعض الناس يقولون انه من الممكن أن يهتدي المنافقون وأن يعودوا إلى رشدهم. ولكن بعد وضوح البينة، وانتشار الوعي، إذا وجدنا إنسانا ينافق ويقوم بالدعوة إلى تحطيم الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية، فإن من الواجب التصدي له لأنه من الذين أضلهم الله: ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾
رابعا: يقول القرآن الحكيم: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾
فالمنافقون يريدون أن يعيدوكم إلى الكفر، وأن يعيدوا النظام الجاهلي البائس إلى بلادكم، لأنهم متأثرون بالثقافة الأجنبية، فهم غرباء عن مجتمعكم لذلك ينبغي عليكم التصدي لهم.
إن المجتمع الإسلامي، هو مجتمع التحدي والجهاد، فهو يواصل دائماً خط الجهاد، ولكن ليس من أجل نفسه أو من أجل الطاغوت، أو من أجل الرأسمال والرأسمالية، أو من أجل الفساد والمفسدين، كلا، وانما هو يجاهد من أجل المستضعفين، ومن أجل الرسالة والقيم. لذلك فهو لا يحدد مواقفه تجاه نفسه أو تجاه الآخرين حسب المصالح الذاتية. وهو أيضا لا يهادن ولا يساوم.
فإذا كان داخل المجتمع الإسلامي مجموعة من المنافقين، فلا يجوز لهذا المجتمع أن يهادنهم تحت شعار انهم مواطنون، ذلك لأنه إذا كان المجتمع، مجتمعاً مبدئيا رساليا يؤمن بالقرآن وبالإسلام، فإن الذي لا يؤمن بالقرآن ولا بقيادة الإسلام، يُعتبر غريباً وأجنبياً عن هذا المجتمع. فالإيمان هو الذي يربط أبناء المجتمع الواحد بعضهم ببعض، والأخوة الحقيقية هي أخوة الإيمان، لا أخوة الدم أو التراب أو المصالح. لذلك فإن القرآن الحكيم، يعتبر الجهاد حتى استئصال شأفة المنافقين، من السمات الرئيسية للمجتمع الإسلامي.
صفوة الكلام
1- إن عملية البناء الحضاري إنما هي تفجير طاقات الإنسان، كفرد وكمجتمع، وتحويلها إلى إمكانات فعلية .
ولا يتحقق ذلك إلا إذا أحس الإنسان بالحاجة الفعلية إليها .
2- والحضارات في التاريخ إنما نمت عندما أحس الإنسان بالأخطار والحاجات .
3- والمجتمع الإسلامي مجتمع مسؤول، وهذا الشعور بالمسؤولية يتحول إلى حاجة نفسية وهدف إجتماعي، وحينذاك تتحرك الامكانات من القوة إلى الفعل، وبهذه المعادلة يتحول المجتمع إلى مجتمع ديناميكي حيوي متحرك .
4- لذلك فإن المجتمع الإسلامي يحمل رسالة نشر العدالة في الأرض، وهي رسالة إنسانية وليست رسالة عنصرية أو حزبية أو قومية .
5- وفي القرآن الكريم نجد آيات كثيرة تتحدث عن الجهاد والقتال والتضحية والإنفاق والإيثار وتحمل مسؤولية المستضعفين في الأرض، وكلها تهدف إلى بناء المجتمع الإسلامي على أساس حمل رسالة إنقاذ الإنسان من أغلاله الإجتماعية والنفسية .
=================
طاعة القيادة الرشيدة
القيادة المطاعة بإذن الله، تستطيع أن تستقطب طاقات الناس وتعبئها وتوجهها في الإتجاه السليم .
ليست الطاعة المطلوبة هي الطاعة القشرية والخارجية فقط، بل ينبغي أن تكون نابعة من قناعة نفسية، ورضا قلبي .
الطاعة والفاعلية
من أبرز العوامل التي تؤدي إلى حيوية المجتمع الإسلامي، وبالتالي تفوقه على سائر المجتمعات وقدرته الذاتية على الإنتصار عاجلا أم آجلا على أعدائه، هو وجود الطاعة في هذا المجتمع.
والطاعة المطلوبة هي الطاعة النابعة من التسليم الذاتي والقناعة الواعية، وقهر الشهوات والأنانيات، وتبديلها بطاعة العقل وطاعة من يمثل العقل ويجسده، أي طاعة الله، وطاعة خليفة الله في الأرض وهو النبي والإمام أو نائبه.
والسؤال هو: لماذا وكيف تؤثر الطاعة، بهذا المفهوم وعلى هذا المستوى، في حيوية المجتمع وفاعليته وحركته الذاتية؟
ونقول في الجواب: إن القيادة المطاعة بإذن الله، هي التي تستطيع أن تستقطب طاقات الناس وتعبئها وتوجهها، وتحقق مكاسب هائلة بجهد بسيط نسبيا إذا قسناه مع حجم المكاسب، كيف ذلك؟
في سورة النساء تجد إجابة هذا السؤال. يقول القرآن الكريم:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾ النساء،64،70
وبالتدبر في هذه الآيات الكريمة، نجد عدة قضايا هامة في غاية المتانة والدقة لا يستطيع النظر العابر ان يلاحظها. فوجود الرسول ليس للبركة فقط وإنما للطاعة بصورة أساسية:﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ﴾ .
ولو كان الرسول موجودا ولم يطع، فوجوده وعدمه سواء ولن ينفع الناس شيئا، وكذلك كل من يمثل القيادة الشرعية، فالإنتماء النظري من دون الطاعة الفعلية، مرفوض في المفهوم الإسلامي.
والقرآن يضيف إلى هذه الحقيقة فكرة أخرى حيث يقول:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ .
أي أن القيادة الإسلامية يجب أن تكون مطاعة إلى درجة أن الإنسان حينما يقصر في واجباته الدينية، ولا يطبق برامج هذه القيادة، لا يكفيه أن يستغفر الله وحده، وإنما عليه أن يأتي إلى القيادة ويستغفر الله عندها، حتى يستغفر له القائد من تلك الذنوب، وعند ذلك يكون احتمال الغفران وارداً. فحتى مغفرة الذنوب والتي تنبع من فضل الله سبحانه ورحمته، يربطها القرآن بالقيادة. ولكن الطاعة المطلوبة ليست الطاعة القشرية والخارجية فقط، وإنما يجب أن تكون نابعة من قناعة نفسية، ومن رضا القلب:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ﴾ أي ضعفا وقلقا وعدم رضا ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ تسليما نفسيا لأوامر القيادة
ثم إن الطاعة للقيادة يجب ألا تكون في القضايا البسيطة فقط، ولا تكون فقط في تنظيم طاقاتك التي فجرتها حتى الآن في نفسك وأعطيتها من ذاتك، وانما يجب أن تكون من أجل تفجير طاقات إضافية كامنة في نفسك ومن أجل بلورة شخصيتك، ومن أجل القيام بالأعمال العظيمة التي لا يمكنك القيام بها لوحدك، وإنما تتشجع بأمر القيادة على تنفيذها. يقول الله سبحانه ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾.
هذا هو مستوى طاعة القيادة، فالقائد لو قال لك ضحِّ بنفسك في سبيل الله، أو اخرج من بلدك من أجل هدف سامٍ، فلا تتردد، وان الذين يترددون عن تطبيق الأعمال العظيمة التي تأمرهم بها القيادة، يعبرون بذلك عن إهتزازهم وضعف شخصيتهم وفي نهاية أمرهم سيصابون بالشر والضر. وأما الذين يتبعون القائد حتى في الأوامر الصعبة التي تحتاج إلى أقصى حدود التضحية فإن عاقبتهم ستكون خيرا، ﴿لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾.
ثم يبين لنا القرآن جانبا آخر:
﴿وَإِذاً لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾ .
بالتدبر في هذه الآيات نعرف إن هذا المستوى من الطاعة للقيادة سوف يحقق للمجتمع ثلاثة مكاسب:
أولا:
حينما يكون المجتمع بهذا المستوى من الطاعة فإنه سوف يتقدم، ويشمله من الله سبحانه وتعالى فضل كبير: ﴿لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً﴾ .
ثانيا:
إن هذا المجتمع سوف يكون على الطريقة السليمة، وسيكون وعيه وعلمه ومعرفته في مستوى من النضج والبلورة بحيث تعصمه من الإنزلاق والإنحراف: ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ .
