Translate

السبت، 6 مايو 2023

ج2.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل علي بن نايف الشحود الباب الثاني الفكر الإسلامي مواجهة حضارية



الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(2)

الباب الثاني

الفكر الإسلامي مواجهة حضارية

جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

الباب الثاني

الفكر الإسلامي مواجهة حضارية

P

المرجع الديني

آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي

كلمة في البدء

تعيش الأمة الإسلامية اليوم تحديا حضاريا كبيراً من جميع الجهات.

وبالرغم من أن التحدي الحضاري ظاهرة لازمة في الأمة وأنه لم يأت حين على المسلمين إستراحوا فيه من تحديات حضارية، فإن التحدي الجديد يتخذ طابعا مختلفا يكمن في تحوله التدريجي إلى مواجهة حضارية شاملة للجوانب الأيديولوجية والإقتصادية والسياسية والعسكرية وهي مصيرية لأنها تعتزم اكتساح الحضارة الإسلامية حتى لا تعود قادرة على النهوض مرة أخرى.

والمواجهة الحضارية تبرز من خلال مظاهر مختلفة، بيد أن نقطة واحدة تقرر مصيرها النهائي لصالح الأمة أو في صالح أعدائها، تلك هي جدارة (الفكرة الحضارية) بالبقاء. فبقدر ما تكون الفكرة مليئة بركائز التقدم والنصر، وبقدر ما تبعثه في الإنسان المتقمص لها من الإيمان والمعرفة، سيكون تقدم الأمة وإنتصارها.

ولن تغني الفكرة الحضارية شيئاً لو لم تملك الأصالة والواقعية ، ولم تكن قادرة على تحميل نفسها على كتف الحياة حتى تصنع رجالا، وتصنع بهم بطولات وتصنع بها حضارة متفوقة. إذ بدون التفاعل بين الإنسان والفكرة كيف يتمكن الإنسان من تغيير واقع وبناء حياة! فهل تتقدم أمة تملك تراثا ضخما من الفكرة الحضارية لو لم تتحول فعلا إلى عطاء وعمل؟

ومن هنا فإن الإسلام لن يغني الأمة شيئا ما دام فكرا تاريخيا في ذهنية المسلمين، دون أن يتحول إلى مادة حضارية تتفاعل مع الإنسان في واقعه الخارجي. ولن يقع هذا التحول دون ظهور الإسلام على المسرح بكل قوة حتى يقوم بدوره كفكرة حضارية.

ذلك لان الإسلام كدين، والإسلام كتاريخ يختلف كثيرا عن الإسلام كإيمان وعمل وبالتالي كفكرة حضارية.

إذ الدين بمفهومه الشائع إنتماء وطقوس، والتاريخ عبر وحكم. أما الإيمان، فهو أصالة وكينونة. أما الحضارة فهي حركة وحياة. وبين القسمين فاصل كبير.

فالمسلمون، كانوا أمة، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، وكوّنوا حضارة لا مثيل لها؛ كل هذا تاريخ لا يمكن أن يحقق شيئا. ولنا أن نتساءل عن انه هل عاد المسلمون أمة، وهل هم اليوم خير أمة، وهل انهم بناة حضارة، بل هل هم حماة حضارة؟ وبكل أسف يجب أن نجيب كلا أننا لم نعد أمة لأننا اليوم نفقد الوحدة والتعاون. ولم نعد خير أمة، لأننا لا نملك كفايتنا من العلم والإيمان. ولم نعد نبني ولا نحمي حضارة، لأننا وبكل أسف، نعاني نكبات سياسية وعسكرية، وتخلفا اجتماعيا علميا اقتصاديا. و.. و.. وبالتالي: ان اسلام أمس لا يغني عن إسلامنا اليوم.

والسؤال هنا كيف نحول أمسنا إلى اليوم؟ والجواب بسيط: لا بد من طي الفترة التي تفصل اليوم عن أمس ليتصل يومنا بيوم تقدمنا، ونبدأ منه المسير.

ذلك لأننا بحاجة إلى واقعين: قاعدة بناء ومنطلق مسيرة هما في الواقع أصالة وتفتح. فدون واحد منهما نخسر المعركة الحضارية.

والإستلهام من الدين الصحيح يشكل القاعدة والمنطلق والأصالة، والتفتح على الحياة يشكل المسير والتفاعل.

فنحن إذا بحاجة إلى (تأصل) و(تفتح) ولابد أن نحققهما عبر مراحل ثلاثة:

1- مرحلة التأصل، وفيها نحاول استيعاب الفكرة الحضارية التي تتمثل في الدين الإسلامي إيمانا وعلما.

2- مرحلة البعث، وفيها نتحسس بالتخلف ونستيقظ من سباتنا العميق، ونريد ان نحيى.

3- مرحلة التفتح، وفيها نحاول الاستفادة من معطيات العلم الحديث.

ان هذا هو الخط الواضح القويم الذي لا يمكننا ان ننجح دون الإلتزام به والوفاء بمتطلباته.

بيد أن هناك عقبة تعترض الطريق، وبمدى قدرتنا على تحديها يكون مدى جدارتنا بحماية حضارتنا التليدة وبنائنا للحضارة الجديدة. وهي التطرفات اليمينية واليسارية التي تريد بالمسيرة الإنحراف عن خطها المستقيم. فاليمين يحاول تجميدنا على الأوضاع الفاسدة، واليسار يريد تمييعنا في بوتقة الحضارات المعاصرة. اليمين يرفض الأخذ بأي جديد ويحاول بنا الانطواء على شكليات القديم المهترئة والتقوقع في توابيته الفكرية المحنطة، ويرضى لنفسه أن يكون تابعا أعمى للفلسفة الإغريقية والبرهمية ولا يقبل الانفتاح على معطيات الحضارة الحديثة العلمية، بل ولا على معارف الدين الإسلامي الحق. ولذلك لا يزال يعتكف على منطق ارسطو وهيئة بطليموس وطب جالينوس في عصر المناهج العلمية الدقيقة، حيث يرتاد الفضاء وتستخدم الذرة وتستعمل الأشعة في شفاء الأمراض.

والذي لا ريب فيه أن اليمين بعيد عن روح الإسلام بعد المشرقين، ذلك لان الإسلام فلسفة شاملة أصيلة متفاوتة كلياً مع فلسفات الإغريق والبراهمة ـ الوثنية المشركة ـ والاسلام منفتح كليا على معطيات العقل والعلم ولا يرضى التقوقع ضمن توابيت القديم.

ولا ريب كذلك أن اليمين عقبة دون بناء الحضارة، لابد من تجاوزها.

والتطرف اليساري هو الآخر عقبة كؤدة يشكلها الانهزاميون الذين منعتهم التيارات الغربية الشعور بأنفسهم فراحوا ينظرون إلى واقعهم وكيانهم بعيون مستعارة، فلا يرون الا مصالح الآخرين. فهم يريدون أن نرفض كل أصيل لأنه في زعمهم السبب المباشر لتخلفنا. والمسلمون ظلوا بين تزمّت اليمين وميوعة اليسار لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ذلك لأن المنحرفين راحوا يشككون في قدرة الإسلام أن يبني حضارة المسلمين الحديثة الأصيلة. وبما أن الدين لا يزال يتمتع بقاعدة شعبية واسعة وراسخة، فإن المنحرفين لم يقدروا على الهجوم على صلاحية الإسلام أو إمكانية المسلمين للقيام ببناء حضارة حديثة، بل راحوا ينافقون ـ كل حسب اتجاهه المتطرف ـ أيما نفاق.

فالمتزمتون حاولوا أن يحصروا الدين عند الناس في حدود معينة من السلوك الفردي وبعض النظم الاجتماعية، أما في المناهج العلمية والأفكار الفلسفية والقواعد الخلقية فلابد أن يصبح تابعا متواضعا للفلسفة التي يختارونها كل حسب هواه.

ومن هنا قالوا: ان الإسلام يشجعهم على اتباع الفلسفة الاغريقية وذهب الخيال ببعضهم حد القول بأن أفكار الفلسفة القديمة هي بالذات معطيات الإسلام، فالمنطق الشكلي ونظرية القوة والفعل وهيئة بطليموس وما أشبه هي عندهم نظريات إسلامية.

وكانت نسبتهم هذه إلى الإسلام أشبه شيء بنسبة رجال الكهنوت خرافات العصور الوسطى إلى المسيحية، مما أدت إلى إرتداد العلماء عن الدين في أوروبا.

أما النصوص الشرعية المخالفة لهم في نسبتهم هذه فكانت في أيديهم ألين من الحديد بين أصابع داود عليه السلام، حيث أخذوا يأوِّلون فيها ويحرفونها ويفترون على الله الكذب وهم هادئون مطمئنون.

وفي الطرف المعاكس تماما كان الإنهزاميون يقومون بدور مماثل للمتزمتين ولكن من منطلق مختلف، إذ كانوا يحاولون تجريد الإسلام من روحه الناصعة، ومبادئه الفطرية الصائبة، وتمييع أحكامه المحددة وتوجيه نصوصه وفق (فلسفات الغرب الحديثة) ناسين أو متناسين كل ما في هذه الأخيرة من سلبيات وتناقضات.

وقد بلغ الجهد ببعضهم حدا دعى المسلمين إلى تبني فكرة مناهضة للإسلام تماماً، وبإسم الإسلام ذاته، وقالوا لا يعدو الإسلام أن يكون إنتماء قوميا أو قبليا أو عائليا، فهو ينسجم ـ أو بالأحرى لابد ان نجعله بحيث ينسجم ـ مع كل جديد يقتضيه اتجاه الحضارة الحديثة. ولم يعلموا أنهم بعملهم هذا انتزعوا عن الإسلام أهم ما فيه، وهي الروح المبدعة المغيرة والثائرة.

وضاعت الأمة الإسلامية المرتقبة والحضارة الإسلامية المأمولة، ضاعت في زحمة هذه الاتجاهات المتطرفة. وأصبح الإسلام كلمة جوفاء مطاطية كأنها ضباب السواحل تشمل جميع المتناقضات، وليس أبداً ذلك الدين الواحد الذي جاء من رب واحد لتكوين أمة واحدة، بل انه ألف دين وألف مذهب وألف أمة.. وكانت هذه عقبة تعترض مسيرة المسلمين الحضارية وكان لابد لنا من تحديها بأمرين:

1- تجريد الإسلام من الفلسفات الجاهلية التي نسبها المنحرفون إلى الدين حتى يعود الدين كما هبط من الله سبحانه فكرة رائعة تحمل نفسها على كتف الحياة، وتنسجم وتتفاعل معها. ولا يمكن ذلك دون العودة إلى ذات النصوص الشرعية ومحاولة التسليم لها والتفتح عليها، دون التأويل فيها والتحريف لكلماتها.

2- تجريد الحضارة الحديثة عما شابت بها من سلبيات الإنسان الأوروبي ونظراته الضيقة المحدودة، وذلك بدراستها في ضوء العقل وهدى القرآن دون تقليد منا أو انغلاق عنها. وعلينا بعد ذلك الاعتماد على أصالتنا في بناء حضارة قوية وسليمة.

وليس الكتاب الذي بين أيدينا الا محاولة متواضعة تهدف تحقيق هذه الغاية، والله الموفق وهو المستعان.

مقدمة الطبعة الرابعة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

إن لم تتح لي فرصة تصدير الطبعة الثالثة التي تمت في الكويت، فإني أجدني مسؤولا عن بيان رأيي في الكتاب بعد خمسة عشر عاما من تأليفه، وذلك عبر تقديم الطبعة الرابعة.

ويختص هذا الرأي بموضوعات العقائد الإسلامية من الكتاب فحسب، ويتلخص فيما يلي:

بالرغم من ان العقيدة الإسلامية هي التي تتحدى ضغط الشهوات، والأهواء، وسلبيات المجتمع الفاسد، وهي التي تتفرع عنها العبادات والأخلاق.

الا ان مشكلة البشر فيها ليست عقلية، إذ انها من ضرورات العقل، التي فطر الله الناس جميعا عليها.

بل هي مشكلة نفسية، نابعة عن ضعف الإرادة أمام تحديات المجتمع وضغوط الشهوة؛ المجتمع الذي تحيط به اجهزة الطاغوت الإرهابية، كيف يمكن ان يعبد الله وحده دون ان يتسلح بإرادة يقهر بها ضعفه البشري؟

والشاب الذي تعصف به رياح الشهوة العاتية، كيف يتحدى إغراء الحياة، ويعبد الله وحده دون إرادة قاهرة؟

وهكذا الفرد المليء بالعقد، لا يمكنه فهم الحياة بفطرته الطاهرة دون خرق حجاب العقد بعزم إيماني راسخ.

وربما تشير إلى هذه الحقيقة، الأحاديث التي تؤكد ان الإيمان روح، وتبين ان الإيمان عمل، وان على كل جارحة مسؤولية إيمانية خاصة بها:

جاء في حديث شريف[1] عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ، يقول الراوي ( قلت له: ايها العالم! أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟

قال: ما لا يقبل الله شيئا الاّ به.

قلت: وما هو؟

قال: الإيمان بالله الذي لا إله الا هو، أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة واسناها حظاً.

قلت: الا تخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل، ام قول بلا عمل؟

فقال: الإيمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه.

ثم يضيف الحديث قائلا:

قال: لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسَّمه عليها، فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الإيمان بغيرما وكلت به اختها.. )

ومن هنا يبدو لي ان المنهج الإلهي في تذكرة الناس بربهم واعدادهم لإستقبال روح الإيمان، والبدء بالعمل بمسؤولياته، يختلف عن منهج دراسة العقائد في كتب الكلام، أو بالأسلوب المتبع مثلا في هذا الكتاب. وبالرغم من ان هذا الأسلوب قد يكون نافعا، ونجد في كتب الإحتجاج ان الأئمة عليهم السلام استخدموه أيضا[2].

الا انه ليس المنهج الأمثل الذي نجده في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

ونحن نبين باختصار شديد بعض جوانب المنهج القرآني الأمثل لعل الاخوة الذين يدرّسون هذا الكتاب لطلبة العلوم الدينية، حفظهم الله، يستفيدون منه في أسلوب التدريس ويحوّلون حلقات الدرس إلى منابر توجيهية هدفها إثارة دفائن الفطرة وغرس مكارم الأخلاق، وتبصير الطلبة بحقائق انفسهم والحياة من حولهم.

ان العقائد ليست مادة دراسية بقدر ماهي تذكرة إلهية هدفها إيقاظ العقل من سباته، وجلاء الروح بعد تراكم الرين عليها، وبث الخشوع في القلب بعد قسوته. ومعلم درس العقائد لابد ان يزكي نفسه، لكي يتحول إلى قدوة في تصرفاته، ويكون في نبرات حديثه وقسمات وجهه تذكرة بالله، وترهيب من عذابه، وترغيب في عظيم ثوابه.

المنهج القرآني

هناك خطان نشير اليهما في المنهج القرآني؛ خط في أسلوب التذكرة بالله، وخط في ربط ذلك بالعمل.

بالنسبة إلى الخط الأول لابد ان نقول:

بصائر القرآن لمعرفة ربّ العالمين

ان المنهج القرآني يذكر الناس بربهم من خلال الحياة، وليس بعيدا ولا مجردا عنها، حتى تتذكر ربك كلّما عشت ظاهرة طبيعية؛ فالشمس والقمر والنجوم آيات مسخرات بأمره ، والسماوات والجبال يسبحن بحمد ربهن، وان من شيء الا يسبح بحمد ربه..

ويقول ربنا سبحانه، وهو يلفت إنتباهنا إلى السموات التي رفعها بغير عمد نراها:

[اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ](الرعد 2) .

ويذكرنا بما في الأرض من آيات لعلنا نعرف ربنا من خلال النظر إليها، والإعتبار بما فيها من إختلاف وتشابه، والتذكر لما فيها من علامات الحكمة والقوة:

[وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّـمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الرعد 3).

ويلامس السياق القرآني فطرة الإنسان ويهزها عندما يقول:

[هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلآَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِـحَالِ](الرعد 12-13).

عندما تدك جبال السحب بعضها بعضاً، فتحدث دوي الرعد وتختلط عندك الرغبة بالرهبة، والطمع بالخوف، وتأتي الصواعق وهي مرسلة من لدن حكيم قدير، والأهداف مرسومة لها سلفا. عندئذ تذكر ربك وعقوبته الشديدة، فلا تجادل فيه، بل أسلم له وجهك حنيفا مسلما.

بلى ان هذا المنهج القرآني الذي يفسر ظواهر الكون وسنن الله فيه تفسيرا إلهيا، انه يجعل المؤمنين يتذكرون ربهم كلما غشيتهم ظاهرة كونية أو أعقبتهم سنة إلهية.

يقول ربنا سبحانه عنهم:

[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاَُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ

النَّار](آل عمران 190- 191).

ان منهج القرآن يربي مثل هؤلاء المؤمنين، لأنه يعطيهم بصيرة إلهية ينظرون من خلالها إلى العالم المحيط بهم، وكلما توغلوا فيه، كلما ازدادوا ايماناً وتسليماً.

بصائر القرآن في معرفة التاريخ

ويعطي القرآن الحكيم المؤمنين البصيرة الإلهية في التاريخ لينظروا من خلالها إلى الغابرين ويعتبروا بمصيرهم. ذلك بأن الإنسان تشده حوادث التاريخ بقدرما تستثيره ظواهر الحياة الراهنة، وهو مفطور على النظر إلى الماضي. إذا فلينظر إليه من خلال بصيرة إلهية ليزداد إيمانا بربه وتسليما لسننه وشرائعه كلما نظر في أحوال الغابرين.

يقول ربنا سبحانه:

[أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ](الروم 9).

وقد يذكرنا ربنا بمصير قوم نعرفهم في التاريخ، ويعطي تفسيرا إلهيا للتطورات التاريخية العظيمة لما تسمى بالحضارات التي سادت ثم دمرت بسبب تخلفهم عن واجب التوحيد ومعرفة الخالق العظيم:

[وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَبَيَّنَ لَكُم مِن مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الاَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ](العنكبوت 38-39).

ثم يذكرنا بعاقبتهم ، وهي - بالطبع - عبرة لكل ملحد لا يؤمن بربه ويستكبر في الأرض بغير حق. يقول ربنا سبحانه:

[فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ](العنكبوت 40).

بصائر القرآن في معرفة النفس

ويتعرض البشر لحالات الشدة والرخاء، المرض والعافية، الفقر والغنى، ويعطيه المنهج القرآني في التوحيد البصائر الكافية لتفسير هذه الحالات المختلفة، ليريه الله آياته في نفسه وليتذكر ربه العظيم ويقنت له ويتضرع إليه فيكشف ما به من ضر ويهديه إلى صراط مستقيم. وهكذا تتحول الحالات المختلفة للنفس البشرية إلى مدرسة إلهية تعلم طلابها التوحيد بفضل منهج القرآن، لهذا يقول ربنا سبحانه:

[وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ](الروم 33).

من خلال تبصير الإنسان بمواقع ضعفه وعجزه، وتذكيره بأيام تضرعه إلى ربه، يثير القرآن فطرة التوحيد في النفس البشرية، ويقول ربنا سبحانه:

[قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ](الأنعام 63-65).

وهكذا نرى المنهج القرآني الأمثل يذكرنا بالله من خلال بصائره في فهم المخلوقات، وفي وعي التاريخ، وفي معرفة النفس.

وهكذا يحيط بالمؤمن نور التوحيد عبر كل أفق، فيقول ربنا:

[سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ](فصلت 53).

المنهج القرآني

وحين يذكر المنهج القرآني برب العالمين يبصرنا بأنه الإله ولا معبود سواه وان له ـ وليس لطغاة السلطة أو المال أو أدعياء الدين ـ الولاية على الناس.

وهكذا يربي المنهج الإلهي المؤمن الحنيف الذي يكفر بجبت الشيطان والهوى والخرافة، كما يكفر بطاغوت السياسة والرأسمال والدعاية، ويأمر بالصلاح والمعروف وينهى عن الفساد والمنكر.

المنهج القرآني يربط بين التذكرة بالتوحيد وبين مسؤوليات المؤمن بالله في حقل الثقافة والإجتماع والأخلاق والعبادات. وفيما يلي نستعرض أمثلة على هذا المنهج:

في حقل الثقافة

يقول ربنا:

[وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرآئِيلَ الْبَحْرَ فَاَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلآءِ مُتَبَّرٌ مَاهُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلى الْعَالَمِينَ](الأعراف 138- 140).

وآيات الذكر التي تبين جهاد الموحدين ضد الأصنام كثيرة، وهي ـ على أي حال ـ تكشف عن هوية الموحدين الجهادية في حقل الثقافة، وتطهير القلوب عن رجس الشك والخرافة والجهل والتبرير.

ويبدو ان هذا كان هو الجهاد الأعظم الذي رافق مسيرة الموحدين في التاريخ، سواءً قبل أو بعد إنتصارهم على الكفار سياسيا وعسكريا، وسيبقى هو الجهاد المرير الذي يخوضه الموحدون طوال الوقت.

في حقل الإجتماع

في حقل الاجتماع يذكر المنهج القرآني بالله في إطار الجهاد ضد العنصرية، والطبقية، والإرهاب الفكري، والإستكبار، والطغيان. لنستمع إلى القرآن الحكيم وهو يذكرنا بجهاد الموحد العظيم سيدنا شعيب ضد كفار قومه. قال ربنا:

[قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمٍ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ](هود 91-93).

ويقول عن التمييز الطبقي الذي جاهد ضده الأنبياء عليهم السلام لتكريس قيم التوحيد:

[وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَآءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيءٍ قَالُوا لَو هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ](ابراهيم 21).

وعن قيمة التوحيد في مواجهة أصحاب المال، يقول ربنا سبحانه:

[إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ](القصص 76).

إلى ان يقول ربنا:

[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ](القصص 81).

ويذكرنا القرآن الكريم بمصير المستضعفين الذين أطاعوا أصحاب النفوذ والسيادة من دون الله فيقول سبحانه:

[اِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُوا رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَاَضَلُّونَا السَّبيلاَ * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيِنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً](الأحزاب 64-68).

وهكذا تأتي قيمة التوحيد لتفك أغلال المجتمع الجاهلي عن الناس، غلا بعد غل، وتشد الناس ببعضهم برابطة إلهية لتهدم المؤسسات القائمة على أساس الشرك، وتكفر بالشركاء من دون الله - اصحاب الثروة والقوة والشرف المزيف - وليقوم مقامها تجمعات الإيمان والتقوى والجهاد، وقد قال ربنا سبحانه:

[يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](الحجرات 13).

في حقل السياسة:

حينما بعث النبي إبراهيم برسالات الله، توجه تلقاء نمرود، طاغوت عصره، يأمره بالتوحيد، وقال ربنا:

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا اُحْيِي وَاُمِيتُ قَالَ اِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](البقرة 258).

وأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون، طاغوت عصره، ويأمره بعبادة الله، فقال:

[اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى](طه 43-44).

وقال ربنا سبحانه لداود صراحة:

[يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ اِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ](ص 26).

وبصفة عامة قال ربنا سبحانه:

[وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً](النساء 64-65).

وفي آية قرآنية أخرى يقارن المنهج التوحيدي بين الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، حيث قال ربنا:

[فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](البقرة 256)

هكذا المنهج القرآني في التذكرة بالله ينمي روح الإيمان في مواجهة الطاغوت، وليس إيمانا مجردا عن واقع السياسة.

الإيمان بالله يساوي الكفر بطاغوت عصرك، من يسعى لإستعبادك، أنى كان شخصه وإسمه ووسائله. وهكذا بهذه القوة وبهذه الشمولية ينبغي ان يدرس التوحيد.

في حقل الأخلاق

من هم عباد الرحمن؟ وما هي شخصية المؤمن؟ و بالتالي ما هو الإيمان الذي يربي عباد الرحمن؟ وهل هو إيمان بالله، ذلك الذي لا يعطيك سلاحا ضد العقد النفسية والأهواء والتأثر بالظروف الخارجية؟ وهل هو إيمان بالله ذلك الذي لا يعطيك البصيرة في الحياة؟

القرآن الحكيم يقول:

[وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ اَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً](الفرقان 63-69).

ان المنهج القرآني يعرِّف لنا الإيمان بالله، انه نور يمشي الإنسان به في الناس. يقول ربنا سبحانه عن الإيمان:

[مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً](الشورى 52).

[أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَاَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ](الأنعام 122).

وعندما يقص علينا القرآن سيرة شعيب، تراه يجعل الإيمان بالله في مواجهة فساد أخلاقي كان شائعا في ذلك المجتمع، وهو النقص في المكيال والميزان. يقول ربنا سبحانه: [وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ](هود 84-85).

وهكذا تكون التذكرة بالله في المنهج القرآني، سبيلا لإصلاح المجتمع والأخلاق الفاسدة التي فيه.

في العبادات والآداب

المنهج الإلهي في التذكرة بالله يوصل البشر بربه عبر العبادات؛ عبر الصلاة والدعاء والحج و..لأنه يربط بين التذكرة بالله وبين السلوك الشخصي. يقول ربنا سبحانه: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ](المؤمنون 1-6).

ان هؤلاء الذين يدّعون الإيمان وهم يسهون عن صلاتهم وعباداتهم، فهم بعيدون عن الله وعن رحمته. يقول ربنا سبحانه:

[فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ](الماعون 4-7).

وبإختصار: المنهج القرآني يسعى نحو تنمية روح الإيمان في النفس البشرية القادر على تحدي الضعف البشري، وذلك بعد تجاوز مرحلة الإثبات بالأدلة العقلية التي لا تقاوم الحجب النفسية في حالة وجودها. فشخص مثل فرعون استبد به حب الرئاسة، كيف يمكنه ان يسلم وجهه لله بمجرد سرد أدلة عقلية؟

أما إذا انقشعت عنه الحجب، فإن فطرة البشر تكفي شهادة على الحقيقة.

ان البشر يعاني من ضعف إرادي لابد ان ينجبر بالمنهج القرآني، حتى يؤمن بالله ذلك الإيمان الذي يتحمل مسؤولياته العظيمة.

وفي الختام نستبصر بهدى السنة عبر حديث مفصل نرويه عن الامام الصادق عليه السلام، يبين الامام فيه ان الإيمان مجموعة فرائض ومسؤوليات مبثوثة على جوانح البشر وجوارحه:

( فأما ما فرض على القلب من الايمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله الا الله وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وان محمدا عبده ورسوله صلوات الله عليه وآله، والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب.

فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة، وهو عمله، وهو قول الله عز وجل: [إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً](النحل 106).

وقال: [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ](الرعد 28).

وقال: [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ](المائدة 41)

وقال: [وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ](البقرة 284).

وفرض الله تعالى على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به. قال الله تبارك وتعالى: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً](البقرة 83).

وقال: [وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي اُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ](العنكبوت 46).

فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله.

وفرض على السمع ان ينزه عن الاستماع إلى ما حرم الله وان يعرض عمّا لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل، فقال في ذلك:

[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ اَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ](النساء 140).

ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان، فقال:

[وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](الأنعام 68).

وقال: [فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ](الزمر 17-18).

وقال عز وجل: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ](المؤمنون1-4).

وقال: [وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ](القصص 55).

وقال: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً](الفرقان 72).

فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان ان لا يصغى إلى ما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الإيمان.

وفرض الله على البصر ان لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، وان يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له، وهو عمله وهو من الإيمان. فقال تبارك وتعالى:

[قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يُغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ](النور 30).

فنهاهم من أن ينظروا إلى عوراتهم، وان ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه.

وقال:[وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ](النور31)

من أن تنظر أحداهن إلى فرج أختها، وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها.[3])

كيف ندرس العقائد؟

لكي نستوحي من المنهج القرآني في تدريس العقائد، نوصي بملاحظة النقاط التالية:

ألف: أن نبدأ بالفات نظر الطلبة إلى آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم مع التركيز على تلك الآيات الأقرب إلى إثارة عقولهم وتجلية فطرة الإيمان فيهم، ومع التذكرة بما في الخلق من روعة الجمال ولطف الصنع ودقة الحكمة. ان كل شيء من حولنا يسبح بحمد الله، ولكن السؤال: لماذا لا نفقه تسبيحهم، وما هو مفتاح فهم لغتهم؟ لماذا نحن محجوبون عن رؤية ضياء الشمس الذي يسجد الله، ويسبح بحمد الله، ويدعونا إلى ربنا؟ المعلم التوحيدي الناجح هو الذي يعطي الطالب منهجا للتفكر في المخلوقات، ومفتاحا لفهم لغة الحياة التي تعتبر أكبر مدرسة لمن يعرف لغتها.

وعلينا أن نبدأ مع الفرد من حيث هو، أي من النقطة التي هو فيها. فقد يثير فردا مظاهر الطبيعة، من تعاقب الليل والنهار، ونظام السموات والأرض، والرعد والبرق والعواصف..وقد يعيش الفرد أزمة نفسية أو وضعا إقتصاديا سيئا، أو مرضا، أو علاقات إجتماعية شاذة.. وهكذا فيثيره ما يتناسب مع وضعه الخاص.

وعالم الرياضيات الذي تعجبه الحسابات الدقيقة، وعالم الفضاء الذي تهزه عظمة المجرات السابحة في العالم اللامتناهي، وعالم الطب والأحياء و.. و..

لكل واحد منهم مفتاح يفض عقد نفسه، ويفتح آفاق معارفه، وعلى المعلم أن يبدأ من هناك، ويستمر معه حتى يطوف به على سائر آيات الله في الخليقة وفي النفس البشرية.

يأتي طبيب إلى الإمام الصادق عليه السلام يهتم بالعقاقير وبيده عقار يسمى بـ(الأهليلجة) وسيأل الامام عما يثبت به الصانع؟ فيجيبه الإمام عليه السلام و. بهذه الأهليلجة[4] ويبدأ معه حوارا وجدانيا بناءً ينتهي بتسليمه أمام وضوح الحجة وفطرة المعرفة.

ويأتي سائح يجوب البحار فيقول: دلني على ربي؟ فيجيبه من حيث هو، إذ يسأله: هل انكسرت بك السفينة في البحر وتعلق قلبك هناك بمن يقدر على انقاذه؟ فلما قال بلى، قال انه ربك.

ان تدريس العقائد يتم عبر التفاعل الوجداني بين النفس والحياة، بين العقل والطبيعة، وهذا لا يكون إلاّ عبر المعاناة والتفاعل بين المعلم والطالب، أكثر من أي درس آخر.

باء: أن يُستوحى من الآيات القرآنية، وخطب نهج البلاغة التوحيدية، وأدعية الصحيفة السجادية، وأيضا من سائر الأدعية المأثورة في التذكر بالله.

ويستفاد وبغزارة من شواهد الطبيعة، وإختلافها ودقتها وعظمتها وحكمة تدبيرها، وبالذات من مكتشفات العلم الحديث.

جيم: ان التوحيد ليس مادة دراسية، بل بصيرة لفهم أية مادة دراسية أخرى، انه صبغة الله، انه برنامج المعرفة، إطار التفكر، سبيل إلى العلم بالحقائق، هدى ونور وضياء. ولذلك لا ينبغي حشر موضوع التوحيد في زاوية وفصله عن غيره من الموضوعات، بل لابد من بسطه على كل موضوع دراسي، وجعل كل شيء يعرف بالله، لأنه ليس أي شيء أظهر من الله.

جاء في الدعاء المأثور عن الإمام الحسين عليه السلام، والمعروف بـ(دعاء عرفة): (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك. عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً).

الله نور السموات والأرض، إذاً، فهو الشاهد على السموات والأرض، وبه نعرف السموات والأرض وليس العكس.

لابد ان نرفع الستار حتى تستقبل أفئدتنا أنوار معرفته.. ليدلنا إلى ذاته بذاته، لابد ان نرفع عن أعيننا غشاوة الظنون والشهوات، لابد ان نطهر قلوبنا من رجس الذنوب ورين الأماني.

وهكذا ينبغي أن يفعل معلم العقائد، وعليه أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في عمله. وأخيرا أسأل الله ان ينفعني بهذا الكتاب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

محمد تقي المدرسي

3/رجب الحرام/ 1404هـ

القسم الأول عن العلم والفلسفة

البحث الأول عن:المعرفة بين الإسلام والتصورات البشرية

منهج البحث

كمن يدخل بيتا يكتنفه الظلام فيتحسس قبل كل شيء عن المصباح، فإذا وجده استضاء به في اكتشاف سائر الأشياء، كذلك حاول الإنسان: أن يجد في البدء مصباحا للحياة، فإتجه قبل كل شيء ناحية نفسه ليجد فيها العلم والعقل فأولاهما كل اهتمامه.

والإسلام بدء يذكر الإنسان بعقله، ليتخذه مصباحا يكشف به غيب الحياة، وتماما كما أن كل شيء في البيت المظلم ينكشف بالمصباح الا أن المصباح ذاته لا يُعرف الا بنفسه بعد التوجه إليه، فإن الإسلام يعتبر العقل أول ما يُعرف، بيد ان معرفته لن تكون الا بذاته. إذ ان الإنسان كيف يكشف العقل وهو لا يملكه؟ بل كيف يكون العقل كاشفا للإنسان عن كل شيء ولا يكون كاشفاً عن ذاته؟

وهكذا يبدء الإسلام معالجة أعقد مشكلة عند البشر من زاوية جديدة وبمنهج جديد، وذلك حين يأمر الإنسان بألاّ يحاول معرفة العقل الا بالعقل ذاته، إذ انه سيُلحد عن المنهج القويم إذا أراد معرفته بالتوصيف أو بالتصورات والتحليلات البعيدة، ذلك لانه سيبعده عن العقل تماماً مثل الذي يحاول التعرف على المصباح في الليل المظلم بتوصيفه أو تصوره.. يقول الإسلام: ليس العقل شيئا بعيدا عن الإنسان، ولذا فلابد الاّ يحاول معرفته الا بكشف ذاتي وتنبه ذاتي. ومن هنا فإنه يُذكِّر البشر بأن العقل ذلك النور الذي يجده كل عاقل في نفسه بعد ان لم يكن، وحين يجده يشرع بمعرفة الحسن والقبح والخير والشر.. الخ. وربما يفقد الإنسان عقله في سورة الغضب فيرتكب عملا فإذا أفاق لام نفسه، وتحسر عما فعلت.. هكذا توجيه إلى الداخل، عودة إلى الذات، عودة إلى الشعور.

إن الكشف الذاتي الذي يملكه العقل، نابع من أن كل شيء ظاهر بسببه، فكل ما هو منكشف للبشر وظاهر ، له آية من آيات وجوده. ومن هنا كان على الإنسان الغافل عن عقله أن يستثير أكبر كمية ممكنة من معارفه، ليجد انه لم يكن يحيط بها لولا وجود طاقة لديه تكشف الحقائق وهي (العقل). ولهذا فإن التوجيه إلى آثار العقل وآياته هو الدليل القريب إلى حقيقته وإذا وجده الإنسان وعرف حقيقته وميزه عن الجهل، وفرق بين أحكامه الصائبة وخيالات النفس، وأخيرا إذا استيقظ العقل داخل الذات بالتذكرة به والتوجيه إليه استطاع الإنسان أن يسكن إلى نفسه ويثق بفكره ويهتدي إلى السبيل إلى كل علم وكل خير.

هذا هو المنهج الإسلامي الفريد.. ويتخلص في ثلاث نقاط:

1- التذكرة بأن معرفة العقل بداية كل معرفة ومنطلق كل بحث.

2- التذكرة بأن معرفة العقل لن تكون الا بالعقل ذاته، أو بآثاره وآياته وذلك بمقارنة حالتي وجوده وعدمه ببعضهما.

3- التذكرة بأن وجدان العقل، هو الطريق إلى وجدان الحقيقة وتميزها عن الباطل. من هنا نجد النصوص الإسلامية تتظافر بالتذكرة إلى العقل في محاولة لا يقاظه داخل النفس ووجدان الحقائق به. جاء في الحديث:

· قال الامام الصادق عليه السلام : إذا أردت أن تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدثة في خلال حديثك بما لا يكون، فإن أنكره فهو عاقل وان صدقه فهو أحمق[5]. هذه تذكرة إلى آيات العقل وإلفات النظر إلى أثر من آثار العقل، وهي معرفة المستحيل وإنكاره رأسا.

· وسئل الحسن بن علي عليهما السلام فقيل له ما العقل؟ قال: التجرع للغصة حتى تنال الفرصة[6] ..

هذه آية أخرى من آيات العقل يكتشف بها الإنسان وجوده.

· وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صفة العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه، ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق من فوقه في طلب البر، وإذا أراد أن يتكلم تدبر، فإن كان خيرا تكلم فغنم، وان كان شرا سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة إستعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهزها لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص. فتلك عشر خصال يُعرف بها العاقل[7].

هكذا تتظافر النصوص الإسلامية على بيان آيات العقل وآثاره لكي تكون تذكرة إليه ويقظة له من الداخل، لانه ليس هناك أي حقيقة يمكنها ان تكشف العقل لنا دون العقل ذاته، والعقل لا يمكن معرفته الا بالتذكرة إلى آثاره..