ثالثا:
هذا في الدنيا أما في الآخرة فإن هذا المجتمع سيحشر ﴿مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً﴾ .
رابعا:
ثم يذكرنا القرآن الحكيم في الآية الأخيرة بأن مستوى الطاعة ليست بالإدعاء وإنما هي قضية يعلمها الله سبحانه وتعالى ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾.
الحيوية والطاعة
نستوحي من هذه الآيات الكريمة الإجابة على السؤال الذي طرحناه في بداية البحث وهو:
ما هي العلاقة بين فاعلية المجتمع وحيويته، وبين الطاعة التامة للقيادة؟
حيث نستلهم من القرآن الكريم ، أن هذه العلاقة تنبع من الأمرين التاليين:
أولا: تكامل الطاقات
إن كثيرا من طاقات المجتمع تذهب هدرا، لعدم وجود تنظيم لها. وحتى مع وجود العاملين المخلصين الذين يقدمون أقصى ما لديهم في سبيل المصلحة العامة، فإن المجتمع غالبا لا يجني ثمار جهوده بشكل حسن لأنه يفتقر إلى تكامل وتنظيم طاقاته المبعثرة.
وقد جنت البشرية نتائج هامة لهذا التكامل والتنظيم للطاقات في عصرنا الراهن، ذلك ان الحضارة الحديثة مبنية على أساس هذين العاملين، فمن دون التكامل لم يقدر أن يشترك ثلاثمائة ألف عالم في صنع المركبة الفضائية (أبولو) التي حملت الإنسان إلى القمر، ولولا التنظيم الذي هو نتيجة الطاعة لما تكاملت جهود هؤلاء العلماء وعلومهم.
إن القيادات الإسلامية توفر للمجتمع الإسلامي المطيع لها تكامل الجهود والطاقات التي تذهب هدرا في الصراعات الإجتماعية، فالكثير من طاقات المجتمع تذهب هباء بسبب تحول التنافس البناء إلى صراع عدواني، فترى كل جناح وكل جبهة وكل حزب يحاول إيقاف مسيرة الجناح والجبهة والحزب الآخر.
وما يؤسف له هو أننا إذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي اليوم، وإلى المجتمعات التي توصف بأنها إسلامية، لوجدنا كم هي الطاقات التي تبدد في الصراعات الداخلية، سواء الصراع الذي يبدأ بين زميلين في المدرسة، أو في العمل، أو بين زوج وزوجته، أو الصراع الذي يكبر ويكبر ليصبح بين تيارين إجتماعيين أو بين دولتين.
إن الصراعات الإجتماعية تبدأ صغيرة، تبدأ بسبب نفوس متوترة، ثم تتفجر ضمن صراعات إجتماعية كبيرة، والإسلام يريد أن يقضي على جذور الصراع الهدام ويحوله إلى تنافس بناء.
يقول تعالى:
﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أي فيما اختلفوا فيه، وبعدما حكمت يسود هناك جو من الراحة النفسية والسكينة القلبية ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ .
إن جهود المجتمع الإسلامي الذي يتمتع بهذا المستوى الرفيع من الطاعة للقيادة، لا تتناقض مع بعضها البعض، وانما تتحول صراعاته إلى تنافس بناء متكامل، وهذا يوفر للمجتمع المزيد من الطاقة، وحينما تتوفر هذه الطاقات وتحفظ من التشتت، فإنها تكون قادرة على بناء حضارة رسالية.
ثانيا: تركيز الطاقات
الطاعة للقيادة توفر حالة من التركيز الشديد القادر على إختراق أعتى المشاكل والعقبات التي تحول بين المجتمع وانطلاقاته الحضارية.
إن نور الشمس الموجود في كل مكان، لا يستطيع أن يشعل الحرائق، ولكن إذا تم تركيز هذا النور بتمريره عبر عدسة، فإنه يولد حرارة كبيرة، وهكذا، فإن تركيز أي شيء يسبب نتائج غير النتائج المتسببة من نفس الشيء في غير حالة التركيز.
إن بلادنا المتخلفة لا ينقصها شيء من الطاقات والموارد، ولكن الذي ينقصها هو عدم وجود تلك القدرة القيادية التي تستطيع أن تعبئ طاقات الأمة في لحظة واحدة وفي اتجاه معين، وتتغلب بها على العقد الحضارية التي نعيشها، والتي أشبه ما تكون بالحلقة المفرغة حيث لا ندري ماذا نعمل، فالأمور متشابكة ومرتبطة بعضها بالبعض الآخر، فمثلا.. نحتاج إلى مهندسين، وهذا يجعلنا بحاجة إلى كليات لتربيتهم، وهذا بدوره يحتاج إلى المال اللازم لتمويلها، وبالتالي فنحن نحتاج إلى مصدر لتوفير الأموال، وبما أن البلد زراعي، لذلك نتجه إلى تحسين الزراعة، ولكن تحسين الزراعة بدوره يحتاج إلى أدوات زراعية، ثم إلى المصانع التي تنتجها، والتي تحتاج إلى المهندسين لإدارتها.. وهكذا ندور حول أنفسنا ونراوح في مكاننا ولن ينقذنا إلا دفعة قيادية هائلة تتكون من قائد كفوء وشعب مطيع، حتى ننفلت من هذا الطوق، وننطلق في مسيرتنا الحضارية إلى الأمام .
فالعقد الحضارية الموجودة في المجتمع الإسلامي، والتي أصبحت عقبة في طريق تقدم المجتمع ورفاهيته ووحدته، من الممكن حلها عن طريق القيادة، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة:
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾.
إن هذه الموعظة خدمة لهم، وخير لأنفسهم فهي تدفع المجتمع إلى أن يقاوم ضغوط العدو ويصمد أمامه.
وخلاصة القول: إن المشكلة الحقيقية في مجتمعاتنا الراهنة، تتجسد في وجود عقبة كأداء أمام المجتمع عليه أن يتحداها وأن يتغلب عليها عن طريق تركيز جهوده. والقيادة الرشيدة المطاعة هي التي تستطيع ان تركز الجهود وتعبئها في لحظة واحدة، وباتجاه واحد، لتحطم بها العقد التي تشل المجتمع وتكبّله.
صفوة الكلام
1- تعتبر الطاعة من أبرز العوامل التي تؤدي إلى حيوية المجتمع وتقدمه .
والطاعة المطلوبة هي النابعة من القناعة الواعية، واستبدال طاعة الشهوات بطاعة العقل ومن يجسّد العقل .
2- القيادة المطاعة تستطيع أن تستقطب طاقات الناس، وتحقيق مكاسب هائلة بها 3- وقيادة لا تُطاع، لا تنفع الناس شيئاً، ووجودها وعدمها سواء .
4- والطاعة لا تكون في الامور البسيطة فقط، بل الأهم الطاعة في المهمات العظيمة التي لا يمكن للإنسان أن ينجزها لوحده .
5- ونستلهم من آيات القرآن الحكيم إن العلاقة بين فاعلية المجتمع وحيويته، وبين الطاعة التامة للقيادة تنبع من أمرين :
الأول: إن طاعة القيادة توفر للمجتمع الإسلامي تكامل الجهود والطاقات كما تضمن توجيه الطاقات نحو التنافس الايجابي البنّاء بدلاً عن إهدارها في الصراعات الهامشية .
الثاني: إن طاعة القيادة توفر حالة من التركيز الشديد القادر على إختراق أعتى المشاكل والعقبات التي تحول بين المجتمع وانطلاقاته الحضارية .
======================
التنظيم ركيزة البناء الحضاري
ينبغي أن تكون الحياة الإسلامية، حياةً منظمة يسودها التعاون والتعامل، وتتفاعل فيها الطاقات والأفكار .
يؤكد الإسلام على خروج الإنسان من قوقعة الذات، والإنطلاق في رحاب التعاون مع سائر أبناء المجتمع .
التنظيم هو أحد العوامل الرئيسية لحيوية المجتمع وفاعليته، والإسلام يؤكد على التنظيم جوهراً وإطاراً، وجوهر التنظيم هو تعاون الجهود في خطة يضعها العلم.
ويضع الإسلام شرطين للتنظيم الإجتماعي هما:
العمل العلمي
الشرط الأول: أن يكون العمل وفق منهجٍ علمي. فالإسلام يعتبر العلم عنصرا جوهريا في إدارة الحياة والمجتمع، ويهتم بالعلم والعلماء، كما أنه يجعل العلم قصب السبق الذي يتنافس عليه الناس، ويجعل المعرفة الهدف السامي الذي لابد أن يسعى الجميع للوصول إليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) .
(أطلبوا العلم ولو بالصين) .
ويقول الإمام علي عليه السلام:
(قليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة..) .
وهكذا يؤكد الإسلام على العلم، ويجعل طلب العلم هدفا أساسيا يتطلع إليه الإنسان.
غير أن العلم بلا عمل به لا قيمة له إطلاقا، ولئن كان العلم ضروريا، فاقتران العلم بالعمل أشد ضرورة وإلحاحاً، في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام:
(عالم بلا عمل كشجرة بلا ثمر) .
وقال عليه السلام:
(العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا إرتحل عنه) .
وهكذا يجعل الدين العمل هدفا للعلم، وبذلك يحقق الإسلام عملية العلم.
يقول الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد:
(يا كميل! ما من حركة إلا وانت محتاج فيها إلى معرفة) .
فالمعرفة تسبق الحركة، والعلم يسبق العمل، وبذلك يجعل العمل مقارنا للعلم ومزكّى به. وهناك أحاديث كثيرة نستوحي منها هذه الفكرة، أي أن يكون عمل الإنسان نابعا من علمه، ووفق خطة علمية ومنهجية محددة.
كما نستلهم ذلك من كلمة البصيرة في القرآن، إذ البصيرة في القرآن تعني العمل وفق هدى العلم، فإذا كان العلم منطلقا من هوى الإنسان وشهوته، أو من حالة إرتجالية تتسم برد الفعل العشوائي، فإنه يؤدي إلى ضرر كبير وشر مستطير. أما العمل المنتج فهو الذي ينبع من معرفة الإنسان وعلمه وعقله.
وقد تكررت كلمة البصيرة والبصائر في القرآن سبع مرات للتأكيد على أن القرآن طريق هدى وبصائر، وأن الرسول على بصيرة من أمره ومن اتبعه.
التعاون روح المجتمع
الشرط الثاني: أن يكون العمل تعاونيا جماعيا، وليس إنفرادياً إنعزالياً، والإسلام يأمر بأن يجري العمل في إطار التعاون، ولا يكون إنفرادياً، ويضع أساليب تشجع على بث روح التعاون بين أعضاء المجتمع الإسلامي منها:
ألف: إخراج الإنسان من قوقعة الإنغلاق والتمحور حول الذات، إلى الإنفتاح على الآخرين. والإسلام يُخرج الإنسان من قوقعته الذاتية عبر التعاليم الإجتماعية التي تصب في قنوات حب الآخرين، وقد جاءت رسالات الله لتبدل محور الإنسان من ذاته إلى محور الأخوة الإجتماعية. وبالتالي يُخرجه من ظلمات نفسه إلى نور الحق، ومن سجن أنانيته إلى رحاب الواقع، ومن عمى إنغلاقه، إلى بصيرة إنفتاحه.
إن هذا هو هدف أكثر التعاليم الإسلامية التي تسعى في مجموعها إلى صياغة الشخصية الرسالية، والتي تصنع للمجتمع الإسلامي أرضية التعاون البنّاء.
جاء في الحديث، أن رجلاً قال للإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: جُعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من أخوانه، قال عليه السلام: "كيف يتفقه هذا في دينه"؟! .
وروي عنه عليه السلام أنه قال لإسحاق بن عمار: (أحسن يا إسحاق إلى أوليائي ما استطعت، فما أحسن مؤمن إلى مؤمن ولا أعانه إلا خمش وجه إبليس وقرح قلبه) .
وقال عليه السلام: (إن مما خص الله به المؤمن أن يعرّفه برّ أخوانه وإن قل، وليس البر بالكثرة، وذلك أن الله عزوجل يقول في كتابه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، ثم قال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ومن عرّفه الله عزوجل بذلك أحبه، ومن أحبه الله تبارك وتعالى، وفّاه أجره يوم القيامة بغير حساب) .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد بر وفاجر) .
وجاء عن الصادق عليه السلام: (أيما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفا فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
وفي وصيته عند وفاته، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (عليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع) .
باء: التأكيد على التعارف الذي هو مقدمة التعاون، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ الحجرات،13
جيم: التأكيد على التعاون ذاته، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة،2
إن معرفة الآخرين هي الخطوة الأولى نحو التعاون معهم، حيث انها تقود إلى اكتشاف نقاط القوة والضعف الموزعة بين الأفراد وكذلك بين المجتمعات، ومن ثم ينفتح السبيل أمام تكميل كل فرد أو طائفة نواقصهما بما لدى الآخرين، وبالتالي يشجع على تبادل المنافع والمصالح لما فيه خير الجميع.
وهذه الظاهرة تنطبق على الدول أيضاً، فإنها تتفاوت فيما بينها من ناحية الموارد الطبيعية والثروات، والقدرات التكنولوجية، والطاقات البشرية العاملة. فتعارف الدول عن طريق الوفود والبعثات والزيارات المتبادلة، يُمكّن كل دولة من الحصول على احتياجاتها، وإعطاء الفائض لديها لآخرين يحتاجونه. وبذلك يمكن للبرامج الإقتصادية والمشاريع التنموية أن تسير قدما إلى الأمام.
كما تنطبق أيضا على الأفراد حيث يتفاوت الناس من جهة المواهب والإستعدادات الطبيعية المكتسبة. فقد يملك انسان العلم، وآخر يملك المال، وثالث لديه خبرة جيدة في الطباعة، ورابع يتمتع بموهبة تجارية ولديه دار للنشر والتوزيع. فكل واحد من هؤلاء الأربعة لا يستطيع بمفرده أن يفعل شيئا. أما اذا اجتمعوا وتعارفوا، ومن ثم تعاونوا، فيمكنهم إذ ذاك أن يزودوا المجتمع بالكتب النافعة التي يحتاج إليها. وهناك ألوف الأمثلة لمجالات التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان، كأفراد، أو كتنظيمات إجتماعية، أو على مستوى الدول.
وإنما يؤكد الإسلام على التعاون وعلمية العمل، وهما الركنان الإساسيان لتنظيم المجتمع، فإنه لكي لا يُختَرق مثل هذا المجتمع من قبل القوى المعادية، لأنه حينئذ سيصبح متماسكا ومتعاونا مع بعضه، وليست فيه ثغرات ينفذ من خلالها العدو.
إطار التنظيم
وبعد ما يؤكد الإسلام على جوهر التنظيم من خلال التأكيد على خروج الإنسان من قوقعة الذات، والإنطلاق في رحاب التعارف والتعاون مع المجتمع، يؤكد على نفس التنظيم كإطار وشكل، فترى الإمام علي عليه السلام يقول في آخر وصية له لأولاده:
(أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات البين) .
أي: اتقوا الله أيها المسلمون في تنظيم أموركم، ولا تدعوها فوضى. وحينما يأمر بصلاح ذات البين، فهو يدعم حالة التنظيم في الأمة. ويبدو من هذا النص أن الإسلام حين يأمر بالتنظيم يجعله واجبا شرعيا، يجب أن يتقي الإنسان ربه في تطبيقه، كما يتقي ربه في الصلاة والصيام والزكاة والحج، وسائر الواجبات الدينية.
كيف يولد التنظيم الحيوية؟
والسؤال هو: كيف يولد التنظيم الحيوية في المجتمع؟
الجواب:
الاندفاع في العمل
أولا: التنظيم يوجد الاندفاع نحو المزيد من العمل، فالإنسان عندما تكون أموره منظمة، فإن نفسيته تنفتح، فينطلق في العمل، لأنه حينئذ يجد في نفسه الشوق الكافي والملائم للاندفاع نحو العمل البنّاء، والعطاء الخلاق، وحيث يرى جهوده مثمرة، لأنها تصبح بفضل النظام والتنظيم، متكاملة مع جهود الآخرين.