بين العقل والعلم

وحيث يتعرف الإنسان على العقل يستطيع أن يميز العلم عن الخيال. فالعقل يحكم بإستحالة التناقض والتضاد، وقبح الشر والظلم، وبصحة محسوسات الجوارح، وانه يقدر على أن يرد كل حادث إلى سببه وكل هاجس ـ في النفس ـ إلى علته، يقدر على تمييز كل فكرة صحيحة عن الخاطئة بعد التأكد من سببها، وهو يحكم بأنه لو انكشف الواقع أمام الإنسان انكشافاً واضحا، بحيث لا يمكن للنفس التشكيك فيه ،فلا يكون ذلك الا علما صحيحا، وأما لو أحب المرء أن يعتقد بفكرة لمصلحة أو هوى في نفسه فلا يمكن أن تكون تلك الفكرة الا باطلة.

فمثلا: قد تهجم على شاشة النفس تصورات متفاوتة من واقع واحد، فيرى المرء أن جاره رجل طيب، ثم يرى في الوقت ذاته أنه شرير، ويرى أن القيام بأذاه قبيح ولكنه في ذات اللحظة يتراءى له انه عمل شريف وواجب.. هنا تتداخل التصورات وتتوتر النفس، ويحتار الإنسان فيتدخل العقل ليبرز العلم الصحيح، ذلك الذي يكشف فعلا عن الواقع الخارجي ويميزه عن الخيال، فيقول محللا بأناة: كيف عرفت أن جاري رجل طيب؟ أبقول الناس أم بقياس أعماله، أم بطيبة أبيه؟؟ فإذا وجد أن ما دعاه إلى تصور الجار رجلا طيبا كان قول الناس ـ مثلا ـ إذا وجد ذلك وقف ليوجه إلى نفسه سؤالاً ثانيا: هل يمكن للناس أن يكذبوا وليست لديهم أية مصلحة في القول بصلاح جاره؟ فيحكم ويقول كلا.. ثم يحاول التعرف على السبب الذي دعاه إلى تصوره رجلا خبيثا، فيجد أن جاره طالبه بحقه الذي لا يمكنه الا الاعتراف به، وهنا يعلم أن السبب في هذا التصور المشوه عن جاره الطيب يكمن في مصلحته وهواه الذاتي، والعقل يحكم بأنه لا يمكن أن يكون هذا دليلا على أنه رجل شرير.. بهذا يفرق بين تصور خاطئ وتصور صحيح، والأمر لا يعدو أن يجري خلال لحظة واحدة الا انه ينطوي على مجموعة أحكام عقلية صائبة.

وهكذا يميز العقل بين حسٍّ باطل وحسٍّ صحيح.. فحين يصاب المرء بالدوار ويزعم أن الكون يدور من حوله، لا يشك العقل في أن حسه باطل لأنه يخالف سائر أحاسيسه من جهة وأحاسيس سائر الناس من جهة ثانية. وحين يغمس يدين في ماء واحد، فتحس أحداهما بأن الماء حار والثانية بأنه بارد، فإن العقل لا يتردد أن يحكم فورا بأن اليد تتأثر بحالتها السابقة، فحيث كانت احدى اليدين في الماء الحار-سابقا- شعرت بأن هذا الماء بارد، وحيث كانت الأخرى – سابقا - في الماء البارد شعرت بأن هذا الماء حار. والماء على هذا ماء فاتر، فهو بالنسبة إلى الحار بارد، وبالنسبة إلى البارد حار. وحين نسمع أخبارا متناقضة، فالعقل يحكم بأنها لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة، بل يبحث عما ينبغي أن يطمئن إليه، ولذلك يقوم بتحليل الدوافع التي دعت أصحابها لنقل الأخبار المتناقضة، لأن العقل يحكم بأن وراء كل عمل دافعا نفسيا معينا، فإذا وجد ان دافع أحد ناقلي الأخبار سليم، حكم بصحة خبره. ومعرفة الدافع أيضا تدور على محور أحكام عقلية، فلا يمكن أن يكون دافع الرجل الصالح، الذي عُرِفَ منه الصدق والوفاء والأمانة والتضحية والشجاعة والشهامة و.. و.. الا دافعا سليما. ولا يمكن أن يكون دافع من يكون الخبر ضد مصلحته واعترافا منه على نفسه الا دافعا سليما و.. و..

هكذا يصبح العقل امام العلم حسبما جاء في حكمة رشيدة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال فيها: (نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة الا بالطاعة. والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم الا من عالم رباني ومعرفة العالم بالعقل[8])… وفي حكمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء[9])… أليست الأفكار فوضى لا تقيد الا بهدى العقل، وبمسبقاته الصائبة؟ أو ليست القلوب ـ أي النفوس ـ لا يمكنها أن تهتدي بدون الأفكار الصائبة، واذا كانت الحواس تعمل وفق إرادة الإنسان فإن إرادة الإنسان نابعة من نفسه ـ أي قلبه ـ فتكون القلوب إذن أئمة الحواس وهداتها.

العقل وتقييم الأفكار..

ملاحظات أولية

1- إن أول ما نستكشفه لدى السير في ضوء المنهج الجديد، هو أن للإنسان نورا يستطيع به تقييم أفكاره. وهذا ما يفرقنا عن الحسيين والتجريبيين الذين رفضوا الاعتراف بوجود مسبقات ثابتة تقيِّم بها النفس أفكارها المختلفة.

2- الأحكام العقلية لا تكون موجودة عند الإنسان منذ ولادته. قال الله سبحانه: [والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا[10]] والآية لا تعدو أن تكون تنبيها إلى واقع العقل والعلم، وانهما هما النوران الكاشفان اللذان لم يكن أحد منا يملكهما حينما أخرج من بطن أمه، ثم أصبح الآن يملكهما. فلابد إذا أن يعترف أنهما من الله، لانه لو كان من نفسه إذا لكان لديه منذ الطفولة. وليست الآية تنفي وجود نور في النفس بصورة مجردة عن المادة المحسوسة، فهي لا تتنافى مع وجداننا هذا النور بصورة فجائية عند البلوغ. ذلك لأنه حسب النظرة الإسلامية انما يوهب العقل للنفس بعد البلوغ حيث يقوم الإنسان بالحكم على الأعمال والأفكار بالصحة والفساد، وهي الحالة التي ترافق التمذهب عند الأفراد أيضا.. وجاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا بلغ المولود حد الرجال أو حد النساء، كشف ذلك الستر، فيقع في قلب هذا الإنسان نور، فيفهم الفريضة والسنة والجيد والرديء. ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت[11]).

وليست هذه الأحكام العقلية حسبما تظهر لمن تذكر بها، ليست بمختصة بما يحتاج إليه الإنسان في حياته العملية من نقد الأفكار المتناقضة التي تستقبلها أجهزة الإحساس وتبتدعها تصورات النفس. بل ان العقل يهدي النفس إلى كل حسن وكل قبح وكل محال وكل ممكن ومن كل المستويات، على مستوى الأعمال الشخصية، وعلى مستوى الأعمال الاجتماعية، وعلى مستوى الكون أيضا حيث يهدي البشر إلى الحقيقة الكبرى في الكون؛ حقيقة الخلق والتقدير وتتجه به إلى الإيمان بالله الخالق المدبر، ذلك لأن هذه الحقائق كلها في صف واحد، والعقل هو العقل. فمثلا حين يبصر العقل حسن الخير وقبح الشر، فلن يفرق في رؤيته هذه بين الخير الضئيل والخير الجليل، والشر القليل والشر المستطير، لأن كله ينطوي على طبيعة الخير وطبيعة الشر. وحين يرى الإنسان بعقله ان فاعل الخير يُشكر، فلن يفرق بين أن يكون فاعل الخير العبد أم المعبود.. ان واجب الشكر يشمل كلا منهما بذات الرؤية الواحدة والحكم الواحد.

والخلاصة: ان العقل يكشف الحقيقة. وكما ان الكبير حقيقة، فالصغير أيضا حقيقة، تماما كما تبصر العين المرئيات، ولا فرق فيها بين أن تكون صغيرة أو كبيرة.

وبهذا تتبين ان النظرة الإسلامية حول العقل نابعة من إعطائه الثقة الكاملة في كشف الحقائق الغيبية، خلافا لتلك النظريات التي تحدد العقل بالشؤون المادية وتنتزع منه حق الحكم في الأمور الغيبية، وتجعل الدين هو الحاكم المطلق في تلك الحقائق. ومن هنا جاء في الحديث: عن الامام الصادق عليه السلام : (من كان عاقلاً كان له دين[12] ) و عن الامام علي عليه السلام : (لا دين لمن لا عقل له[13] ) .. وخلافا أيضا للحسيين والتجريبيين الذين حددوا العقل بحدود المادة المحسوسة.. إذ ليست الأحكام العقلية حسب هذه الرؤية نابعة من مقتضيات التجربة الخاصة أو الحس المادي حتى تختص بالعالم المحسوس، بل انها نابعة من النور الذي يجد الإنسان كل شيء به، حتى ان التجربة ذاتها والحس نفسه لن يفيدان شيئا دون وجود ذلك النور حسبما يأتي تفصيل القول فيه بإذن الله.

بين العقل والسابقيات العلمية

وللعلم : إن السابقيات الفكرية التي تملكها النفس البشرية، مثل: العلم بإستحالة التناقض والصدفة، وقبح الظلم والشر، وإمكان الخلق والإبداع، وحسن العدل والخير.. ان هذه السابقيات ليست ذاتها العقل، بل انها حقائق يكشفها نور العقل للنفس كما يكشف ضوء الشمس ألوان الحقول.. وكان خطأ الإنسان الأكبر غفلته عن مصدر النور وتوجهه إلى الأحكام زاعما أنها هي حقيقة النور، فراح يبحث عن مصدر يقيِّم بها تلك الأحكام. ولو كان الإنسان قد تذكر بأن الذي يساعده على البحث ليس الا هذا النور، وانه لو افتقده أصبح كالمجنون والنائم حيث لا يفهمان أمرا ولا يعلمان شيئا، وانه أشبه شيء بنور الإرادة ونور الحرية الذين تملكهما النفس البشرية، وتملك بهما القدرة على الاختيار وهي بذاتها قدرة ذاتية لا تعلل.. أقول لو فعل الإنسان ذلك إذا لتخلص عن سلسلة لا تنتهي من المشاكل العلمية التي أحاطت بنظرية المعرفة. ذلك لأنه حينذاك يجد ان البحث عنه ـ كما سلف ـ ضرب من الإسراف والترف الفكري. إذ ما من بحث الا وهو يؤكد على وجود قوة للإنسان تساعده على البحث، وهي بالتالي تنير طريقه إلى الحقيقة، وتلك القوة هي العقل، وهو نور مقدس عن الإحاطة به من لدن الذات.. من هنا كانت عملية (كانت) النقدية التي سيأتي التفصيل عنها إن شاء الله، ـ والتي استهدفت نقد العقل ـ كانت عملية موغلة في الجهل إذ ان الغفلة عن نور العقل، ذلك النور الذي لم يستطع (كانت) ذاته القيام بعملية النقد بدون وجوده لديه، ان الغفلة عنه فقط كان السبب في التوجه إلى السابقيات الذهنية، كتصور الزمان والمكان والعلة و.. و.. لينقدها وينتهي بالتالي إلى نظرية النسبية ومنطقه الوضعي. ولو ان (كانت) كان يتذكر بوجود نور يجعله يقيم الأشياء ويعتمد على تقييمه هذا، وان ذلك النور هو الذي يكشف له عن الزمان والمكان والعلة والسبب، إذا لنقد الأشياء به، ولم يزعم انه استطاع نقده هو، غافلا عن ان العقل لا يمكن الإحاطة به فكيف يتاح له نقده، وبأي شيء ينقد الإنسان عقله؟ أبعقله ام بجهله؟ والعقل لا يشكك في ذاته والجهل لا يمكنه نقد العقل..

ومن هنا أيضا أصاب (ديكارت) دوار عنيف في مسيرته عبر العقول إذ انه شكك نفسه في معلوماته النظرية. وحين زعم انه تخلص منها قام ليبني صرح العلم على قواعد جديدة فلم ير تحت رجليه حجرا ثابتا، وجر إليه إنتقادات كبيرة من لدن معارضيه من الحسيين. ورغم ان (ديكارت) عقلي التفكير فإنه أيضا مخطئ في منهجه، وينشأ خطئه من أمرين:

الأول: تشكيكه في أن تكون سابقياته الفطرية ناشئة من النفس أو من قوة شيطانية داخلها. ولم يعلم ان تشكيكه انما هو في التصورات الغامضة التي لم تتنور بعلم الإنسان. أما الحقائق الواضحة التي أحاط به علم البشر فلم يمكن التشكيك فيها أبدا. ولهذا عاد (ديكارت) نفسه فاعترف بالنفس، وعلل إعترافه بأنه يجدها ظاهرة مميزة أمامه بحيث لا يمكنه الا الإعتراف بها.

الثاني: غفلته عن حقيقة النور الذي كان معه في لحظة تشكيكه في العقل، وإلا فكيف استطاع أن يبلغ بالتشكيك مرحلة متقدمة منه بترتيب النتائج على الأسباب. كيف استطاع ان يقول: يمكن ان يكون هناك شيطان مضلل للفكر؟.. مع أن علمه بإستلزام سبب للأفكار الخاطئة انما هو ناشيء من حكم عقلي مسبق وهو: (لا بدية السبب لكل شيء) وان علمه بأن الشيطان يقوم بالإضلال، يقوم على أساس وجود ضلالة وهداية، وقبح الضلالة وحسن الهداية. وكل هذه الأحكام عقلية. وكان مثل (ديكارت) في ذلك مثل الذي يشكك في وجود الشمس ثم يرينا الحقول والواحات المضاءة بالشمس ويقول لو كانت الشمس موجودة لما كانت لها ظلال وارفة. ان مجرد رؤية الحقول والواحات دليل على وجود الشمس، وان ذات الظلال الوارفة لهي دليل على وجودها. فكيف يستدل بهما على عدم وجود الشمس؟ وهكذا القدرة على التشكيك نوع من إثبات نور العقل.

والواقع: إن (ديكارت) لم يحاول التشكيك في عقله، انما شكك في ركام الجهل الذي تجمع فوق النفس البشرية وزعم الإنسان انها علم وعقل. لذلك فإن تصوره للعقل يختلف عن العقل الذي أرشد إليه الدين، فإنه زعم ان العقل انما هو كل ما في النفس البشرية من تصورات، أما الإسلام فيرى ان التصورات ليست الا معقولات يكتشفها نور العقل وينقدها.

فمرة أخرى رأينا كيف اضطربت وتناقضت مقاييس البشر حين زعمت ان المسبقات ذاتها العقل، بينما العقل هو: ما ينور للنفس تلك المسبقات العلمية.

خصائص الأحكام العقلية

وحين نتذكر العقل ونكتشف أن حقيقته نور مقدس عن إحاطة الأذهان وانه الذي يكشف لنا الحقائق الأخرى بصورة ذاتية وغير ممكنة التعليل، حينذاك نجد ان الأحكام العقلية تتميز:

1- بأنها ثابتة جازمة لا تقبل الريب إذ ان ذاتها الكشف، والكشف يعني ملامسة الواقع وشهوده. فكيف يجد الانسان الواقع ثم يشكك فيه؟ ومن هنا فإن الحكم بقبح الظلم وحسن التضحية وجمال الآداب ليست أحكاما تقبل الريب، والذي يرتاب فيها يحاول الفرار عنها بتغيير موضوعاتها بحيث تصبح الأحكام ليست هي التي تغيرت بل موضوعاتها فقط تبدلت، فمثلا: الذي يقول: ان الظلم حسن يغير معنى الظلم حتى يجعله يساوي معنى العدل ثم يقول بأنه حسن.

2- وأن أحكام العقل شاملة لا تخصص، فإذا كانت الرذيلة قبيحة فليس هناك فرق ان تكون صادرة من كبير أو صغير، وفي أي عصر وأي زمان. واذا كانت الحادثة بحاجة إلى علة محدثة وسبب موجد، فلا فرق بين ان تكون الحادثة رمي كرة القدم أم وجود كرة الأرض. واذا كانت الصدفة محالة في وجود ساعة يد، فإنها محالة أيضا في صنع مخ الإنسان. وإذا كانت معادلة 5×5=25 صحيحة، فلا فرق ان تكون في أي وقت وأي مكان.

3- ان أحكام العقل تتفق عليها عقول البشر، فالعقل هو العقل في أي رأس عاش وفي أي مخ سكن. وما هي فضيلة أو رذيلة هنا فهي في كل مكان ولدى كل إنسان فضيلة أو رذيلة، ولذلك كانت الحجة بين العباد العقل ـ حسبما جاء في الحديث[14] ـ فلنذهب انى شئنا فسوف لا نجد الفضيلة في الخيانة والنفاق وبيع الأوطان وايثار النفس على الآخرين.. وسوف لا نجد معاني التضحية والفداء والشجاعة والإباء من معاني الرذيلة. ومن هنا فإن الامم تتبارى بهذه القيم، وتجعل منها مقياسا يحتجون به وينتهون إليه، وترتكز أجهزة إعلامهم على الإدعاء بأنهم يمثلون الفضيلة والعدل وأن أعداءهم يمثلون الزيف والباطل. وهكذا أصبح العقل حجة بين الأفراد ومقياسا لكل أحكامهم، فلا يمكن مثلا أن نتصور رجلا عاقلا في الأرض يحكم عقله بإمكان الصدفة أو صحة التناقض (تواجد الوجود والعدم في لحظة) والتشكيك في وجود الذات و.. و..

4- ان أحكام العقل لا تتطور حسب تطور الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفسيولوجية وما أشبه، لأنها تكشف عن الحقائق الخارجية. تماما كما لا تتغير المرآة وهي تعكس صور الحياة الناشطة الحركات.. وهنا تختلف الرؤية الإسلامية في المعرفة عن النظريات الذاتية والديالكتيكية التي سنتناولها بالبحث بإذن الله. ذلك ان تلك النظريات حسبت العقل وليدة لنفس المادة المتطورة، فادعت انها تتطور أيضا. ولم تستطع تلك الفلسفات اكتشاف حقيقة العقل التي لا تعدو ان تكون طاقة من نور زودت بها النفس للكشف عن الحقائق بصورة مباشرة. ولذلك فإن حكمه مشهود متيقن ثابت وان أي حكم يتغير أو يتصور فيه التغيير لهو ليس بحكم العقل ومن هنا لا يمكن القول: بأن 2×2=4 انما هو صحيح اليوم ويمكن ان يتطور غدا حسب تطور الاوضاع السياسية فيصبح 2×2=5 إذ هذا القول مضحك بذاته لدى كل نفس عاقلة. وأيضا كان الزعم بأن القول ( أن الحادث بحاجة إلى سبب ) صحيح اليوم أما غدا فحيث يحكم البلاد نظم جديدة في الاقتصاد، فإن الحادث يمكن ان يحدث بلا سبب، كان هذا الزعم قولا مرفوضا بذاته، وهكذا.

ان هذه الميزات الأربعة تبعد عن مجال حكم العقل ركام التصورات التي حسبها الجاهلون عقلا، فخلطوا بها أحكام العقل الصحيحة، ووقعوا في فوضى لا نهاية لها.

خلاصة القول:

1- ان للعقل أحكاما سابقة ـ لم تجرب ـ تكون مقياسا للإنسان في معرفة الفكر الصحيح.

2- وبالرغم من أن هذه الأحكام لم تلد مع الإنسان فإنها ليست أيضا وليدة تطور ذاتي له، أو مؤثرات مادية فيه، بل انما هي موهوبة له في فترة البلوغ.

3- وان الأحكام ليست ذات العقل، بل العقل هو الذي يكتشف تلك الأحكام للذات، وقد نتج من الجهل بهذه الحقيقة ان أخذ (كانت) و(ديكارت) وكثيرون آخرون أخذوا ينقدون الأفكار النفسية ظنا منهم أنهم ينقدون العقل وقد كانوا محتاجين إلى نور العقل في كل خطوة خطوة من نقدهم هذا. ولذا فإن نقدهم لتلك الأفكار، كان اعترافا منهم بصحة العقل.

4- ان للأحكام العقلية أربعة ميزات؛ انها جازمة لا ريب فيها، وشاملة لا تقييد فيها، وواحدة عند كل عاقل، وثابتة لا تطور فيها. وسنرى بإذن الله كيف تكون هذه الخصائص بعض القيم التي يستند اليها النفس في نقد أفكارها.

العقل ومصادر الفكرة

بعد ان يجد الإنسان موقع قدم ثابت يستقيم عليه وهو تذكرة العقل، يشرع في بناء صرح معرفته على أسس رصينة متماسكة متوازنة، وأول ما يقوم به الفرد اعتمادا على عقله في هذا المجال هو عملية جرد الأفكار، وهي تنطلق من القاعدة التالية: إذا كانت الحادثة بحاجة إلى المصدر، فكل فكرة حادثة بحاجة هي الأخرى إلى المصدر؟ فما هي مصدر الفكرة الحادثة؟

وبكشف ذاتي للأفكار، يصنف العقل مصدرها في ثلاثة أنواع:

1- العقل ذاته، أو بتعبير أدق الأحكام العقلية والمسبقات الفكرية.

2- النفس وما تنطوي عليه من هوى وجهل.

3- الحس بألوانه المختلفة.

وفيما يلي نقوم بالبحث عن كل واحد من هذه الأنواع وكيفية نقد العقل لها، لكي نتعرف على العلاقة الوثيقة بين العقل والعلم.

يمكن للإنسان تجنب الخطأ إذا التفت إلى عقله وميزه عما قد يلصق به من الجهل والضلالة.

ألف: الفكرة و عقل الانسان

في البدء لابد أن نثبت ملاحظة عن معنى الفكرة وانها تعني هاجسة النفس، وهي لا تعدو أن تكون استعادة لمحفوظات أو معلومات سابقة. وبالتالي فهي من عمل النفس ونحن انما نريد هذا المفهوم حينما نعبر هنا بالفكرة، لكي نستطيع أن نميزها عن حكم العقل. ان حكم العقل يعني كشف الذات للواقع الخارجي كشفا واضحا شاملا وثابتا. والفكرة لا يجب ان تكون دائما واضحة شاملة ثابتة، بل قد تكون كذلك وقد لا تكون، والسبب في ذلك ان الفكرة من عمل النفس، وتكون خاضعة لإرادة الإنسان، فهي بحاجة إلى (الإنضباط المنهجي) حتى تكون صحيحة صائبة، وإلاّ تأثرت بالمؤثرات المادية كما تتأثر إرادة الإنسان بها. وبتعبير آخر؛ بما أن الفكرة عمل من أعمال النفس البشرية، وبما أن كل عمل بحاجة إلى الإرادة، فإن الفكرة خاضعة لإرادة الإنسان، وأي ميوعة في إرادة الإنسان تعني عدم توجيه الفكرة وبالتالي عدم صحتها. و السؤال : كيف تصدر الفكرة عن العقل؟ الجواب: ان النفس قد تستغل الأحكام العقلية في استخراج أحكام أخرى، فإذا كان هذا الاستغلال موضوعيا كانت تلك الأفكار المستخرجة مثل حكم العقل تماما واضحة شاملة ثابتة، وإلاّ تعرضت للخطأ.. فمثلا قد نستخرج الفكرة التالية من حكم العقل: (الشيء لا يمكن أن يخلق ذاته) ونستطيع أن ندلل عليها بإستحالة التناقض إذ يجب أن يكون الشيء موجودا قبل وجوده وهذا يعني أن يكون موجودا وغير موجود في لحظة واحدة. وبتعبير آخر؛ كيف يمكن أن يخلق العدم شيئا، مع ان الخلق عمل والعمل لا يصدر الا من شيء موجود؟ فإذاً: الشيء لا يمكن أن يخلق ذاته.

ففي مثل هذا النوع من الأفكار لا تكون عملية التفكير الا إستجلاء للمعلومات السابقة، واستيضاحا للأحكام العقلية الموجودة. وحسب تعبير بعض المفكرين: ان التفكير المعتمد على المعلومات العقلية السابقة ان هو الا فض الفكر ذاته.. ولهذا جاء في الحديث المروي عن الصادق عليه السلام: (كثرة النظر في العلم يفتح العقل[15]).. فالعقل إذا موجود ولكنه منغلق ويحتاج إلى عملية الفض. وعملية فض العقل، وفتح نوافذه على العالم على نوعين:

1- قد يكون الإنسان غافلا تماماً عن نور عقله متوجها إلى معلوماته، باحثا فيها عن الحقيقة دون الرجوع إلى عقله والإستضاءة به، ويكون مثله كمن يغفل عن الشمس وينشغل بالموجودات المضاءة بها. وهنا يحتاج الإنسان إلى من ينبهه إلى ضلالته عن النور الذي يملكه هو لاكتشاف الحقيقة، ويقوم فعلا باكتشاف بعض الحقائق به. ولقد ابتعث الله الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لكي يذكروا البشر بما يملكه من نور العقل، وان يقولوا للإنسان: ارجع إلى نفسك وعد إلى عقلك لتجد فيه الحل السريع لكل مشاكلك. إذ أن الإنسان لا يمكنه تذكّر عقله مع انه أقرب الحقائق إلى نفسه، لا يمكنه ذلك وهو يسترسل في طريق الهبوط مع طبيعته الجاهلة الضالة ويزعم بأن المعلومات المضاءة بنور العلم والعقل هي حقيقتهما! ان هذا الإنسان لا يمكنه أن يتنبه إلى عقله الا بهاد مؤيد بالغيب يهز فيه الفكر، ويوقظ بداخله العقل. وهذا أولى وأسمى آيات رسالة كل رسول، والتي يلخصها الإمام أمير المؤمنين بالقول: (فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم انبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته...و يثيروا لهم دفائن العقول[16]..).

وهكذا ينعت القرآن ـ وهو جملة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ـ ينعت القرآن نفسه بأنه تذكرة فيقول: [طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى](طه 1-3). ويجعل غاية التذكرة عودة الإنسان إلى عقله فيقول: [لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](الأنبياء 10) ويجعل آياته نورا، لانه يهدي الإنسان إلى العقل الذي يكشف له الحقائق الكبيرة في العالم، ويجعله مقياسا ثابتا ومبينا لانه يضع للإنسان منهجا فريدا للمعرفة ويجعله هاديا إلى سبل السلام، وناقلا للإنسان من ظلمات الجهل حيث يغفل الإنسان عن عقله ويتيه في الضلالات، فيقول سبحانه: [يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ](المائدة 15-16).. وهذا النوع من التذكرة وظيفة الهداة إلى الله الذين لا يريدون فرض عقيدة على الإنسان، بل انما يريدون توجيهه إلى الحقيقة ليراها بعقله، ولن يمكنهم ذلك دون إعادة إيمانه بعقله، واسترداد ثقته بتفكيره.

2- وقد تكون النفس واعية لما تملكه من نور العقل، ولكنها تتردد في بعض الموارد بسبب تشابه الموضوع على العقل ، فمثلا: لا ريب لدى النفس ان الظلم منكر عظيم، ولكنه قد يشك في أن سلب النملة رزقها ظلم ليكون منكرا، أم ليس بظلم فليس بمنكر.. وهذا بدوره على نوعين:

أ- إذ قد ينشأ هذا الريب من جهل البشر بطبيعة النملة ومدى ضرورة وجودها لحياة الإنسان. فلابد لكشف ذلك من التفكير المنهجي، والتذرع بالوسائل العلمية. وهنا يحكم العقل عليه بأن يتثبت ولا يعجل في الحكم، ذلك أن العجلة من الجهل، فالتسرع يجر إلى مجموعة كبيرة من الأخطاء. وقد جاء في النصوص القرآنية توجيه بالغ الوضوح إلى التثبت، فقال الله سبحانه: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً](الإسراء 36).. وبحكم العقل بضرورة التثبت الكامل قبل الحكم على أي شيء يحرز العاقل العلم الصحيح ولا يتورط في أخطاء التسرع، ولقد جاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام: (التثبت رأس العقل[17]).

ب- والقسم الثاني من تردد النفس في الأحكام العقلية، ينشأ من تناقض الحكم العقلي مع المصالح الآنية للإنسان. ولذلك يبدو الحكم الواضح غامضا بينما هو في الواقع ليس بغامض، انما يريد الإنسان أن يتصوره كذلك ليتخلص من مسؤولية الاعتراف به. فالرجل القوي الذي يعيش على حساب المستضعفين يحاول تبرير ظلمه بما يبعده عن توجيه نور العقل.

ان هذا النوع من التردد هو الذي يقضي على طائفة ضخمة من الأحكام الصائبة عند النفس البشرية. وعلى الإنسان أن يناضل مع ذاته أبدا ليبعده عن التأثر بالاهواء والشهوات، وقد جاء في الحديث: (زوال العقل بين دواعي الشهوة والغضب[18]). و(ذهاب العقل بين الهوى والشهوة[19]).. وسيتضح لدينا قريبا دور هوى النفس وشهواتها في طمس نور العقل، والذي قد يقضي على العقل كله، ويدع النفس في ظلمات ما فوقها ظلمات.

ومن كل ما سبق نكتشف الجواب الصحيح عن نوعية نقد العقل للأفكار الصادرة عن المسبقات العقلية، وكيف تتمكن الذات من الثقة بنوع منها بعد ان تكتشف زيف النوع الآخر.

ب: دور الهوى في تضليل الإنسان

والمصدر الثاني للفكرة هو ما بالنفس من الجهل والغفلة والركون إلى الشهوات.. وينبغي لنا ان نقدم عدة ملاحظات أولية لكي نعرف بوضوح تام كيف ينقد العقل الفكرة الصادرة عن المصدر الثاني (النفس).

1- بين العلم والحب

ان المعرفة هي النور الكاشف للحقيقة. ومعنى ذلك انها لا تتأثر بالواقع المادي، ولا تتطور حسب تطوره. ولقد قلنا آنفا: ان الأحكام العقلية جازمة شاملة ثابتة وواحدة عند كل العقلاء، وهي ـ بهذه الصفات ـ بعيدة عن التأثر بالواقع المادي. ولهذا تمثل المعرفة جانب القوة في النفس؛ أي جانب الكشف والاستجلاء، لا جانب الضعف الذي يتلخص في التأثر والتطور والاستسلام لمقتضيات الظروف. فالمعرفة تعطي الإنسان قوة كبيرة لإخضاع الظروف المحيطة به، وإنما قام الإنسان بإنجازاته الباهرة بعلمه.

والإنسان يشعر عندما يكشف الحقيقة انه أوتي قوة كبيرة.. وجاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام (خلق الله العقل من أربعة أشياء ، من العلم و القدرة و النور و المشية بالأمر[20] ..). وبالمقابل فإن للنفس البشرية جانبا آخر هو جانب التأثر والإنفعال، جانب الضعف والسلبية. انه جانب الهوى والشهوات، جانب الحب والرغبات. لأن هذا الجانب هو الذي يدع الإنسان يخضع للظروف ويتطور حسبها.

ذلك لأنه متى ما أحب الإنسان شيئا تأثر به بقدر حبه له، ووجب عليه ان يعطي من ذاته تنازلاً له.

إذن، فإن طبيعة الحب تختلف عن المعرفة، لانهما يمثلان جانبين مختلفين في النفس. صحيح ان الإنسان لا يقدر على تمييز ذلك في كل وقت، وصحيح أن ذلك بحاجة إلى أنواع من التجرد الموضوعي والنقد الذاتي، كما انه بحاجة إلى التفكر الممنهج. إلا أنه لدى ممارسة التمييز فترة طويلة يسهل ذلك على النفس حتى يبدو العلم والحب بعيدين عن أحدهما، مميزين عن بعضهما.. وفي الأمثال التالية بعض الفوارق العملية التي تعتبر نوعا من التجربة الذاتية في حقل التمييز بين الحب والعقل:

أ- تفترق المعرفة عن الحب في اننا نحب كثيرا من الأشياء ونعلم انها غير موجودة فعلا. اننا نحب الخلود حتى انه قد يطغى علينا هذا الحب فينسينا العلم بالموت، ونعمل كما اننا نعلم بالخلود. واننا نحب السيطرة ونعمل في كثير من الحالات مدفوعين بهذا الحب، بل زاعمين اننا نملك السيطرة فعلا، ولكن العلم الحقيقي يكشف لنا خلاف هذا الواقع.

ب- وتفترق المعرفة عن الحب أيضا حينما نحب ان تكون كل معارفنا صحيحة وكل عقائدنا موافقة للحق. بيد انا نواجه في كثير من الأوقات حقائق تكرهنا على إعاة النظر في معارفنا وعقائدنا والإعتراف بخطأها كليا أو جزئيا.

ج- وتفترق مرة ثالثة المعرفة عن الحب، عندما نحب ان تكون كل أمم الأرض تخدم مصالحنا الخاصة. في حين نعلم أن طائفة كبيرة منها تخالفها تماما!..

إن هذه الأمثلة توضح الفارق الكبير بين الحب والمعرفة، إلا أنه رغم وجود هذا الفارق يواجه الفرد غموضا بالغا في التمييز بينهما. فمثلا حين يحب الإنسان ذاته يخادع نفسه عن نقائصها، ويحاول ايجاد تبريرات لأخطائها ويريد ان يوقع مسؤولية ما تصدر عنها على الآخرين. وحين يحب المرء أبناءه يغمض عينا عن كل ما فيهم من سيئات حتى يصبحوا مجموعة حسنات في عينيه!.. وهكذا حينما يحب الإنسان مبدأ يركز نظره إلى محاسنه حتى يحذف دور عقله كليا في نقد المبدأ أو حتى في تطويره وينقلب إلى إنسان ممسوخ.. ونعرف من ذلك كله: ان الإنسان يستطيع ان يميز الفكرة النابعة من كشف الواقع، والفكرة النابعة من حب النفس وهواها. لأن الأولى تمثل جانب القوة والثانية جانب الضعف في الإنسان.

2- بين العقل والإرادة

ان العقل بمثابة مصباح منير تملكه النفس البشرية وتنصرف فيه لرؤية الحقائق وكشفها؛ متى ما تريد وكيف ما تريد؟ فإذا لم يرد الإنسان رؤية جمال العدل، وحسن الآداب، واستحالة التناقض. يمكنه الا يعرف ذلك فعلا، بأن لا يستعمل المصباح الذي أوتيه أو يدسه تحت التراب.

وهذه حقيقة قد تخفى علينا، إلاّ أن من المؤكد عمليا اننا لسنا في كل لحظة نعلم جميع أحكام العقل. وإننا في أي لحظة نريد التعرف عليها فهي لا تعصى علينا. وهذه حجة كافية على ان العقل يدخل ضمن حرية الفرد واختياره فيستخدمه حينا لمعرفة الحقائق ويدعه عاطلا حينا آخر..

ألست ترى انك قادر في كل لحظة وفي كل مكان ان تفكر فيما حولك من الأشياء والأشخاص بصورة منهجية، وتستعمل في تفكيرك مقاييسك العقلية الثابتة؟ كما ان بإمكانك ان تتوجه إلى أمور أخرى ولا تفكر منهجيا وعقلانيا في أي شيء.. نعم، إن هناك لحظات لا يمكننا إلا أن نعرف أحكام العقل، كتلك اللحظات التي نقع فيها تحت تأثير موجِّه روحي قوي، أو نشاهد تجربة عملية حادة. الا اننا سرعان ما نعود إلى حالتنا السابقة حيث يخضع العقل لتصرفنا وإرادتنا من جديد.

3- الإرادة تقرر المصير

ان إرادة الإنسان قد تتجه بمحض حريته نحو الخير والحق والخلق الرفيع، وقد تتجه نحو الذات والمصلحة والسجايا السيئة. ومن هنا تأتي حرية الإنسان التامة في اختيار طريقه في الحياة. قال الله سبحانه [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً](الإنسان 3) .

والله سبحانه لم يشأ أن يفرض على البشر إتجاها خاصا إكراما وتفضيلا له، بل أتاح له كل الفرص لكي يختار بذاته ما يشاء. وجاء في الحديث في سياق قصة آدم وحواء حين اختارت الأخيرة الأكل من الشجرة المنهية عنها، فأرادت الملائكة أن تمنعها عنها بحرابها، فأوحى الله تعالى إليهم : (انما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره. فأما من جعلته ممكّناً مميزا مختارا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجة عليه، فإن اطاع استحق ثوابي، وإن عصى وخالف امري استحق عقابي وجزائي.) فتركوها[21].

4- النفس البشرية والقدرة على التمويه

وللنفس البشرية مقدرة تمويهية كبيرة، تقوم بتهدئة النفس وتسكينها حين تهجم عليها المصائب. إن هذه القوة تحاول التخفيف عن النفس بما يدعى في علم النفس (بأحلام اليقظة) فتسليها بآمال مستحيلة وأماني غير ممكنة الوقوع! وحين يحب الإنسان شيئا حبا جما تحاول هذه الطاقة تبرير كل الوسائل المؤدية إليه، حتى تخترع النفس معلومات ليست واقعية، أو تفسير المعلومات التي لا تلائم بلوغ ما أحب بما يلائمها، وهكذا.. ويدعى هذا العمل في منطق القرآن (بالتسول[22]) وليس منا من لم تراوده حالات التسول أو أحلام اليقظة بين فترة وأخرى. فما يحب الإنسان شيئا الا وتقوم هذه القوة بنسج أساطير غير صحيحة لتبرير ما يحب.

ولكن لا يعني كل هذا ان اشعاع العقل ينحسر عن مجال الذات في هذه الحالات، بل انما النفس لا تستخدم هذا الاشعاع عندها، إذ ان بقدرة النفس توجيه نور العقل بعيدا عن الذات حتى لا يكشف الخبايا البعيدة فيها ويقضي على الأساطير المبتدعة..