إن كثيرا من الناس يحبون العمل في سبيل الله، ولكن ليس هناك من يشجعهم على العمل، بل قد لا يجدون سوى التثبيط والتخذيل، فتفتر هممهم، وتخور عزائمهم، وبما أن نفس الإنسان تنزع إلى الراحة والتواكل، فإن النتيجة الطبيعة ستكون حينئذ، القعود عن العمل.
إن أكثر الذين تقدموا في الحياة إنما تقدموا بسبب توفر الأرضية الصلبة التي تشجِّع على العطاء والعمل، وقليلون هم الذين استطاعوا أن ينطلقوا من الرمال الرخوة المتحركة.
إن المجتمع الذي يشجع أفراده ويدفعهم إلى العمل، يصبح مثل القاعدة الصلبة التي يمكن للأفراد أن ينطلقوا منها ويتقدموا. بينما المجتمع الذي يخوِّر العزائم ويثبِّط الهمم، يكون كالرمال الرخوة التي تبتلع الجهود.
إزالة العقبات
ثانيا: التنظيم يرفع العقبات من طريق الأفراد ليواصلوا مسيرتهم. ذلك أن الإنسان الفرد لا يملك سوى إمكانيات محدودة، أما التنظيم فإنه يتمتع بإمكانيات أكبر بكثير ويستطيع رفد أفراده بها، ليواصلوا المسير. فإن كانت العقبة مالية، فإن التنظيم يوفر الأموال اللازمة. وإن كانت العقبة علمية، فالتنظيم يوفر المعلومات النوعية المطلوبة. وإن كانت العقبة أمنية، كما في الدول التي يتسلط عليها الطغاة، فإن التنظيم يوفر الحلول المناسبة لتجاوزها، عبر العمل السري، أو نقل النشاطات إلى خارج البلد، وغيرها من الأساليب.
وهكذا فمع وجود التنظيم، يمكن السيطرة على أغلب المشاكل والصعوبات التي تعترض العمل الرسالي.
الإستمرار في العمل
ثالثا: التنظيم يعطي القدرة على الإستمرار في العمل، والوصول به إلى غايته. فأنت مثلا، إذا بدأت بعمل ما، وكنت تعلم أنك اذا اعترضتك عقبة في الطريق، كأن مرضت أو سُجنت، أو هاجرت، فإن هناك من يأتي وراءَك ويواصل مسيرتك، عندها تشرع في العمل بكل ثبات وإطمئنان دون أن يصيبك القلق والتردد.
إن الأعمال العلمية الكبيرة، والإنجازات الحضارية الضخمة، لا يقوم بها فرد، وإنما تقوم بها مجموعات متعاونة تعمل حسب خطة متكاملة ومدروسة، وهذه هي طبيعة الحياة، فالعلم، وخصوصا في عالمنا الحاضر، لا يتقدم عبر عناصر متفرقة ومشتتة، وإنما عبر مجموعات منظمة، وعموما فإن السمة الظاهرة للحضارة الحديثة أنها تعتمد على منهجية التنظيم، كما نلمس ذلك في المجالات المختلفة، إبتداء من مشاريع البناء والإنشاءات والأعمال الصناعية التكنولوجية، وإنتهاء بصعود الإنسان إلى القمر، ومرورا بانتاج الطاقة النووية وسائر الإختراعات والإكتشافات العلمية الحديثة.. وهكذا في المجال الفكري ككتابة الموسوعات العلمية ودوائر المعارف.
والإسلام بدوره يدعو إلى منهجية التنظيم، وذلك من خلال الدعوة إلى العلم الإجتماعي، والتعارف، والتعاون، ولكن الحياة التي نعيشها في البلاد الإسلامية ومع الأسف مخالفة لما يدعو إليه الإسلام. إننا نعيش - في الأغلب - حياة أفراد مبعثرين لا حياة جماعات منظمة.
إن الحياة الإسلامية الحقة هي حياة منظمة يسود فيها التعاون والتكامل، وتتفاعل فيها الطاقات والأفكار، وهذه هي الحيوية التي ندعو إليها.
ان الحياة المنظمة لا يمكن تحققها بصورة فجائية وشاملة لكل أبناء المجتمع الإسلامي، وإنما من الضروري أن تبدأ على نطاق صغير. فكل انسان ينبغي أن يفتش عمن يتعاون ويتفاعل معهم.
ان الإسلام لا يحب الحياة الإنفرادية، فقد جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:
(وإياكم والفُرقة، فإن الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب) .
فالشاة التي تشرد من قطيع الغنم، تكون من نصيب الذئب، كذلك الإنسان الذي يعيش لوحده، فإنه يصبح من نصيب الشيطان الذي هو أخطر من الذئب، واننا اليوم جميعا شاردون، مما حدى بذئاب الشرق والغرب بافتراسنا.
مسؤولية المؤمن
لذلك فإن عليك أيها المسلم أن تبحث عن مجموعة تنتمي إليها، واذا لم تجد هناك تجمعا يمكن أن تصب عملك وجهدك في تياره، فعليك أن تصنع تجمعا، وتخلق العمل الرسالي المنظم، بأن تجمع حولك عدداً من المؤمنين الذين ترى أن نفسيتك منسجمة مع نفسيتهم، وإرادتك متوافقة مع إرادتهم، وطبيعتك متناسبة مع طبائعهم. وآنئذ تُكوِّن الخلية الإيمانية الصادقة، والفئة المخلصة المتحابة في الله، والمتعاونة من أجل خير المجتمع، وتحاول أن تكمل حياتك بحياتهم.
وفي هذا الأمر لا ينبغي أن ننتظر إسقاط الطاغوت الحاكم، ولا يجوز أن نقول: ما دام الطاغوت موجوداً فهو لا يسمح لنا بأن ننظم أنفسنا، ولا يدعنا نجتمع. إن هذا الرأي هو الخطل بعينه، لأن بقاء الطاغوت يستمر لحين تكوّن المجتمع الإسلامي الصالح، الذي هو البديل الضروري لإسقاط الطاغوت، حيث اننا لا نهدف من إسقاطه أن يأتي طاغوت آخر مكانه إنما نريد حكم الله، وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا يمكن تطبيقها إلا على مجتمع إسلامي مهيأ لتقبلها.
إن الكثير من بلادنا تحكمها سلطات طاغوتية لا تعترف بشرعية السماء، ولا تعمل لقيام المجتمع الإسلامي الذي يسير في خط التوحيد ويطبق التعاليم القرآنية نصا وروحا، فعلى المجاهدين الرساليين أن يعملوا لإقامة مثل هذا المجتمع ، ولن تستطيع السلطات الفاسدة أن تحول بين المؤمنين المخلصين الجادين، وبين تنظيم أنفسهم، وتكامل فعالياتهم مهما إستخدمت من وسائل القمع والإرهاب، ومارست من أساليب المكر والخديعة.
إن أقصى ما تستطيع أن تفعله السلطات الطاغوتية هو أن تبث الخلافات وتسبب سوء الظن بين أفراد المجتمع، وتوهن العزائم، وتزرع إنعدام الثقة في النفوس، ولكنها لا تتمكن أن تجبر أحدا على تصرف معين، إن كان يملك الإرادة والعزيمة. فحتى السجون التي تستخدمها السلطات الطاغوتية كوسيلة للضغط، حيث تضع المجاهدين في زنزانات إنفرادية مظلمة وموحشة، فإن المجاهدين يتمكنون بطريقة أو بأخرى أن يتصلوا مع بعضهم، ويتعاونوا رغم الجدران السميكة التي تفصل بينهم، لأن الطغاة لا يقدرون على منع الناس من التعاون والتكامل مهما فعلوا.
من هنا ندعو جميع الأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات إلى أن يبدؤوا مسيرة التعاون من أجل بناء المجتمع الإسلامي الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى. وعند التعاون نكتشف إن كثيرا من طاقاتنا الكامنة ستتفجر، وتزداد الحيوية في أنفسنا مائة بالمائة، لأن في التعاون خيرا وبركة، وإن (يد الله مع الجماعة ) - كما يقول الإمام علي عليه السلام-.
أي أن بركة الله ورحمته وقوته إنما هي مع الجماعة الحقّة المجتمعة على كلمة واحدة.
صفوة الكلام
1- من عوامل حيوية المجتمع هو الإعتماد على التنظيم جوهراً وإطاراً .
2- ويضع الإسلام للتنظيم الإجتماعي شرطين:
الأول: أن يكون العمل وفق منهج علمي .