بعد هذه الملاحظات نعرف ان الحب قد يكون مصدراً للفكرة بفعل ما سميناه بعملية التسول، الا ان الإنسان لا يضطر إلى الإنسياق مع هواه بل هو حر في اختيار طريقه. وهذه الحرية تحكم جميع قوى الإنسان والتي منها قوة الكشف عن الواقع (أي العقل) التي تتصرف النفس فيها متى شاءت وقد تتغافل عنها نهائيا، وبقدرة هذا النور يمكن كشف مصدر الفكرة هل هو العلم ام الحب؟

العقل يفضح الشهوات

بعد هذه الملاحظات التمهيدية التي سرعان ما يجد كل منا مثالا حيا منها في حالاته الخاصة نستطيع أن نضع أيدينا على رأس الخيط لعملية نقد الأفكار الذاتية، والتي تتلخص في توجيه ثلاثة أسئلة إلى النفس في محاولة لجرد الحقائق فيها عن الأهواء:

1- هل أحب الاعتقاد بهذه الفكرة؟ فلو لم تكن هذه الفكرة راسخة لدي منذ الطفولة، أو لم تكن تخدم مصلحة لي.. فهل كنت أعتقد بها؟

2- ما هي الأسباب التي حملتني على الاعتقاد بهذه الفكرة، وهل لو كانت هناك فكرة مشابهة لها في تلك الأسباب كنت أيضا أعتقد بها؟

3- هل ان الناس كلهم يرون مثل ما أرى؟ دعني أجعل نفسي مكانهم وأتصور ما إذا كانوا فعلا يعتقدون بما اعتقدت به وهم يعيشون في ظروف مختلفة..

وفي المثال التالي يتضح كيفية توجيه الأسئلة الثلاثة إلى النفس وكيفية استخلاص النتائج الصحيحة عنها:

رجل يعتقد بالثالوث المقدس ـ الأب والإبن وروح القدس ـ آلهة جميعا، يتنبه في لحظة حاسمة، فيوجه السؤال الأول إلى ذاته: إنني الآن اعتقد بتعدد الآلهة. حسنا. هل أحب الاعتقاد بها؟ لافترض اني كنت في حضن أبوين ملحدين ولم اعتقد منذ الطفولة بالثالوث، فهل كنت فعلا اعتقد بها؟.. ولأقارن هل أعتقد أنا بجمال باريس إذا توفرت عندي ذات الأدلة المتوفرة في الثالوث المقدس ما دمت لم ألقن منذ الصغر بأنها مدينة جميلة؟ كلا.. أفلا يكون هذا دليلا على ان الحب ـ حب الأفكار السابقة مثلا ـ وخدمة المصلحة الذاتية هما السببان الواقعيان للاعتقاد بالثالوث المقدس؟ أفلا أستطيع ان أتصور نفسي مصداقا لقول نبي الإسلام (ص): (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه)[23]

ثم يسأل نفسه ثانية: بأية حجة نرى عيسى إلها؟ أفلا يمكن ان يكون البشر رسولا من الإله الواحد، فلا يكون إلها ولا إبن إله؟ ولنفترض: ان المصدر لهذا الاعتقاد كان إيمانه بالكتاب المقدس وانه قد كتب فيه ان عيسى ابن الله.. فيوجه السؤال ويقول: هل انني اعتقد بكل ما في الكتاب المقدس أم انني أقوم بتأويل وتفسير طائفة منها وهي التي تخالف عقلي أو مصلحتي، فلماذا لا أقوم بتأويل هذا النص؟

وأخيرا يتساءل ويقول: لأتصور نفسي مكان رجل محايد، هل كنت فعلا أرى كل أقوال الكنيسة علما يقينا؟

وبإستقامة هذا المنهج، نكتشف إنحرافات المناهج البشرية التي أبعدت عن حسابها نور العقل المبين، فمادت من تحت أرجلها كل القواعد الفكرية وتزلزلت صروحها زلزالا.

ان هذه المناهج لم تشأ ان تعترف بالعقل، زاعمة ان العقل لا يعدو ان يكون ـ كما سبق القول فيه ـ مجموعة أحكام سابقية، وليست قبسا من نور قادر على كشف الحقائق جميعا..

لم تشأ ان تعترف بهذا النور فزعمت ان النفس هي التي تفكر وتتصور، وبما ان انصار هذه المذاهب يعترفون بأن النفس البشرية تتأثر بالشهوات وتتطور حسب الحالات، فإنهم يقولون: المعرفة أيضا تتأثر بالشهوات وتتطور حسب الحالات، فكانت النتيجة أن زعموا أن المعارف تتغير وتتطور كما الشهوات بالضبط.

وانقسمت هذه المناهج على نفسها قسمين: فطائفة آمنت بأن المعارف حينذاك لا تعكس الحقائق الموضوعية الا بصورة نسبية، وقالت: ما دامت النفس هي التي تعرف، وان المعرفة بنتها الذاتية؛ وما دامت هي في حالة متغيرة، فإن المعرفة تتغير. وبما ان الواقع الخارجي لا يماشي هذا التغير، فإن المعرفة لا تعكس سوى بعض الواقع فقط.

وفريق قالوا: ما دام الإنسان لا يدرك كل الواقع فما الذي يحملنا على الاعتراف بكل الواقع. بل نعكس ونقول ان ما لا يدرك فهو غير موجود. ولقد انطوت هذه الفلسفات التي سنقوم بشرحها إن شاء الله، انطوت على ضلالة بعيدة نشأت عن الغفلة عن نور العقل الذي يفضح النفس ويكشف تأثراتها. ولذلك فهي لا تستطيع ان تحجب عن الإنسان، الحقيقة بسبب تأثراتها.

ومن هنا نعرف ان النظريات النسبية الذاتية، والنسبية الفردية، والنسبية التطورية، كلها نشأت من انحرافات كبيرة في المنهج ابتدأت من التركيز على جانب الانفعال في النفس؛ جانب الضعف والسلبية والتأثر، غافلةً عن جانب الفعل فيها؛ جانب القوة والإيجابية والكشف. ولقد استبعد هؤلاء عن حسابهم منذ البدء قدرة العقل على كشف التأثرات الداخلية. وهذا هو الضلال البعيد الذي قاد (فرويد) أيضا إلى صياغة نظريته عن اللاشعور حيث استبعد قدرة الإنسان على كشف ما في (لا شعوره) وجعله دائما يخضع لتأثرات ظروفه دون ان يعترف للعقل بقدرة الكشف عن تلك القدرة التي تفضح للإنسان هذه التأثرات.

وهذا الاختلاف في المنهج بين الإسلام والنظريات الحديثة حول العلم، يتبين في المثل التالي (علما بأنه مجرد مثل):

لنتصور ان رجلا ماركسيا نقابيا، اقتضت ظروفه المعاشية المتردية وانتماؤه الطبقي كعامل صغير؛ اقتضت انضمامه في الثورة ضد البرجوازية. هنا ـ وعلى رأي كل المناهج البشرية ـ ينظر إلى الحقائق من الزاوية الخاصة به، ويدرك ان البرجوازية بناء استغلالي ماكر. فإذا تطورت ظروفه وأصبح مليونيرا.. أو كان من قادة الحزب وأصبح بيوقراطيا محترفا، فلابد انه ـ حسب هذه المناهج ـ يتطور تفكيره، ويرى وجوب اتباع سياسة البرجوازيين بحق العمال والفلاحين. فماذا حدث بهذا الرجل؟ لا ريب انه تغيرت نفسيته، ولا ريب انه تطورت أهواؤه، ولكن هل المعرفة العقلية أيضا تطورت فيه؟ هل انه نسي معادلاته الرياضية؛ مثلا هل نسي ان 5×5=25؟ أم انه نسي نظرية فائض القيمة الماركسية بمجرد تطور حالته؟ أم انه لم يعد يتحسس بجمال التضحية، وروعة الحق، وحسن العدل..؟؟

صحيح انه لا يريد ان يعرف كل ذلك، ولكن هل هو فعلا لا يستطيع ان يعرفها، وهل انه افتقد ذلك النور الذي كان يعرف به تلك الحقائق؟ هناك فرق بين الاّ يريد والاّ يقدر، وكم من شيء لا يريده المرء وهو قادر عليه..

ان هذه المناهج اشتبهت مرة واحدة فوقعت في سلسلة لا تنتهي من التناقضات، تلك المرة كانت حين وضعت النفس مكان العقل، وحسبت ان تأثر النفس يعني تأثر العقل أيضا. وكما سبق فنحن لا ننكر دور الحالات المؤثرة على طبيعة الإنسان ولكن ننكر ان تكون هذه الطبيعة كل شيء عند الإنسان. انما نؤكد أن وراءها شيء آخر هو نور العقل.

ولقد ذكَّر الإسلام بدور (الاهواء) في تضليل الإنسان ولكنه لم يغفل عن دور الإرادة والعقل ـ والذي يجب الاعتماد عليه ـ في صياغة الإنسان. قال سبحانه: [وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ].(الكهف 28).

في هذه الآية يبين القرآن وجود علاقة بين الغفلة واتباع الهوى، الا انه لا يجعل الهوى مؤثرا في النفس الا بإرادة الإنسان حين يقول: (واتبع هواه). فالاتباع عمل ولا يحدث بدون إرادة.

ويقول: [بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ](الروم 29) في هذه الآية، يفصل القرآن بين العلم واتباع الهوى، ويجعلهما مختلفين. ويأمر في آية ثالثة المؤمن بمخالفة الهوى ويجعل له في ذلك ثوابا عظيما، فيقول: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى](النازعات40-41).

ج- الفكرة بين العقل والإحساس

الإحساس هو المصدر الثالث والأخير من مصادر الفكرة، ودور الحس لا ينكر الا من قبل أولئك المثاليين الذين نسوا دور العقل في توجيه الحس، فأنكروا دور الحس أيضا. وسوف نلتقي بهم في فصول قادمة إن شاء الله.

والاسلام أولى جانب الحس أهمية مناسبة، حيث دعا إلى النظر والسير والتحرك والتثبت، في نصوص متظافرة.

الا انه أولى اهتماما اكبر لدور العقل الذي يوجه الحس ويمحص نتائجه، والذي لولاه يصاب الفكر بالشلل الكامل. ذلك لأنه لنفترض اننا أبعدنا العقل عن مجال الحس وأصبحنا مثل أولئك الحسيين الذين لم يعترفوا بدور العقل في توجيه الحس، فسوف نرى كيف نتخبط في الضلالات حتى لا نستطيع كشف أية حقيقة مهما ضؤلت بواسطة الحس. بل إن نكران العقل يدعونا إلى التشكيك في وجود أية حقيقة وراء الحس، وينتهي بالإنسان إلى المثالية أو التشكيك التام. أفليس من الممكن أن تكون رؤيتنا للأمور أشبه شيء برؤية الحالم في منامه، أوليس من الممكن أن يكون الإحساس نابعا من ذات الأعصاب وليس من الحقائق الخارجية؟ فإن لم يكن هناك نور لدى النفس يحكم بأن مصدر الإحساس حقيقة خارجية بصور جازمة، لو لم يكن هذا فأية حجة تقدر على اثبات الحقائق وراء الإحساس؟

والآن دعنا نسترسل مع هذا الافتراض لنرى نتائجه.

1- ان أول ما يصدمنا في هذا الطريق إيماننا الذاتي بعقولنا وكلنا يؤمن ذاتيا بطائفة من المعلومات المسبقة، ولا يمكنه أن ينفصل عنها مهما كلفه الأمر. نحن نؤمن مثلا: بأن الفضيلة حسنة ولم نحس بها، ونؤمن بأن التناقض (اجتماع العدم والوجود) محال ولم نره، ونؤمن بمبدأ العلية (كل حادث بحاجة إلى سبب) ولم نشاهده.. صحيح اننا شاهدنا بأبصارنا الحجارة تقع على الأرض، ولكن ما الذي دعانا إلى البحث عن راميها؟ صحيح أيضا اننا رأينا الحرارة تندلع من النار، ولكن لم نشاهد ان النار هي التي أوجدت الحرارة. إذن فما الذي يدعونا إلى اعتبار النار سببا للحرارة؟!

2- وصرح العلم الذي نفتخر به اليوم يقوم على أساس التجربة، والتجربة تقوم على قاعدتي الحس والعقل. ان الحيوان لا يمكنه ان يكتشف من تجاربه شيئا مع انه يحس، ربما أشد منا وأقوى. فالكلب ذو سمع شديد، والصقر ذو بصر نافذ، ولكنهما لا يملكان التجربة، لأنهما يحسان فقط دون ان يعقلا. بل حتى التجربة لا تشكل كل المعرفة البشرية. فإننا لا نملك في أي قانون من قوانيننا العلمية؛ لا نملك التجربة الشاملة لجميع جزئياتها. دعنا نفترض قانون التجاذب الذي بشر به (نيوتن)، هل جرب كل تجاذب في الكون؟ كلا هذا مستحيل! ان ما فعله لم يعد إجراء التجربة على بضعة حوادث حتى حصلت له قناعة تامة بأن أي حادثة أخرى لا تعدو ان تكون مثل تلك التي جربها. وهذه القناعة من أين حصل بها؟ من اين استطاع قياس ما يأتي بما مضى؟ أفليس لحكم عقله بالمعادلة التالية:

ان التجربة الماضية دلت ـ بطريق الحس ـ على وجود تجاذب بين جسم وجسم مخصوصين، وان هذا التجاذب ليس صدفة وانما هو بسبب وجود علة في الأجسام. وحسب عدة ملاحظات على أنواع من الأجسام تبين انه لا فرق بين نوع الأجسام في وجود هذه العلة فيها، فدل على ان كل الأجسام ذات قوة تتجاذب بها.

ترى كم حكما عقليا اشترك في اعطائنا هذا القانون العلمي ؟. ومع اننا لا نرتاب في هذه الأحكام ، فإن أحدا منا لا يدعي انه قد جربها هي الأخرى، وانه لولا التجربة لم يكن يعترف بها.

3- بل ومن حقنا ان نتساءل عن قيمة التجربة ذاتها، كيف كانت لدينا قيمة للحس، وكيف آمنا بها، وكيف صدقنا بأنها لا تخطئ؟ ليس لدينا الا الوجدان والحكم العقلي الذي لا ريب فيه، والا فهل من المعقول ان نقول: ان التجربة ذاتها دلت على قيمة التجربة؟

4- بعد كل هذا، ينبغي ان نعود إلى أنفسنا لنتعرف على نوعية الإنطلاق من الحس الجزئي إلى أبعاد أخرى. فكلنا يعرف ان الحس لا يعدو عملية انعكاس المؤثرات الخارجية على الأعصاب، ونقل الأعصاب لها إلى المخ. وكلما تصورنا حدوثه في المخ، فإنه لا يعدو أن يكون من نوع الإحساس. فمثلا: الإحساس بلون الشجرة عن طريق انعكاس الضوء على شبكية العين، لا يحملنا أبدا على الإيمان بأن كل شجرة لها ذات اللون، ذلك لأن الإحساس مقدر بقدر الشعاع المنعكس على العين، وليس بقادر على شمول سائر الأشجار في العالم كله حتى يكون الإحساس المباشر هو الوسيلة لمعرفتنا بلونها الواحد في كل مكان. فإذا علمنا ذلك كان علينا ان نتساءل ما هو السبب لتعميم نتيجة الحس، والحكم بأن أي إحساس آخر سوف تكون له من النتائج والأسباب ما كان لهذا الإحساس، حتى يتم بناء قانون علمي شامل؟

وقبل ان نقول شيئا في هذا المجال لابد ان نفرق بين لونين من الامتداد في الإحساس؛ فقسم نسميه الامتداد الكاذب، والثاني ندعوه الامتداد الصحيح.

أ- الإمتداد الكاذب

الامتداد الكاذب، هو ان تقوم النفس بانتزاع صورة جديدة للحقائق التي أحست بها. فمثلا: يرى الإنسان رجلين (لنفترض محمداً وعلياً)، ويعرف بالحس ان بينهما أمورا متشابهة كالجسم الأبيض والعينين الكبيرتين، والهيكل الضخم، كما يبصر بينهما أمورا مميزة كاختلاف السن والطول ولون الشعر.

هنا تقوم النفس بعملية التجريد وهي حصر نظرها على الجوانب المتشابهة وحذف غيرها. ونتصور مثلا (كلي الجميل) الذي يشمل محمدا كما يشمل عليا.

ومثل آخر: يبصر الإنسان تفاحة لها ميزاتها وخصائصها الوجودية، فهي تفاحة واحدة صغيرة الحجم على الشجرة الفلانية. ولكن النفس تقوم بعملية التجريد وتنزع عن التفاحة خصائصها وتتصور (كلي التفاح) الذي يشمل كل تفاحة.

ان هذه العملية لا تعتمد على العقل، بل على النفس، وهي في الأساس لا تزيدنا الا تصورا كاذبا لا وجود له. فالجميل (كفكرة كلية) لا وجود له الا ضمن محمد وعلي، وليس لدينا (كلي الجميل) ليشمل كلا من محمد وعلي في الواقع الخارجي. كما ان التفاح الكلي لا وجود خارجي له.

إن القوة التي تخلق لنا هذا التصور تسمى بقوة التخيل، وهي لا تعدو ان تزيدنا بالتصور، ولذلك فهي لا تملك خاصية الكشف ولا تنتقل بنا عن مجال الذات إلى الواقع الخارجي. إذ ان وجود صورة متخيلة في مداركنا شيء ووجودها في الخارج شيء آخر. ومن هنا فنحن نتصور أمورا كثيرة ونؤمن أن لا وجود لها في الخارج أبدا. مثلا نتصور جبلا من عقيق، ونهرا من فضة، وحديقة من زبرجد، ونعلم أن لا واقع لها أبدا.

ولقد كانت فلسفة الحسيين ـ بمختلف مدارسها ـ تتهجم على صحة التعقل، لظنها انه لا يعدو ان يكون ركاما من التصورات الانتزاعية. والسبب انها ـ أي مدارس الحسيين ـ تكونت في جو مشبع بالنظريات الاغريقية وعلى رأسها نظرية أرسطو التي تعتمد على القول بأن أساس العلم التصورات الساذجة والمركبة، وان التعقل انما هو تركيب التصورات والإنتزاع منها. والذي يراجع بدقة نصوص الحسيين ينتبه إلى انها تنسف نظرية ارسطو التي سادت أوروبا قبل عهد الثورة.

ونحن نضم أصواتنا إلى أصواتهم، وننكر ان يكون مجرد الإنتزاع علما. والواضح ان الإنتزاع، عمل من أعمال النفس، لا يكشف الخارج أبدا. ولكنها بعيدة عن الامتداد الصحيح للمعلومات، الذي هو القسم الثاني، والذي لا يرتاب في صحته أحد حتى المنتمون إلى المدارس الحسية.

ب - الامتداد الصحيح

الامتداد الصحيح، هو الذي يكشف لنا السبب الواقعي لحادثة معينة. فمثلا: حين نجد موت حيوان بصورة فجائية، نقوم بالتجربة ونرى انفجارا في مخه، ونقوم بعد هذه الملاحظة بعملية تفجيرية اصطناعية في مخ حيوان آخر، فإذا وجدنا موته هو الآخر، فلا نرتاب في أن أي حيوان في مثل هذه الحالة إذا حدث في مخه انفجار مثل هذا، فإنه سيموت. ونجد ان هذا العلم لا يخضع للتصور الذهني بل هو انكشاف وشهود للنفس.

ان أديسون الذي قام بتجاربه المحسوسة في حقل الكهرباء وحفظ الضياء، عرف انه لا مناص له من العثور على خيط من الكربون، فكربن كل ما وقعت عليه يداه بغية الوصول إلى فتيل كربوني رفيع يصلح للإضاءة العملية. وبعد تجربة 1200 مادة من أنواع المواد وجدها أنها كلها ليست من الصلابة بالقدر الكافي للبقاء أكثر من 8 دقائق، وإذا به فيما يقرب من اليأس جاء بخيط فكه من أحد أزراره وعندئذ ألهم ان يكربن هذا الخيط القطني التافه فإذا به يبرهن على انه أطول عمرا من كل ما جرب، فقد ظل مشتعلا أربعين ساعة قبل ان ينطفئ. ان هذه كانت خطوات أديسون لكشفه العظيم (المصباح الكهربائي). فإذا أردنا تتبع خطواته عرفنا ان الحس كان يلعب دورا ثانويا، وان كشفه الحقيقي انما كان لأن إحساسه دفع إلى معرفة السبب. فلو افترضنا ان أديسون لم يكن يملك العقل الكافي، فهل كان يعلم حين يجرب على خيط واحد ان كل ما يشابه هذا الخيط هو مثله ولو لم يكن قد رآه فعلا.

يقول الكسيس كاريل ـ وهو مكتشف قدير ـ: جميع عظماء الرجال وهبهم الله بصيرة، فهم يعرفون دون تحليل أو تفكير ما هي الأشياء الهامة التي يجب عليهم ان يعرفوها. ولهذا فإن الزعيم الحقيقي للرجال لا يكون بحاجة إلى الاختبارات النفسية أو بطاقات التوصية، حينما يريد ان يختار مساعديه. كما ان في استطاعة القاضي الفذ ان يصدر حكما عادلا دون الدخول في تفاصيل الحجج القانونية، بل حتى إذا بدأ بحثه بالمقدمات الخاطئة (كما قال كاردوزو). أما العالم النابغة فيسلك بالغريزة الطريق المؤدي إلى الاكتشاف[24].

وكل من يقوم بدراسة حالة العظماء يعرف ان المعرفة لم تحدث لديهم الا بشكل من الاكتشاف المفاجئ. ان هذا الامتداد يحدث بنور العقل الخالص دون أية دوافع نفسية أو مصلحية، وهذا هو الذي يميزه عن الإمتداد الكاذب. إذ ان ذلك الامتداد يحدث برغبة نفسية معينة، اما هذا الامتداد فإنه هو الذي يقود البشر إلى الاعتراف بصورة جازمة دون أية دوافع.

والسؤال هنا كيف يحدث هذا الإمتداد، وما هي السبل الكفيلة لسلامته والمحافظة عليه دون دواعي الشهوة البشرية؟

جوابا على هذا التساؤل لابد ان نعلم ان العقل يقوم بدورين أساسيين في تحويل الإحساس إلى علم..

يتلخص الدور الأول في توجيه الجوارح، توجيها صحيحا، والتثبت في إحساسها، والمقارنة بين الأحاسيس المختلفة. بينما يتلخص الدور الثاني في المقارنة بين الإحساس والأحكام العقلية (السابقية). كذلك المقارنة بينه وبين التجارب الماضية. وبالتالي تأمين القفزة الصائبة من الإحساس إلى العلم. وفيما يلي نشير إلى نوعية قيام العقل بهذه الأعمال..

نقد العقل للإحساس

1- ان هناك شروطا تمهيدية للتجربة يبينها العقل. فمثلا لا يجرب الإنسان حقيقة تبدو له انها مفروغ من صحتها أو فسادها، انه لا يجرب مثلا: ثقل الحديد الذي يرسب به إلى قعر الماء. وبالفعل حين قال رجل لصاحبه تعال نجرب صنع سفينة من حديد استخف به ورمى بقطعة حديد في الماء وقال: أنظر يا غبي كيف رسبت؟ ولكن الواقع: ان السفينة قد تكون من حديد، وانها كانت من جهالة الرجل حين اعتقد انها مستحيلة.. ولو امعنا النظر عرفنا ان الرجل كان غائب العقل حين قال بذلك، إذ ان العقل الصحيح لا يحكم باستحالة مثل ذلك.

من هنا نعلم ان هناك شروطا لمرحلة ما قبل التجربة يجب توافرها سلفا، من أهمها وجود مناخ فكري مناسب لها عند المجرب ذاته، وهو لا ينشأ دون وجود عقل منفتح.

ونستطيع تحديد هذا المناخ بالقول: ان الجهل والغفلة البشرية قد تطبع على عقل الإنسان بحيث لا يوجه إحساسه إلى أقرب الأشياء إليه ليعرف من خلاله الحقيقة، ولا يرضى تجربة ما سواه.

ولذلك فإن الإسلام يوجب على المؤمن ان يظل منفتح الذهنية أبدا ولا يسارع بالنفي عند سماع كل شيء جديد، وانكر على أولئك الذين يرفضون الاعتراف بالفكرة لمجرد انهم لم يجربوها من قبل. قال الله تعالى: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ](يونس39).

2- والذين يحملون أوزارا فكرية معينة، لا ينظرون الا من زاوية قناعاتهم الخاصة ولهذا فإن تجاربهم تبدو ناقصة وغير مفيدة لأنها تفسر بعض الحقيقة فقط.

فمثلا: الذي يحمل عقيدة معينة بشأن شخصية تاريخية أو حدث تاريخي، فإنه يحاول دراسة الكتب التي تؤيد وجهة نظره دون الكتب المخالفة لها.. ولذلك تصبح معلوماته ناقصة حتى حول عقيدته الخاصة، لأنه لا يدرسها الا في حدود معينة وبترسبات سابقة. ومن هنا نكتشف أن العقل ضروري لتوجيه الحس إلى الإحاطة بالشيء، والتثبت من التجربة دون الحكم على الموضوع بسرعة وقبل اكتمال تجربته وتعميمها على جميع الحالات التي قد يكون لتغيرها نوع من التأثير في صحة التجربة.

وقد سبق القول منا بأن رأس العقل هو التثبت، ذلك لان الإنسان جُبلَ على الثقة الساذجة بنفسه، بحيث يصعب عليه الاعتراف بجهله، ولئن اعترف فإنه سرعان ما يعود فيدعي العلم.

والعقل المضيء هو الذي يحكم على الذات بأنها جاهلة، ويكشف لها عن جهلها فتضطر إلى البحث عن المعرفة. وهنا فقط تتجرد عن ضلالتها السابقة وتبدء تجرب الحقائق بروح موضوعية.

وهذا هو الشرط الثاني الذي يوفره العقل للحس حتى يكون موضوعيا. وقد أوحت إلى هذا الأمر آية قرآنية كريمة حين قالت: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً](الأسراء 36).. والملاحظ في هذه الآية ربط الإحساس بالمسؤولية التامة، لكي لا يتسارع الإنسان في الحكم دون تثبت كامل وإحاطة تامة بمحتملاته، ولقد عبرت الآية بكلمة "تقف" الدالة على ان البشر يجب ان يقسم الأمور أمامه إلى خطوات، فلا يخطو خطوة إلى الأمام الا إذا قاده العلم الذي لا ريب فيه إليها، ولا يكون متسرعا فيعترف كليا أو يرفض كليا!!

3- اننا بسرعة نكوّن مفهوما خاصا وواحدا عن التفاحة، مع ان العملية بحاجة إلى معارف عقلية مسبقة تجمع شتات الأحاسيس وتقول لنا: ان الرؤية التي نقلت إلينا حجم التفاحة ولونها، وان اللمس الذي عَرّفنا وزنها وملاستها، وان الذوق أو الشم الذي عرفنا الطعم والرائحة.. كل هذه الأحاسيس انما هي تعبير عن شيء واحد هي (التفاحة).

ان هذه الوحدة النظرية لم نستطع الحصول عليها بدون وجود العقل الذي لم يكشف لنا عن وحدة السبب فحسب، بل وأيضا كشف عن ان كل عرض (اللون، الطعم، الرائحة و.. و..) لا يطرأ الا على شيء ما (هو الذات). وان لذات الشيء علاقة بعرضه وبالتالي يكشف لنا عن حقيقة التفاحة.

ان التفاحة ليست ـ لدى علمنا ـ مجموعة صور من الأحاسيس المتفرقة كما شاءت بعض الفلسفات الحسية ان تتصورها، بل هي حقيقة واحدة متكاملة، ذات خصائص متصورة. ومعرفتنا بهذه الوحدة انما هي بسبب نوع من المقارنة الإيجابية تكشف عن وحدة الأحاسيس.

هذه بعض الشروط التمهيدية للتجربة الحسية يوفرها العقل.

المقارنة وسيلة العقل

والى جانب هذه الشروط لدينا معارف عقلية ـ تقوم بمقارنات ـ نكشف بها خطأ بعض أحاسيسنا، وهي كالتالية:

أ- المصاب بالدوار لا يشك في ان حسه هو مبعث الإحساس بحركة العالم، وذلك لدى مقارنة حسه بحس الآخرين. إذ ان لدى كل منا حكما عقليا لا نرتاب فيه، يتلخص في: ان الواقع يجب ان يحس به كل أحد. فما دام الآخرون لا يحسون به، نكتشف ان الذي يحس به وحده لابد ان يكون خاطئا. وهكذا كل إحساس خاطئ ينكشف زيفه فور مقارنته بإحساس الآخرين، أو بإحساس الرجل ذاته في سائر الأوقات..

ب- وقد تصاب العين بالمرض فترى الأشياء مقلوبة، ولكن اليد تكشف زيف هذا الإحساس، حين تلمس الأشياء لتجدها سالمة. وهكذا يحكم العقل بين الأحاسيس المختلفة بمقارنتها ببعضها.

ج- وقد تبصر العين رجلا قزما فلا يتردد العقل من الحكم بأنه طويل القامة، لأنه يقارن المسافة بينه وبين الرجل، فيقول: إذا كانت الرؤية من بعد ميل تظهر الشخص بهذا الطول ـ نصف متر ـ فلابد انه إذا اقترب يظهر ذو طول قد يتجاوز المترين. وهكذا يقدر العقل دور المسافة في العين والأذن وسائر الأعضاء، بل هكذا يقدر سائر القوانين الفيزيائية كوزن الشيء في الماء. فإن الإحساس البسيط يزعم انه خفيف مثل ما يتصور، الا ان العقل سرعان ما يحكم بخلاف ذلك.

د- مقارنة سائر العوارض الداخلية، فقد تشعر جميع أعضاء الجسم بالبرودة أو بالحرارة الشديدة، ولكن العقل لا يتردد في ان ذلك احساس باطل لانه يتقارن مع عوارض المرض، مما يدل على زيف الإحساس. وهكذا في كل مرض، كفقدان التوازن والذوق والشم و.. و..

وتتشابه الأخطاء الحسية الناجمة من العقاقير المخدرة كالأفيون والهرويين و.. و.. بالأخطاء المرضية التي لا يلبث العقل حتى يفضحها.

وهناك عدة أنواع أخرى من المقارنة لا نذكرها لأنها متشابهة ومعروفة ويقوم كل واحد منا بتجربتها يوميا وبصورة عفوية، الا انه ينبغي ان نبين هنا حقيقة المقارنة ونقول:

ان كل مقارنة تنطوي على مجموعة من الأحكام العقلية التي لم نعد نلتفت اليها لسرعة تحققها وشدة وضوحها. فمثلا: ان المقارنة بين ما نحس به وأحاسيس الآخرين، انها تنطوي على الحكم الواضح الذي لا نرتاب فيه، وهو ان ما أحس به ان كان هو الواقع وجب الا يختلف فيه حس الآخرين لانهما من طبيعة واحدة، وتكشفان عن حقيقة واحدة. فلابد ان يكون الاختلاف بسبب آخر هو المرض والخطأ وما أشبه. ودون العقل من أين نعرف ان الحقيقة واحدة، أو ان الحقيقة الواحدة لا تبث الا لونا واحدا من الإحساس عندي وعند الآخرين، أو ان للإختلاف سببا خارجيا. فلماذا لا يكون الشيء بلا سبب؟

وبهذا كله نتمكن من فضح المغالطة الكبيرة التي استند إليها النسبيون حين قالوا: ان الإحساس يتأثر بالظروف الفيزيولوجية فلهذا لا تعكس الا ذاتها. ونحن نعترف انها تتأثر حينا، ولكن لا يحملنا هذا التأثر إلى التشكيك في نتائجه كل مرة. إذ ان العقل سيحكم بما إذا كان الحس متأثرا بعوامل خارجية ام بعوامل داخلية فيزيولوجية.

تمحيص النتائج

ثم يقوم العقل بدوره الثاني في توجيه الإحساس وهو تمحيص النتائج. وتختلف النفوس في المواهب العقلية، من هذه الناحية. ولذلك فإن قليلا من الناس فقط يتمكنون من الإستنتاجات الصائبة من تجارب متشابهة. وهذا الدور معقد، ولذلك فلا يمكننا الا التنبيه بالقواعد العامة، التي تفيدنا في هذا المجال:

1- الإحساس في محك السابقيات العقلية

حينما ترى العين أجنحة المروحة وهي تدور ، تزعم العين بادئ النظر انها: (صحن مدور) ولكن العقل يقوم بتخطئة هذه النتيجة، ويقول: ان الصحن لا يحرك الهواء. وهذا المثال البسيط يدل على ان الإحساس يقارن بالأحكام العقلية المسبقة. فمثلا لدينا حكم عقلي جازم هو: ان الحدث لابد وان يأتي بعد سبب مناسب، ولذلك فإن الأحداث الواحدة ذات أسباب متشابهة. ومن هنا فنحن لا نرتاب في قانون التجاذب، لانه حصيلة تجاربنا المحسوسة مضافة إلى أحكامنا العقلية. اننا نرى ان الطير عندما يموت يقع على الأرض، ونعرف ان رفع الحجر على الظهر أصعب من رفع القطن ويتطلب جهدا، ونلاحظ ان القمر يدور في الفلك، ونعلم ان الصعود إلى الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية هي قانون الجاذبية، وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى انها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى إرتباطا كاملا داخل النظام، وكذلك الحال لو طالعنا الحقائق المحسوسة مجردة فلن نجد بينها أي ترتيب فهي متفرقة وغير مرتبطة، ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فسنستنتج صورة منظمة للحقائق[25].

ونرى كيف قام العقل بربط نتائج الإحساس بعضها ببعض حتى حصل منها على قانون علمي سمي بقانون التجاذب. ان الإنسان توسل لإستنباط هذا القانون بعدة أحكام عقلية والتي كان أهمها الحكم بضرورة وجود السبب لكل حادث، وضرورة تناسبه مع المسبب، وأن الأحداث المتشابهة ذات سبب واحد وأخيرا ربط نتائج الأحاسيس المختلفة ببعضها لصياغة قانون عام منها. وهذه الأخيرة كانت السلسلة التي لولاها لما استطاع البشر من استنباط قانون موحد... ولنلاحظ تجربة أخرى هي تجربة ديزل الذي سميت بإسمه محركات ديزل الضخمة. فإن الشاب الألماني (دولف ديزل) دأب على كبس الهواء حتى وصل ضغطه في النهاية إلى (500) رطل للبوصة المربعة، ورفع هذا الضغط درجة حرارة الهواء إلى (1000). وربط هذه العملية بقانون عقلي آخر هو أنه: إذا كان الوقود عادة يبدأ في الاحتراق عند درجة (450) فلابد ان يكون كل ما نحتاج إليه لكي نحصل على الاشتعال بدون شرارات الاشتعال، هو حقن الوقود إلى خزانة بها هواء مضغوط ضغطا مفرطا لكي يشتعل في الحال كما يشتعل الدهن في المقلاة!..

وهكذا فعل ولكنه حين اختبر محركه لأول مرة انفجر كله وطرح الشاب أرضا فاقد الشعور. بيد إنه تصور بإستخدامه الحكم العقلي انه لو استعمل اسطوانات أقوى وصمامات أضبط فإنه لن ينفجر إذ انه عرف بحكم عقلي ان الانفجار كان نتيجة سبب، وان السبب لابد ان يكون قوة الانفجار ورخاوة الاسطوانات. فلما اتقن اسطواناته لم ينفجر المحرك هذه المرة بل أعطى الصناعة دفعا جديدا إلى الأمام بمحركه.

وماذا لو فقد ديزل مساعدة عقله، هل كان بإمكانه متابعة تجاربه؟ ومن هنا نعرف ان العقل ضرورة لتمحيص التجربة بعرض الملاحظة على الأحكام العقلية الثابتة. وهذا أهم القواعد التي تساعد البشر على استنباط الحقائق من الإحساس.

2- الإحساس والتجارب السابقة

لدى أبسط التجارب يحتاج الإنسان إلى إدخال مجموعة كبيرة من تجاربه الشخصية الأخرى ومعلوماته الصحيحة عن تجارب الآخرين لكي يوازن بينها ويحصل على فكرة صائبة عن تجربته. فنحن حين نستعمل الترمومتر (درجة الحرارة)، لا نعلم كم تجربة نستخدم من تجاربنا الماضية أو تجارب الآخرين، ولكننا نستطيع ان نقول بأنها تجارب لا تحصى عدا.

فمثلا اننا بدون تجارب المصريين في الهندسة ونظام العد الإسلامي واكتشافات أوروبا الرياضية لم نكن نستطيع ان نعرف أي شيء عن قياس الحرارة.. ولهذا فإن أية تجربة جديدة لا تنمو الا في مناخ صالح. ونعني بالمناخ الصالح وجود عدد كبير من التجارب البشرية في سائر الحقول تساندها وتخلق فكرة صائبة عنها.

فمثلا: جابر بن حيان الأنصاري ـ تلميذ الإمام الصادق عليه السلام ـ قام بصنع طائرة لم يذكر المؤرخون صفاتها بالضبط لأنها دفنت تحت ركام الجهالات التي كانت تسود عصره، ولذلك فإن العصر الذي تلى عصر جابر لم ينتج تجارب جديدة لأنها كانت تفقد مناخها المساعد.