الثاني: أن يكون العمل تعاونياً وجماعياً .
3- وللإسلام أساليبه في التشجيع على بث روح التعاون بين أبناء المجتمع الإسلامي، وهي:
ألف: إخراج الإنسان من قوقعة الإنغلاق على الذات إلى عالَم الإنفتاح على الآخرين .
ب: التأكيد على التعارف الذي هو مقدمة للتعاون .
ج: التأكيد على التعاون الايجابي البنّاء .
4- إن المجتمع الذي ينظم نفسه على أساس التعاون والمنهج العلمي، لا يُخترق من قبل العدو، لأنه يكون مجتمعاً متماسكاً وليست فيه ثغرات ينفذ من خلالها العدو
5- ومن خلال الامور التالية يولد التنظيم الحيوية في المجتمع:
اولاً: التنظيم يوجد الإندفاع نحو المزيد من العمل .
ثانياً: التنظيم يرفع العقبات عن طريق العمل .
ثالثاً: التنظيم يعطي القدرة على الاستمرار في العمل .
========================
الباب الخامس
قيم التقدم في المجتمع الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) سورة الأعراف 58
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق محمد وعلى آله المعصومين وأصحابه المنتجبين .
كما التربة الصالحة تُنبت الزرع المبارك، كذلك المجتمع الطيب يُنمي المواهب الخيرة، ويُربي السعي، ويُعين الانسان على التقدم .
بينما المجتمع الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا، لانه يميت القلب، ويقتل الموهبة، ويحدد النشاط، ويحرف السعي عن أهدافه النبيلة .
وصلاح المجتمع بمكارم الاخلاق التي تطهر علاقات الناس ببعضهم وتوجهها الى الخير و الفضيلة . وحين جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) هدف بعثته تأديب الناس بالآداب الرفيعة، وقال: (انما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) ، فقد حدد معالم رسالته بوضوح . أوَليس المجتمع الاسلامي المتنامي والمبارك يكون بذاته وسيلة لانتشار الاسلام، بما فيه من قوة واقتدار، واستقـامة واعتدال، وتقدم وازدهار؟ .
واليوم حيث تعيش الامة الاسلامية نهضة شاملة، ويتصدى الرساليون لقيادتها نحو تطلعاتها النبيلة، نتوجه إلى سيرة الرسول من جديد لنزداد علما بسر نجاحه، فلا نجد مثل الخُلق العظيم الذي تحلّى به، وفاض على المجتمع الفاضل الذي بناه بيديه الكريمتين .
أفلا يكفينا ذلك هدى في مسيرتنا الرسالية ؟ فلنشرع في تزكية نفوسنا من كبرها وأحقادها، وتطهير قلوبنا من إصرها وأغلالها، لنبني بعدئذ مجتمعاً فاضلاً، مجتمعاً يتميز بالجدية البالغة، والسعي الحثيث، والتعاون الشامل، والنمو المتكامل . ومن دون الالتزام الشديد بالأداب الاسلامية في علاقـاتنا مع بعضـنا لا نحـظى بهذا الهدف النبيل .
وكتاب (المجتمع الاسلامي) هو محاولة متواضعة في طريق توضيح مبادئ المجتمع الاسلامي، وبيان خصائصه، ولقد كان في الاصل مجموعة أحاديث ألقيت خلال شهر رمضان المبارك ثم أُعيدت صياغتها وخرجت في صورة كتاب طبع حتى الآن خمس مرات.
وقد قام أخيرا بعض الاخوة في مكتبنا، بإعادة النظر فيه، وتحرير بعض فصوله من جديد، وإسناد أحاديثه الشريفة، وتقسيمه إلى ثلاثة كتب صغيرة الحجم، لتكون أسهل تناولاً للقراء الكرام، كما أضافوا لكل فصل من فصوله خلاصة الأفكار الواردة فيه تحت عنوان (صفوة الكلام) تركيزاً للفائدة . وما بين يديك - أيها القارئ الكريم - هو الكتاب الأول من هذه المجموعة .
نسأل الله التوفيق والمزيد من الفائدة إنّه قريب مجيب .
محمد تقي المدرسي
======================
خلاص الإنسان .. أين ؟
الرسالات الإلهية هي الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يحدق بها من مشاكل وأخطار .
المجتمع الحي، هو الذي تقوم علاقات أبنائه على أساس القيم السليمة و العمل الصالح .
لماذا جاءت الرسالات الإلهية ؟ وما هي أهدافها الحقيقية؟
سؤالان خالدان خلود الرسالات، وهامّان أهميتها، وخطيران بالنسبة إلى حياة البشرية خصوصا في هذا العصر، حيث طغت المادية وأخذت تهدد العالم كله بالفناء، في الوقت الذي أخذت البشرية تتطلع إلى الخلاص بصورة أكثر جدية، إذ أن مدى تطلعها نحو الخلاص يكون بقدر عظمة وخطورة المشاكل التي تحيط بها.
فالاخطار المحدقة بالبشرية كبيرة جدا، سواء تلك التي تتجسد في الحروب، أو الإستغلال والإستعباد، أو في الرعب النووي الذي يخيم على البشرية جميعا، مما يدفع البشرية للبحث عن الخلاص أكثر فأكثر.
الخلاص في رسالات الله
إن الرسالات الإلهية، التي يجب أن تُفهم من جديد وليس أن نجعلها جزءا من واقعنا المتخلف، ونفسرها حسب أفكارنا التبريرية ونظراتنا السلبية، هي الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يحدق بها من مشاكل وأخطار.
ذلك أن الرسالات الإلهية، والتي تتجسد اليوم برسالة الإسلام، قادرة على أن تخلق الواقع السليم في بُعدين: الأول، في ذات الإنسان كفرد. والثاني، في كيان الإنسان كمجتمع.
ورغم أن أكثر من نَظَرَ إلى الإسلام والرسالات الألهية الأخرى وفَسَّرها، حاول أن يحمِّلها فكرة أن الرسالات إنما تهتم بواقع الفرد كفرد دون أن تعير أي أهمية لواقع الفرد كوحدة أساسية تشكل مع الآخرين مجتمعا قائما له أهدافه وتطلعاته في الحياة، إلاّ أننا نعتقد أن الدين يعطي الاولوية الأولى لخلق المجتمع الإنساني الصالح، وليس فقط لإصلاح الإنسان كفرد.
وما ذلك التفسير الخاطئ للدين إلاّ لفصله عن الحياة، وجعله تجربة فردية بين الإنسان وربه، دون أن يكون له أدنى تأثير على سلوك الفرد في المجتمع سواء مع نفسه أو مع الآخرين.
إن القرآن الحكيم لا يخاطب الناس كأفراد، وإنما يخاطبهم كمجموع إلاّ في آيات قليلة ولأسباب بلاغية، فأغلب آيات القرآن التي تخاطب الناس تخاطبهم كمجموع:
- يا أيها الناس..
- يا أيها الذين آمنوا..
- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فَاُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.. الظَّالِمُونَ.. الْفَاسِقُونَ .
لذلك، وانطلاقا من هذا المبدأ فسوف نبدأ حديثنا عن البعد الثاني، وهو إهتمام الدين ببناء المجتمع الحي. ولكن قبل ذلك لابد أن نلقي نظرة عابرة على معنى كلمة "الحياة" لكي نعرف بوضوح الفرق بين المجتمع الحي والمجتمع الميت.
ما هي الحياة؟
يصف القرآن الحكيم رسالات الله بأنها حياة:
﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُـمْ لِمـَا يُحْيِيكُمْ﴾24،الأنفال
أي استجيبوا لما يعطيكم الحياة.
والحياة هي القوة الكامنة في الشيء، والتي تعطيه القدرة على اكتساب الأشياء الأخرى وإذابتها في بوتقة واحدة وفي اتجاه معين.
فالبذرة الحية - مثلاً - تختلف عن البذرة الميتة، ووجه الإختلاف بينهما هو أن البذرة الحية حينما تتوفر لها فرصة النمو، تستمد من أشعة الشمس ومن أملاح الأرض ومن عناصر الماء المواد المفيدة لها، وتحولها كلها إلى تركيبة واحدة متجانسة، وتوجهها بإتجاه واحد وهو النمو، فتتحول تلك البذرة الصغيرة إلى شجرة كبيرة متكاملة، أما البذرة الميتة فإنها سرعان ما تتحلل لتمتصها المواد المحيطة بها.