أما حين بدأ أخوان رايت (Wright Brothers) تجاربهما بالطائرات الشراعية على كثيبات الرمل في (كتي هوك) لمجرد التمرن على كيفية التحكم في الأجنحة أثناء الطيران، وطورا تجاربهما ـ حينذاك ـ ساعدهما وجود المحرك ثم وجود المواد الخفيفة الصلبة البناء (التي حصلت البشرية منها على قدرة حصان واحد مقابل كل رطل واحد من وزن المحرك)، ان هذه التجارب المتنوعة التي سبقت تجربة أخوان رايت، أعطت الطائرة مناخا مناسبا للظهور، فأصبحت ميزة العصر الحديث. وهذا يهدينا إلى ان العقل يعرض نتيجة الحس على التجارب الماضية ليمحصها.

ولولا وجود عقل موازن عند الإنسان لما استطاع أن يستغل تجارب غيره أبدا. ان العقل الموازن يحكم بأن ما فشل فيه إنسان واحد فإنه يستحيل ان ينجح فيه الآخرون، وبالعكس ما نجح فيه هو فسوف ينجح فيه كل إنسان. ولذلك فإن العالم الخبير يقوم بعد كل ملاحظة بطرد آلاف الإحتمالات التي تتراءى أمامه، لمعرفته المسبقة بأنه قد ثبت بطلانها في تجارب غيره… ونستطيع تلخيص المهمة الثانية التي يقوم بها العقل عند تمحيصه نتائج الحس بأنها:

(موازنة الحس بتراث البشرية العلمي).

ان العقل هو الذي يهدي إلى ضرورة هذه الموازنة وهو الذي يدلنا على نوع التجارب التي ينبغي ان توازن بها التجربة الجديدة. وأخيرا هو الذي يعطينا حاسة الكشف عن أقرب التجارب إلى الحقيقة لدى اختلاف التجارب. ترى ماذا يفسر كل ذلك الحسيون؟ من هنا جاء في الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام : (العقل حفظ التجارب[26]).

3- القفزة العلمية

أهم ما يحصل بالعقل هي ـ القفزة العلمية ـ والمثال التالي يوضحها:

يقوم الطفل بطرح فلز في الماء، فيستقر في القاع، ورأسا يتنبه إلى ان مطلق الفلز لا يستقر فوق الماء ـ أي ماء كان ـ. هذه هي القفزة العلمية حيث استنبط الطفل من تجربته حكما عاما.

ونحن لم نجرب طيلة حياتنا الا بعض التجارب البسيطة، بيد اننا نملك عدة قوانين عقلية لأن تلك التجارب قفزت بنا إلى مستوى معرفة قوانين عامة بحيث لا نرتاب في صحتها. وهذه العملية، التي لا تخضع لحساب، هي التي زودت البشرية بالكميات الضخمة التي تملكها من المعلومات عن الكون. ونحن نضحك حتى الأعماق حينما تروى لنا قصة جحا الشهيرة: حين كان جالسا فوق غصن شجرة وينشر اصله، فقال له عابر سبيل انك ستقع. فقال مستهزءاً: من أين عرفت؟ هل أنت عالم غيب؟ ولكنه سرعان ما سقط على الأرض، وتهشمت أعضاؤه. فتعقب الرجل وقال: حقا أنت نبي. نحن نضحك من هذا الكلام لأنه مغرق في السذاجة. ولكن ماذا لو قال طائفة من المنتمين إلى الفلسفة بهذا القول منكرين مصدرا للمعرفة لا يوزايه مصدر آخر أبدا. قالوا: انك لا تستطيع ان تعرف (كل رجل يموت) لأنك لم تعلم الا بموت فريق من الناس، ولعل الفريق الآخر لا يموتون!! وهكذا في سائر الحقائق.

ان الطفرة العلمية التي لم نستطع نحن البشر ان نعرف عنها شيئا كثيرا تشكل أقوى الأدلة على وجود عقل يكشف لنا عن أبعاد الحقائق، والا فما الذي يدعونا إلى القول بأن كل إنسان يموت، مع أننا لم نشاهد الا بعض الأموات.. يقول البروفيسور (ماندير):

ان الحقائق التي نتعرف عليها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسة Facts Received) بيد ان الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في الحقائق المحسوسة. فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال. ووسيلتنا في هذا السبيل هي الإستبناط. فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطة Inferred Facts) والأهم هنا ان نفهم ان لا فرق بين الحقيقتين، وانما الفرق هو في التسمية من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة، وعلى الثانية بالواسطة. والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط[27] .

والعقل هو الذي يميز بين الطفرة العلمية (الاستنباط) وعملية (انتزاع النفس) أو الخيال ووسيلته إلى ذلك تجنب أية رغبة في التسرع أو في ترجيح جانب على جانب آخر. بل لابد ان يدع الإنسان نفسه مسلما بنتيجة تجاربه، تقوده كيف شاءت لا كيف يشاء هو.

البحث الثاني- نقد التصورات البشرية

أ- آراء في المعرفة

أمامنا الآن مجموعة من التصورات البشرية حول المعرفة، لا يخلو كل واحدة منها عن جوانب إيجابية، الا انها بصفة عامة لم تحط خبرا بواقع العقل والعلم والفكر. ولعل السبب الوحيد لهذا العجز البشري عن معرفة أقرب الحقائق إلى الإنسان – أي العلم- ان الإنسان حاول معرفة العلم عن طريق الجهل؛ أي عن غير طريق العلم ذاته، وهو نوع من الإنحراف في المنهج، سبق البحث فيه.

لقد حاول البشر قياس العلم والعقل بركام التصورات والتعاريف، فما زاده الا بعدا عن حقيقته ومزيدا من الانحراف عنه، تماما كمن حاول قياس الوجع بالمتر أو الحرارة بالكيلو. وقد سبق القول في ان شأن العلم شأن الإرادة وسائر ما يرتبط بالنفس حيث لا يمكن قياسها الا بآثارها.

ونحن حين نجد في العصر الحديث انتشار قياس حقائق النفس بآثارها، بعد ان عجزوا عن قياسها بالطرق المادية. فما الذي يمنعنا من تطوير منهجنا في معرفة العلم والعقل إلى النظر إلى آثارهما كما صنع الإسلام.

ان هذا المنهج يجعل كل فرد يكتشف النور في داخل نفسه، وهناك فقط يتبين ان تصورات البشر حوله انما كانت انحرافات بعيدة عن الواقع.

نظرية أفلاطون

تتلخص نظرية أفلاطون في النقاط التالية:

1- تماما كالصورة التي تنعكس على المرآة، لها حدود وليس لها جرم وكثافة، كذلك يوجد عالم يدعى بعالَم المُثُل، كل حقائقها ذات حدود ولكن دون كثافة. وهذه المثل هي صور الحقائق الأرضية جميعا، فالإنسان مثلا: يعيش على الأرض أفراده أما هو فإنه واحد يعيش في عالم المُثُل، وهو (أي حقيقة الإنسان) شبح هناك يمثل كل الناس في كل العصور.

2- والإنسان كان قبل تنزله إلى الأرض يسرح في عالم المثل، ولذلك فقد أحاط علما بكل الصور (أو المثل) التي كانت موجودة فيه، ولكنه نسيها عندما تقولب بالمادة وهبط إلى عالم الجسد.

3- الا ان أقل تنبه يكفي الإنسان لتذكر ما كان قد نسيه في عالم الدنيا، فيعود يعرف الحقائق التي عرفها في عالم المثل.. ولذلك سميت نظريته بـ ( النظرية الإستذكارية ) لأن الفكر، حسب هذه النظرية، ليس سوى إستعادة المعلومات، والعلم ليس الا إستعادة المحفوظات المنسية.

4- ان العقل البشري أسمى من ان يعرف الحقائق الجزئية، بل انه يعرف الكليات؛ أي المثل العامة فقط. فمثلا: حينما يعرف رجل زيدا فإنه لا يعرف بعقله الرجل المسمى بزيد، انما يعرف بعقله كلي الإنسان، أو صورة الإنسان بصفة عامة.

وترتكز هذه النظرية فيما يخص موضوعنا على أمرين؛ الأول: الاعتقاد بوجود الأرواح بصفة مستقلة عن الأجسام قبل خلق الأجسام. والثاني: ان العلم صفة أصيلة في ذات الإنسان ولسيت صفة طارئة على الإنسان.

والإسلام يقول بوجود الأرواح قبل الأبدان بفترة طويلة، حيث جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام[28]).

أما ان العلم صفة ذاتية للإنسان، فهذا ما يرفضه الإسلام، والسبب:

أ- لو كان العلم صفة الذات لم يجز ان يتخلف في لحظة عن الذات، ذلك ان الذات لا يفقد نفسه الا ساعة انعدامه. أترى ،هل يمكن ان يجهل الله سبحانه شيئا وهو يملك العلم بصفة ذاتية، أم ان النور يمكنه ان يتخلف عن الحركة والإشراق وذاته الحركة والإشراق؟ هذا مع اننا نلاحظ: ان الإنسان لا يعلم ثم يعلم ثم ينسى ما علم. قال الله سبحانه، وهو يذكِّر بهذه الحقيقة الواضحة:

[وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً](النحل70).

ونحن نعلم من أنفسنا صفة الجهل الذاتية، لان العلم لا يحصل لنا الا بتعب وإرهاق، ثم يزول بسرعة مع هبوب عاصفة النسيان التي تتناوب على أنفسنا فتكنس معها معلوماتنا.

ب- إن ذاتي الشيء لا يحدد.. ان الجهل والعدم والعجز من ذاتنا، ولذلك فهي غير محدودة، لأنها إذا كانت محدودة إذن لم تكن ذاتية لنا. أما العلم والإرادة والوجود والقوة فهي مواهب أو مكاسب، ولذلك فهي محدودة.

وبتعبير آخر؛ ان التحديد يعني العدم في بعض الجوانب. فلو حددنا علم رجل ببلده مثلا فذلك يعني انه لا يعلم عن البلاد الأخرى شيئا، وإذا كان ذات الرجل عالما فكيف لا يعلم شيئا عن البلاد الأخرى؟ أفلا يعني ذلك ان هذا الرجل عالم وجاهل في لحظة؟ وهو تناقض مرفوض.

وهل يصح ان نقول: ان ذات الحرارة هي الحركة (أي لا يمكن ان توجد حرارة ولا توجد حركة أو العكس بأن توجد حركة ولا توجد حرارة) ثم نقول ان الحرارة يمكنها ان لا توجد في وقت أو في حالة مع وجود الحركة؟!

إذن فنظرية أفلاطون الإستذكارية مرفوضة بسبب واحد وهو انها تدَّعي ان العلم من ذات الإنسان. ولو فسرنا هذه النقطة منها، إذا استطعنا القبول بها فيما يخص العلم، فسرناها بالقول: ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل، ولكن هذا العقل محتجب بالنسيان وان التذكر به يرجعه إليه.

نظرية الإنتزاع

وهي التي ذهب إليها فريق من الفلاسفة الإغريق وفي طليعتهم أرسطوطاليس واتبعهم فريق من فلاسفة المسلمين، وهي تذهب إلى: ان للذهن البشري نوعين من التصورات، تصورات أولية، كتصور اللون والحجم والطعم والرائحة، وما إلى ذلك مما يتصوره الذهن عن طريق الحواس. وتصورات ثانوية، وهي التصورات التي يولدها الذهن البشري منتزعة إياها عن التصورات الأولية، وذلك مثل الكليات المجردة، وتصور العلة والمعلول وما أشبه.

وتقول النظرية: ان التصورات الأولية هي الأساس للتصورات الثانوية، وانه يستحيل على الذهن القيام بأي تصور ثانوي بدون التصورات الأولية. وبتعبير آخر؛ الإحساس أساس العلم. وتقول: ان الذهن يقوم بنمو ذاتي متى ما يدخل حريمه تصور أولي، فيتمخض عن تصور ثانوي.. ونستطيع تمثيله بالأرض الصالحة التي تنمي أشجارا كثيرة بعد ان تزرع فيها النواة.

والملاحظ: ان هذه النظرية تتنافى وما سبق ان ذكَّر بها الدين الإسلامي من الحقائق، ونضيف إليها ما يلي:

1- ان الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس، وقد سبق ان أكدنا ذلك بأكثر من بينة. ومن هنا فإن العقل (وهو ما تسميه النظرية بالتصور الثانوي) هو الأساس للإحساس. وقد عكست النظرية فقالت ان الإحساس هو السبب في وجود العقل. ولست أدري كيف يمكن ان يكون الإحساس بشيء وسيلة إلى الاعتراف بوجود علته، لو لم تكن في النفس نور يكشف عن حقيقة العلة؟

2- ان النظرية تعتقد ان النفس تسير في نمو ذاتي حتى تصل إلى العلم، وهذا يشبهها بنظرية أفلاطون في أنها تجعل العقل وليدا طبيعيا للنفس ضمن حركة جوهرية تكاملية. ومن حقنا ان نسأل إذا كانت حركة النفس إلى أعلى بصورة مستمرة فكيف تنتكس حتى لا تعلم بعد علم شيئا، وكيف ينسى البشر أشياء عرفها، وكيف لا يعلم أشياء يجهلها بصورة طبيعية، بل يكون محتاجا إلى المعلم؟

والواقع ان نظرية أرسطو الإنتزاعية لم تثبت للنقد بعد ان تعرضت له من قبل الفلاسفة الغربيين، منذ روجر بيكن وإلى جون لوك. ونحن بغنى عن استعراض إنتقاداتهم بعد ما سبق وأن أشرنا إليه في تقرير النظرة الإسلامية المتوازنة الشاملة.

النظرية الحسية التجريبية

(النظرية الحسية التجريبية) هي النظرية السائدة على العالم المادي المعاصر، وكان أول مبشر بها في الفترة الأخيرة (جون لوك) الفيلسوف الإنجليزي الذي ظهر في جو مشبع بالأفكار الديكارتية العقلية.

ثم تبنتها فلسفات أخرى، وبينها النظرية المثالية والماركسية. يقول جورج بوليتيريز:

(ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر؟ ان مصدر الإحساسات ما يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاتها الطبيعية). ويقول ماوتسي تونغ:

(ان مصدر كل معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحس الجسمية في الإنسان، للعالم الموضوعي الذي يحيطه).

وهذه النظرية تتلخص في نقطتين:

1- ليس للذهن البشري من ممون سوى الإحساس، فهو المصدر الوحيد لكل المفاهيم والتصورات. ومن هنا فليس للذهن إبداع تصورات جديدة.

2- وان التجربة ،وهي نوع من الإحساس، هي المصدر الوحيد للعلوم الإنسانية، وأنه لو تجرد الانسان عن الاحساس لتجرد عن كل معارفه.

ومن هنا: تنفي هذه النظرية وجود معلومات سابقة (أو ما نسميه بالعقل)، ولذلك فهي تبعد عن ذاتها كل محاولة لمعرفة ما وراء المادة (الغيب).. وتزعم هذه النظرية: ان الإنسان لا يمكنه ان يعرف حقيقة الا بتجربتها مباشرة، فليست هناك حقيقة استنباطية يسير فيها الفكر من الحقائق العامة إلى الحقائق الجزئية. فالمثل التالي مستبعد كليا عن المنهج التجريبي: كل فلز يمتد بالحرارة والحديد فلز فلابد ان يمتد بالحرارة. بل يجب ان نجرب الإمتداد على الحديد بالذات حتى يمكننا ان نقول: (الحديد يمتد بالحرارة). وهكذا يبعد هذا المنهج كل مثل متشابه، ذلك لأنه يستبعد العلم الكلي (كل فلز يمتد بالحرارة) ويقول: من أين عرفنا هذا العموم، هل من التجربة على الحديد التي كانت بين التجارب التي أجريت على كل فلز؟ وإذا فلا نستفيد من الكلي (كل فلز يمتد بالتجربة) لأنه لا يعدو ان يكون تكرارا للمفهوم السابق، ام بدون التجربة على الحديد بين الفلزات. فمن أين حصلنا على هذا المفهوم، ان لم نكن قد جربنا كل الفلزات؟ والعلم لا يحصل بدون التجربة.

الماركسية تتناقض:

لقد سبق القول في نقد النظرية الحسية، ونلخصه فيما يلي:

1- ان قيمة الحس والتجربة لا يمكن ان تثبت الا بوجود شيء عند النفس يُمكِّنها ان تقيّم الحس والتجربة. وذلك ما نسميه بالعقل. ولو افترضنا عدم وجودها فما الذي تفيدنا قيمة الحس والتجربة؟.. قال فريق منهم: ان التجربة ذاتها دليل تقييمها.. حسنا؛ فتلك التجربة التي تقيم التجارب الأخرى، هل هي ذات قيمة أم لا؟ إذا كان لها قيمة فمن أين عرفنا قيمتها؟

والواقع اننا نؤمن بقيمة التجربة، وهذا الإيمان نابع من عقولنا التي تحكم بذلك.

2- كيف يمكننا تفسير العلة والمعلول، والحسن والقُبح، والخير والشر؟ هل هذه الحقائق تدرك أيضا بالتجربة؟ وكيف مع انها معلومات لها من القيمة لدينا كقيمة التجربة، ولها من الوضوح كوضوحها؟

3- ولدى شيء من التحليل نكتشف ان التجربة ذاتها تعتمد على مجموعة أحكام عقلية، كالحكم بإستحالة التناقض والصدفة. ولو تصورنا العلم بدونها تبخرت معلوماتنا في لحظة واحدة.

4- نحن نؤمن بحقائق غير مجربة ونعلم ان مصدر إيماننا ليست هي التجربة. ولا نؤمن بحقائق مجربة لأنها تخالف حكم عقولنا. فمثلا نرى أجنحة المروحة متلاصقة، ولا نؤمن بذلك. ولا نرى دوران البروتن في الذرة، بيد أننا نؤمن بها إيماننا بضوء الشمس.

وتتناقض الماركسية مع نفسها في تفسير حقيقة المعرفة فتقول ـ على لسان ماوتسي تونغ : (الخطوة الأولى في عملية اكتساب المعرفة هي الإتصال بالمحيط الخارجي.. الخطوة الثانية هي جمع المعلومات التي نحصلها من المعلومات الحسية وتنسيقها وترتيبها- مرحلة المفاهيم والأحكام والإستنتاجات- وبالحصول على معلومات كافية كاملة من الإدراكات الحسية (لا جزئية ولا ناقصة) ومطابقة هذه المعلومات للوضع الحقيقي (لا مفاهيم خاطئة) عند هذا فقط يصبح في المستطاع ان نصوغ على أساس هذه المعلومات مفهوما ومنطقا صحيحين).

وتنطوي هذه النظرية على الاعتراف بدور العقل الذي يقوم بتنسيق المعلومات وترتيبها. إذ من الواضح انه لولا وجود نور يكشف عن طبيعة المعلومات وموضعها من جدول الأفكار كيف يمكن للنفس ان تقوم بعملية التنسيق والترتيب. فلو إفترضنا عاملا لا يعرف شيئا عن الحساب هل يمكنه تنسيق معلومات وزارة الدفاع أو المخابرات المعقدة؟ ونحن نجد ان التنسيق يستنزف جهدا عظيما منا، وفي خلاله نستخدم مئات الأحكام العقلية، فكيف ننكر فضلها في توجيه معارفنا؟

هكذا اعترفت الماركسية من حيث لا تشعر بدور العقل، ولكنها أنكرته في مواضع أخرى من فلسفتها، وهذا هو التناقض.

وقد أكدت الماركسية هنا ما تبنته من تفاعل الإحساس والتنسيق، والعمل والعلم. ونحن لا ننكر ذلك، بل ان الإسلام أول من بشر بالتأثير الكبير الذي يخلفه العمل على الفكر، والإحساس في العقل. ان العلم ضوء في القلب، ينمو بإستخدامه كما تنمو كل أعضاء الإنسان بتربيتها وإستعمالها. والعقل نور في النفس يزداد بطاعته كما تزداد الفضيلة أو الرذيلة بممارستها.. وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله: (إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلاّ إرتحل عنه[29]) !

-----------------

آراء في قيمة المعرفة

العقل حيث يكشف شيئا، لا يتردد فيه ولا يقبل أي نوع من التشكيك حوله لأنه يراه واضحا مميزا مشهودا.

ومن هنا لا يصدر العقل حكما الا إذا كان موثوقا به 100 % ، وهناك يصح الإطمئنان به كاملا، ويحصل القلب على السكينة. والعلم بعض من العقل وهو الشهود المباشر، والكشف الواضح للأشياء. ولأنه كذلك فإنه يقيم ذاته، ويعطي للنفس السكينة والإطمئنان وبصورة لا تقبل الشك. ونحن إذا أردنا ان نقيم العلم فهل نقيم بغير العلم ام بالعلم ذاته؟ والعلم إذا تشككت فيه لا يقيم نفسه، والجهل - بالطبع- لا يقيم العلم.

عندما بحثنا عن المعرفة في منهج القرآن، بينا بأن العقل نور هاد يكتشف ذاته بذاته، والعلم ـ لأنه وليد العقل ـ فإنه يقيم بالعقل، والتقييم بالنسبة إليه خطأ، لأنه لا يكون الا به ولكن الإنسان أعرض بوجهه عن عقله، وحاول إعطاء قيمة للمعرفة بعيدا عنه.

ولتقييم المعرفة تاريخ طويل؛ ففي اليونان إجتاحت الفكر موجة عارمة من السفسطة في القرن الخامس الميلادي، كان مبدعوها ومغذوها طائفة من السياسيين المحترفين، جمعوا كل من فشل في حياته الشخصية ليعلموه طريقة الجدل، ويقحموا به في حقل السياسة. وهكذا أصبحت المناقشات اللاعقلانية سيدة الموقف في اليونان.

وتطورت هذه الحالة حتى أدت إلى مبدأ غورغياس الذي ألف كتابا في (عدم الوجود) وحاول البرهنة على عدم وجود شيء. وحتى لو إفترض وجود شيء فإن الإنسان قاصر عن معرفته، ولو حصل ـ فرضا ـ على معرفته فإنه يستحيل ان يعلمها غيره.

وأخذ الفكر الفلسفي ينهار لولا تحدي سقراط الذي ضحى بحياته في سبيل إعادة الناس إلى توازنهم الفكري، ثم أفلاطون تلميذه الذي اتبع سبيل الحوار لاستعادة ثقة الفكر بنفسه، وأخيرا ارسطو الذي وضع اصول منطقه القائل بوجود مسبقات عقلية هي الركيزة الأولى لتقييم المعارف البشرية، وان كانت تنشأ من الإحساس بعملية الانتزاع. واتجه بيرون ـ وهو احد فلاسفة اليونان ـ اتجه ناحية التوفيق بين انكار الحقيقة واثباتها، فدعا إلى الشك واتبعه فريق كبير. الا انه قدر لمذهب الشك ان يختفي عن مسرح الفكر حتى ابتداء القرن السادس، حين عاد بفعل الثورة الثقافية التي عصفت بمسلمات القرون الوسطى وجعلتها خرافات لا قيمة لها.

ديكارت

ولعب ديكارت دور ارسطو في إعادة الناس إلى أفكارهم وتماشى معهم في فلسفته حتى شكك نفسه في معلومات قطعية.. وفلسفة ديكارت عقلية تعتمد على وجود أحكام جازمة للنفس يستطيع الإنسان ان يحكم بها على سائر معلوماته، وتعتمد فلسفته حول قيمة المعرفة على الحقيقة التالية:

ان أية فكرة واضحة ومميزة لدى النفس بحيث لا يمكن التشكيك فيها بأية حجة، فإنها فكرة صحيحة وذات قيمة. ويرى ديكارت: ان قيمة المعرفة، الإيمان الثابت بها. فما وجد فيها هذا الإيمان أثبت لها القيمة. ومثل لها (فكر الإنسان) فإنه لا يزداد مع الشك الا وضوحا. و(ذات الإنسان)، و(الله) سبحانه، و(الحركة)، و(الامتداد)، و(النفس). وتنطوي فلسفة ديكارت على أخطاء منهجية لا يفيدنا انتقادها الآن[30]. الا انه بوجه عام استطاع بها ان يقيم المعرفة بوجود العقل الذي لا يحتاج إلى تقييم، فذاته قيمة. هكذا أراد، أو - لا اقل- هكذا يبدو انه أراد ان يعمل.

جون لوك

وسار لوك في ذات المسيرة التي سار فيها ديكارت، عندما أراد تقييم المعرفة البشرية. وقال: ان المعرفة قد تكون وجدانية، كالعلم بأن الواحد أقل من اثنين. وقد تكون تأملية وهي التي لا تحصل دون الاستعانة بمعلومات وجدانية. وهذان النوعان من المعرفة، ذات قيمة واقعية. أما الإحساس فإنه لا قيمة له في حقل الفلسفة، ذلك لأنه ناشيء من انعكاسات قد لا تتفق مع طبيعة الأشياء، بل يحتمل ان تكون انفعالات ذاتية.

ونظرية لوك هذه لا تتوافق مع منطلقه الفلسفي الذي ينادي بالحسية، والا فما هو الممون للفكر غير الحس؟ وبعد هذه الملاحظة نتمكن من القول بأن المعارف العقلية التي قسمها لوك إلى نوعين: الفطرية والتأملية، وقسمناها نحن إلى نوعين: الأحكام العقلية وما يصدر منها من أفكار؛ ان هذه الأحكام ذات قيمة لا ريب فيها وهي دالة على نفسها، ولكن إذا ميزت عن شوائب الهوى والغضب.

وأما الحس، فإن التعقل سيحكم على نتيجته. فإن كان متأثرا بالذاتية، رفضه والا اطمأن إليه حسب ما سبق في حديثنا عن المعرفة في الرؤية الإسلامية.

ولذلك فنحن متفقون مع لوك في وجود نوع من الذاتية في الإحساس، ولكننا لا نتفق معه في عجزنا عن ايجاد مقياس يجرد الحقيقة المشوبة بالذاتية!

المثالية الحديثة

بعد ان عرفنا قيمة العلم عند المذهب الإسلامي ومذهب ديكارت ولوك، يجدر بنا ان نبحث عن المدارس الفلسفية التي أنكرت هذه القيمة، وهي تتنوع إلى أربعة أقسام:

الأول: المثالية، التي انكرت وجود واقع خارج الشعور. وكان إنكارها معتمدا على انكار أية قيمة للمعرفة التي تثبت وجود هذا الواقع.

الثاني: مذهب الشك، الذي أنكر ان تكون المعرفة مضمونة الخطأ، ولم ينكر وجود واقع خارج الشعور الا انه لم يستطع إثباته أيضا.

الثالث: المذاهب النسبية، التي آمنت بصحة المعرفة، ولكن بصورة جزئية. فليست الحقيقة كما ندركها، ولكن ما ندرك لا يعدو كليا جوهر الحقيقة.

الرابع: النسبية التطورية، التي لم تنكر قيمة المعرفة، ولكن أنكرت ثبوت المعرفة على حالة واحدة، وقالت: بأنها تتكامل شيئا فشيئا..

والمثالية التي تناولها في البدء بالدراسة هي الأخرى ذات أنواع: المثالية الفلسفية، والمثالية الفيزيائية، والمثالية الفسيولوجية.

ألف : المثالية الفلسفية

ان هذه المثالية استندت على قواعد فلسفية تتلخص في ان الوجود لا يعني سوى التصور، وان يوجد شيء عبارة أخرى عن ان يدرَك أو ان يدرِك.

وبطل هذه المثالية: باركلي، الذي ادعى انه لا ينكر العالم، ولا أي حقيقة موضوعية فيه، الا ان جوهر فلسفته هو الكشف عن حقيقة الكون.. الناس يزعمون ان حقيقة الأشياء هي الوجودات المستقلة عنا، القائمة بذاتها. ولكن هذا خطأ إذ ان حقيقتها لا تعدو ان تكون مجموعة تصورات تتفاعل داخل شعور كل منا. وكل ما يقول الناس عن العلم والصناعة والتاريخ والاكتشافات والنشاطات المادية حقيقة لا ريب فيها، ولكن نسأل عن معنى الحقيقة؟ انهم يحسبون ان معناها الوجود المادي الكثيف، ولكني أقول ان معناها الوجود الذهني اللطيف.

ومن هنا، فلم يكن يجدي باركلي حجج الماركسية التي زعمت ان تكثيف كلمات علمية وتسطيرها وتكديسها على بعضها، تكفي للقضاء على أية نظرية تريد تحطيمها، فقامت بسرد اكتشافات العلم وحوادث التاريخ في محاولة لدحض المثالية، ولكنها غفلت عن ان المسألة أعمق مما تتصورها. ان المسألة انما هي في وجود أي واقع خارج المادة. باركلي يقول: كل ذلك صحيح، ولكنه لا يعني وجود واقع خارج الشعور، بل يدعم القول بأنها كلها تصورات شعورية محضة.

باركلي يرفض الاعتراف بشخص ماركس وهيجل، بل يقول قد يكونان مجرد شبحين في تصوري، فكيف أؤمن بأفكارهما؟ وحتى إذا آمن بهما فإنه لا يؤمن بما يريانه ويرويانه من وقائع الوجود الخارجي الا بعد تفسير الوجود بالشعور.

باركلي يشكك

وقد أخذ باركلي يشكك نفسه بالواقع الخارجي عن طريق وجود تناقض في الإحساس أو في المعلومات. فقال:

ان كل ما يدركه البشر يرتكز على الحس، وإذا اختبرنا الحس وجدناه مليئا بالمتناقضات. فالبصر يرى الشيء القريب كبيرا، وإذا ابتعد عنه حسبه صغيرا. والاُذن تسمع الصوت ضعيفا إذا كان بعيدا عنها، وإذا اقترب اليها سمعته عاليا ـ أو بالأحرى اعتقد انه يسمعه عاليا ـ وهكذا اليد تلمس الشيء الواحد حارا مرة وباردا أخرى. فمثلا؛ ان أخرجت يديك عن مائين ـ بارد وحار ـ وأغمستهما في ماء دافئ شعرت كل واحدة بعكس ما كانت فيه، والماء واحد.

فإذا كان الإحساس يتناقض فكيف نطمئن إليه؟

ثم يتابع استدلاله قائلا:

ثم لدى تحليل الإحساس نجده ليس سوى التصور، والتصور لا يعدو ان يكون فكرة تعيش داخل الشعور، ولكن لدى التعمق نجد ان هذه الفكرة قد لا تكون وليدة واقع موضوعي. بل وليدة هاجسة نفسية أو قوة علوية تبعثها في نفوسنا.. ألستم أيها الواقعيون تعترفون بوجود أفكار لا واقع لها. فلماذا لا تجعلون كل الأفكار بعيدة عن الواقع؟

وأضاف يقول:

ولندع التصورات الساذجة، لندرس المعارف البشرية، هل هي ذات قيمة بعد التناقض الذي نجده بينها؟ فهي لا تقوم الا لكي تنهار. فكم من قضية كانت من المسلمات، أصبحت من الخرافات. وكم من فكرة أجمع عليها المفكرون، ولم تمض عليها فترة حتى اصبحت مهجورة.

فالواقعيون لا يتمكنون من ادعاء الصحة في أي جزء من معلوماتهم ما دامت سائر الاجزاء قد تبخرت مع حرارة الزمن!

هكذا استدل باركلي.. وتابعه الفريق الذي يدعى بأنصار الشك الحديث الذي قاده (دافيد هيوم)، وكونوا فلسفة لا أدرية. قالوا ما بأيدينا من وسائل العلم لا تكفي للتثبت عن الحقيقة، فالأولى الشك فيها. ولكنه لم يزد على أدلة باركلي شيئا. فجوهر أدلته التناقض البادي بين المعارف والأحاسيس على غرار ما استعرضناه من حجج باركلي.

نقد النظرية

والنظرية تنطوي على التباسات عديدة:

فأولا؛ إن معرفة أخطاء الحس وتناقضاته بسيطة لمن أوتي نور العقل. وما دمنا آمنا بدور العقل الذي لا يخضع للحس وانما بالعكس يخضع الحس له، فإن بمقدورنا كشف تناقضات الحس ببساطة متناهية. ولقد سبق أن بَيّنا كيف ينقد العقل مدركات الحس. فالعقل ـ كما قلنا آنفا ـ نور يكشف الواقع الخارجي ويجعل النفس تطل عليه وتشاهده مباشرة. وليس العلم تصورا تنطوي عليه النفس ـ كما زعم ارسطو ـ حتى يزعم باركلي: ان ليس لدينا ضمان كاف لتطابق الصورة مع الواقع الخارجي.

إذاً فإنتقادات باركلي وتشكيكاته مركزة ضد نظرية ارسطو التقليدية التي زعمت ان المعرفة ليست سوى صور في النفس منعكسة عن الأشياء فأنكرها، وقال: من يقول بوجود حقائق وراء الصور؟ أما حسب تذكرة الإسلام لواقع المعرفة التي كشفت لنا سابقا من أنها نور كاشف للواقع مباشرة، فإن انتقادات باركلي تذهب هباء. وقد نوه باركلي ذاته بهذا الأمر حيث يظهر من أقواله انه لو كانت المعرفة شهودا للواقع مباشرة كانت صحيحة ولكنها ليست كذلك.

كذلك حجة باركلي الثالثة المرتكزة على ان المعارف البشرية قد تخطئ، فإنها نوع من الخلط بين المعرفة والجهل، لأن المعارف لن تخطئ لأنها مشاهدات مباشرة للواقع. وهناك فرق كبير بين تبين خطأ عقيدة، وبين تبين خطأ علم. العلم لا يخطئ، بينما تخطئ العقيدة إذ ان الثانية تخضع للشهوات والتطورات المادية بيد ان العلم النابع من العقل ليس كذلك.

ويكفينا حجة: تلك المجموعة الضخمة من المعلومات التي لا يتردد أحد فيها ولا يحتمل انها قد تخطئ في يوم ما إطلاقا. مثلا: الإيمان بوجود حقيقة الكون والسنن العامة فيه، والقوانين الرياضية التي تحكمه، لا يمكن ولا نحتمل ان تخطئ في يوم من الأيام. وباركلي لم يزد على الإدعاء بوجود الأخطاء في الحس أو في المعلومات. وهذا لا يكون دليلا على عدم وجود واقع خارج الشعور، انما هو دليل على مذهب الشك، الذي يقول انه لا يمكن ان نعترف بكل مفاهيمنا الواردة علينا من قبل الحس. ونحن لا ننكر وجوب التشكيك في طائفة من الأفكار الا اننا حتى في حالة التشكيك هذه نستعين بعقولنا، كما فعل باركلي نفسه. فكيف نشكك أنفسنا دون القول بإستحالة التناقض التي جعلها باركلي نفسه دليلا على بطلان الإحساس مع انه لو لم نسلم سلفا بهذا المبدأ لم يكن لنا ان نستدل بأي دليل أبدا. إذ يمكن لأي معترض ان يفحمنا بالقول: بأنه ما هو المانع من تناقض الإحساس وصحة هذا التناقض، وبالتالي صحة المعلومات المنبثقة عنها؟

ب - المثالية الفيزيائية

ما هي طبيعة المادة؟ قال علم الميكانيك التقليدي انها مجموعة جزئيات أصلية لا تتجزأ. وكان يبدو ان ذلك أمر لا مرد منه، وواقع لا ريب فيه. ولهذا قابل التلاميذ استاذهم الفيزيائي في إحدى جامعات المانيا الذي نادى بإمكانية تفجير الذرة (اوالجزء الذي لا يتجزأ)، قابلوه بالإنكار الشديد حتى لم يعد يتابع كشوفاته الذرية، ولو فعل لكان زمن ظهورها العشرينات.

وحين تقدم العلم وفجرت الذرة تفجيرا، تفجرت في الوقت ذاته ثقة الإنسان بعلمه الميكانيكي وذهبت مسلماته هباء.

فأصابت الأزمة النفسية بعض العلماء، وقالوا: ما دامت المادة لم تكن حجرا ثابتا لبناء صرح العلم عليه بينما كنا نعتقد نحن انها كذلك فمن يضمن لنا ان تثبت الذرة مكانها. أليس من الممكن ان يأتي العلم ليقول لنا يوما ان الذرة أيضا وهم تقليدي؟ وهكذا اندفعوا إلى المثالية. فقال (اوزوالد): ان العصا التي تضرب (سكايان) لا تنهض على وجود العالم الخارجي. هذه العصا ليست موجودة، وليس موجودا الا طاقاتها الحركية.

نقد النظرية

اننا حين نعلم شيئا، فلابد ان نستند على مجموعة كبيرة من الأحكام العقلية. فالعلم بنواة الذرة ـ مثلا ـ مبني على صحة التجربة وهي مستندة على حكم العقل. فإذا كانت عملية تفجير الذرة أمرا واقعيا، فلا داعي إلى القول بأنه لا واقع أمامنا؟

والحقيقة ان المثالية الفيزيائية لا تنكر وجود العلم ولا وجود المادة التي يكشف عنها العلم، وانما تنكر فقط ان تكون المادة مجموعة جزئيات أصلية. بل تقول ان التصور الجامد عن المادة غير صحيح. بل انها حركة وطاقة في جوهرها. وهذه حجة قوية على وجود شيء وراء الشعور، وهو ما أنكرته المثالية الفلسفية. فاللفظ فقط قاسم مشترك بين المثالية الفلسفية والمثالية الفيزيائية والا فهما متباعدتان جدا.

ج - المثالية الفيزيولوجية

وتتلخص هذه النظرية في ان الإحساس، وهو المصدر الوحيد للمعرفة لدى هذه الدراسة، عملية فيزيولوجية ترتبط بالأعصاب وبناء المخ وشروط الزمان والمكان. ولقد اكتشف العلم، ان حقيقة الكون التي تحس بالأجهزة العلمية تختلف جدا عما نحس به بدونها. ولذلك فإنهم قالوا: ان الإحساس ليس أداة أمينة لنقل المؤثرات الخارجية، وان الحقائق تقوم بالنسبة إليها بدور المنبه فقط.

وهذه المثالية لها واجهتان: الأولى علمية، والثانية فلسفية. فالواجهة العلمية هي ان الأحاسيس لا تنقل إلينا كل الحقائق المرتبطة بها، فلذلك يحتاج البشر في سبيل الحصول على معلومات أدق عن الكون، ان يخترع أجهزة جديدة لكشف أكبر قدر ممكن من الحقائق. وهذه الواجهة تزيد من ثقة الإنسان بعقله.

والواجهة الفلسفية تهدف عدم الثقة بالمحسوسات بحجة انها تتعرض لمؤثرات ذاتية.

أما الواجهة الأولى فإنها صحيحة؛ أي ان العلم يكشف لنا عن حقائق في محسوساتنا لا تبلغها حواسنا الإعتيادية.. الا انها كما نعلم تفيدنا ثقة بمعارفنا وبما تكشفه لنا من حقائق.

اما الواجهة الثانية (أي الفلسفية) فإنها تقوم على أساس خاطئ هو ان الإحساس هو المصدر الوحيد لمعارفنا، أو هو المصدر الأول والأهم. أما لو قلنا بأن العقل هو المصدر الوحيد أو الأهم الذي يزودنا بالمعارف الصحيحة التي لا ريب فيها، فإن هذه المثالية ستفقد قاعدتها. وقد قلنا ـ عندما تحدثنا عن دور العقل في نقد المعلومات الواردة عن طريق الإحساس ـ قلنا ان المقارنة بين الأحاسيس المختلفة للشخص نفسه في أوقات متفاوتة أو بين أشخاص متعددين ذوي اتجاهات متعارضة.. ان هذه المقارنة من جهة، ومن جهة ثانية المقارنة بين المحسوسات والأحكام العقلية القاطعة، ستكون المقياس الذي نقيم به الأحاسيس ونعرف الصحيحة منها عن الباطلة.

------------------------

كانت والنسبية الذاتية

انطلق (كانت) في مسيرته الجديدة من قاعدة (القلب والنظر إلى الحقيقة) قال: حينما رأيت مشاكل عديدة تمنع عن بلوغ حقيقة المعرفة، فعلت ما فعل غاليلو بالنسبة إلى الهيئة؛ فبدلا من ان يقول الأرض مركز العالم والشمس تدور حولها، قال ان الشمس هي المركز والأرض تدور حولها، فنجح وحلت مشاكله العلمية. وكذلك نجحت حين قلت: الناس حتى اللحظة كانوا يحسبون ان الحقائق هي المركز والفكر يدور حولها. ولكن بدأت أقول: الفكر هو المركز والحقائق تدور حوله، وأبسط الحقائق هو الإحساس.. فما يزعمه الناس حول الإحساس؟ انه انعكاس الحقيقة على الذهن، ولكن أقول بل هو صبغة الذهن للحقائق. انا أقول: صحيح ان هناك حقائق نحس بها، ولكن لم يكن من الممكن الإحساس بها الا في حدود الزمان والمكان. ولدى التعمق أكثر من هذا، نرى ان الزمان لا يعني سوى نسبة الإنسان إلى الأحداث. وأما المكان فهو نسبة الإنسان (ونعني به هنا الفكر) إلى الأشياء. فاليوم يعني: تقارن إحساسي مع دورة الشمس، والمكان القريب يعني: قربي إليه. ونستطيع تشبيه الزمان والمكان بظرف بلور نضع فيه الماء فيصطبغ الماء بلون الظرف فنعتقد نحن ان اللون من الماء، ولكن الظرف فقط واهب اللون. وكذلك نحن نزعم الحقيقة في الزمان والمكان، والواقع هو اننا نحن نعيش عبر المحدودية الزمانية والمكانية، لا أن الحقائق هي التي تعيش.

من هنا كان منطق (كانت) مزج الحقيقة البسيطة وهي الإحساس (بصبغة ذاتية) هي صبغة الزمان والمكان. فقال: نستنتج من هذا ان الحقيقة كما هي في واقعها –أو بتعبير آخر كما هي في ذاتها - لا يمكن ان تعرف لأننا نملك الا أداة محدودة للمعرفة وهي أداة الذهن التي تعيش ضمن وقت ومحل محدودين. فالحقيقة انما تعرف بنسبة معينة وهكذا كانت النظرية نسبية وتفرق بين (الشيء لذاته) و(الشيء لذاتنا). فالشيء لذاته أو كما هو في ذاته يختلف عن (الشيء لذاتنا) أو الشيء كما نتصوره. ثم استرسل قائلا: ولذلك فإن بحوث الميتافيزيقيا (الغيب) بعيدة عن إحاطة الإنسان لأنها مجردة عن الزمان والمكان.. اما بحوث الرياضيات فإنها أيضا لا تعكس الحقائق ولكنها صحيحة حسب أفكارنا إذ انها تكرير لحقيقتي الزمان والمكان. فالحساب مجموعة أعداد، والعدد ليس الا انعكاس الذهن على شاشة الأشياء. فأنا، يعني عندي واحد. وأتصور مثلين لـ(أنا) فأكوّن فكرة(2) وهكذا. وكذلك الهندسة تحديد للأماكن القريبة والبعيدة ونوع قربها وبعدها عني. واستخلص (كانت) من منهجه ان العلوم على أقسام:

1- الطبيعيات؛ وهي التي تحتوي على مادة هي الإحساسات وصورة هي الزمان والمكان.

2- الرياضيات؛ وهي التي تحتوي على صورة ـ وهي الزمان والمكان ـ ولكن بدون مادة.

3- الإلهيات (الميتافيزيقيا)؛ وهي التي لا تحتوي موضوعاتها على صورة ولا على مادة.

ويقول ان معارفنا عن الطبيعيات مزيجة من الذاتية والموضوعية وهي لذلك لا تمثل الا بعض الحقيقة. ومعارفنا عن الرياضيات ذاتية بحتة ورغم اننا نعتقد بها لانها جزء من تركيب أذهاننا فإنها لا تعكس حقيقة وراءها… وأما معارفنا عن الغيب (ميتافيزيقيا) فإنها لا ذاتية ولا موضوعية.

نقد النسبية الذاتية

1- لكي نكون واقعيين ينبغي ان نتساءل ما هي الوسيلة التي عرف بها كانت، ان الزمان والمكان عرضان ذاتيان؟ أهي المعرفة أم هي الجهالة؟ إنَّ (كانت) لا يتردد عن القول بأنه اكتشف بصورة جازمة طبيعة الزمان والمكان. وهذا يعني انه عالم بحقيقة الزمان والمكان، وهو يعني بدوره ان لـ(كانت) كإنسان نورا كاشفا يستطيع ان يسلطه على نفسه ويكشف فيها حقيقة الزمان والمكان. ونحن إذ عرفنا هذه الحقيقة وهي: وجود نور في النفس يكشف الحقائق ورأينا أنفسنا نملك أشد القناعات بنتائج هذا النور نعلم بأن البشر قادر على كشف الأشياء، ومقدار ما يكتشف منها يكون واضحا أمامه وذا قيمة تامة لديه.

وهذا ذات ما استهدفناه بالمذهب العقلي، وهو ينطوي على رد النسبية الذاتية. إذ ان الذات (ونعني به هنا ما بالنفس من عوارض الجهل والهوى) خاضع لنور العقل الموجود فيه ومنكشف به. وإذاً فهو يفتضح لدى ادخال جهالات باطلة ضمن المعلومات الصحيحة.

2- والزمان والمكان منكشفان بالعلم، ذلك ان التعاقب بين حدثين ( وهو مفهوم الزمان عند كانت )، أو بين شيئين (وهو مفهوم المكان عند كانت )، ان هذا التعاقب لا يمكن الاحساس به، فكيف اعتقدنا به؟ يقول(كانت) لانه يستحيل العلم بشيء لا زمان له. وهذا خطأ، فالمستحيل مثلا نعلم به بعيدا عن قالبي الزمان والمكان وكذلك الخير والشر والقبح والحسن والفضيلة والرذيلة.

ومن هنا نعلم ان موضوعات المعارف الغيبية (ميتافيزيقيا) معلومات لا ريب فيها بالرغم من أنها لا تخضع لظرفي الزمان والمكان لأنها أولا: معلومات قناعتنا بها قد تكون أشد من قناعتنا بنتائج الحس. فكيف نؤمن بهذه ونكفر بتلك؟ ولأنها ثانيا: تضاهي تلك المعارف التي نؤمن بها وليست خاضعة لظرفي الزمان والمكان مثل المعلومات العقلية التي آمن بها (كانت) أيضا، كإستحالة التناقض.. ولأنها ثالثا وأخيرا: هي النتيجة الطبيعية للإيمان برابطة العلة والمعلول التي آمن بها (كانت) نفسه.

والواقع ان (كانت) أبعد عن منطقه الوضعي الحقائق الغيبية لأنها لا تخضع لمفهومي (الزمان) و(المكان). وهو لم يأت بدليل مقنع في ان يتخذ من علمنا اليقين بالغيبيات، حجة على ان الزمان والمكان لا يعدوان حقيقتين منكشفتين بالعقل، وليسا أمرين ذاتيين ـ كما زعم ـ.

وبعد فنحن لا ننكر ان هناك مجموعة من الحقائق لا يمكننا الإحاطة بها علما. فحقيقة الوجود –مثلا- حقيقة بعيدة عن الزمان والمكان ولكننا بعيدين عن معرفتها، لأننا نعيش في إطار الزمان والمكان ومن المستصعب عمليا التجرد عنهما للاطلال على جوهر الأشياء.ولكن هذا لا يزيدنا الا ثقة بعقولنا التي هدتنا إلى ان هناك حقائق نجهلها وإلا فكيف عرفنا ان هناك حقائق وراء مشاعرنا؟!

النسبية الفردية

كان (كانت) يذهب إلى النسبية الذاتية التي تهدف إلى اثبات وجود إضافة من ذات البشر على المعلومات التي تعتبر عنده إضافة المحسوسات إلى ما بالذات من قالبي الزمان والمكان.

وكانت تلك النسبية ترى: ان الذات البشرية واحدة في كل إنسان، وان الناس سواسية في تفهم الحقائق.

وكانت تعترف أيضا بصحة المعارف الرياضية لأنها نابعة من أصل ثابت عند الناس جميعا وهو الزمان والمكان.

الا انها تطورت لدى النسبية الفردية، فقالت:

1- ما دامت الذات البشرية تخلق أثرا غير واقعي على المعارف كقالبي الزمان والمكان، ولا يملك الإنسان نورا يكشف به زيف هذه الزيادة وبُعدها عن الحقيقة، ما دام الأمر كذلك فإن القول بأن الناس سواسية في الإضافات قول باطل، لأن لكل إنسان شروطا خاصة بالإدراك ليست للفرد الآخر. ومن هنا فله إضافات ذاتية مخصوصة به، فكل بشر يدرك على شاكلته. ولهذا قالت هذه النسبية: لكل شخص حقيقة تخصه.

2- وعلى هذا فليس من الصحيح الإيمان بصحة الرياضيات إذ انها غير ثابتة هي الأخرى. بل قد تكون 2×2=4 عندي، ولكن عند غيري يساوي خمسة، لماذا؟ لأنه لا يملك أحد مقياسا ثابتا للمعرفة إذ يحتمل فساد معلوماته بإقحام التصورات النابعة عن شروطه الخاصة للإدراك.

هذه هي النسبية الفردية، وقد فضلنا ان نسميها بالفردية مع ان المشهور تسميتها بالذاتية إنطلاقا من قاعدتها: ان لكل فرد نوعا خاصا من الإدراك.

وهذه النسبية ليست الا البنت الشرعية لنسبية (كانت)، بل هي وليدة الكفر بنور العقل الكاشف لغياهب الذات، والناقد للحس بطرقه الخاصة.

وقد سبق القول منا في الفصل الأول، كيف ان العقل يحكم أحكاما ثابتة لا ريب فيها ولا تتفاوت بين شخص وآخر، وقلنا كيف ان الذات منكشفة هي الأخرى وما تحس به لهذا النور المبين.

وبناء على تلك الحقائق التي ذكرنا بها في ذلك الفصل يبدو التشكيك في المعرفة البشرية ـ غير المتأثرة بالهوى والغضب والتسرع ـ تافها. إذ ان الإدراك العلمي لا يخضع لشروط شخصية، وبالتالي فهو يثبت صامدا أمام مؤثرات المادة.

والواقع ان جذر الخطأ في جميع مذاهب الشك والنسبية كامن في أمر واحد هو الخلط بين دور العقل ودور الجهل اللذين يتنازعان النفس البشرية.. الجهل (أي الذاتية والمصلحية والغفلة وما إلى ذلك) يضغط على الإنسان لكي يعتقد بفكرة ولكن العقل يحكم على زيفها أو صحتها ثم يكون للإنسان كامل الحرية في اختيار أي الطرفين.. وحين يصفو العقل (باختيار الإنسان له) فإنه يكشف عن الواقع. واذا كشف فإن أي شيئ لا يتمكن من تشكيك صاحبه في حكمه الذي يعتبره هو الحق.

-------------------

النسبية التطورية

وتابعت النسبية مسيرتها، منطلقة من قاعدة واحدة هي الغفلة عن نور العقل، الذي زودت النفس البشرية به حتى جاءت النسبية التطورية النهاية الحتمية لها. وذلك لأنه إذا كانت المادة حقيقة الإحساس، والإحساس حقيقة المعرفة أو أهم مصادرها، واذا كانت المادة في حالة تطور دائم، فلماذا لا تكون المعرفة هي أيضا متطورة ولا تمثل الا بعض واجهات الحقيقة؟

ولكي نعرف حقيقة النسبية التطورية يجب ان نلقي بعض الأضواء على ديالكتيك الفكر التي هي جزء من المادية الديالكتيكية.

ان للمادية الديالكتيكية جانبا إيجابيا وآخر سلبيا. في الجانب الأول تحاول الديالكتيكية اثبات معرفة حقة للإنسان بإزاء المثالية والتشكيكية.. وتحاول في الجانب الثاني، اثبات صفة التطور للمعرفة.

والحقيقة ان المحاولتين متباعدتان. يظهر ذلك ببيان كلا الجانبين وما قد يتعرضان له من انتقاد.

1- الجانب الإيجابي

تقيم المادية الديالكتيكية عدة أدلة على تطابق المعرفة مع الواقع الخارجي. وينبغي ان نتذكر في البدء ان طبيعة الأدلة علمية وغير مرتبطة بمسألتنا الفلسفية.. ذلك لأن النظرية المثالية والتشكيكية التي تحاول النسبية التطورية تفنيدها، نظرية فلسفية تستند إلى التشكيك في كل علم، بل في كل شيء وراء عالم المادة. وان أية حقيقة علمية لا تفيدها لأنها لا تشك في تلك الحقيقة العلمية التي احتج بها فقط، بل وحتى في وجود قائلها، ويكون أشبه بإستدلال النائم ـ وهو يحلم ـ بصحة علمه على انه يسمع ويرى ويتحرك في حين لا يعترف الواعي بسماعه ورؤيته وتحركه. بعد هذه الملاحظة دعنا نستعرض أدلة الديالكتيك:

الدليل الأول:

ان الفكرة ليست الا نتاجا أعلى للمادة، حيث انها تتحول في عملية فيزيائية من الكتلة إلى الطاقة، وتتحول بعد ذلك من الطاقة إلى الأعصاب في عملية فيزيولوجية، وتتحول بعدئذ إلى عملية سيكلوجية.

فمسيرة الفكرة كالتالية:

المادة الإحساس الإحساس المعرفة..

وبتعبير آخر:

المادة الفيزياء الفيزلوجي السيكلوجي.

فإذا كانت المادة لونا من ألوان الحركة، فإن ذات الحركة بصفاتها تحولت إلى حركة نفسية عبر حركة في الأعصاب. فلذلك لا نستطيع ان نقول، ان الإحساس يختلف عن الواقع الموضوعي.

ونحن واقعيون ونعترف بتوافق الإحساس والواقع الموضوعي أولا أقل إمكان هذا التوافق. ولكننا مع التجرد عن هذه الصفة، وافتراض كوننا مثالين جدلاً لا نستطيع ان نقتنع بهذا الدليل، لماذا؟ ينبغي توضيح نقطتين لمعرفة السبب الذي حملنا على رفض هذا الدليل!

بين التحويل والتنبيه

لابد من الفرق بين مفهومي التحول والتنبه. ففي الميكانيك: البنزين يتحول إلى طاقة محركة، أما الضغط الذي يولد الانفجار في عبوات الطاقة فإنه ليس الا منبها؛ أي ليس هو الذي يحرك السيارة، وانما هو الذي ينبه الطاقة، ويشعلها.. ومثل آخر عن الكهرباء: الطاقة تتكون في مركز توليد الطاقة، وتسير عبر الاسلاك حتى تبلغ قريب المصباح حيث ينقطع السير في الزر المختص، ويأتي الإنسان ليضغط على (الزر) فيشتعل المصباح.. طاقة الإنسان تحولت فعلا إلى الزر ولكنها ليست هي التي أعطت المصباح الضياء، بل كانت بالنسبة إليها منبها فقط.

فتحويل الطاقة يعني إنتهاء الطاقة من شيء ووجودها في شيء آخر لم تكن فيها أية طاقة. أما التنبيه فإن الطاقة لا تتحول من الشيء الأول إلى الشيء الثاني، بل ان الشيء الثاني يملك طاقة من ذاتها أو من مكان آخر، ولكنها تنتظر المنبه.

وهنا نستطيع التفرقة بين عملية الإحساس وعملية الهضم. فالأولى منبهة والثانية محولة. الإحساس لا يحول الطاقة من الشيء الخارجي بكاملها إلى الأعصاب، بل حين أحس بالنور يبقى النور في مكانه، ولا يتحول كله إلى الأعصاب. والأعصاب هي بذاتها حية فيها الحركة والطاقة تماما كما هو موجود في أسلاك الكهرباء، والإثارة الخارجية لا تعدو ان تكون محركة لتلك الطاقة الموجودة.

ولمزيد من التوضيح نقارن المنبهات بالإرادة. فنحن جميعا نعلم بوجود خطين في الأعصاب؛ خط الاستقبال، وخط التوجيه. فالمنبهات بالنسبة إلى خط الاستقبال تؤثر على الأعصاب حتى تحمل الإحساس إلى الدماغ. أما خط التوجيه فإنه يرسل بسببه الأوامر من الدماغ إلى الأعضاء. فالإرادة تبعث في الأعصاب ما تبعثه المؤثرات الخارجية فيها لكن بإتجاه معاكس.. وبما ان عملية التوجيه ليست بتحويل الطاقة إلى الأعصاب إذ ان الإرادة باقية محلها، فإن عكسه وهو خط الاستقبال لا يحول الطاقة من الخارج إلى الأعصاب. وهي بالتالي تشبه المنبهات الآلية الموجودة في الطائرات المزودة بالرادار، حيث انها هي التي تنبه بالمؤثرات وليست عملية تحويل الطاقة تجري فيه كما تجري في محركاتها ونفاثاتها.

وهذا لا يجعلنا ننكر أي تحويل. فبالدقة ان هناك جزءاً قليلا من الطاقة تتحول من المنبهات إلى الأعصاب (كالجزء القليل من الأشعة التي تنعكس على شبكة العين)، ولكن لا يعني هذا (التحويل المطلق) كما لا يعني تفسير الإحساس بعملية التحويل.

وقد خلطت المادية الديالكتيكية بين التحويل والتنبيه هذه مفارقة.

و مفارقة اخرى: لم تفسر لنا المادية هنا كيف تتم عملية تحول الطاقة من فيزيولوجيا إلى سيكلوجيا؛ أي كيف يعرف الإنسان؟ وهذا هو السؤال الأهم في مشكلة المعرفة، والا فتحويل الطاقة من الخارج إلى الأعصاب أمر يفهمه الأطفال إذا حدد بالإثارة والتنبيه فقط كما فعلنا آنفا.

وهكذا سقطت الحجة عن قيمتها في مشكلة المعرفة وكانت أشبه بالفرار من الإجابة عن شيء إلى الإجابة عن شيء آخر.

وبعد هاتين المفارقتين نقول:

المشكلة في تقييم المعرفة ومطابقتها للواقع الخارجي تبدأ أولا: -وعند المثالييّن- بالسؤال عن هذه المعلومات (تحويل الطاقة و.. و.. و..) ذاتها فالمثاليون ينكرونها رأسا فما هو الدليل على صحتها؟

ولو افترضنا ـ جدلاً ـ صحة عملية التحويل هذه، فهل في هذا أي دليل على المطابقة بين الفكرة والحقيقة الخارجية.. مع أنهما شيئان حسب اعتراف المادية الديالكتيكية ذاتها، وهل ان الأسلاك تعلم بماهية توليد الطاقة حينما تتحول اليها هذه الطاقة؟

ولنفترض انها تعلم، ولكن العلم ليس مجرد الإحساس البسيط ـ كما يعترف بذلك الديالكتيك ـ فهناك حسب نظريته المفاهيم العامة. فكيف يمكن تفسير تكوّن المفاهيم العامة؟ مع انه يشبه تكون طاقات كهربائية مضاعفة في ذات الأسلاك فهل تسمي ذلك تحويل طاقة أيضا؟

الدليل الثاني:

وقال الديالكتيك:

ان الفكر يستطيع ان يعرف الطبيعة معرفة تامة، ذلك لأنه يؤلف جزءا منها وهو نتاجها والتعبير الأعلى. فليس الفكر سوى الطبيعة، تعي ذاتها في ضمير الإنسان. يقول لينين: (ان الكون هو حركة للمادة تخضع لقوانين، ولما لم تكن معرفتنا الا نتاجا أعلى للطبيعة لا يسعها الا ان تعكس هذه القوانين). ان هذا الدليل ليس الا ترديدا خطابيا لذات الدعوى فهي مصادرة حسب تعبير الفلاسفة. ان المثالية تقول: حسناً، ما معنى التعبير؟ وما معنى الوعي؟ اللون تعبير عن نور الشمس، يعني انه يعيه ويفهمه ويشعر به. الكلمة تعبير عن الواقع الموضوعي، يعني انها تعيه وتفهمه وتشعر به. ثم ماذا يعني وعي الطبيعة لذاتها؟ هل يعني هذا ان هناك تمازجا بين المخ والمادة؟ فلنسأل أيهما أشد تمازجا المعدة أم الدماغ، بل أيهما أشد تمازجا البنزين في محركات الطائرة أم الإثارات في عملية المخ؟ ان التشويش يبدو واضحا في نصوص المادية الديالكتيكية التي تبغي اثبات قيمة للمعرفة وهو اكبر دليل على فشل أية حجة تريد إثبات أية قيمة للعقل دون التوسل إلى ذاته والتنور به، لا الإنحراف عنه إلى المادة لتفسير العقل بما لا يغني عن الحق شيئا.

الدليل الثالث:

وفي النص التالي يحاول الديالكتيك اثبات قيمة تامة للمعرفة عن طريق علم الحياة فيقول:

(ان الفكرة لا تستطيع ان تكون ـ وهي في مستوى الاحساس ـ نافعة بيولوجيا في حفظ الحياة، الا إذا كانت تعكس الواقع الموضوعي. فإذا كان صحيحا: ان الإحساس ليس الا رمزا دون أيما شبه بالشيء، واذا كان يمكن بالتالي تطابق أشياء عديدة متغايرة أو أشياء وهمية ومثلها تماما أشياء واقعية عندئذ يكون التعوّد البيولوجي على البيئة مستحيلا. إذ افترضنا ان الحواس لا تتيح لنا تعيين اتجاهنا بيقين وسط الأشياء).

ولكن هذا الدليل هو الآخر يسقط منهارا أمام تساؤلات المثالية والنسبية الفيزيولوجية والفردية أو .. أو.. التي تقول: أفليس من الممكن ان يكون الرمز كافيا لتحديد اتجاه البشر في وسط الأشياء، ثم لا يكون كاشفا عما وراءه من حقيقة موضوعية. أفليس النبات أيضا يكيف ذاته وسط الحياة بالرموز ولكنه لا يعلم شيئا، أوليست الطبيعة كلها تجري وفق رموز متبادلة، بل أليست الماكنة الحديثة تسير وفق رموز ولكنها لا تعي الحقيقة؟

من هنا نعلم ان المادية الديالكتيكية عاجزة عن اثبات أية قيمة ثابتة للمعرفة. والواقع ان أية نظرية تنحرف عن منهج الحق، وتبتغي السبل الملتوية لا يقدر لها النجاح.

2- الجانب السلبي

تعتقد الديالكتيكية بالنسبية التطورية التي تعني ان الفكر الإنساني لا يستطيع الا معرفة بعض الحقائق، ولكن لا بمعنى ان الحقيقة التي تحس وتدرك لا تمثل الواقع وتمثل الذات الشاعرة كما زعمها النسبية الذاتية والنسبية الفردية؛ لا بهذا المعنى، بل بمعنى ان المعرفة ذاتها تنمو وتتكامل كأي شيء مادي آخر في الكون. ومن هنا يقول لينين:

(نستطيع بإنطلاقنا من المذهب النسبي البحت تبرير كل نوع من أنواع السفسطة). ويقول كيدروف: (ولكن قد توجد ثمة نزعة ذاتية ليس فقط حينما نعمل على أساس المنطق الشكلي بمقولاته الساكنة الجامدة وإنما أيضا حينما نعمل بواسطة مقولاته المرنة والمتحركة. ففي الحالة الأولى نصل إلى الغيبية وفي الثانية نصل إلى المذهب النسبي والسفسطائية والإنتقائية). يقول كيدروف أيضا: (أما المنطق الديالكتيكي فهو لا يواجه هذا الحكم بأنه شيء مكتمل، بل بوصفه تعبيراً عن فكرة قادرة على ان تنمو وتتحرك، ومهما كانت بساطة حكم ما ومهما بدا عاديا هذا الحكم فهو يحتوي على بذور أو عناصر ديالكتيكية تتحرك وتنمو - داخل نطاقها - المعرفة البشرية كلها).

وتذهب الديالكتيكية في المعرفة بعيدا لتجعل الحقيقة مزيجة دائما من الصحيح والباطل ومن السلب والإيجاب. فلو عرفنا مثلا: وجود ظاهرة حسب الرأي الشكلي، قلنا انها موجودة. ولكن الديالكتيك لا تقول أبدا ان هذا الشيء موجود وكفى. بل تقول انها موجودة في لحظة. فلنستمع إلى مثال كيدروف: (هل الدائرة المربعة موجودة؟ في المنطق الشكلي يقف الإنسان عند حد إجابات بسيطة جدا (نعم) أو (لا)؛ أي عند حد تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ لهذا السبب تواجه الحقيقة بإعتبارها شيئا معطى ساكنا ثابتا نهائيا ومتعارضا تعارضا مطلقا مع الخطأ ولكن المادية الديالكتيكية تقول نعم ولا في لحظة..).

خلاصة النظرية: انها تدور في ثلاث نقاط:

1- ان الحقيقة ذاتها تتطور.

2- ان الحقيقة دائما مشوبة بالباطل.

3- ان تنامي الحقيقة انما هي خاضعة لوجود التناقض الداخلي فيها.

مفارقات في النظرية النسبية

ولكي نتعرف على واقع هذه النظرية يجب ان نمهد لها بعدة نقاط:

1- في أكثر الأوقات تتجه النفس البشرية إلى جانب واحد فقط من الأشياء وتعتقد انه يمثل كل الجوانب.

وهذا الاعتقاد ينشأ من استكبار النفس عن الحقيقة وتجبّرها عليها، حيث تدعي علم كل شيء. وعلى الإنسان ان يكتشف في ذاته هذه الصفة الناقصة ويحاول إزالتها بالإيحاء الدائم إليها. انها لم تبلغ من العلم الا شيئاً قليلا.. ويوجه الإسلام الإنسان إلى هذه الناحية ويقول: [وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] (الاسراء 85).

وقد يفترض الإنسان ان هذا الجانب الذي يشاهده لا يمثل الحقيقة كلها. ولو كان واثقا من انها الحقيقة وثوقا، قد يفترض ذلك لكي يكشف السلبيات الذاتية التي تمتزج مع الحقيقة في كثير من الأوقات. وقد يكون السبيل إلى ذلك افتراض وجود التناقضات في الحقائق المادية شريطة ان تفسر كلمة التناقض، بالتقابل. مثل تقابل (البيضة) و(الفروجة) في محاولة لكشف تطورات المستقبل وحوادث الماضي إلى جانب الإحاطة بحالات الحاضر التي تكتنف الحقيقة الواحدة. فمثلا في الفرضية السابقة ينبغي لمن شاهد شكلا مربعا الا يثق مبدئيا بهذه المشاهدة، بل يغير زاويته، فلعله يكتشف ان مقامه هو الذي أوحى إليه انه يرى مربعا بينما هو مستطيل.

ولقد كانت نظرية هيجل فيما يتبين بالدراسة العميقة لا تعدو حوارا مع الذات، لمحاولة كشف الحقيقة كاملة. أو حسب تعبير بعض الناقدين العرب عن هذه النظرية انها كانت محاولة لفض الفكر ذاته إنطلاقا من ان الدراسة العلمية الناجحة تعتمد على تكثيف الإحتمالات العقلية حول الموضوع. فلعل في واحدة منها ما يكشف عن سنة فطرية هامة. هكذا كانت نظرية هيجل.

الا ان ظروفاً سياسية سيئة حالت دون قيام هذا المنطق بدوره الإيجابي وطورته إلى أداة إعلامية ضد فئات وأفكار وقيم معينة. وفيما يلي نعرف بعض السبب.

2- ما هو التناقض؟ شأن كل الألفاظ يختلف معناه الأدبي المشتهر عن معناه في مصطلح المناطقة والفلاسفة الأقدمين. التناقض في الأدب العربي يعني (مطلق المقابلة) فالوجود والعدم متناقضان لأنهما متقابلان، وزيد وعمر متناقضان لأنهما متقــابلان في الرأي، ودارنــا ودار من يقابلنا أيضا متناقضتان ـ هذا في الأدب العربي ـ.

ولكن المنطق والفلسفة يحصران معنى التناقض في التقابل بين الوجود والعدم في لحظة واحدة. وهو ـ بالطبع ـ يختلف كثيرا عن المعنى العام الشائع في الأدب.

وهذا الفرق سبب اختلافا ليس وراءه الا جهل بمراد الأطراف من اللفظ.. وقد كان نصيب الكتب المترجمة كبيرا جدا من هذا الاختلاف ولاسيما ان المترجمين لم يكونوا دائما فلاسفة حتى يتقيدوا بإصطلاحات الفلسفة. ومنطق هيجل، شأنه شأن أكثر المذاهب الفلسفية كان ذا حظ وافر من أخطاء الترجمة أو أخطاء الخلط بين ترجمة أدبية وأخرى علمية.

وواحد من أبرز الأمثلة على ذلك، مسرحية القول بإمكانية التناقض. لقد قالوا: بإمكان التناقض ولكنهم انما عنوا به (كل تقابل…).

وقلنا: بإستحالة التناقض وقصدنا ما يكون منه (اجتماع الوجود والعدم) فقط. والبون بعيد، ولكن الاختلاف قائم على أشده.

هيجل ومن ورائه الماركسيون قالوا بإمكانية التناقض وكل أمثلتهم تدل على انهم أرادوا منه مطلق تقابل شيء مع شيء آخر. فقالوا:

أ : الدجاجة تتناقض مع الفروجة، وهي تتناقض مع البيضة!

ب : وان الهزيمة والإنتصار وهما تتعاقبان في الجيش نوع من اجتماع النقيضين!

ج : وان الثمرة تتناقض مع الشجرة!

واضح ان المقصود في كل ذلك مجرد نوع من التقابل الذي لم ينكره أحد من الفلاسفة، وليس معنى التناقض لدى هيجل اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد ووقت واحد. وهل يمكن ان يكون هناك عاقل يعترف بإمكانية اجتماع وجود زيد وعدمه في ذات الزمان؟ وإمكانية صحة قانون وبطلانه؟ وإمكانية ان يكون الجيش في معركة واحدة منتصرا ومنهزما؟!

ومن هنا فإن جانبا كبيرا من الخلافات يتهافت بسبب تفسير اللفظ تفسيرا مناسبا.. والجدير بالذكر ان هناك فريقا من الغوغائيين استغلوا لفظة التناقض المشتركة في المعنى لأهدافهم الإعلامية، فشرعوا يشنون حربا غير شريفة ضد المنطق الشكلي، زاعمين انه جامد وغير معترف بالفوارق الموجودة في الطبيعة. هذا عن التناقض، اما عن التطور؟ فنتابع الحديث:

3- لنفترض مرآة صافية إلى جنب نهر جار، الماء يتدفق وصورته تنعكس على الشاشة الصافية. ان ثبات المرآة شرط ضروري لأمانة الصور المنعكسة فيها. فلو جاء شخص وأخذ يهزالمرآة، فإنها تتعرض آنذاك للتشويش.. ولو فرض ان شخصا قام فأخذ لقطة عن النهر أو عن المرآة، فلابد ان تمثل لقطته لحظة معينه من تدفق الماء. ولكنها صورة أمينة للغاية، لتلك اللحظة فقط.

ان هذه هي حقيقة المعرفة التي لا اعتقد أحدا ينكرها لو قدرت له التذكرة بها، فالمرآة هي المعرفة، تعكس واقع الأشياء المتطورة (كأنها نهر لا يتوقف إنسيابه). ولكن لولا ثبات النفس وهدوئها، لما كان الإنعكاس سليما. ومن هنا فإن النفوس المتوترة لا تستطيع إحراز معرفة صادقة.

وفيما لو إلتقطنا صورة علمية عن لحظة معينة، مثلا أردنا التركيز على معرفة حالة النهر في وقت معين (أو قل حالة القمر في ليلة الخسوف ساعة معينة)، فإن هذه المعرفة لا ترتبط بجريان النهر أو دوران القمر، بل هي أشبه شيء بلقطة فتوغرافية عن حالة السيل المتدفق تعكس حالة معينة، ولكنها تعكسها بصورة ثابتة لا تتغير.

ولو أردنا التقاط صورة معينة عن وضع تاريخي معين، مثلا عن حوادث النصف الأول من القرن العشرين، فماذا كان يعني هذا؟ يعني تقدم البشرية في غزو الفضاء، واستغلال الذرة لشؤون السلم وتلاشي الحياد الإيجابي وبروز الصين كقوة عالمية و.. و.. ان هذه اللقطة جامدة رغم ان الحياة ستتطور، ولا يمكن لهذه اللقطة ان تتغير ان كانت صحيحة وأمينة. هل يمكن مثلا ان يكون هبوط أول إنسان على سطح القمر عام 1969 حقيقة ثم لا تلبث ان تصبح باطلة؟ كلا لأنها لقطة عن لحظة معينة من تاريخ هذا النهر الجاري، وهل يمكن ان يكون عودة لونا 16 من رحلته القمرية صحيحة اليوم، ولكنها تتطور ـ كعلم وكحقيقة ـ فتصبح باطلة غدا؟ كلا لأنها أيضا لقطة فهي لا تتطور وان كان الإنسان يتطور إلى مرحلة أبولو أو ساليوت؟!

والقول بأن المعرفة تنمو وتتكامل سخيف تماما كالقول بأن المرآة هي التي تتحرك وان الصورة الفتوغرافية خاطئة لانها لا تعكس جميع الحالات!

نقد النسبية التطورية

بعد هذه الملاحظات التمهيدية ينبغي ان ننقد النسبية التطورية:

المفهوم الأول منها يقول: الحقيقة تتطور، و في سبيل نقد هذه الفكرة، نسأل: ماذا تعني هذه اللفظة؟ انها أمام شقوق مختلفة:

أ : هل تعني ان الحقيقة هي معرفة الواقع الموضوعي، وبما ان الواقع الموضوعي يتطور فالمعرفة لابد ان تتطور وفقه، لأنها أمينة في إرائتها.. فمثلا نحن نعلم الآن بأن الوقت نهار، وفي الليل لابد ان نعلم ـ ان كنا حقيقيين ـ ان الوقت الآن هو ليل. فالحقيقة تطورت حسب تطور الواقع.. وهذا أمر موغل في البساطة يعرفه الأطفال ولا داعي لذكره في كتاب فلسفي.

ب : أو انها تعني: ان الحقيقة تتكامل مع ذاتها. بمعنى ان البشر يستطيع بجمع معلوماته وتنسيقها كسب معلومات جديدة، فمثلا: نحن نعلم بأن القمر في كبد السماء، ونعلم من جهة ثانية بأنه متى كان القمر في كبد السماء فإن ماء البحر في المد. فبجمع هاتين المعلومتين نتعرف على حقيقة ثالثة هي ان الآن يزامن مد البحر. هذا أمر واقع. بيد ان المعرفة لا تنمو بذاتها، بل لابد ان يسبقها التركيز والتمنهج. أرأيت مثلا: ان الإنسان يتمكن من العلم بنتيجة عملية حسابية بسيطة 15×7= مثلا بدون التمنهج والتركيز.