وهكذا الفرق بين النطفة الحية والنطفة الميتة. فالنطفة الميتة تتحول بعد مدة قصيرة إلى لا شيء، بينما النطفة الحية، تتحول بعد تسعة أشهر إلى طفل وبعد عدة سنين تراه قد أصبح رجلا سويا.
المجتمع الحي
ولكن ما معنى الحياة في المجتمع؟ وماهو المجتمع الحي؟ وما هو المجتمع الميت؟
إن الاجابة على هذه الاسئلة، كفيلة بتوضيح قضايا كثيرة في المجتمع البشري، ومن أبرزها الحركات التغييرية والنهضات الإصلاحية التي تشكل ظاهرة متميزة في تاريخ الإنسانية.
إن المجتمع الحي هو تماماً كتلك البذرة الحية التي أشرنا اليها، فهو يملك القدرة على أن يمتص من حوله الامكانات المادية والبشرية ويذوِّبها كلها في بوتقة واحدة، ويعطيها التفاعل ويوجهها من أجل بناء الحضارة الإنسانية التي تسير أبدا في إتجاه النمو والتكامل.
بينما المجتمع الميت فهو كالبذرة الميتة، يفتقد خاصية الامتصاص والتفاعل والنمو، وبالتالي سرعان ما يتفسخ ويتفتت ومن ثم يتلاشى.
إن مجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً لم يكن عدد افراده في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية يزيد عن مائتي انسان مستضعف، ولكنه بعد أقل من ربع قرن، إستطاع أن يُحوّل المجتمعات الكثيرة المتواجدة في الجزيرة العربية، إلى مجتمع مسلم واحد، ويذوِّبها في هدفه.
وإذا نظرت إلى خريطة العالم، لوجدت أن المسلمين، وبعد قرن ونيّف من البعثة النبوية، طرقوا غربا أبواب اوروبا عن طريق شمال إفريقيا، وعبروا شرقا نهر السين، واقتحموا الشرق الاقصى في آسيا، وقد استطاعو أن يذوّبوا كل المجتمعات والحضارات التي كانت موجودة في هذه البقعة الشاسعة من الارض، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، ويخلقوا منها الامة الإسلامية الكبيرة. هذا هو المجتمع الحي.
ومثل آخر هو المجتمع الاوروبي، فأوروبا بالنسبة إلى العالم صغيرة المساحة، وفقيرة من ناحية الامكانات الطبيعية، ولكن هذا المجتمع الحيوي إستطاع أن ينشر حضارته وفكره على العالم كله ويوجهه باتجاهه الخاص.
فترى مثلا أن ألف مليون صيني وهندي ومئات الملايين من الناس في افريقيا وامريكا اللاتينية واستراليا، كان يوجهّهم اربعون مليون فقط، هم سكان جزيرة صغيرة تسمى بريطانيا. ويجب هنا ان ننبّه على وجود فارق كبير بين هذين المثالين، فالمثال الإسلامي كانت صبغته الحق والعدل والتوافق مع السنن الطبيعية والبشرية، بينما المثال الاوروبي على العكس من ذلك تماما. ووجه الشبه بينهما هو في الحيوية والفاعلية فقط.
واما المثال على المجتمع الميت، فهو الامة الإسلامية اليوم، والتي انقسمت إلى دول انطوت كل واحدة منها على نفسها وتجمّدت داخل حدودها، مما ادّى بهذا المجتمع ذي الأمجاد التأريخية العظيمة إلى ان يفقد شخصيته الإسلامية، ويضعف ويتفسخ من الداخل، ويصبح نهزة الطامعين، وأن تتعرض ثرواته وخيراته للنهب، وكرامته للسحق، وليصبح اليوم مجتمعا متخلفا يخضع لسيطرة القوى الاجنبية العظمى توجهه كيف شاءت، وتتلاعب بمقدراته أنّى يحلو لها.
قيم المجتمع الحي
وفي القرآن الحكيم نقرأ آية تصف لنا المجتمع الحيوي المؤمن فتقول:
﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ الفتح،29
ونلاحظ ان القرآن يذكّرنا هنا بهذه الحقيقة بوضوح فيقول: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ﴾
ففي البداية تُزرع البذرة الحية في باطن الارض، وبعد فترة تتحول إلى زرع يرتفع فوق سطح الارض ﴿فئَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ أي وضع له الزارع عصا قائمة تسنده، فاذا بهذا الشطء يستمد الضوء والماء والاملاح من البيئة والمحيط، فيقوى ويرتفع مستغلظاً مستوياً، ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ فالصديق معجب والعدو مغتاظ وحاقد.
ان المجتمع الحي هو ذلك المجتمع الذي تكون علاقات ابنائه ببعضه قائمة على اساس القيم السليمة، والعمل الصالح، فالعلاقات الإيجابية المتفاعلة هي أهم شيء في تكوين المجتمع الحي.
أمّا المجتمع الذي تكون علاقاته قائمة على أساس العنصرية، والإعتبارات القبلية، والمصالح المادية، والاقليمية، يكون كالجسد الميت الذي لا تلبث البكتريا والميكروبات الموجودة فيه أن تحلله وتفسخه وتحوله خلال مدة قصيرة إلى تراب وعظام نخرة.
فما هي حقيقة العلاقات الايمانية التي ينبغي أن تشكل الأساس في بناء المجتمع الإسلامي الحي؟.
هذا ما نقرأه على الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
صفوة الكلام
1- إن الأخطار المحدقة بالبشرية (الحروب، الاستغلال والإستعباد، الرعب النووي، ...) تدفعها للبحث عن الخلاص أكثر فأكثر .
2- إن الرسالات الإلهية التي يجب أن تُفهم من جديد، وبعيداً عن التأثّر بواقعنا المتخلف، وأفكارنا التبريرية، ونظراتنا السلبية، هي طريق الخلاص للبشرية .
3- إن الاسلام يعطي الأولوية الأولى لخلق المجتمع الانساني الصالح، وليس لإصلاح الإنسان كفرد - فحسب - .
4- ويهتم الدين ببناء مجتمع حي وليس مجتمعاً ميتاً .
5- المجتمع الحي، هو تماماً كالبذرة الحية، يمتص من حوله الإمكانات المادية والبشرية، ويوجهها من أجل بناء الحضـارة الإنسانية .
6- إن العلاقات الايجابية المتفاعلة هي أهم عنصر في تكوين المجتمع الحي، وتقوم هذه العلاقات على أساس القيم السليمة والعمل الصالح .
=====================
قيم البناء والتقدم
التقوى - عقيدة وسلوكاً - هي الصبغة العامة للمجتمع الإسلامي .
المجتمع الاسلامي، هو مجتمع القوة، والاستقلال، والثروة، والتقدم في كافة المجالات العلمية والصناعية .
هناك ثلاث نظريات فيما يخص العلاقة بين الفرد والمجتمع:
النظرية الأولى تقول:
إن الفرد هو كل شيء في المجتمع، وهو العامل الحاسم في تحريك التاريخ، ولذلك ينبغي الاهتمام بالمجتمع من حيث هو أفراد، وسن المناهج والانظمة التي تربّي أفراداً متفوقين ونابغين، يبنون الحضارة البشرية، ويهبون التقدم للانسانية.
وتنطلق هذه النظرية من واقع وجود بعض العظماء الذين استطاعوا أن يغيروا مسيرة التاريخ، ويرسموا خريطة جديدة لحياة مجتمعاتهم.
النظرية الثانية
وتقول:
إن الفرد لا قيمة له إطلاقا، فهو أشبه ما يكون ببرغي صغير في ماكنة المجتمع. وهذه النظرية تتمسك بالحتميات الاجتماعية، وترى بأن حركة المجتمعات وتطوراتها نابعة من أنظمة عامة يخضع الافراد لسلطانها، فلا يملكون أن يواجهوها أو يغيّروا منها شيئا إذا ما رأوا أنها تقودهم في الاتجاه الخاطىء. ولذلك فهذه النظرية تؤمن بفكرة الدورات الاجتماعية المنتظمة، أي ان كل مجتمع لابد أن يمرّ بنفس المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته. حيث يولد طفلا رضيعا ثم يصبح شابا مراهقا، فرجلا، فكهلا، فشيخا، فهرما، ثم يموت. والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة ومتنوعة يعددّها أرنولد توينبي في كتابه (مختصر دراسة للتاريخ).
أمّا النظرية الثالثة؛
والتي يؤيدها الإسلام وتقوم أنظمته وشرائعه عليها، فهي تقف في الوسط بين النظريتين، فتعطي للفرد أهميته اللائقة، كما تعطي للمجتمع دوره المؤثر، وتنظم العلاقات بينهما بشكل دقيق ومتوازن.. فالمجتمع يؤثر في الفرد، والفرد بدوره يؤثر في المجتمع؛ إنها لا تسلب الفرد إرادته، ولا تحرم المجتمع من تلك القوانين والانظمة الديناميكية التي تعطيه الوقود المناسب في مسيرته الحضارية التكاملية .
وعلى هذا فهي لاتنفي تينك النظريتين، وانما تربط بينهما بشكل تزول معه الهوة الفاصلة بين الفرد والمجتمع، وتجعل الاثنين يتفاعلان مع بعضهما لما فيه خير الإنسانية وسعادتها.
كذلك فهي ترى أن الدورة الاجتماعية المنتظمة ليست حتمية أبدا. ففي التاريخ الحديث مثلا نجد ان المجتمع الألماني كان مجتمعاً حيوياً يتفجر ثورة واندفاعا، وكان باستطاعته أن يبقى زمنا طويلا متحكما في القارة الأوروبية، ولكن هذا المجتمع الفتي ابتُلي بطاغوت أهوج مثل (هيتلر)، وبحزب متطرف مثل (الحزب النازي)، فانقاد إلى الهاوية والسقوط، وتم - بعد الحرب العالمية الثانية - تقسيمه إلى شطرين أحدهما تحت مظلة المعسكر الشرقي والآخر تحت مظلة المعسكر الغربي، واستمر هذا الوضع عدة عقود من الزمن حتى إنهيار الاتحاد السوفياتي.
وهكذا فالمجتمعات قد تموت في أيام شبابها، وقد يشيخ المجتمع ويهرم ويشرف على الموت، ولكن لا يلبث أن ينبعث في داخله مصلح يفجّر إمكاناته الذاتية المختزنة فيتحدى المجتمعُ بارادة ابنائه تيارَ الانحدار، ويتقدم مرة أخرى حتى يثبت نفسه، كما حدث بالنسبة للمجتمع العربي الجاهلي الذي كان مشرفا على التفسخ والاندثار، ولكن بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وظهور الإسلام، دبّت فيه الروح، واذا بالعرب يصبحون في فترة وجيزة سادة العالم وبناة الحضارة.
ديناميكية المجتمع
إن بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة، والعمل الصالح يعطيه ديناميكية في الاتجاه الصحيح، وعكس ذلك صحيح أيضا. ولكي نوضح الفكرة، دعنا نضرب مثالاً على ذلك: إذا حفرت نهراً يمتد من ينابيع المياه ويجري عبر الاراضي الصالحة للزراعة، فسوف يروي هذا النهر آلاف الهكتارات من الاراضي المزروعة ويصبح سلة خبز لأولئك الذين يعيشون حول هذه المنطقة. أما إذا حفرت ذات النهر عبر أراضٍ سبخة فانه لن ينفع شيئا وستذهب مياهه هدرا.
إن هذه واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق أيضا على المجتمع البشري، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقة هائلة، فإذا وجّهت في الاتجاه السليم وحفرت لها قنوات ملائمة، تحركت هذه الطاقة عبر القنوات وأعطت ثمارا طيّبة، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات فان المجتمع سرعان ما يتحطم ويموت.
مثلا، إذا أقمنا بناء المجتمع على العنصرية، فان طاقاته ستتوجه عبر هذه القناة الرديئة، فيفرض الرجل الابيض سيطرته على الرجل الأسود، كما كان الوضع في جنوب إفريقيا، وتكون النتيجة أن بضع مئات من الألوف من البيض يتحكمون في مصير عدة ملايين من المواطنين السود، وهذا يعني فيما يعني أن الرجل الأبيض كان يعمل ساعتين فقط في اليوم، وكان يستطيع أن يضمن لنفسه بهما حياة مرفهة، بينما كان الأسود يعمل أربع عشرة ساعة يوميا حتى يحصل على أجر قليل لم يكن يكفيه. فالاول كانت عنده ست ساعات من الفراغ، بينما الثاني كان يُرهق بست ساعات من العمل الأضافي، وبعد فترة كان الأبيض يموت من الترف والفراغ، والأسود يموت من الجوع والتعب، وينتهي المجتمع شر نهاية، وهذه واحدة من السنن الإجتماعية.
ويتوقف تقدم وحيوية المجتمع البشري على قوانين وأنظمة ذاتية كثيرة نسمّيها بديناميكية المجتمع، وسوف نستعرض هنا جملة منها بشكل موجز من خلال عهد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر، حيث يرسم لنا فيه الديناميكية الاجتماعية والقوانين التي تتحكم في المجتمع.
يقول عليه السلام:
( واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها: جنود الله، ومنها: كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها: قضاة العدل، ومنها: عمّال الإنصاف والرّفق، ومنها: أهل الجزية والخراج من أهل الذّمة ومسلمة الناس، ومنها: التجّار وأهل الصناعات، ومنها: الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌّ قد سمّى الله له سهمه (أي نصيبه من الحق) ووضع على حدِّه فريضة في كتابه، أو سُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله عهداً منه عندنا محفوظا.
فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعِزُّ الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم.
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصِّنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب، لما يُحكمون من المعاقد (أي: يقومون بتنظيم العقود) ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.
ولا قوام لهم جميعا الا بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (أي: المنافع التي يجتمعون من أجلها)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من التّرفّق (أي: التكسّب) بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم (أي: مساعدتهم وصلتهم) ومعونتهم. وفي الله لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حق بقدرما يصلحه) .
ويمكننا ان نستخلص من هذه القطعة من عهد الامام علي عليه السلام بعض القوانين الأساسية لبناء المجتمع الحي:
1 - قانون التفاضل بالسعي
فالمجتمع يتألف من طبقات تقوم - أولاً - على أسس سليمة هي: العلم والخبرة والكفاءة والقدرة البدنية.. الخ.
ولا يوجد - ثانياً - بينها إستعلاء ولاتفاخر، فأفراد المجتمع متساوون في الإنسانية، وسواسية أمام القانون القضائي، ويختلف هذا القانون عن الطبقية البغيضة التي تقوم على أساس العنصر والدم، أو الثروة والمال، أو المنصب والمركز الاجتماعي، أو على أسس قبلية وطائفية وعائلية وما أشبه.
2 - قانون التعاون
وهذه الطبقات، التي تشكل جسم المجتمع، غير منغلقة على ذاتها، بل تنفتح على بعضها بالتعاون المثمر البنّاء، فيكمل بعضها بعضا، فلا غنى لواحدة عن الآخرى، كما ان علاقتها مبنية على أسس المحبة والاحترام المتبادل.
3 - قانون العدالة
وهذا أهم ركيزة يقوم عليها المجتمع الحيوي السليم، حيث ينبغي أن تكون العدالة شاملة للجميع، حاكماً ومحكوماً، غنياً وفقيراً، قوياً وضعيفاً.. حتى تؤتي ثمارها.
إن فقدان العدالة له تأثير هدّام مزدوج، فمن ناحية يؤدي إلى التجرؤ على أكل حقوق الآخرين، والإعتداء عليهم، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تثبيط همم العاملين المنتجين من زرّاع وتجّار وجنود وكتّاب ومفكّرين.. بسبب قلقهم من احتمال إغتصاب وسرقة الآخرين لجهودهم.
4 - قانون صيانة المجتمع
لكي يحافظ المجتمع على نفسه من الاعتداء الخارجي، أو الاضطراب والتفسخ الداخلي، فلابد له من عدّة ركائز هامة تشكل أساس البناء الاجتماعي:
أولا: القوة العسكرية: جيش، وأسلحة، وتدريب، وتنظيم.. الخ
ثانيا: القوة الاقتصادية: زراعة، وصناعة، وحِرَف، ومهن.. الخ
ثالثا: القوة القضائية: قضاة، وحكام شرع، وكتّاب.. الخ
رابعا: القوة الادارية والتنفيذية، وهي جهاز الحكومة بما فيه من وزراء وموظفين، وإداريين.