ان الحاجة إلى المنهجة والتركيز تحملنا على الاعتراف بدور العقل والإرادة في استنباط معلومات جديدة ورفض القول بأن طبيعة المعلومات هي التصاعد والقفز وذلك بسبب التناقضات الداخلية التي فيها. والاسلام ذكّر الإنسان بإمكانية تنمية المعلومات بالعمل والتفكير (الإرادة والعقل) فجاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام : (إذا رمتم الانتفاع بالعلم فاعملوا به او اكثروا الفكر في معانيه تعه القلوب[31]). وقد جاء في الحديث أيضا: (الفكر مرآة صافية[32]).

ج- واذا كان تطور الحقيقة تعني ان 2×2=4 اليوم وأما غدا فإنها تنقلب إلى (5)، أو ان العلم بوجود اليونان في التاريخ سينقلب في يوم إلى العلم بعدمهم، دون أية مفاجآت علمية بل بصورة آلية داخل الذات، فإن هذا القول ليس سخيفا فقط، وانما أيضا لا نتصور ان أحدا قد تفوه به، أو زعم بإمكان الذهاب إليه.

ذلك لأن العلم شهود وكشف مباشر، والكشف والشهود ذاتيان له ولا يمكن للشيء ان يفقد ذاته. فلا يمكن ان ينقلب العلم الحقيقي الصادق إلى الجهل التام.

وإذا كانت الحركة تنخر في ذات العقل والعلم والفكرة والمذهب فإن نظرية (النسبية التطورية) نفسها عرضة للإنهيار لأنها تحتوي على شيء كبير من البطلان. ومن هنا فليس لنا الاعتماد عليها، وبالتالي فإنها تتهاوى أمامنا صريعة، مع ان قادة الماركسية يبالغون في صحتها وحتميتها وبقائها إلى الأبد!

البحث الثالث - العالم بين الرؤية الإسلامية والتصورات البشرية

المدخل

تكوين مفهوم عام عن الكون أو في تعبير أفضل عن العالم (وهو كل حقيقة وراء الشعور)، ليس من اختصاصات العلم بمعناه الضيق بل هو موضوع الفلسفة بالمعنى الشامل.

فإذا سألت أي عالم فيزيائي أو كيميائي أو اجتماعي عن هذا العالم ما هو؟ لأخذ يحلل لك مواده ويشرح لك سننه وغرائبه.. ولكنك ترى هذه الأجوبة ضئيلة لا تكفي حاجتك الملحة إلى تفهم حقيقة العالم ككل وتكوين نظرة عامة عنه.

ان المفهوم العام، هي القيمة الأساسية التي تقوم عليها قائمة العلوم البشرية جميعا، وهي الركيزة الأولى التي تدور حولها النظم والقيم والنشاطات كلها، وهي الأطر الكبيرة التي تتحرك ضمنها جزئيات الكون، وهي الروح التي تعيش خلف العالم وتحركه انى شاءت. ولذلك فإن العلوم التي تبحث في بعض الجوانب الظاهرية من الكون لا يمكنها إعطاء مفهوم عام عن العالم. ان الإنسان بحث عن المفهوم العام قبل بحثه عن الخصائص الجزئية بكثير ولا يزال يبحث عنه رغم توسعه في حقول العلم جميعا. فتاريخ الأديان والفلسفات يسبق أبدا تاريخ العلوم ويحظى عبر جميع الأجيال بأكبر الاهتمام.

وظل الإنسان يبحث عن هذا المفهوم حتى اليوم، وغدا حتى الأبد. لأن في الإنسان نهم بالغ يدعوه إلى هذا البحث أشد من أي نهم آخر.

من هنا نرى في كل أمة نهضة فلسفية تعيد إلى الناس شعورهم بمفاهيم عامة مستقيمة، ثم تبتدئ مسيرتها العلمية. كذلك في اليونان، وكذلك في أرض الإسلام، وكذلك في أوروبا، سبقت كلمة الفلسفة منطق العلم..

وتتلخص عناصر المفهوم العام عن العالم في بضعة أسئلة يوجهها الإنسان إلى نفسه.

· ما هي الروح التي تدبر ظواهر العالم، أو بتعبير آخر: ما هو اله هذا الكون العميق الواسع؟

· وما هي القيم الأساسية التي تعمل وفقها الحياة، أو بتعبير آخر: ما هي سنن الحياة العامة؟

· وما هي نسبة الإنسان إلى الكون، أو بتعبير آخر: ما هو الدين القويم للإنسان؟

وتصدى لصياغة مفهوم عام عن العالم، الإنسان عبر الزمن. فلم يستطع التجنح فوق منطق الكثافة المادية القريبة.. وإبتعث الله رسله ليهدوا الناس إلى عالم الغيب، الذي يقيم عالم المادة ويدبره.

ومن هنا تنوع المفهوم العام إلى مفهوم مادي وآخر سماوي، والمفهوم المادي تشعب إلى ثلاث مدارس رئيسية:

1- المدرسة المثالية، التي لم تبصر سوى النفس البشرية، فرفضت الإعتراف بحقيقة ما وراء الشعور-وقد بحثنا حول هذا المفهوم في الفصل السابق لدى بحثنا عن قيمة المعرفة-.

2- المدرسة المادية العقلانية، وتدخل ضمنها المدرسة المادية الوضعية، والمادية الميكانيكية، وفلسفة أرسطو الثنائية، وما أشبهها.. وتجمع بينها فكرة العقل المدبر، الذي يُسيِّر الكون، سواء كان العقل خارجا عنها أو داخلا فيها.

3- المدرسة المادية اللاعقلانية، وهي تنطوي على: المادية الديالكتيكية وبعض الفلسفات الرجعية التي تتوغل في عمق التاريخ السحيق.

4- المفهوم الإلهي، وهو الإسلام، الذي نزل به أنبياء الله أجمعين ـ صلوات الله عليهم ـ وأكملها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه المعصومون (ع).

ولنتحدث الآن عن هذه المدارس الأخيرة، ونحن نمهد لإستعراض العقائد الإسلامية، التي هي شرح وتبيين للمفهوم الإسلامي العام عن حقيقة الكون.

ونبدأ الحديث عن المادية اللاعقلانية (الديالكتيك) لنقترب شيئا فشيئا عن المفهوم الإسلامي.. ذلك ان المادية العقلانية تتوافق مع المفهوم الإسلامي في جانب كبير.

الديالكتيك فلسفة عامة

إلى جانب المنهج الديالكتيكي الذي نقدناه في فصل سابق عند الحديث عن النسبية التطورية، إلى جانبه تستقر الفلسفة الديالكتيكية، وهي وليدة حتمية لنظرية النسبية التطورية التي تبنتها المادية الديالكتيكية.

وقد تبين سابقا مدى التناقض المنطوي عليه منهج النسبية التطورية، وبذلك ينهار بناء الفلسفة الديالكتيكية أيضا.

ومع ذلك فإنا نستعرض فيما يلي ملامح الديالكتيكية وما تعرضت لها من إنتقادات مباشرة .

تزعم الديالكتيكية الفلسفية:

1- ان كل شيء في حالة تغير دائم، وليس له سوى تاريخ مضى ومستقبل يأتي، تماما كالنهر الذي نراه واحدا ولكنه في حالة تبدل مستمر.

2- كل شيء يرتبط بكل شيء. فلا يمكن ان نفقه حقيقة الكون الا بصورة شاملة؛ أي من زاوية التفاعل المستمر بين أجزائه.

3- كل شيء يحتوي على نقيضه (؟!). فالبيضة تحتوي على الفروجة التي هي نقيضها، والفروجة بدورها تنطوي على نقيضها وهي الدجاجة. وعليه ففي كل شيء قوتان متضادتان؛ واحدة تجره إلى البقاء، والثانية تدفعه إلى الامام.

4- وبفعل هذا التناقض الداخلي، يحدث إنقلاب مفاجئ في كل شيء، فالبيضة مثلا: تتفاعل فيها القوى المتضادة حتى إذا بلغت مرحلة (القفز) انفلقت عن الفروجة، وهذا الإنفلاق يحدث فيها بصورة مفاجئة. والماء يوضع على النار، فينشأ فيه تناقض داخلي، ينقلب به بصورة مفاجئة إلى البخار.

وقبل البدء بنقد هذه النظرية لابد من عرض ملاحظتين:

1- ان هيجل كان أول فيلسوف وضع المنطق الديالكتيكي وفلسفته وقد هداه منطقه إلى الإيمان بالدين والدعوة الملحة إليه من جهة. ومن جهة أخرى إلى القول بالمثالية التي تعتبر الكون انعكاسا للروح وليس العكس. وقد تبنت الماركسية هذا المنطق ، وهي تعتقد انه لا وجود للروح وان كل شيء الذهن ليس الا انعكاسا للمادة على النفس. وهنا لابد من التساؤل عن مدى قدرة هذه الفلسفة للبلوغ بنا إلى الحقيقة؟ فإذا كانت قدرة الفلسفة هذه كافية للكشف عن العالم، فقد كان هيجل مؤسسها أحرى بهذا الكشف. فكيف ذهب إلى المثالية؟ ام كيف تناقض معه تابعوه من أمثال ماركس وانجلز ومن أشبه؟ فإذا بهؤلاء ينكرون وجود أية قيمة في الحياة ويجمدون أنفسهم في حدود المادة الكثيفة. والواقع ان الفلسفة الديالكتيكية أثبتت فشلها منذ البدء، حيث أنكر مؤسسها وجود الواقع الموضوعي الذي لا ريب فيه، وأنكر تابعوه حقيقة القيم التي لا تردد في وجودها.

2- هل الفلسفة الديالكتيكية تعتبر نتيجة للتقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان؟ هكذا تزعم أجهزة الإعلام الماركسية! ولكنه زعم ينطوي على الخلط بين الفلسفة والعلم. هذا الخلط الذي تتعمده الماركسية بصورة مستمرة مع أن موضوع العلم (بمفهومه الخاص الذي يعني كل ما هو خاضع للتجربة) يختلف عن موضوع الفلسفة الذي لا يخضع للتجربة. ولذلك فإن في فلاسفة القرن العشرين من ذهب إلى آراء فريق من فلاسفة القرن الرابع في الميلاد. ولذلك فإن أي ربط بين التقدم والفلسفة ينطوي على سذاجة بالغة في التفكير. أما بالنسبة إلى فلسفة هيجل الديالكتيكية فإن هيجل لم يكن له إلا دور المجدد لها وفيما يلي نثبت قائمة بأسماء أولئك الفلاسفة الذين سبقوا هيجل في آرائهم الديالكتيكية:

ألف: طالس (أو تالس) الملطي كان يعتقد بأصل التغير في الكون، وقد عاش في حوالي (400ق.م) ومثله في هذا الإعتقاد الفيلسوف (انكسيمانوس).

باء: هرقليط (500 ق.م) يمثل العالم بنهر جار ويرى العالم في تغير مستمر ، و يرى ان سبب التغير الدائم هو التناقض الداخلي في الأشياء. وقد قال عنه لينين: (كلامه شرح وتعبير كامل لأصول المادية الديالكتيكية).

جيم: ديمقراطيس، وابيقور، ولوكرس (341 ق. م.) كانوا يعتقدون بأصل التغير في الكون.

ان وجود رجل واحد من هؤلاء يكفي لإنتزاع صفة التقدم عن الفلسفة الديالكتيكية، بل وطبعها بصبغة (الرجعية السحيقة).

نقد النظرية الديالكتيكية

المبدأ الأول:

ماذا يعني التغير في الطبيعة؟ هل يعني ان المادة ذات المادة، والسنن التي تسيرها وتدبرها ذات السنن، وضمن هذه السنن سنة التطور في كل شيء؟!

ان هذا ليس فقط حقيقة واضحة، بل انها تكاملت في الفكر الإسلامي حتى أصبحت ركيزة البناء في صرح المعارف الإلهية، وسنبحث عنها مفصلا بإذن الله.

ام يعني ان كل شيء في الكون سائر نحو التغير، حتى القوانين الطبيعية والسنن الكونية والقيم العامة والمعرفة الصادقة؟

إذا كانت الماركسية تعني من التغير هذا المفهوم الشامل فإنها مخالفة لوجدان كل إنسان. إننا نعلم بوجودنا، وان ثلاثة في ثلاثة يساوي تسعة، وان الصدق حسن والعدل جميل والحق مرغوب فيه. ونعلم ان هذه حقائق لن تتغير.

ثم اننا لم نجرب التغير في السنن الكونية. فكل القوانين ثابتة يقوم على أساس ثبوتها صرح العلم العظيم.

ولا تسع الديالكتيك الا ان تعترف بثبوت القوانين الكونية إذ ان البنود الأربعة للديالكتيك ليست سوى قوانين تدعي المادية الديالكتيكية بأنها لن تتغير أبدا. وإذا سحبت فرضية التغير إلى عالم السنن انهار بناء المادية الديالكتيكية قبل كل بناء.

وعالم المعارف هو الآخر، عالم ثابت موزون. وقد سبق القول منا في أن القول بتغير الحقيقة أشبه شيء بالقول بتغير الصورة التي تمثل لحظة معينة، وانه مغرق في السذاجة.

والقيم، كقيمة العدل والصدق و الوفاء، هي الأخرى ثابتة، لوجدان كل بشر انها كذلك.. أترى يأتي حين من الدهر ينقلب العدل قبيحا عند العقلاء والكذب حسنا والغدر خلقا طيبا؟

إذا فالمبدأ الأول، صحيح إذا وضع في إطار الطبيعة التي يُلاحظ فيها التطور، أما إذا سحب إلى عالم الغيب (الميتافيزيقيا) فإنه يعود هراء لا يمجه الذوق السليم والعقل الصائب فقط، بل ويلفظه حتى أولئك الذين تشدقوا به.

وسنبحث قريبا، ان شاء الله، عن مبدأ التغير وانه ركيزة الفكر الإسلامي، وستعرف هناك الكذبة الكبرى التي افتراها ستالين حين قال:

(ان الديالكتيك ـ خلافا للميتافيزيقية ـ لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان. ففيهما دائما شيء يولد ويتطور وشيء ينحل ويضمحل. ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكية ان لا يُكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، ومن حيث تكييف بعضها ببعض بصورة متقابلة، بل ان ينظر إليها أيضا من حيث حركتها، ومن حيث تغيرها وتطورها، ومن حيث ظهورها واختفائها).

وبعد، هل بإمكان ستالين ان يقول: من هم أولئك (الميتافيزيقيون) الذي اعتبروا الطبيعة جامدة؟ بل سنعلم بإذن الله ان الديالكتيك هو الذي يمثل الجمود!!

المبدأ الثاني:

قاعدة التفاعل بين الأشياء سنّة في الخليقة معا. فكل شيء يقع في حلقة معينة من سلسلة الأسباب والحوادث.. وليس هناك من ينكر هذا الترابط. والاسلام يرى ان الكون كله آية من آيات الله العظيمة، وإسم من أسمائه الحسنى. فكل شيء يرتبط بكل شيء في ذات الخلقة وفي أصل الوجود.

ولكن من حقنا ان نسأل، هو يمكن للديالكتيك ان تؤمن بمبدأ الترابط العام؟! من اجل معرفة جواب ذلك، لا بد ان نعرف معنى الترابط والسبب الذي يدعونا إلى الإيمان به.

لا يعني الترابط، التلاصق والإصطفاف في مسيرة الوجود الصاعدة، بل يعني التأثير والإيجاد والتحول.

والذي يحملنا على الإعتقاد بالتأثير المتقابل في الأشياء هو العلم بأنه يجب ان تحدث الأمور بواحدة من ثلاث فرضيات:

1- بسبب خارج ذاته.

2- بالصدفة.

3-بالتفاعل الذاتي.

وبناء على الفرضية الأولى، لا بد لكل فعل يوجد من سبب خارجي له..

وعليه فلا بد من وجود الترابط والتفاعل بين أجزاء الكون ليكون بعضها لبعض سببا وعلة مغيرة.

ولكن الفرضية الثانية (الصدفة) والثالثة (التفاعل الذاتي) تمنع البحث عن سبب خارجي. فمثلا: لو رأينا انفلاق البيضة عن الدجاجة ذهبنا ـ نحن الإسلاميين ـ نبحث عن سبب خارج البيضة، وهي الحرارة المعينة التي سببت انفلاق البيضة، ثم نبحث عن سبب للحرارة وهو توليد طاقة الكهرباء، ونبحث عن سبب للتوليد. وهكذا نستمر في التدرج مع الأسباب وأسباب الأسباب إلى ان يحدث التفاعل بين أجزاء الكون. ولكن القائل بالصدفة يريح نفسه منذ البداية ويقول: لسنا بحاجة إلى البحث عن سبب الانفلاق. وكذلك الديالكتيكي الذي يربط الانفلاق بالتناقض الداخلي ينهي الأمر أيضا، ولهذا يجمد العلاقات بين الأشياء بصورة نهائية!

والواقع ان هيجل كان يقصد بمبدأ التفاعل حقيقة أخرى سنتطرق اليها في المبدأ الثالث. أما الماركسيون فإنهم استغلوا هذا المبدأ لسحق الفرد بين فكي رحى المجتمع. فقال قائلهم (اميل برنز) بعد استعراض هذا المبدأ :

(وقد يبدو هذا الترابط بين الأشياء بديهيا إلى درجة يظهر معها أي سبب لالفات النظر إليه عبثا ولكن الحقيقة هي: ان الناس لا يدركون الترابط بين الأشياء دائما، ولا يدركون ان ما هو حقيقي في ظروف معينة قد لا يكون حقيقيا في ظروف أخرى.. وخير مثل يمكن ان يضرب في هذا الصدد هو وجهة النظر حول حرية الكلام. ان حرية الكلام بصورة عامة تحرم الديموقراطية وتقيد إرادة الشعب في التعبير عن نفسها ولذلك فهي غير مفيدة مطلقا لتطور المجتمع إذ انها توقف تطور المجتمع..).

وهكذا استغل الماركسيون هذا المبدأ بعد ان حرفوه، استغلوه في سبيل سحق حرية الفرد وجعله أداة في الجهاز الحكومي الذي يمثل المجتمع.

وبعد هذا، فهل من الإنصاف ان تنعت الماركسية الفكر الميتافيزيقي بأنه (يعتبر الطبيعة تراكما عرضيا للأشياء أو حوادث بعضها منفصل عن بعض أو أحدها منعزل ومستقل عن الآخر) كما قال ستالين، ام انه مجرد افتراء وخيانة لأمانة العلم؟

المبدأ الثالث:

مبدأ التفاعل الذاتي الذي ينشأ من وجود تناقض داخلي في الاشياء بدفعها إلى التحول نحو الأعلى بصور مستمرة. وينبغي توضيح عدة نقاط، لمعرفة حقيقة هذا المبدأ:

1- تحدثنا سابقا عن اختلاف معنى (التناقض) الأدبي عن معناه الفلسفي وان الديالكتيك تستعمل اللفظ في مفهومه العام الذي يعبر عن مطلق التقابل حسبما يظهر من أمثلة فلاسفة الديالكتيك.

2- كيف تنشأ الحركة؟ الجواب بسيط: خذ قضيبا ودحرج به حجرا تحدث حركة. ولكن لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يبقى السؤال: لماذا حين اصطدم القضيب بالحجر حَرَّكه؟ يقول الفيلسوف الميتافيزيقي: ان السبب هو التناقض. إذ ان القضيب احتل مكان الحجر فلم يكن للحجر الا الفرار، إذ انه استحال ان يجتمع ضدان في موقع واحد. وحين نمعن النظر نرى ان كل حركة انما تحدث بهذا السبب. فالحركة في البيضة تبدأ بنمو أجزائها، وحين تكبر تضيق البيضة بها فتنفلق.

وهنا نضع أيدينا على رمز عظيم، هو ان كل حركة تحدث بسبب وجود تناقض ولكن لا بسبب اجتماع نقيضين. وجود تناقض بين المحرِّك والمتحرك، لا يمكن ان يجتمعا في مكان فيدفع الأقوى الأضعف إلى الخارج. ولكن لا يعني هذا اجتماع نقيضين أي احتواء المكان الواحد للمحرك والمتحرك في مكان وزمان معينين. وبتعبير آخر: هذا تناقض خارجي أي وجود شيئين في مكان كل منهما يقتضي أمرا مختلفا عن الآخر. فإذا حاول التجمع في مكان حدث التناقض، أي حدث تحكم مبدأ امتناع وجود المتناقضين في مكان فحدثت حركة من هذا الأمر. وهذا أمر متفق عليه من قبل الديالكتيك والميتافيزيقيا، وهو دليل على ان اللفظ فقط كان الحاجز بين الفلسفتين.

3- ومبدأ عدم التناقض الذي تبناه الفلاسفة الشكليون يشترط ان يكون الإثبات والنفي في شيء واحد ووقت واحد وحالة واحدة..

ومن الطبيعي بعد هذا الا يبقى في الدنيا عاقل يصحح اجتماع النقيضين ويقول: ان المثلث في الوقت الذي له ثلاثة أضلاع فله أيضا أربعة أضلاع، وان أمة اليونان في الوقت الذي كانت موجودة في التاريخ كانت أيضا معدومة، وان الإسلام حق كله وباطل كله في لحظة ومن جهة واحدة، وهكذا.. ومن هنا نعلم انه ليس من التناقض في شيء، تعارض أجزاء الكون وتنازع أحيائه على البقاء.. فالفعل ورد الفعل في الميكانيك ليس بتناقض لأن زمان الفعل شيء يختلف عن زمان رد الفعل. صحيح (ان لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الإتجاه) ولكن ليس من الصحيح ان هذا تناقض، إذ ان الفعل يسبق رد الفعل فلا يجتمعان في الزمان. ولأن الفعل يعاكس رد الفعل في الإتجاه فليسا في مكان واحد.. بل كما سبق لو كان التناقض ممكنا لما كان لكل فعل رد فعل، إذ انهما إذاً جمدا في مكانهما.. وكذلك الخط السالب والموجب في الكهرباء ليسا متناقضين، لأنهما – أولاً- ا يشغلان خطين مختلفين ومكانين فلا اجتماع في المكان، ولأنهما ـ ثانيا ـ يتحولان إلى الحركة لدى اجتماعهما ولا تتولد الحركة إلى دفعة، ولا يمكن ان تحدث الدفعة إلى الأمام لو لم يضق المكان بهما. وهذا دليل على عدم امكان اجتماع المتناقضين إذ لو أمكن لما تصارعت القوتان على المكان وأحدثتا الحركة، بل كانتا تعيشان جنبا إلى جنب في سلام.

هذا من جهة ومن جهة ثانية كل شيء الآن شيء، وفي المستقبل قد يتحول إلى شيء آخر، ولا يتحول الا بعد إمكان هذا التحول. فمثلا: الطفل الآن بشر صغير، وهو في المستقبل إنسان كبير، ولا يصبح إنسانا كبيرا الا بعد وجود إمكانية ذلك له. ومن هنا فليس من الممكن ان تتحول البعوضة إلى حجم الفيلة لأنها تفقد إمكانية ذلك.

ويعبر عن هذه الحقيقة بلفظي (الفعل) و(القوة)[33]. فالشيئ بالفعل ذو حجم معين وبالقوة ذو حجم مختلف.. والأمثال على ذلك كثيرة فكل حركة في العالم تعني التحول من الواقع فعلا إلى ممكن مستقبلا.

وكل جسم حي يسير عبر التحول من الحياة الساذجة إلى الحياة التامة ومنها يتحول إلى الموت والسكون، وكذلك الإنسان يتحول من الواقع إلى المستقبل، من الفعل إلى القوة. فهو لا يعلم شيئاً بالفعل ولكنه يملك إمكانية التعلم وقوته.

بعد توضيح هذه النقاط نعرف حقيقة مبدأ التناقض، فهو عند الفلسفة الغيبية (الميتافيزيقيا) يختلف عنه في الفلسفة الديالكتيكية. فالأولى تشترط لموضوعة (مبدأ عدم التناقض) الوحدة الزمنية والمكانية والفعلية. فلو وجد شيئان مختلفان في زمانين أو مكانين أو في زمان ومكان، ولكن وجد الأول بالفعل والثاني بالقوة (الوجود حالا وإمكانية الوجود مستقبلا) فهو ممكن… والفلسفة الغيبية ترى ان الحركة تنشأ بهذا السبب. فالتناقض الموجود بين شيئين في مكانين أو زمانين أو حالتين يكون سببا لدفع أحدهما للآخر إلى الخارج، والحياة كلها هي التحرك من المتحقق فعلا إلى الممكن مستقبلا.

أما الفلسفة الديالكتيكية فترى ان التناقض ممكن بين شيئين في مكانين متقاربين(مثل السالب والموجب في السلكين المتقاربين) أو في زمانين متقاربين (مثل البيضة والفروجة المتعاقبين، ومثل الهزيمة والإنتصار المتقاربين زمنيا) أو بين شيء موجود فعلا وإمكانية ان يكون شيئا آخر في المستقبل (مثل الجهل والعلم في الإنسان).

وترى الفلسفة الديالكتيكية ان التناقض هو سبب الحركة، عين ما تراه الفلسفة الغيبية كما سبقت، بيد ان اللغة تختلف. فالديالكتيكية تركز على الجانب الإيجابي منه وتقول: وجود تناقض بين شيئين (يعني في مكانين أو زمانين إذا حاولا الإقتراب من بعضهما) هو السبب الوحيد للحركة.

والفلسفة الغيبية تركز على ذات النقطة (أي امتناع اجتماع نقيضين مختلفين في شيء واحد في مكان واحد وحالة واحدة) وتقول انه هو الذي يسبب الحركة.

ولا ينكر صاحب الديالكتيك هذه الحقيقة ولا يمكنه ان ينكرها إذ لو أنكر امتناع اجتماع نقيضين في شيء واحد ومكان واحد، إذاً لما حدثت الحركة، بل جمدت الحياة إذ تعيش أجزاؤها المتناقضة في تحابب وتواد.

وهنا ينبغي الالتفات إلى نقطة وهي ان الديالكتيكية غيرت لفظة العلة إلى لفظة التناقض، فبدلا من ان تقول: ان المواد الغذائية تسبب نمو الجسم وان الحركة تسبب صرف المواد في الجسم تستعمل لفظة التناقض فتقول: تحليل المواد يتناقض مع النمو، ونحن في الفلسفة لا نبحث عن قائمة المصطلحات بل نبحث عن الحقيقة، وهي تقول لنا ان كل حركة تحدث بسبب تلاقي شيئين مختلفين في مكان واحد ووقت واحد. وهذا يدعونا إلى الاعتراف بوجود سبب للحركة، ووجود سبب لسببها، لأن التلاقي لا يحدث الا بسبب آخر، وذلك السبب بدوره نتيجة لسبب آخر، وهكذا..

وبهذا نعرف انه لا يمكن للمادية الديالكتيكية ان تفسر حقيقة الحركة في الكون بمبدأ التناقض إذ انه لا يعدو ان يبين لنا لماذا يتحرك الشيء بعد تلاقيه بنقيضه، ولكن لا يقول لنا لماذا يتلاقى الشيء بنقيضه.

فالمبدأ الديالكتيكي يفسر لنا حقيقة العلية الموجودة بين الأشياء، ولا يمكنه ان يفسر وجود العلة ويكون أشبه شيء بذلك الذي يسأل عن سبب الخسوف فيجيب بأنه يسبب الظلام في ليلة قمراء. أو يسأل عن سبب حركة السيارة، فيجيب عن وجود تناقض بين دفعة المحرك للإطار ودفعة الأرض للإطار إلى أعلى حسب مبدأ ان لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه.

ان مبدأ الفعل ورد الفعل لا يفسر لنا الا نوعية تسبب الضغط للحركة، دون سبب الضغط وهو وجود المحرك. وليتنا كنا نطلع على الجامعات العلمية في البلاد التي تتبنى الفلسفة الديالكتيكية لنعرف عن كثب ما إذا كانت تكتفي بذكر نوعية التسبب ام تتجاوز ذلك إلى معرفة (السبب). فحين تريد ان تدفع عجلة ألا تفكر في وسيلة لهذا الدفع بل تكتفي بمعرفة حقيقة الدفع. في الواقع؛ لا نظن بأحد يمكنه ان ينكر حاجة كل شيء إلى سبب، أو يشك في أن مبدأ التناقض لا يشبع هذه الحاجة بل يفسرها فقط.

وبعيدا عن حقل الفلسفة يستغل بعض الأحزاب السياسية، مبدأ التناقض لشن حملات دعائية مستمرة ضد وجود البارئ للخليقة ووجود قيم ثابتة للحياة.

والحقيقة ان هذه الحملات أعطت الفلسفة الديالكتيكية أبعادا خطيرة لأنها زعزعت ثقة الإنسان بفكره وحضارته ومستقبله، وجعلته طعمة سائغة لجوعة الشهوات الطائشة وخلقت له جوا متوترا لا تهدأ ثائرته. ويذكرنا هذا الواقع بالوضع الخطير في نهاية أيام اليونان إذ سادت بينهم السفسطة والجدل واستغلت الفلسفة أبشع استغلال.

المبدأ الرابع:

ماذا تعني قفزات التطور بصورة دقيقة؟ لمعرفة ذلك نرجع إلى نص ننقله عن ستالين يقول فيه:

(ان الديالكتيك خلافا للميتافيزيقية لا تعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية، بل تعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغيرات ظاهرة وأساسية أي إلى تغيرات كيفية، وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية وتحدث بقفزات).

في ظلال هذا النص نتساءل: ما هو واقع المفاجأة، هل معناها اننا لم نعرفها، أو لم نتنبأ بها قبل وقوعها، أو لم نفهم سببها قبل ذلك حسبما يركز عليه النص بكلمتي الظاهرة والأساسية؟ إذا كان هذا معنى المفاجأة اتفقنا ولم نختلف فيها إذ كثيرا ما نرى ان الماء يغلي ويغلي وفجأة يتبخر. فنحن قبل ان نكتشف انه حين تصل حرارة الماء إلى مئة درجة يتبخر لم نكن نتنبأ فعلا بإنقلاب الماء بخارا ولم نعرف سببه.

ام ان معناها انها تقع صدفة وبدون سبب، حسب ما يظهر من بعض إيحاءات النص أيضا، إذا كان كذلك فإنه باطل ينشز عنه العقل والعلم. إذ حين نرى تبخر الماء فإن العقل يهدينا إلى وجود سبب ما لهذا التبخر وان كنا نجهله تماما. كيف انقلبت المادة الميتة إلى خلية حية؟ اننا حتى اللحظة نجهل السبب، ولكن لا يعني هذا وقوع الأمر بدون سبب.

أم يعني ان القفزة تعتبر تطورا أساسيا؛ أي ان المادة تنقلب إلى حقيقة أخرى لها ميزات مختلفة عن الحقيقة السابقة، فهذا أيضا صحيح. فللبخار مثلا خواص مختلفة عن الماء الذي يغلي، إذ ان امتداد البخار كاف لرفعه عن الأرض وإمتداد الماء المغلي يكفي لذلك.

والماركسية استغلت هذا المبدأ بعد ان فسرته تفسيرا بعيدا عن العقل والعلم، استغلته لاثبات بعض الأمور:

1- ان قفزات التطور تكون بصورة ديالكتيكية نابعة من تناقضات داخلية في الشيء!

ولكن سبق ان مبدأ التناقض الداخلي في الفلسفة الديالكتيكية لا ينافي وجود أسباب خارجية، بل انه لا يعدو ان يكون تفسيرا لحقيقة التسبب لا إغناء عن وجود سبب.

كما ان تطور الماء إلى بخار لم يكن دون سبب خارجي وهي الحرارة التي سخنت الماء.

2- ان الحركات الاجتماعية تحتوي على قفزات طبيعية صاعدة يتطور المجتمع خلالها من الاقطاع فالرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية، لأن المجتمع محكوم بقوانين الطبيعة تماما، بيد انه سيعلم، لدى الحديث عن المجتمع، سيعلم ان شاء الله عقم هذه النظرية التي تفسر المجتمع الإنساني بالتفسيرات المادية التي تحكمها قوانين الطبيعة العمياء.

مضافا إلى ذلك نقول: ان التطورات الاجتماعية لن تتحقق دون عوامل معينة، وان الإنسان أوتي قدرة التحكم على تلك العوامل بقدر ما يتمكن من التحكم على الأسباب الطبيعية.

ثم ان التطورات الاجتماعية لن تكون صاعدة أبدا، بل قد تنتكس كما ينتكس خط الطبيعة. فالماء لا يتبدل إلى بخار دائما بل قد يتحول البخار إلى مطر غزير.

من هنا نعرف ان القواعد الأربعة للفلسفة الديالكتيكية لا تثبت أمام النقد الإيجابي الا إذا فسرت تفسيرات مناسبة.

---------------

الفلسفة الميكانيكية

تتلخص فلسفة المادية الميكانيكية في عبارة ديكارت: ان الكون مكينة كبيرة.. تفسيراً لهذه العبارة يجب ان نثبت عدة نقاط:

1- ان الميكانيكية ترى ضرورة سبب خارجي لأية حادثة، بل ان طبيعة هذه الفلسفة تقتضي وجود علة خارجية لكل أمر حادث، ولكل حركة حادثة، ولهذا تختلف الفلسفة الميكانيكية عن الفلسفة الديالكتيكية ـ بصياغتها الماركسية الأخيرة ـ في ان الميكانكي يعيد كل صيرورة إلى سبب خارج الذات، والديالكتيك يرجعها إلى داخل الذات.

وقد سبق القول في ان الديالكتيك لا تستطيع بل لا تريد في صياغتها الصحيحة نسف مبدأ السبب الخارجي، لأنه مبدأ فطري يؤمن به كل بشر حتى أولئك المنكرين يقيمون حياتهم العملية والعلمية على أساس هذا المبدأ.

2- ولا تنكر الميكانيكية طبيعة التغير المستمر في مواد الكون.

3- ولا تنكر أيضا وجود تفاعل كامل بين أجزاء الكون، بل هذا المبدأ ركيزة الميكانيكية حسبما يأتي إن شاء الله. لا تنكر كل ذلك كما اتهمتهما به بعض الفلسفات.

4- ولا تنكر الميكانيكية وجود تناقض ظاهر أو خفي بين عوامل الكون، ولكن تفسر التناقض حسب ما سبق في توضيح الديالكتيكية؛ تفسره بمعنى التقابل، وهو ان كل شيء لا يمكنه ان يستقر في مكانه مع شيء آخر يتحول إلى وضع جديد. فالعصا الذي يضرب بها الفلاح الحجر لا يمكنها ان تجتمع مع الحجر في موقع واحد، فيتحرك الحجر ليعطي مكانه للعصا. ولو امعنّا النظر في التفاعلات الكيمياوية لأية خلية لوجدنا فيها هذه الحقيقة أيضا، فالمواد الداخلة تدفع بالمواد المتبقية لإفساح المجال لها ولولا التناقض لإستقرتا بأمان!

5- والنقطة الوحيدة التي نريد ان نركز عليها من الفلسفة الميكانيكية ـ والتي تعتبر جوهر الفلسفة فيما يرتبط بالثقافة البشرية ـ يكمن في ان الحركة إذا وجدت دامت. وسنبين قريبا بإذن الله، علاقة هذه الفكرة بالثقافة، أما الآن فينبغي ان نعرف معنى هذه الفكرة وحجتها.

معنى هذا المبدأ، ان للكون خالقا قديرا أوجده وفصله أجزاء، ودبره بقوانين دقيقة ومتوازنة، والتي منها قوانين التفاعل المتبادل الذي يقضي بأن تكون مادة الكون خاضعة لعدة نظم دقيقة تنقل الطاقة من جزء إلى جزء ثم تعيدها إلى ذلك الجزء، وهكذا تتحرك في عمليات دورية مستمرة.

ومثل ظاهر لذلك، دورة (المياه) التي تتبخر من البحار بفعل الحرارة، وتتحول إلى أمطار، ثم تنتقل إلى أنهار، ثم وأخيرا تسيل راجعة إلى البحار، وهكذا.. وشَبَّهَ أحد الفلاسفة الميكانيك، الكون بساعة آلية الحركة، صنعها القدير وجعلها هكذا تتحرك.

واحتج هؤلاء لذلك بأمرين:

أ : ففي حقل الوجود خلق الله مادة الكون فلا زالت مستمرة موجودة إلى الأبد. وقالوا: ان تلك القوة التي حولت العدم إلى وجود في عملية مهولة، جعلت منه حقيقة مستمرة لم نجد فيها حاجة إلى خلق مستمر.

وظواهر الكون تكشف لنا بوضوح عن ذلك، فالبناء الفخم يشيده البناؤون ثم يدعونه ويبقى. والسيارة الضخمة يبدعها صانعوها وتبقى مستمرة، وهكذا غيرها.. وهذا دليل على استمرارية وجود الأشياء.

ب : وفي حقل الحركة التي تحكم مسيرة الوجود، قالت الميكانيكية: ان الأجسام الساكنة والمتحركة تبقى على وضعها إلى ان تؤثر عليها قوة خارجية. والدليل على ذلك اننا نرى بقاء حركة إطار السيارة الفارغ على أرض مستوية، بقاء حركته بعد الدفع بضعة لحظات. ولدى تقليل وزن الإطار وإستواء الأرض وتخفيف الضغط الخارجي أكثر فأكثر يتحرك الإطار مدة أطول. وربما نستطيع ان نحصل على حركة لا تنتهي في الإطار بتهيئة كل الوسائل المساعدة للحركة وإزالة كل العوائق والضغوط المؤثرة فيها.

وتتصل هذه الفكرة الفلسفية بعلاقة وثيقة بتاريخ الفلسفة الأوروبية وليس من قبيل الصدفة ان نرى تقمص الحضارة الأوروبية لهذه الروح الميكانيكية، وإبعادها عن نفسها أية فكرة فلسفية أخرى.

وفيما يلي تطبيق نظريتين في هذا المجال:

1- من واقع أوروبا الحديثة.. حيث طلع نيوتن على الحضارة بفكرة تثبت ان الكون مرتبط بقوانين ثابتة، تتحرك في نطاقها الاجرام السماوية، ثم جاء بعده آخرون فاعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع، حتى قيل ان كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة) فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف غير ان الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب واليث مثلا في هذا الصدد: (ان الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها). ثم جاء هيوم فتخلص من هذا الإله الميت وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع ولكننا لم نر الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا؟!). هذه روح أوروبا الحديثة.

2- وأما أوروبا القديمة حيث افلاطون وارسطو وافلوطين، فانهم لا ينقصون قولا من أوروبا الحديثة. الوجود في مذهب افلاطون طبقتان متقابلتان، طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية (الهيولى). والقدرة كلها من العقل المطلق والعجز كله من الهيولى وبين ذلك كائنات على درجات.

ان الوجود هنا تعبير عن كلمة المادة ـ التي عبر بها الفلسفة الحديثة ـ والعقل هو النظام الموجود فيها.

ويقول ارسطو: (فلابد لهذه المتحركات من محرك ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته أو محرك لا يتحرك لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية).

ولكن لا يعني ان يكون المحرك الأول دائما في تحريكه، بل قد يكون قد حرك الشيء ورفع يده عنه، بل هذا هو الواقع. إذ ان هذا المحرك سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني.

وقد أفرط ارسطو، حتى قال: (ان الله جل وعلا لا يعلم الموجودات لأنها اقل من أن يعلمها وانما يعقل الله أفضل المعقولات وليس أفضل من ذاته فهو يعقل ذاته وهو العاقل والعقل والمعقول وذلك أفضل ما يكون).

ويغلو افلاطون أحيانا فيقول: (ان الله لا يشعر بذاته لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها، ولكنه لصفاء وجوده يتنزه عن ذلك التمييز ويتنزه عن ذلك الشعور).

ان هذه الأفكار تصور الله سبحانه تصويراً سلبيا مطلقا، وتعتبر الوجود وما فيه من الحركة يجري بعيدا عن إرادة الله سبحانه، وعن علمه وقدرته. ولقد صور القرآن الكريم فلسفة هؤلاء، بالقول: [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ](المائدة 64).

وفي فلاسفة المسلمين من اتبع افلوطين وعزل الحي القيوم عن مجال الكون ورأى ان الوجود حقيقة ثابتة والحركة جزء من طبيعته، وان هذه الحركة تسير قدما إلى أعلى بصورة ذاتية جوهرية.

ومن نتائج هذه الفكرة عزل المبدأ عن الالوهية والهيمنة على الكون، وعزله عن التشريع للإنسان لانه ليس بقادر سبحانه ولا عالم بطبيعة ما خلق، تعالى الله عما يصفون!!

والمعجزة خرافة، والوحي ايحاء نفسي، والمعاد ليس كما تصفه ديانات السماء، وانما الرسل مصلحون. والدعاء والإنابة والمناجاة المباشرة بين الإنسان وربه ضرب من الرجعية المنبوذة.. إلى آخر ما نجده لدى فلاسفة الاغريق ومن اتبعهم وفلاسفة أوروبا ومن قلدهم من آراء تابعة لهذه الفلسفة!

نقد النظرية الميكانيكية

ونقد النظرية الميكانيكية، أو بتعبير أدق نقد نظرية (العزل) عزل الله عن الخلق، التي تكون جوهر الفلسفات الحديثة والقديمة.. ان نقدها لا يتطلب جهدا فكريا، بقدر ما يتطلب وجدانا سليما ووعيا شاملا. فليس من المعقول لمن اعتقد بالله انه أبدع هذا الكون العظيم وكان قادرا عليما، ان يحسب انه تجدد له العجز والجهل سبحانه. ان الله لم يخلق الخلق الا لتمام قدرته عليه وعلمه به، فكيف فقدهما بعد ما خلقه؟!

واذا كانت الحركة بسبب، فإن الحركة انما هي بقدر الدفع لها وذلك ليس لإننا نجد ذلك في كل ما نلامسه فقط بل لأن من الطبيعي ان الشيء انما يسكن بسبب وجود عجز ذاتي فيه عن الحركة ولو كان قادرا عليها لتحرك. وبمقدار ما ينقص هذا العجز بالدفع توجد الحركة.

ومع ان لحظة من التفكير تكفي لمعرفة هذه الحقيقة، مع ذلك فالواجب ان نتصدى لها علميا وفلسفيا.

النقد العلمي للميكنة

ما هي حقيقة الموجودات؟ لقد سبق ان العلم اكتشف ان الموجودات لا تعدو ان تكون ذرات تتحرك، ولدى انفلاق الذرة فإذا بها لا تعدو ان تكون شحنة طاقة ودفعة نور. إذاً فالعلم أثبت ان حقيقة المادة هي الحركة.

وبثبوت حركية المادة تفتت الكتلة الكثيفة التي لو خلقت لدامت حسب رأي فلاسفة الميكانيك.

فإنما هي الحركة وهي ليست بدائمة علميا، إذ انها تنشأ من الطاقة، والطاقة تفقد حرارتها بصورة مستمرة حسب قانون الطاقة المتاحة أو ضابط التغير الذي يثبت ان الحرارة دائما تنتقل من وجود حراري إلى عدم حراري، والعكس غير ممكن وهو ان تنتقل هذه الحرارة من وجود حراري قليل أو عدم وجود حراري إلى وجود حراري أكثر، فإن قانون الطاقة المتاحة يخالف هذا الإنتقال ويقتضي التناسب بين الحرارة المتاحة وغير المتاحة.ومن هنا نثبت ان الحركة في الكون ليست أزلية ولا هي دائما بعيدة عن المؤثر إذ لو كانت الحركة غير محتاجة إلى دوام السبب إذا لكانت تستطيع ان تدوم إلى الأبد وهذا غير واقع حسب هذا الكشف العلمي.

النقد الفلسفي

وفي سبيل الإحاطة بالنقد الفلسفي لهذه النظرية لابد ان نذكر عدة نقاط:

1- مبدأ الذاتية:

أبسط المبادئ الفلسفية التي لا يرتاب فيها أحد ان كل شيء هو وليس بغيره.. الإنسان إنسان وليس بحجر، والجبل جبل وليس بشجر و.. و..

وهذا المبدأ يجعلنا نقول: لا يمكن ان يتخلف الشيء عن ذاته، فالذاتي لا يمكن تغييره.. فالنور مثلا: لا يمكن ان يتحول إلى (لا نور)، والحركة لا يمكن ان تتحول إلى (لا حركة) وهكذا..

2- مبدأ الوجود:

والوجود لا يمكن ان يتحول إلى عدم لأنه ذاته، والعدم لا يمكن ان يتحول إلى وجود لأنه ذاته.

وقد يبدو هذا المبدأ غريبا ولكن دعنا نفهم ما هو معنى الوجود؟ هل معناه الأرض والسماء والجبال؟ هل معناه أنا أنت هو؟ هل معناه الحجر والشجر والحيوان؟

الفلاسفة قالوا نعم ووقعوا في حلقة مفرغة، ولكن الرجل البسيط يقول بفطرته لا.. يقول: الكون موجود ولكنه ليس بوجود.. وهل الوجود شيء والموجود شيء؟.. ينبغي ان نرجع قليلا إلى ما سبق ونتساءل: هل العلم شيء والمعلوم شيء؟ ام هل العقل شيء والمعقول شيء؟ هناك قلنا نعم العلم هو الكشف والمعلوم هو المنكشف. فالمعادلة (5×5=25) ليست بعلم انما هي معلوم، ولي (علم) بها وهكذا الوجود والموجود..

الكون له وجود هذا صحيح، وهو كما نقول ان الإنسان له علم، ولكنه ليس بوجود كما ان الإنسان ليس بعلم.

ولا يزال الأمر غامضا فنقول إذا كان الكون هو الوجود فلماذا ينعدم، لماذا يكتنفه العدم، لماذا هو محدود، لماذا هو حادث، لماذا هو متناقض؟

يقرر علم الفلك مثلا: ان الكون يتسع بالتسلسل الدائم، وان كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة بعضها عن بعض. ويمكن ان تفسر هذه الحالة تفسيرا جيدا إذا سلمنا بوقت للبدء كانت فيه كل الأجزاء التركيبية مركزة ومجتمعة مع بعضها ثم بدأت الحركة والحرارة.. ويقدر العلماء ان هذا الكون قد وجد نتيجة (لإنفجار) هائل وقع منذ (5000,000,000,000 سنة)[34].

هكذا تتباعد الاجرام وتدل على انها لم تكن ثم وجدت، والسؤال هنا انه ما دامت طبيعتها ليست بطبيعة الوجود والحركة، والدلالة على ذلك انها لم تكن ثم كانت، فليس من الممكن ان تعود طبيعتها إلى طبيعة الحركة. وهكذا نستدل على انها ليست بحقيقة الوجود!

وهنا يكمن سر الأمر، لو كانت حقيقة الكون هي الوجود لم يصح ان نقول ان الكون كان معدوما ثم وجد مع انه كذلك، فقد كان معدوما في بعض الأزمان، بل مجرد التغير فيه عدم من جهة ووجود من جهة أخرى.

وبتعبير موجز ومركز:

ان الكون كان عدما، فهو ذاتي العدم. ولا يمكن ان يتحول ذاتي العدم إلى ذاتي الوجود، فإنما تتحول الأشياء بالإبداع إلى عرضي الكيان يحتاج في بقائه إلى سبب كما يحتاج وجوده إلى سبب.

وان هيجل قد انحرف عن المنهج حينما تصور ان ما يراه حوله من سماء وأرض وبشر هو الوجود. ثم تصور انه ليس بوجود مطلق فقال انه معدوم. ثم رأى انه بعيد عن الفطرة (أي معدومية الكون) فقال: (انه صائر من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود).

واذا كان هيجل قد أوتي قدرا أكبر من قوة الملاحظة لعرف ان الوجود لا يمكن ان يكون عدما، وان الكون موجود بالوجود؛ أي ان له قدرا من حقيقة الوجود. وبذلك كان ينفي مشكلته تماما.

ولا نريد الاسترسال في بحث الوجود الذي يحتاج إلى سفر ضخم.. ولكن نريد ان نضع أيدينا على منطلق الخطأ في نظرية الميكنة الفلسفية، وهو بتطبيق مبدئي الذاتية والوجود في الكون وهو يعرف بالتدبر في حقيقة الخلق..

ما هو الخلق ؟

إذا كان الكون ليس بحقيقة الوجود وانه كان عدما، فكيف انقلب من العدم إلى الوجود؟ وهل يمكن ان يتحول الشيء عن طبيعته الذاتية، العدم يعني لا شيء فكيف ينقلب إلى شيء؟ هذا لا يتصور، فليس الكون قد انقلب من العدم إلى الوجود في عملية مجهولة.. كلا..

بل ان الله تعالى أعطى الكون الوجود، ويعطيه بصورة مستمرة. فالكون قائم بقيوم وموجود بنور الحي الذي لا يزول.. وعلى هذا فليس الكون الذي نشاهده ونلامسه موجودا بصورة مستقلة ودائمة بل هو موجود بنور الوجود الذي يحفظه عن الزوال.

ان الوجود، نور يرش على الكون فيصبح موجودا. وإذا أردنا ان نعبر عن هذا الواقع بتعبير علمي لقلنا: الكون حركة تستمر بمحرك خارجي، لو توقف عنه لتوقفت أي زالت.

وهنا لا تتبخر فكرة الكثافة في الوجود والإستمرارية في حركته فحسب، مما تنسف قاعدة الميكنة في الوجود، بل وتهدينا إلى الخطوط العريضة للفلسفة الواقعية التي تطابق معلوماتنا المتناثرة وهي الفلسفة الإسلامية.

------------------

الإسلام وفلسفة النور

تتلخص فلسفة الإسلام في كلمة واحدة هي: (الله نور السموات والأرض)، ونفصلها عبر النقاط التالية:

1- ليس في عالم التحقق الا الله وما خلق. فكل شيء ما سوى الله مخلوق له.

2- وهذا يعني ان الله سبحانه نور وكل شيء متنور به، وهو قيوم وكل شيء قائم به، وهو مدبر وكل شيء يجري بأمره. ذلك لأن كل شيء في الكون نراه خاضعا لقوة قاهرة وقدرة واسعة.. وفي ذلك آية على دوام التدبير له من مدبر عليم.

3- وهذا يقتضي الواقعية التامة للأشياء دون المثالية الافلاطونية التي قال فيها: (فكل شجرة مثلا فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية. فأين هي الشجرة التي لا نقيض فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم). ولا المثالية الباركلية التي قال فيها: (الكون صورة الذهن الخارجي). ولا المثالية التي قال بها نيشته: (الموجود انا اما غير انا فهو وجهة أخرى لانا).

كلا؛ الكون موجود فعلا في دار التحقق.

4- ولكنه يقتضي من جهة أخرى، الغيرية في الكون؛ أي ان الكون موجود بالغير، قائم بالغير، متنور ومتحرك بالغير. خلافا لنظرية الديالكتيك التي تعتقد ان الكون متحرك بما في كل شيء من تناقضات ذاتية، أو مقالة الميكانيك التي تزعم ان الكون ساعة آلية كبيرة، ولا مقالة بعض الفلاسفة الاقدمين بالحركة الجوهرية.. كلا! انها واقعية الأشياء بالغير لما فيها من آيات الضعف والعجز.

5- ولا يعني هذا ان الكون يدبر بغير سنن فطر عليها. كلا؛ بل الغرائز موجودة وكل حادث له سبب، الا ان وجود السبب ووجود المسبب بعده قائم بنور الله. فلو شاء الله إذاً لإنتزع نور الوجود من السبب فانعدم، أو انتزع نور الوجود من المسبب فانعدم هو الآخر.

6- من هنا نعلم ان الله واسع القدرة، واسع العلم، وواسع الرحمة. فكل شيء تحت رحمته وتحت قدرته ومحيط به علمه. فالله قادر على المعجزة؛ أي خرق السنن لأن اجراء السنن ووجود السنن منه أيضا. وقادر على اعدام الكون في الساعة الرهيبة التي ترسو في نهاية الوجود. وقادر على اعادته لأنه يملك قوة لا محدودة، والكون عاجز دون قوته عن أي شيء.. وهو قادر على ان يبعث الرسل برحمته ويضع للناس الدين الخالص ويأمر الناس باتباعه، ويراقب بنفسه مخالفتهم له أو اطاعتهم اياه فيثيب من يشاء برحمته، ويغفر لمن يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بنقمته.

7- والله ـ الخالق المدبر ـ رحمن لا تحد رحمته، رحيم لأنه خلق الأشياء ولا يزال يهب لها الخلق والهدى دون ان يكون محتاجاً إليها أو مضطرا إلى خلقها.

وهنا تختلف النظرة الإسلامية عن النظرة الاغريقية التي تتعامل مع الآلهة الشهوانية المتعجرفة المتهورة الغارقة في الشهوات، مثل: (زيوس) و(جوبيتير) وغيرهما ممن كان يُتصور لديهم حقودا لدودا مشغولا بشهوات الطعام، لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات الا ما يعنيه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه، وكان يغضب على (اسقولاب) اله الطب ـ بزعمهم ـ لأنه يداوي المرضى فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية. وكان يغضب على (برومثيوس) اله المعرفة والصناعة ـ بزعمهم ـ لانه يعلم الإنسان ان يستخدم النار في الصناعة وان يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب. الإسلام يخالف كل هذه الآراء جميعا.

هكذا تبين لنا النصوص الشرعية حقيقة الكون، فيقول الله سبحانه: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ](يونس 3-5).

فالله خالق السموات، ولكنه غير عاجز منها، بل هو الآن قد استوى على عرش القدرة والعلم يدبر أمور الكون. والأرباب التي تصورها الفلسفات وسائط بين الله والخليقة، والأرباب التي تصورها الفلسفة الأوروبية بإسم القوانين الطبيعية قد تكون لها تأثير في الحقائق ولكنه تأثير مأذون فيه. وهو رحمن، خلق الأشياء في مصلحة الإنسان، لا لكي يضرر بهم. كذلك الله.

وفي آية أخرى، كل شيء ينسب إلى الله حتى الحوادث التي تجري حسب السنن الكونية لأنها كلها تجري بأمر الله وبقدرته المباشرة. قال الله سبحانه: [وَالاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَاَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَاَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ](الحجر 19-23).

وفي آية أخرى:

[إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ](فاطر 41).

والله يقوم بتدبير أمور الإنسان أيضا.. ففي آية كريمة: [وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](الأنعام 17). وهو رقيب شديد الرقابة على عمل الإنسان، ففي آية شريفة: [مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلآ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](المجادلة 7). فالخلق والتقدير والسلطان والتدبير لله وحده لا شريك له. والانسان هو الآخر مراقب من قبل الله تعالى مجزي بعمله.

ولا يعني هذا إلصاق أية صفة مادية بالله سبحانه، إذ ان طبيعة الخلق تقتضي المباينة التامة بين الخالق والمخلوق. هكذا جاء القرآن يصف الله بأحسن الصفات وينفي عنه صفة المخلوقين. فيقول [لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ]( الانعام 103). ويقول [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ](الشورى 11). [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ]( الصافات 180).

وفي تفسير الآيات، جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عرف الله من شبهه بخلقه[35]).. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (مباين لجميع ما أحدث في الصفات... ليس بجنس فتعادله الأجناس، ولا بشبح فتضارعه الأشباح، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات[36]). وقال عليه السلام: (توحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة[37]).

وقال صلوات الله عليه: (الحمد لله الذي لم تسبق له حال حالا فيكون أولا قبل ان يكون آخراً، ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا. كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان، و لطيف الأجسام، و كل ظاهر غيره باطن، و كل باطن غيره ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوّف من عواقب زمان..[38]) كذلك الله رب العالمين.

----------------------

تعاريف لابد منها

إذا كانت التعاريف في كل علم ذات اثر ثانوي، فإنها بالنسبة إلى المعارف الفلسفية بمثابة حجر الزاوية. ذلك لأنها ليست الا محاولة لتعريف الحقيقة الكبرى، التي تتفرع عنها حقائق الكون. فهي بذاتها مجموعة تعاريف. ومن هنا تكسب التعاريف أهميتها في الفلسفة. ولابد لنا ان نقول بأن تعاريفنا هذه مطابقة لوجهة نظر الإسلام التي قد عرفنا انها الحق.

1- العقل:

ذلك النور الذي يميز به الإنسان الرشد من الغي، والخير من الشر، والممكن من المستحيل، والحق من الباطل. ان ذلك النور هو العقل.. ويعرفه (الفيروز آبادي) في (القاموس): (انه نور روحاني تدرك به النفس العلوم. وجاء في حديث النبي (ص): ان العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تعقل حارت).

ولا يمكننا معرفة العقل الا بذاته وبما له من آثار، أما حقيقته فإن القول فيها نوع من الغرور. وان من آثاره، توجيه الإنسان إلى الخير وتحبيذه له، وردعه عن الشر وترغيبه عنه. وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم إذ جعله عقالا للنفس البشرية التي شبهها بأخبث الدواب ان لم تعقل حارت.

2- العلم:

ذلك النور الذي تكشف النفس به الحقائق وقد كانت من قبله جاهلة بها غافلة عنها. وليس كل اعتقاد علما ـ في المنطق الإسلامي ـ إذ ليس الاعتقاد دائما كشفا عن الواقع، بل قد تكون النفس مطمئنة بعقيدة، دون ان يكون لها بها علم. بلى؛ كل علم عقيدة إذ لا تملك النفس التي تنكشف لها الحقيقة بصورة واضحة ودون أية ريبة أو غموض، لا تملك إلاّ أن تطمئن بها وتعتقد بمضمونها.

3- المعرفة:

وأما المعرفة فإنها علم مستجد بالشيء.

4- اليقين:

بعدما يحصل العلم، تنشأ صفة في النفس تدعى بـ(اليقين). فاليقين اطمئنان الذات بحصيلة كشفها عن الحقيقة، وأما القطع فإنه يعني جزم الذات بأمر سواء كان حقا أم باطلا. ورب قطع يوافق الواقع لا يكون علما، لأنه يفقد صفة الكشف عن الحقيقة. فلو قطع (وجزم) فرد بوجود الروح ـ لا لأنه عرفها بعلم ـ بل لأن القول بوجودها كان في مصلحته أو صادف هوى في نفسه فذلك القطع ليس بعلم وان كان صحيحا، لأنه لا ينطوي على كشف الواقع كشفا يقينا.

5- الحق:

وحين يتصادق ما بنفس البشر مع ما في الواقع يكون هو (الحق) والحق في اللغة يعني الثبوت، والتقرر، والوجود. ولذلك فإن للحق معنى آخر ـ غير تطابق الشعور وخارج الشعور ـ ذلك المعنى، هو الوجود سواء علم به أحد ام لم يعلم، اعتقد به ام لم يعتقد. فمثلا الجنة حق لأنها موجودة فعلا في الخارج فإذا علم بها أحد، كان علمه حقا أيضا. ولو مات رجل في بيته ولم يعلم بموته أحد أبدا، فإن موته حق أي ثابت.. ولفظة الحقيقة تعطي ذات المفهوم.. انها تعكس الأمر الثابت في الواقع الخارجي.

6- الروح:

الروح هي النفس وهي التي تنطوي على نور الحياة، والعقل، والإرادة. وهي حقيقة ثابتة وراء الجسد، وهي محددة بالطول والعرض مختلفة بالقوة والضعف، ومتفاوتة بالاهواء والرغبات. وبافتقادها يعود الجسم ميتا.. ولا يهمنا ـ بعد هذا التعريف ـ ان نعتبر الروح مادة لطيفة جدا، ام نقول انها مجردة عن المادة الكثيقة. فإن الهدف واحد هو تفسير حقيقة أرقى من المادة التي نحس بها، ولكنها ليست هي الحياة والعلم والإرادة، بل ان هذه الأنوار تنشأ فيها.. تزيد وتنقص وهي هي.

7- النفس:

أما النفس فهي كلمة تعكس لدى الإسلام مفهوم الروح تماما، ويراد بها ما يساوي كلمة الذات والقلب أيضا. الا ان الأوسع مفهوما هو الروح ثم النفس لأن القلب يوحي غالبا إلى مركز العواطف أكثر من إيحائه بمبعث نور العقل والإرادة. ويوضع القلب عادة بإزاء العقل.. وينسب إليه العمى والطبع والختم لأنها رمز الشهوات في اللغة العربية، كما هي كذلك في سائر اللغات.

8- الشهوة:

ان الشهوة هي انجذاب النفس إلى شيء أو شخص، ومبعث الشهوات هي طبيعة الحياة. فالحياة تتطلب ضروراتها التي تشكل في الغالب شهوات الإنسان. وقد يخطئ الإنسان في تمييز الضرورة عما سواها فتحدث فيه الصفات الرذيلة التي هي نوع من انحراف حب الحياة في النفس.. وغالبا تستعمل كلمة الشهوات في الصفات الرذيلة هذه.

9- الهوى:

ويعني الهوى الحب، ولكنه يستعمل في منطق القرآن عادة في حب الذات (هوى النفس)، ولقد جبل كل شخص على هوى النفس. وبالعقل تتمكن الذات من تحديد الحب هذا وتوجيهه الوجهة المستقيمة.

10- الجهل:

والجهل صفة في النفس تقابل صفة العقل، وتقابل آثاره كل آثار العقل. ولا يعني الجهل في منطق الإسلام مجرد افتقاد المعرفة، فمثلا الجزع والظلم والحسد والحقد كلها من الجهل.

11- الفكر:

ان توجه النفس إلى المعلومات السابقة التي احتفظ بها لديه في محاولة لإستعادتها واستثارتها ومنهجتها واستخراج معلومات جديدة عنها يسمى بـ(الفكر).

فالفكر إذاً عمل من أعمال النفس البشرية.. هدفه استخراج معلومات جديدة من إثارة المعلومات السابقة.

12- الخيال:

تحتفظ النفس البشرية بالصور التي تنعكس عليها ـ من نافذة الحواس ـ عن العالم الخارجي، تحتفظ بها ثم تبدأ تركب بعضها مع بعض وتجرد بعضها من خصائصها لتصنع منها صورة جديدة وهذا يسمى خيالا. فالخيال إذا إبداع النفس لصور كاذبة.

13- الإنتزاع:

قد يعلم الإنسان بوجود دار معينة. ثم يعلم بوجود دار أخرى وثالثة ورابعة و.. و.. وهنا تتعب النفس عن الاحتفاظ بعدة معلومات عن الدور العديدة المتمايزة عن بعضها فتحاول ان تستريح وتجد مهربا في تجريد الدور عن صفاتها المميزة والتركيز على صفتها الموحدة فتحتفظ الذاكرة بصورة عن الدار بعيدة عن خصائص الدور التي عرفها الإنسان وتسمى هذه عملية الإنتزاع.

فالإنتزاع ـ إذا ـ توحيد المعلومات المختلفة بصبغة واحدة.

14- التصور:

حينما يحس الفرد بشيء تنعكس صورته على نفسه، وقد تعمل النفس عامدة لخلق مثيلها. وتذكر الصور النفسية أو معرفتها يدعى بالتصور.

فالتصور ـ إذاً ـ علم النفس بما فيها من صور الحقائق الخارجية.

القسم الثاني- العقيدة والإيمان

البحث الأول عن: الدليل إلى الله

كلمات في البدء

لماذا ندرس العقائد؟

1- لأن العقائد تبين مبدأ الإنسان ومصيره وخط سيره في الحياة الأولى والآخرة، فإن من لا يدرسها ببصيرة، سوف يحسب انه على صراط النجاة.. بينما هو على صراط الشقاء في الدنيا وسبيل النار في الآخرة فيخسر نفسه في العالمين.. ومن هو أشقى ممن خسر نفسه في الدنيا والآخرة؟ قال الله تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً]، (الكهف 103/104).

2- من أوجده؟ إلى أين ينتهي؟ ولماذا جاء؟ وما هو سبيله الأقوم؟ وكيف يسعد؟ ولماذا خلق الكون؟ وما هي الغاية من وجود البشر؟ ولماذا يسعد بعض ويشقى آخرون؟ أسئلة يطرحها كل فرد على نفسه، ويسعى لمعرفة الإجابة الصحيحة. ذلك لأن هذه الأسئلة ترتبط بكافة نواحي حياته وبدون الإجابة عنها يفقد الرؤية السليمة إلى الحياة فيقع في تناقضات مستمرة وهنا إذا هو درس العقائد دراسة عميقة عرف الإجابة الصحيحة، والا فاما ان تبقى الأسئلة لديه بدون جواب فيصيبه الفراغ والضياع، أو يجيب عنها إجابات مرتجلة فيضل، ويشقى! إذ انه راح يعتقد بأفكار خرافية مثل عبادة الأصنام والحيوانات والنجوم.

3- لقد بث أعداء الإسلام شبهات حول الدين فلقفتها الشبيبة لأنهم لم يكونوا قد درسوا بوعي ما كانوا يعتقدون به، فتمسكوا بالشبهات وتركوا حقائق الدين وأصبحوا دعاة للكفر وجنودا للأعداء، فكان لابد لنا من ان ندرس العقائد لنرجع هؤلاء إلى ما كانوا عليه من عقيدة بالدين والتزام بشرائعه.

4- والثقافة الإسلامية التي نزل بها الروح الأمين على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تبق سليمة وذلك بفعل ما اختلط بها من اهواء وأساطير أملتها خرافات الإغريق قديما، وفلسفات الغرب حديثا. فلم يعد المسلم يبصر طريقه في الحياة، تلك الطريق التي ضاعت في زحمة الدعايات الأجنبية فأصبح متوتر الفكر، مشوه الكيان، مفقود الثقة بنفسه والأصالة في رأيه، مغرقا في بؤرة التناقضات.

ولكي نعيد المسلم إلى واقعه، وننقذه من سلبيته وتبعيته، لابد ان نعيد إليه الثقافة الإسلامية الحقة التي ترتكز على العقائد الإسلامية.

كيف ندرس العقائد؟

أمام دارس العقائد ثلاثة مناهج مختلفة:

1- منهج الفلسفة؛ ويعتمد على المنطق الأرسطي (الشكلي) وفلسفة الاغريق الالهيين، وعلم الكلام الإسلامي المقتبس منها وهو منهج شكلي تجريدي. ودراسة العقائد وفق هذا المنهج استعارة ناشزة للقالب الفلسفي في عرض العقائد الإسلامية حيث تتلوث بتصورات البشر الوثنية، إذ ان الإسلام مبدأ حنفي جديد على الإنسان موحى إليه من الغيب، وله قالب يناسبه، وأي اقحام لمفاهيم الفلسفة ومناهجها وألفاظها في بنائه الفكري يشوه صبغته ويخل بتوازنه ويقضي على وحدته العضوية الداخلية.

ومن هنا فقد أخطأ أولئك الذين حاولوا صياغة الإسلام في قوالب أجنبية غريبة في مناهجها وألفاظها وإيحاءاتها عن روح الرسالة الإسلامية، كعلماء الكلام قديما ومقلدي الغرب حديثا.. وقد نعت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أول من قام بهذه المحاولة الخاطئة في المسلمين، نعته بأنه (سامري هذه الأمة[39]) لأنه بدل عبادة الله الأحد بعبادة التوهمات الغريبة عندما أشاب نقاء الحنفية الإسلامية بوثنية الاغارقة المشركين!

2- المنهج الصوفي؛ وقد انبثق هذا المنهج من الاغراق في التقشف وجعل الإنسان رمز الشرور والخطيئات الذاتية، وجعل فناء الإنسان في غياهب العدم والسلبية هو المنهج القويم الموصل بهم إلى الحقيقة. ونرى هذا التصور الخاطئ بارزا في الفلسفة البرهمية والفلسفات الآسيوية البعيدة، وقد طرقت أبواب المسلمين في بداية القرن الثاني مع نشاط حركة الترجمة بين المسلمين.

وهذا المنهج ينكر دور العقل في معرفة حقائق الكون، ويدعو إلى السلبية ونبذ النظم الدينية والاكتفاء بالصفاء الروحي الذي يتحول شيئا فشيئا إلى الانطواء أو اللامبالاة. والواقع ان ابتعاد هذا المنهج عن روح الإسلام هو كبعد الإسلام عن روح الجاهلية. إذ ان هذا المنهج يعتمد على العمل أكثر من اعتماده على العقل! بل ويكفر بدور العقل والاستدلال النظري بتاتا، ويتصور ان معرفة الله هي فوق مستوى العقل. وهذا قول مرفوض وباطل كما تحدثنا عنه في القسم الأول، من هذا الكتاب.

3- المنهج الإسلامي؛ ويستوحى من القرآن الحكيم ويقوم على أصول ثابتة من الفطريات المسلمة والمتميزة عن دواعي الهوى والغضب، وميزته الأساسية ايقاظ الوعي وإثارة العقل والدعوة إلى التدبر والتفكر والتوجيه إلى الانفتاح على الحياة لمعرفة أعماقها وملامسة أغوارها ومخاطبة روحها النقية الخالصة. ولا ينسى هذا المنهج دور العمل كما لا يجرد العقل عن العمل، وأسلوب الحديث في هذا المنهج التذكرة والتنبيه والابتعاد ابدا عن المراء والجدل والمكابرة على الحق.

وركيزة الحديث فيه التبشير والانذار وذكر الأمثال من الأمم السابقة، كيف نجى فيها من نجى وكيف هلك منها من هلك.

ونحن نتبع هذا المنهج لأن الإسلام لا يمكن فهمه الا من حيث المجموع لأنه بناء متين ينبغي ان يدخل فيه برفق وتدبر.. ولأنه طريق قريب، واضح المعالم، بليغ البينات، منسجم مع الفطرة، وضرورات الحياة.

ولقد استوحينا المنهج من هدى القرآن حين حاولنا التلمذة عليه دون ان نحاول التأويل فيه، أو مواجهته برواسب الثقافات الغريبة[40].

------------------------

أي رب ندعو إليه ؟

إلى أي اله ندعو الناس؟ لابد ان نوضح عدة نقاط مبدئية لكي لا تكون دعوتنا إلى الله مشوبة برواسب الثقافات الأخرى، وبالتالي ترفض هذه الدعوة بسبب تلك الخرافات التي زعمها الآخرون ونحن منها براء. والواقع ان أكثر المشركين بالله هم الذين تصوروا الله بأوهام بعيدة عن الحق فأنكروا الله وهم لم ينكروه في الواقع بل أنكروا من تصوروا انه الله والا فأي شيء أكبر شهادة من الله؟

القرآن نجاة من الأساطير

ولابد لنا ان نتبع القرآن في التذكرة بالله والدعوة إليه، ويكمن السبب في ان البشر عاجزون عن بلوغ المعرفة الصحيحة الا بسبب من الله تعالى. ولذلك تخبط الإنسان في ظلمات الاوهام حينما ترك الاهتداء بنور القرآن فاعتقد بالخرافات وزعم: ان الله جسم لا نهاية له أو انه جسم محدود، وقد تنزل فأصبح الخلق، فإذا ارتفع الناس أصبحوا آلهة. وانه بعيد عن خلقه بمباينة، ويده عنهم مغلولة، وانه أولد عيسى وعزير، وان اليهود أبناءه، وانه تعالى عاجز عن إزالة الشر، وانه يبغض البشر ولكن لا يقدر عليهم[41].

ولم يفضح هذه الخرافات الا القرآن وما صح من تفسيره على لسان نبي الاسلام و أهل بيته عليهم جميعا صلوات الله ، فعلينا الاهتداء بهداه والاقتباس من نوره.

والواقع ان البشر أثبت عمليا عجزه عن بلوغ المعرفة الخالصة لله سبحانه دون التنور بهدى الأنبياء عليهم السلام.. إذ ان تاريخ الإيمان بالله يرشدنا إلى ان الإنسان كان يتخبط، حين ابتعد عن منهج الله تعالى، في ظلمات الجهل والغفلة. فالناس كانوا بين من أنكر الله أو أثبته وأنكر صفاته الحسنى، ومن أثبت له صفة العجز والذل –سبحانه- أو بالغ في إلصاق الصفات البشرية حتى زعم انه مركب. ومن يطلع على ركام الجهالات البشرية هذه يعرف مدى الحاجة إلى الرجوع إلى الله في تعريفه لنفسه، وذلك في كتابه الكريم الذي تجلى فيه لعباده لو انهم كانوا يبصرون. قال الله تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ](ابراهيم 1-2).

أنواع المعرفة

وللإنسان في المعرفة أحوال ثلاثة: المعرفة التامة، والجهل التام والمعرفة البسيطة.

1- فقد تعرف مثلا تفاصيل حدث كائن غدا.

2- وقد لا تعرف شيئا من ذلك.

3- وتارة تعرف ان شيئا ما كائن غدا، ولكن لا تعرف كيف هو وأنى هو؟

فهذه ثلاثة أحوال في المعرفة بصفة عامة، أما حول الله فليس لنا معرفة الله تفصيلا ولسنا عاجزين عن معرفته رأسا، وان لنا بين ذلك سبيلا وسطا وهو ان نعرفه بآياته دون ان نحيط علما بكنهه وذاته. وإليك مثالا نقدمه عن معرفة العلم (تعالى الله عن الأمثال): حينما ترى آيات العلم ترى أنك تحيط ببعض الأشياء علما وأنت على يقين بأن علمك هذا شيء غيرك. عند ذلك تصدق بواقع العلم، ولكن كيف عرفت العلم؟ ام كيف أحطت به؟ وبأي وسيلة؟ أبعلم أحطت به، ولا يحيط الشيء بنفسه؟ ام بالجهل عرفت العلم، وكيف يرشدك الجهل إلى العلم؟ وهل يكون الظلام رائد النور؟ لابد لك من ان تصدق بوجود العلم وليس لك أمر فوق ذلك تصدق به، لأنك لا تستطيع ان تنكره بعد ان رأيت آياته الباهرات، ولا تحيط به لأنك لا تملك وسيلة إلى ذلك.

حتى ان العلم بوجود واقع العلم لا يعني اننا نثبت للعلم وجودا كما نثبت للمعلوم وجودا. ذلك لأنه ليس لنا طريق إلى اثبات وجود للعلم، بل كل ما يعني ذلك اننا نخرج العلم عن اطار العدم وننكر ان يكون معدوما.

فالمعرفة التي يمكننا تحصيلها في هذا المجال هي التي تجعلنا بين النفي والاثبات، حيث ننفي العدم، ولا يمكننا ان نشير إلى الوجود. صحيح ان انكار العدم بذاته دليل الوجود إذ لا وسيط بينهما، ولكن لا يمكننا الإثبات الصريح لأنه لم نؤت وسيلة إلى ذلك. وهكذا تكون المعرفة بالله!