خامسا: القائد الأعلى أو الرئيس، وهو الذي يجمع كل هذه الخيوط بيده ويكون خاضعاً للقيادة التي تتمثل في النبي صلى الله عليه وآله أو الامام المعصوم أو الولي الفقيه وهم الامناء على شريعة الله في الأرض.
5 - قانون التكافل والضمان الاجتماعي
إن الفقراء والمساكين وذوي الحاجة ممن قعدت بهم كارثة تعرضوا لها، أو مرض ألم بهم، أو شيخوخة أصابتهم، ينبغي أن تُشكل لأجل هؤلاء جميعا مؤسسات خاصة تقوم برعايتهم، ويسمي الإمام علي عليه السلام من يعملون في مثل هذه المؤسسات بعمال الرفق والانصاف.
إن هذا القانون يجلب الاطمئنان للفرد فيما يخص مستقبله، وبالتالي يؤدي إلى زيادة إنتاجه، إضافة إلى إشاعة روح التراحم بين أفراد المجتمع.
صبغة المجتمع الإسلامي
أما الصبغة العامة للمجتمع الإسلامي الصحيح فهي التقوى عقيدة وسلوكاً، ويشير إلى ذلك حديث الامام علي عليه السلام في عهده لمحمد بن ابي بكر حين قلّده مصر:
(واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة والمتكبّرون، ثمّ انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ والمتجر الرابح) .
وكما هو واضح من السياق، فإن التقوى المقصودة هنا ليست التقوى الفردية، بل هي تلك التي تأخذ الطابع الجماعي، أي تصبح خصيصة من خصائص المجتمع، يمتاز ويُعرف بها.
وهذا الحديث يبين حكمة مهمة في الحياة الاجتماعية الإسلامية، وهي أن المسلمين ليسوا هم أولئك الذين تعلقوا بالآخرة فقط وتركوا الدنيا وشؤونها وراء ظهورهم، وليسوا هم أولئك الضعفاء الفقراء ، الزاهدون في متاع الدنيا، المعتزلون لأمور الحكم والسياسة والجيش، ولا يؤمنون بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة، إن هذه أفكار سلبية دسّها الأجانب الحاقدون في صفوفنا وحاولوا بها إضعاف المسلمين من جهة، وتشويه وجه الإسلام المشرق من جهة ثانية.
إن المجتمع الإسلامي هو مجتمع القوة والإستقلال والثراء والتقدم في كافة المجالات العلمية والصناعية. وهو مجتمع يبني حضارة متكاملة بكل أبعادها، غاية ما في الأمر أن كل ذلك ينبغي أن يتم في إطار مبادئ محددة في تعامله مع شؤون الحياة ومع المجتمعات الأخرى، تقوم على أساس الحلال والحرام الذي تقرره الشريعة الإسلامية وعلى أساس القيم والأخلاق الفاضلة.
صفوة الكلام
1 - ثلاث نظريات حول الاهتمام بالفرد والمجتمع:
ألف: الإهتمام بالفرد على حساب حقوق المجتمع .
باء: الاهتمام بالمجتمع، وسحق الفرد .
جيم: النظرية الإسلامية التي تعطي للفرد أهميته اللائقة، كما تعطي للمجتمع دوره المؤثِّر، وتنظم العلاقات بينهما بشكل دقيق ومتوازن .
2 - إن بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يعطيه ديناميكية في الاتجاه الصحيح .
3 - يتوقف تقدم وحيوية المجتمع على قوانين وأنظمة أساسية يشير إليها الامام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر . هي:
ألف: التفاضل بالسعي .
ب: التعاون .
ج:العدالة .
د: صيانة المجتمع بالقوى العسكرية، والإقتصادية، والتنفيذية، والقضاء، والقيادة العليا .
هـ: التكافل الإجتماعي .
4 - وتشكل التقوى: الصبغة العامة للمجتمع الاسلامي، حيث تصبح واحدة من خصائص المجتمع، يمتاز ويعرف بها .
====================
لكي لا نخضع للأغلال
القرآن الكريم يدعوا إلى صلاح العمل ، لتوجيهه في وجهة التعاون الإيجابي البنّاء .
لقد جاءت رسالات السماء من أجل تحرير الإنسان من الأغلال التي تعيق مسيرته نحو التقدم والبناء .
الإنسان مفطور على النشاط و العمل وهو لا يحب الفراغ والبطالة، ولذلك نجد أن الأنظمة الدكتاتورية تستخدم التعذيب بالفراغ كأشد أنواع التعذيب، فتسجن المعارضين في زنزانات إنفرادية، وتحرمهم من أي نوع من العمل حتى القراءة وسماع المذياع والتحدث مع الآخرين.
وكذلك نجد الطفل لا يكف أبداً عن اللعب والحركة وممارسة حيويته ونشاطه في كل شيء، واذا مُنع من ذلك بأي اسلوب فانه سرعان ما تسوء حالته الصحية، هذا من الناحية النفسية، أمّا من الناحية البدنية فان أكثر اعضاء الإنسان في حالة حركة ونشاط، فحتى عندما يكون مسترخيا أو نائماً، يكون عقله في حالة تخزين للمعلومات وتبويبها وربط بعضها بالبعض الآخر.
الطموح.. ميزة الإنسان
إنها طبيعة الإنسان، فهو كأي كائن حي آخر، مفطور على النشاط ومجبول على التحرك. وليس هذا فحسب، بل الإنسان مفطور على الطموح أيضاً، وبذلك يتميز عن سائر الاحياء، فهو لا يكتفي بما يحصل عليه، وإنما يريد المزيد دائما.
إن الطموح قوة داخلية دافعة لا تقف بالمرء عند حد البحث عن الأكل والشرب فقط، ولو كان كذلك لاستغنى عن بذل الجهود الجبارة لبناء تلك الحضارات الكبيرة في التاريخ، لأن أكله وشربه مضمونان بأدنى جهد كما هو بالنسبة لأي حيوان.
إن الإنسان يبحث عن الملك والخلود، ولذلك حينما أراد إبليس أن يغوي أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام قال لآدم:
﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى﴾ طه ،120
إذاً فالعمل - الذي هو نتيجة الطموح - هو من طبيعة الإنسان، ولكن المشكلة التي تعاني منها البشرية على مر الزمن هي في أمرين:
انحراف الطموح
الأول: الفساد والانحراف في الطموح، حيث يصبح الطموح –أحياناً- طريقاً للتردي والعاقبة السوأى، ولذلك نجد حين نستعرض آيات القرآن الحكيم إنّ أغلب الآيات التي تتحدث عن العمل، لا تتحدث عن العمل باعتباره ضرورة فهو قضية مفروغ منها، وانما تدعوا إلى صلاح العمل، لتوجيهه في وجهة التعاون الإيجابي البنّاء، ونادراً ما نجد آية تذكر العمل مجرداً عن أية صفة كقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ التوبة،105
أما أغلب الآيات التي تدعوا إلى العمل فإنها تدعوا إلى صلاحه. يقول تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ سورة العصر
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ اُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ النّحل،97
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ الكهف،110
وهكذا يعالج القرآن مسألة الطموح عند الإنسان فيرفعه عن الاقتصار على البعد الدنيوي، ويوجهه باتجاه الآخرة:
﴿يَآ أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾ الإِنشِقاق،6
﴿إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ القَلَم،32
﴿تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القَصَص،83
أغلال العمل
الثاني: هناك مشكلة مهمة اخرى عانت منها المجتمعات البشرية على طول التاريخ، وهي وجود الأغلال الكثيرة أمام العمل الايجابي والحركة الهادفة، فبالرغم من أن الإنسان مفطور على العمل والنشاط، وأن هناك وقودا يحركه في هذا الاتجاه وهو الطموح، فان الاغلال الاجتماعية والتي تتحول إلى أغلال نفسية وفكرية تجمّده وتعرقل حركته. ولقد جاءت رسالات السماء من أجل فك هذه الاغلال التي تعيق سير البشر باتجاه التقدم والبناء، يقول القرآن الحكيم:
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ ال