حينما نرى السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات في غاية الدقة والنظام، لا نملك الا ان نعترف بأن موجدها وخالقها ليس عدما. ولكن هيهات لنا ان ندعي له وجودا الا بقدر (ان كل ما ليس بمعدوم فهو موجود). وهذا يختلف عن القول بثبوت الوجود له على غرار (الوجود) الذي نعهده في الأشياء –سبحانه.

وحينما نرى في آيات الله آثار التدبير والتقدير نعلم بأن بارءها يتعالى عن الجهل والضعف. وهل يعني هذا اننا عرفنا (علم الله) واحطنا (بقدرة الله)؟ كلا! لا يعني هذا الا نفي الجهل والضعف عنه وان نقول تعالى الله عما هو صفة المخلوقين.. وما قولنا ان الله قدير عليم الا إشارة إلى نفي الضعف والجهل عنه، لا اننا علمنا منه (العلم والقدرة) لانه قد سبق ان عقولنا اعجز من ان تصل إلى مستوى الخالق. والى هذه الحقيقة تشير الأحاديث التالية:

سأل سائل الإمام الصادق (ع) عن الله؟ فقال: هو الرب وهو المعبود وهو الله، وليس قولي (الله) اثبات هذه الحروف (الألف واللام والهاء) ولكن أرجع إلى معنى هو شيء خالق الاشياء وصانعها، وهذه الحروف –المسمى به الله والرحمن الرحيم وأشباه ذلك- من أسمائه، وهو المعبود جل وعز.

قال السائل: فانا لم نجد موهوما الا مخلوقا؟ قال ابو عبد الله(ع): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرفوعا، لأنا لم نكلف ان نعتقد غير موهوم، ولكننا نقول كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق. ولابد من اثبات صانع للأشياء خارج من الجهتين المذمومتين؛ أحدهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التأليف والتركيب. فلم يكن بد من اثبات الصانع لوجود المصنوعين، والاضطرار منهم إليه. فثبت انهم مصنوعون وان صانعهم غيرهم وليس مثلهم. إذ لو كان مثلهم لكان شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد ان لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة لنا إلى تفسيرها لثبوتها.

قال السائل: فقد حددته إذا أثبت وجوده. قال (ع): لم أحده ولن أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة. قال السائل: فله إنيه ومائية[42]؟. قال الإمام (ع): نعم لا يثبت الشيء الا بانية ومائية. قال السائل: فله كيفية؟ قال(ع): لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة ولكن لابد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه، لأن من نفاه أنكره ورفع ربوبيته وأبطله، ومن شبهه بغيره فقد اثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية، ولكن لابد من إثبات ذات بلا كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره.

وسئل ابو جعفر (ع): يجوز ان يقال لله انه شيء؟ فقال: نعم يخرجه من الحدين؛ حد التعطيل وحد التشبيه.

وقال الصادق (ع): ان العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب الإحاطة بصفته. فإن قالوا كيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم انما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم ان يبلغوه وهو ان يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته.. (وذلك لأن الله لا يرى بعين الوهم).

المعرفة فطرة الإنسان:

الإنسان جزء متفاعل مع العالم كله، يرتبط معه في كل شيء؛ في مواد جسمه وسنن حياته ومعارف عقله وشهوات قلبه. واي محاولة لفصله عن طبيعته المتفاعلة المنسجمة مع الكون تكون فاشلة. والمعارف البشرية سعي متواضع لكشف بعض مناحي هذا التفاعل الواسع بين البشر والكون من حوله.

والدين الحق تعبير صحيح عن الكون؛ روحه وجسمه، باطنه وظاهره. وفي الكون هذا الإنسان المتفاعل معه، والكون خليقة الله العظمى ومظهر اسمائه الحسنى فهو أبرز شاهد وأكبر آية على الله تعالى. وبحكم تفاعل الإنسان مع هذا الكون، وبحكم ان الكون شاهد على الله فهو مفطور على الدين ليس في عقله وروحه فقط بل في كل شيء منه، فهو مرتبط بأكثر من خيط بأصله وطبيعته. وشعوره لا يعدو أن يكون مفطورا على معرفة الله وحبه والإنابة إليه، وهذا نوع من المعرفة الفطرية تأكدت بمعرفة أخرى عندما بدأ الله خلق الإنسان، حيث أشهده على نفسه وعرفه خلقه. وهنالك عرفنا ربنا معرفة تامة، وعلق بأنفسنا ما يشبه الظل من تلك المعرفة، ذلك الظل الذي يدفعنا أبدا إلى البحث عن الله، فتارة نهتدي إليه وتارة نضل عنه فنتخذ اندادا من دون الله ونزعم بأنها هو الذي عرفناه سابقا. ولولا هذه المعرفة الأولية التي تدغدغ ضمير كل بشر لما بحث الناس عن إله، ولما ابتغوا إليه الوسيلة بشتى الأسباب. وهذه الفطرة تساعد الإنسان على معرفة الله الحق. فليس أمامه سوى ان ينبه به ويذكر إليه فإذا بشعاع المعرفة يغمر فؤاده، الا ان يجحد عنادا وطغيانا.. قال تعالى: [وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ](الأعراف 172) وجاء في الحديث في تفسير هذه الآية [وإذ أخذ ربك من بني آدم…] انه سئل معاينة كان هذا؟ قال الإمام: نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر احد من خالقه ورازقه. وفي تفسير قوله (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد[43] .ان هذه الحقيقة لتهدينا إلى عدة حقائق:

أ- ان البشر لا يحتاج لمعرفة الله إلى أكثر من التوجيه والتذكير.

ب- ان ما قاله الماديون في تفسير توجه الناس إلى الدين ورغبتهم الملحة إلى معرفة الله ان ذلك من ضعفهم وجهلهم عن التفسير الصحيح للحوادث، انما هي ضلالة بعيدة، إذ لو لم يكن لديهم فطرة أولية تهديهم إلى الله لما أظهروا ضعفهم بهذا الشكل.

ج- انما السبب في توجه الناس إلى الله وترك ما كانوا يعبدون من الشركاء، وذلك حين تمسهم الضراء والبأساء، انما السبب في ذلك وجود معرفة فطرية لديهم بالله، إذ تنقشع عن أنفسهم آنئذ حجب الغفلة والمصلحة ويتوجهون إلى الله.

دور الأنبياء في المعرفة

بما ان الإنسان مفطور على المعرفة في عالم سابق على هذا العالم، ولم يحدث له إلا النسيان والغفلة عن تلك المعرفة والاحتجاب عنها باتباع الشهوات، فانه لا يحتاج الآن الا أن يلفت نظره إلى ما غفل عنه من المعرفة بعد أن ترفع عن وجهه غشاوة الحجب. ولم يكن من الممكن عودة الإنسان اللاصق بالارض بمباهجها ومشاكلها وأمانيها البعيدة الاّ برسول مبعوث من الله ، إذ أن هذه العودة تستوجب تناسي الإنسان لعالمه المادي القريب وتطلعه إلى الآفاق البعيدة حيث الغيب الذي يدبر أمور الحياة وذلك أمر مستصعب لا يلائم طبيعة الانسان، ولهذا بالذات بعث الانبياء(ع) فقد جاءوا لكي ينذروا البشر عن التمادي في الغفلة عن معرفة الله تعالى ويذكروهم بربهم الذي أنعم عليهم بنعم لا تحصى.

ولقد كانت هذه سنة الانبياء عليهم السلام. فهذا القرآن تذكرة بالله ، فليس في القرآن سورة، بل ولا آية الا وتذكر بالله بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ورفع حجب الغفلة من دونه. وهكذا كانوا يصرحون للناس ان الهدف الرئيسي من بعثهم كان تذكرة العباد بربهم وتوجيههم إلى خالقهم. قال تعالى (فذكر انما أنت مذكر، لست عليه بمسيطر[44]). وفي الحديث: سئل الامام الصادق (ع) عن الناس: (أضلالا كانوا قبل بعثة الانبياء (ع) أم على هدى؟) فقال: (لم يكونوا على هدى، بل كانوا على فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله).

-----------------------

الدليل إلى الله

آيات الله

أ-ما هو الدليل إلى الله؟.. تدبر في نفسك واسرح ببصرك في الآفاق فانظر ماذا ترى؟.. ألست ترى ما تعجز عن وصفه عالما متوازنا مبدعا مدبرا وأنت فيه صغير يدبر شؤونك مولى عطوف ويربيك طورا فطورا.

ب-ويقولون: ان الكون جاء صدفة ونظم صدفة ويسير بغير دليل. سبحان الله، ما هي الصدفة؟ هل يمكن تفسيرها؟ أو لا تعني الصدفة سوى أن حادثتين وقعتا في حالة واحدة، وكان لكل واحدة منهما سببها، الا انه كانت في وقوعهما معا حكمة جديدة؟ هذه هي الصدفة التي نعرفها، ولا نعرف الصدفة عملا بغير عامل، أو خلقا بدون خالق، أو حادثا بدون سبب.

ج- الكون لم يحدث بل كان أزليا. هل هذا صحيح؟ كلا! ان جميع شواهده يدل على حدوثه، تطوره، تناميه، تناقصه، تناقضه، حاجة بعضه إلى بعضه، تركيب أجزائه بدقة وتناسق. ان في هذه آيات الحدوث.. بل كل اكتشافات العلم تهدي إلى ان للوجود عمرا محدودا. فالحرارة المتاحة للحياة تتناقص، وعمر النجوم محسوب، والأرض لم تكن ثم كانت، والوجود كان مركزا ثم حدث فيه انفجار هائل ثم أخذ يتباعد وانه سيرسو في نهاية محدودة[45].

[أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا](الأنبياء30) وهل هي بحاجة إلى أكثر من لفتة نظر، حتى نعرف ان هناك من نحتار في كنهه ولا نعرف الا انه شيء فوق الأشياء، شيء لا يشبه الأشياء وهو قادر عليم وهو الذي أبدع الكون إبداعا.

د- يقولون: هي الصدفة التي نسقت علاقة الأشياء ببعضها. فصدفة وبدون أية حكمة أو تدبير كانت حركة كوكبنا (الأرض) حول الشمس منضبطة تمام الانضباط بحيث لا يمكن ان يحدث أدنى تغير في سرعة دورانها حتى بعد مرور قرن من الزمان، وصدفة كان نظام القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط مع تفاوت يسير يتكرر بدقة فائقة.

هل هي صدفة؟. نحن لا نفقه من لفظة الحكمة الا النظام الدقيق، فهل هم يفهمون منها ما يرادف كلمة الصدفة.. ان الفضاء الكوني فسيح جدا تتحرك فيه كواكب لا حصر لها[46]، بحيث لو أوتيت ـ فرضا ـ أجنحة من نور وسارت بك الف مليون سنة في سرعة الضوء لما قدرت ان تحيط بالكون، لأنه في توسع مستمر يسبق أجنحتك الخيالية السرعة.

ان دقة التنسيق وروعته تبهران الإنسان وهو يتدبر في آفاق السموات التي تهتف به انها تُدَبَّر من لدن حكيم عليم.

هـ - ان شواهد العمد والتصميم السابق متوافرة في كل حركة في الكون. فبالرغم من وجود سنن كونية تجري عبرها الكواكب والمنظومات، فإنها ليست كآلة ميكانيكية، بل انما هي كسيارة في عراء قد استوى عليها صاحبها وسيرها بقدرة وخبرة بالغة.

فالآلة الميكانيكية تفترق عن السيارة في ان الآلة ذات محدودية ضيقة، وبرغم تحركها فهي لا تتطور ولا تتوسع. وإن الكون يجري لمستقر معلوم. له بداية وله توسع وتناقص وله نهاية. ومن هنا فليست المجرات وهي تتغير وتتطور كالساعة الأوتوماتيكية التي صنعت ثم جعلت تتحرك بذاتها، بل هي كالساعة وهي تُصنع وتُكمل لحظة بعد لحظة، لأنها في صنع وتقدير مستمرين. فمثلا: مجرات الكون تسير حينا باتجاه بعضها ولكنها لا تتصادم أبدا، بل تتداخل ثم تتوادع وتتابع كل واحدة منها مسيرتها بسلام.

وهناك تكوّن جديد للنجوم ولكنه لا يتكون في أي موقع كان وفي أي زمان كان، بل يتكون في لحظة معينة وفي موقع معين ولهدف معين ليُعرف ان وراء الأمر حكيمٌ يدبره تدبيرا.

وان للصدف مجالا واسعا فيها ولكنها صدف مقصودة، الشهب تقاذفها الصدف ولكنها في النهاية صدف حكيمة تنطلق في وقت معين ولهدف معين. سبحان من يرصدها وسبحان من يرميها.

و - وحسب أحدث النظريات الكونية ان في آفاق السماء خلقا مستجدا دائما ولكنه خلق مقصود ومتعمد.

والميكنة قد تفسر شكلا خاصا من الأحداث، ولكن هل بإمكان المصنع الذي ينتج السيارة ان يصنع الطائرة في لحظة معينة؟ كلا! لقد عبر عن هذه الحقيقة عالم كبير بطريقة لطيفة فقال: انه يستحيل على مصنع يخرج منه الرجل ان يصنع المرأة لو لم تكن هناك حكمة بالغة تدبر الأمر بالغيب! وكذلك قال الله في كتابه: [وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الروم 25-27) وفي الأرض آيات للسائلين. فكل ما في الأرض جاء لمصلحة كل فرد. وجدير بنا ان نسأل كيف خلقت الصدفة كل شيء في صالح الإنسان؟ فحجم الأرض لو كان بحجم القمر، إذن لقلَّت جاذبيتها إلى السدس واشتدت البرودة فيها ليلا والحرارة نهارا ونقصت مياهها، وانهار توازنها واستحالت فيها الحياة… ولو كان حجمها أكبر منها بضعف إذن لانكمش غلافها الجوي واشتد ضغط الهواء فيها وأثر في استمرار الحياة عليها.. والضغط الجوي لا يزيد عن 15 رطلا لكل بوصة مربعة لأن هذا القدر فقط يفيد حركة الإنسان ونشاطه.

والضغط من الجاذبية، وقد كشف نيوتن عن وجود تجاذب بين أي جسم وجسم وبقي متسائلا: كيف ينجذب جسم ميت إلى جسم ميت ان لم تكن لهما أهداف مشتركة وراءهما، وممسك عظيم، وفي الأرض اختلاف الليل والنهار واختلاف المواسم، ولم يكن ممكنا وجود هذا الاختلاف دون تدبير دقيق جعل الأرض تدور في زاوية 33 درجة. تصور لو لم يكن فيها هذا التدبير، أفلم يكن قد غمر الظلام القطبين أبدا وما بقي على الارض غير جبال الثلج والفيافي الجرد واستحالت الحياة؟

فسبحان من علم وقدر وقضى ونفذ القضاء بقوة، بل يقولون صدفة، بئس ما يخدعون به أنفسهم.

ان سمك الأرض لو كان أكثر عشرة أقدام لامتصت الارض الأوكسجين واستحالت الحياة، ولو كانت البحار أعمق بضعة أقدام لاستحالت الحياة أيضا، ذلك لأنه كان قد انجذب ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين.

أكان كل ذلك صدفة؟ سبحان الله عما يصفون.

ز- ان منظر المطر رائع، وفيه منافع للناس جميعا. فلنتصور أي تدبير حكيم هذا الذي يجعل البحر يتبخر صاعداً ويأمر الرياح ان تحملها إلى حيث (يشاء هو) فيهطل عليهم بقدر ما يصلحهم، ويزيد لهم الرعد والبرق وهما ضرورتان للزراعة.

وتقول صدفة تمطر سنة هنا وسنة هناك؟! كلا انما هو وفق نظام دقيق يناسب تدبير الحياة والاحياء كما يناسب سائر قوانين الكون.

قال الله تعالى: [فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ](عبس 24-32). وقال: [وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَاَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً]( الانعام 99).

ح- وحياتنا الشخصية هل تدبر بالصدفة؟ قليل من الناس يستطيع ان يقول ماذا سيصبح في المستقبل، بل ماذا يكسب غدا ومتى يموت. ولو تدبرت قليلا لوجدت ان صدفا ما غيرت مسيرة حياتك، وحوادث ما جعلتك تغير أفكارك، بل انك في لحظات اضطررت ان تختار طريقا مختلفا عن آمالك، بل اخترته بصورة فجائية لم تسبقك إليه بادرة أبدا. ولقد عبرت عن هذه الحقيقة آية شريفة تعبيرا لطيفا، فقال: [اَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ](الانفال 24). وانك تعلم كثيرا، ولكنك لا تختار بالضبط متى تعلم وكيف تعلم. وبالرغم من ان هناك أسباباً معينة للتعلم فإن يدا غيبية تنظم التعليم وتوجهه. وأكبر العلماء وأقدرهم يرى نفسه ـ حسب اعترافات فريق عظيم منهم ـ تلميذا متواضعا للغيب يفتح له أبواب العلم بقدر معلوم.

ولم تتم الاكتشافات العظيمة الا في حالات تشبه الغيبوبة والتنبه الخاطف. ونعلم أشياء ثم ننساها وصدفة نتذكرها وحين نتدبر لحظات نرى ان هناك مصالح عامة عملت في ذهولنا.. ولا نعلم أشياء، وصدفة نعرفها ويكون ذلك في صالحنا ونسميه الحس السادس. هكذا يتقلب البشر بين أصابع الله سبحانه. فإذا به يجد ذاته مدبرا محدود الاختيار. قال الله سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](لقمان 34).

وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) في جواب سؤال وجه إليه ان بما عرفت ربك قال: ( الله بفسخ العزائم ونقض الهمم[47]) .

ط- وفي حالات عديدة يرتبط وجداننا بقوة غيبية فنسأل صاحبها (باسم أو بآخر) ونتضرع إليه بقلوبنا، فنجدها ذات اثر فعال في توجيه حياتنا نحو الأفضل، ونجد الحياة المستصعبة تيسرت، حتى نخال ان القدرة كانت من ذواتنا بصورة أصيلة.. وعندما تهجم علينا المصائب تتوسل قلوبنا بقوة غيبية قاهرة لا نعلم أين هي وكيف هي، بل لا نعرف عنها الا انها قادرة على انقاذنا. وقد تصفو النفس إلى درجة تحسب انها ترى الله، بل هو أشد من الرؤية وضوحا آنذاك، ولو يتذكر الإنسان تلك اللحظات لعرف ان الله لا ريب فيه، فاطر السموات والأرض الرؤوف الرحيم.

قال الله في كتابه الكريم: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ اُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ َمِنَ الشَّاكِرِينَ](يونس 22).

وجاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام يقول: يا ابن رسول الله! دلّني على الله ماهو؟ فقال له الامام عليه السلام: يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قط؟. قال: نعم . قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الاشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم، فقال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، و على الإغاثة حيث لا مغيث.)[48]

وهكذا يعرف الله نفسه للإنسان مرة بعد أخرى ويظهر في كل شيء ظهورا، لا تراه تلك العيون التي تعودت رؤية الفقاعات الصغيرة دون ما وراءها وانما تراه القلوب البصيرة النافذة التي تخترق ظواهر الحياة إلى حقائقها [سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ](فصلت 53).

أسماء الله الحسنى

1- اننا نجد في أنفسنا وفي الكون المحيط بنا نقطتين متقابلتين؛ نقطة الضعف ونقطة القوة. فإننا مثلا موجودون، الا ان وجودنا محدود بالزمان والمكان، واننا عالمون لكن علمنا محدود بالوقت والكمية، ومثل هذا كل شيء في العالم.

2- ليس لنا ان ندعي ان ما بنا من علم ووجود هو من معطيات ذواتنا الأولية، وان ذواتنا هي الوجود والعلم، إذ لو كنا نملك بذاتنا ان نوجد أنفسنا إذن لأوجدناها كبيرة قديرة كما نحب، باقية خالدة كما نأمل، كذلك لو كنا نملك العلم بذاتنا إذن لأعطينا أنفسنا علم كل شيء وبالتالي ما نسينا شيئا أبدا.

3- فإذا لم تكن ذاتنا بالعلم والوجود كما هي الحقيقة، فلا بد ان نهتدي إلى انها من طبيعة العدم والجهل. فنعرف ان ما بها من وجود وعلم هو من مصدر كامل الوجود وتام العلم، ذلك الذي لا نقص فيه ولا ضعف ولا عجز، وذلك الذي لا جهل معه ولا نضوب له، وان مالك الوجود الذي يعطينا منه قدرا مقدورا ومالك العلم الذي يفيض علينا منه قبسا محدودا، انه لا يمكن ان يُحدد وجوده بعجز أو فقر أو ضعف، ولا يجوز ان يُقدر علمه بنوع دون آخر وبكيف دون كيف أو بشيء دون شيء، وإلا لكان مثلنا مخلوقا مملوكا ويكون ذاته عدما وجهلا كما هي ذاتنا.

4- ان هذه الحقائق تهدينا إلى ان ما في الآفاق وما في أنفسنا من آيات الكمال والجمال فهي دالة على ما لواهبها من كمال ذاتي لا محدود وجمال تام لا متناهي، وان ما فيها من معالم الضعف والنقص فهي دالة على تعالي خالقها منها وتساميه عنها وبهذا نهتدي إلى ما لله من أسماء حسنى وما هو منزه عنها من صفات المخلوقين.

قال الله تعالى: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الحشر 22-24).

وقال امير المؤمنين عليه السلام: (الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا من شيء كُوّن ما قد كان، المستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسمها به من العجز على قدرته وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه، لم يخل منه مكان فيدرك بأينية ولا له شبح مثال فيوصف بكيفية)[49].

الأحدية

الأحدية تعني أمرين؛ الأول ان الله تعالى صمد لا تركيب فيه، والثاني: ان الله واحد لا شريك له. والدليل على الأول:

أ- اننا نلاحظ ان المخلوق يحتاج بعضه إلى بعض ولا يتم بعضه الا ببعض، ونعلم من وجداننا ان هذه صفة الذل والعجز، وان هذا يدل على أن المخلوق ضعيف و قدرته محدودة. وهذا يهدينا –بالوجدان- إلى ان خالقنا مقدس عن أن يشارك خلقه في الضعف والعجز، إذ ان الضعيف لو كان قادرا على الخلق لم نكن بحاجة إلى الخالق بل كنا نقول: ان كل شيء قد خلق نفسه، فإذا هدانا العقل إلى الحاجة للخلق، هدانا أيضا إلى أن الخالق لابد ان يكون منزها مما يجري فينا من الصفات الناقصة. وبما ان صفة التركيب صفة من صفات العجز والضعف فإننا نعرف ان الله مقدس عنها وانه غير مركب.

جاء في الحديث: (مستشهد بكلية الأجناس على ربوبيته، وبعجزها على قدرته، وبفطورها على قدمه، وبزوالها على بقائه... تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوا كبيرا[50]).

ب- ان التركيب يعني وجود عنصرين خالدين يحتاج أحدهما إلى الآخر، وان هذا يعني عدم وجود اله أبدا، ذلك لأن الحاجة من صفة المخلوق والخالق غني بالذات عن غيره إذ لو لم يكن غنيا بالذات لم يمكن ان يكون أزليا دائما، بل كان يحتاج إلى خالق آخر غير محتاج.

هذا هو المعنى الأول للأحدية. ولمعرفة الدليل على المعنى الثاني لابد من عرض بعض النقاط التمهيدية:

التوحيد

1- قالت المجوس ان للكون إلهين اثنين أحدهما للخير والثاني للشر، ويسمون إله الخير بإله النور، وإله الشر بإله الظلمة. والذي أضلهم هذا الضلال المبين هو جهلهم بطبيعة الشر وسبب وجوده في الحياة، فزعموا: انه لا يمكن ان يكون خالق النور هو خالق الظلمة ورب الخير هو رب الشر. ولقد أضلهم هذا الجهل إلى ان الإلهين لابد ان يكونا في صراع دائم يمثله في الخارج جنود الخير والشر، والنور والظلمة. ومن هنا فهم قائلون بتعدد الآلهة ليكون أحدهما ممثلا للخير وخالقا له والثاني ممثلا للشر وخالقا له، ولابد عندهم من ان يكون النزاع دائما بين الإلهين، والا فقد التعدد معناه.

ومن هنا فإنهم يزعمون: ان كلا من إله الخير وإله الشر عاجزين عن التغلب على الآخر. فإن أثبتنا ـ كما سيأتي ـ ان الله الخالق لا يمكن ان يكون عاجزا عرفنا ان الله أحد وهو إله الخير والشر، وجاعل النور والظلام، وانه لا يمكن ان يكون هناك إله آخر ليس لله تعالى طرده والإنتصار عليه.

2- ان الفلسفة الاغريقية وروحها السارية في اليهودية والنصرانية زعمت بتعدد الآلهة بسبب زعمهم بأن الله قد أولد الاشياء، فأضلهم جهلهم بطبيعة الخلق وزعموا ان طبيعة الخلق انما هي ولادة شيء عن الله ـ سبحانه ـ وصدوره عنه كما تفيض العيون بالماء.

فإذا ثبت لدينا ان خلق الله انما هو بنحو الابداع (يقول له كن فيكون) لأن قدرته ذاتية، وعرفنا انه إذا حُدِّدَ الذاتي انقلب إلى أمر عرضي، إذ معنى ذاتية القدرة ان الذات لا يمكن ان يكون عاجزا بل انه كواقع العلم الذي لا يمكن ان ينقلب إلى الجهل بل العلم علم بالذات. أقول: إذا ثبت لدينا هذا ثبت سخافة الفلسفة الاغريقية وتابعتها اليهودية والنصرانية في هذا المجال، وانهار بناء القول بتعدد الآلهة، بناء الزردشتية الشرقية والاغريقية الغربية، هذه بعض النقاط التمهيدية، اما تفصيل الأدلة على التوحيد فهي:

1- لكل اثنين ثالث ولكل ثلاثة رابع، والسبب انه لابد لكل اثنين من عنصرين أحدهما يميزه عن الآخر والثاني يحقق وجوده، فزيد وعمر يشتركان بعنصر الرجولة ويفترقان بعنصر العمر والزمن أو الحالة والمكان وما أشبه.

ولو افترضنا إلها غير ذي العرش ـ تعالى ـ إذن لكان بينه وبين الله سبحانه فارقا يميزه عنه كالمكان والزمان و. و.. وإذن لكان الفاصل خالدا خلود الإلهين لأنه مقوم لهما محقق لوجودهما ولولاه لما تميز عن الإله الآخر، ثم يأتي الحديث عن هذا الفاصل الذي يميز بين الإلهين والذي افترض انه قديم فنقول انه لو كان قديما لكان وجوده من نفسه وإذا لكان غنيا عن الخلق. إذ كل شيء قديم لا يمكن ان يكون مخلوقا بل غنيا عن الخلق وبالتالي إلها، وإذا كان كذلك فلابد ان يكون بينه وبين الإلهين فارقان ولكان الفارقان إلهين أيضا ولكان يجري فيهما ما قد جرى في الآلهة السابقة من لزوم الفارق بينهما وبين غيرهما من الآلهة، وهذا لا يقف عند حد محدود، إذ كلما افترضنا إلهين قلنا فيهما انهما يحتاجان إلى ما يفرقهما عن بعضهما ولابد ان يكون الفارق إلها، وهكذا نستمر إلى ما لا نهاية. كل ذلك فيما لو افترضنا ان الإلهين بعيدين عن بعضهما اما لو قلنا ان أحد الإلهين يكون حاملا للآخر إذا لكان المحمول مخلوقا محتاجا، ولم يكن في الكون الا اله واحد.

2- ثم ان وجود إلهين اثنين لا يخلو من ان يكون واحدا من أمرين؛ اما ان يقدر أحدهما على دفع الآخر عن موضعه أو لا يقدر، فإن كان قادرا لم يكن ذاك الآخر إلها وان لم يكن قادرا لم يكن هذا الها، إذ الإله لابد ان يكون قادرا بالذات، ولا تكون القدرة الذاتية بمحدودة أبدا، إذ كما مر ان الذاتي يعني ان كون القدرة من ذات الفرد، ولا يناسب القدرة الذاتية العجز عن ناحية معينة. فمثلا: يكون الله قادرا بالذات ثم لا يكون قادرا على خلق نجمة مضيئة؟ هذا تناقض. وبما ان العجز عن التغلب على الإله الآخر نوع من العجز فإنه لا يناسب القدرة الذاتية، إذ انا نعرف –بالوجدان- ان القدرة بالذات لا يمكن ان تنقلب إلى العجز ولو بالنسبة إلى شيء واحد.

جاء في السنة: سأل زنديق، الإمام الصادق (ع)عن قول من زعم ان الله لم يزل ومعه طينة موذية فلم يستطع التفصي منها الا بإمتزاجه بها ودخوله فيها فمن تلك الطينة خلق الأشياء؟! قال الإمام (ع): (سبحان الله وتعالى ما اعجز إلها يوصف بالقدرة لا يستطيع التفصي من الطينة، ان كانت الطينة حية أزلية فكانا إلهين قديمين أزليين فامتزجا ودبَّرا العالم من أنفسهما، فإن كان ذلك كذلك فمن أين جاء الموت والفناء، وان كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم، والميت لا يجيء منه حيّ)[51].

3- إذهب ببصرك أنّى شئت من لدن نفسك حتى تبلغ أبعد مجرة في السماء، فلا ترى الا الترابط والتماسك التام، بعضها يحتاج إلى بعض ولا يتم الا به، وليس ذلك الا شاهدا ودليلا على وحدة التقدير والتدبير، والمقدر والمدبر، الذي يحفظ توازنهما ويمسكهما ان يتصدعا فكما يوجد نظام تجاذب الأجسام بين النجوم والمنظومات والمجرات، فكذلك يوجد في داخل الذرة الصغيرة من أجسام أو اشعاعات. والنظام الذي يوجد في العوالم الكبرى نجده في صورته الكاملة في أصغر عالم عرفناه. فنحن نعرف –طبقا لاحدث معلوماتنا- ان الذرة أصغر عالم وانها قد تناهت في صغرها حتى لا يمكن ان نشاهدها الا بالمنظار الذي يكبر الاشياء ملايين المرات. ولكن هذه الذرة، مع ما وصفناه بها تحتوي بصورة رائعة على نظام الدوران الموجود في النظام الشمسي، والسؤال ماذا يدل عليه الترابط والتشابه؟ والجواب:

انك إذا رأيت كتابا قد أتقنت فصوله ونسقت تنسيقا قلت ان مؤلفه انما هو فرد واحد. وأما إذا رأيت كتابا مختلف الفصول في المستوى وفي الموضوع عرفت ان من ألفه ليس بواحد. فكيف لا يشهد العقل بوحدة مدبر الكون من وحدة تدبيره وتناسق أجزائه وترابطها؟ ولو كان هناك آلهة إذا لكان يظهر في الكون آثار قدرتهما ولكان يختلف تدبيرهما وإذن لكان يفسد الكون بهما.

قال الله سبحانه: [لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا](الأنبياء 22).

4- لو كان مع الله اله آخر، لكان يبعث إلينا رسلا نهتدي إليه بهم، إذ ان معرفة الله لا يمكن الا به وبإرشاده، وإذ لم يبعث إلينا رسلا عرفنا انه لا يخلو من ثلاث: فاما انه ليس بموجود، واما انه عاجز، أو انه غير آبه بعباده. وليس ذلك كله من صفة الخالق القادر الغني بالذات.

جاء في السنة عن الامام علي عليه السلام: (لو كان مع الله اله لأتتك رسله[52]).

--------------------

التذكر بالله

ان لمعرفة الله مرحلتين؛ الأولى تتناول موضوع معرفة الله، والثانية في انه: كيف نذكر الناس بالله، وكيف ندعوهم إليه، وقد استوعبنا الحديث عن المرحلة الأولى، وها نحن نعرض المرحلة الثانية:

ملاحظات تمهيدية:

1- في هذه المرحلة، يسعى الداعي إلى إثبات الله للمنكرين، وتعتبر هذه المرحلة بمثابة تمهيد طريق يؤدي إلى المعارف التي بينت في المرحلة الأولى، ذلك لأنه يعرض في البدء الأدلة المثبتة لوجود الله سبحانه، فإذا آمن الفرد، يعرض له صفات الله وكيفية معرفته وما أشبه، مما سبقت الإشارة اليها في أحاديثنا السابقة.

2- هل تستطيع العقول اثبات الله؟ بالوجدان نرى ان كل ذي لب يستطيع بعد التوجه إلى آيات الله ان يهتدي إلى وجود الله. وإلى هذه الحقيقة تشير النصوص التالية: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في ذلك –لآيات لقوم يعقلون[53]). إذن في الكون آيات لمن تفكر وعقل. فالفكر والعقل يهديان إلى وجود الله.

في الحديث (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته[54]).

3- والناس في الدعوة إلى الله فريقان: منكر متردد، ومنكر جاحد. وعلى الداعي ان يجاري كلا منهما بما يناسبه من دليل أو تذكر.

4- على الداعي ان يثبت وجود الله في ثلاث مراحل:

أ- تذليل الغريزة الجاحدة والتي ينكر الحق أكثر من ينكره تحت ضغط تلك الغريزة.

ب- رد الشبهات والأفكار الضالة التي ترسبت في النفس بسبب اوبآخر.

ج- إضاءة الضمير بالتوجيه إلى آيات الله الدالة عليه.

واذا نجح الداعي في دفع الفرد من مستوى الجحود إلى مستوى الشبهات ومنها إلى مستوى الآيات فقد انتصرت حجته ومضت دعوته.

وعلى الداعية ان يعرف أولا مستوى صاحبه في مجال الدعوة. فبعض الناس مُسلِّمون للحق ـ بطبعهم ـ وليس لهم سوى الغفلة عنه، وهزة واحدة لهم بالتذكير تنقلهم من الضلال إلى الهدى، في حين ان لبعضهم قلبا أقسى من الحجر، لا ينفذ فيه الهدى أبدا.. وإليك الآن بيانا وتفصيلا للمراحل ومقتضياتها:

مرحلة الجحود

ان الجحود مرض نفسي، ناشئ من الطغيان والتكبر، وعلاجه الوحيد يكمن في تذليل النفس وتبديل طغيانها رضا وتسلميا.. والطريق الإسلامي إلى هذا التبديل، توجيه النفس بكل عنف وإصرار إلى ثلاث نقاط:

أ- ان الكفر يوجب غضب الله وعذابه في الآخرة.

ب- ان الكفر يؤدي إلى عذاب عاجل في الدنيا.

ج- ان الإيمان بالله يسبب مغفرة من الله وأجرا في الدنيا والآخرة[55].

وبما أن البشر قد فُطِرَ على حب الذات فإنه يستسلم لدى تخويفه بالعذاب ويرجع عن طغيانه عندما يُرَغّب في الثواب. والنصوص القرآنية تعطينا درسا بليغا في مجال دعوة الجاحدين، وتبين لنا سر نجاح القرآن في هداية الجاحدين وكيف أذلت نفوسهم الطاغية وأخضعتها للحق. وفيما يلي نثبت نماذج قرآنية لذلك:

قال الله تعالى – وهو يخوف الإنسان بالعذاب - : [إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ](الانفطار 1-7).

وقال سبحانه :

[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ](العنكبوت 14-17).

وقال الله تعالى وهو يجعل لمن آمن أجرا عظيما في الآخرة ويرغبهم فيها:

[فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ * إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَاُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى](طه 70-76).

كما يجعل لمن آمن أجرا عظيما في الحياة الدنيا، فيقول تعالى:

[وإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُم مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ اِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ](الأنبياء 85-92).

ومن تدبر في القرآن يجد ان أكثر آياته تسير على هذا النهج ذلك لأنها تجابه الملحدين بالإنذار والبشارة ثم توجههم إلى الله الحق.

وتسلك نصوص السنّة الشريفة أيضا نفس الطريق. نثبت فيما يلي نموذجا واحدا منها نقتبسه من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:

(الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة. خلق الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده، وهو الذي أسكن الدنيا خلقه، وبعث إلى الجن والإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا لهم أمثالها، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا[56] عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها[57] واسقامها وحلالها وحرامها، وما أعد الله للمطيعين منهم والعصاة من جنة ونار وكرامة وهوان، أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، و جعل لكل شيء قدرا ولكل قدر أجلا ولكل أجل كتابا.. واعلموا انه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، و لن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم ، وانما تسيرون في أثر بين وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم).

ثم قال:

(واعلموا انه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والعثرة تدميه والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر وقرين شيطان.. أعلمتم ان مالكا[58] إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعاً من زجرته[59]).

هكذا تحاول الآيات والنصوص الإسلامية إزالة جحود الجاحدين بالتخويف والترغيب وعلى الداعية ان يستعمل نفس الأسلوب ليكون ناجحا.

مرحلة الجدال

تمهيدا لعرض طائفة من الشبهات ودحضها يجب ان نعلم ان الجدال يعني في منطق القرآن المناقشة بصفة عامة وهو على نوعين: جدال ممدوح وآخر مذوموم، وهما:

1- الجدال بالتي هي أحسن.

2- الجدال بغير التي هي أحسن.

والحديث التالي يفرق لنا بين النوعين كما يبين حكمهما لدى الإسلام:

ذُكِرَ عند الإمام الصادق عليه السلام الجدال في الدين وان رسول الله والأئمة قد نهوا عنه، فقال الصادق (عليه السلام): لم ينه عنه مطلقا ولكن نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، اما تسمعون الله يقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن) وقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم، حرمه الله على شيعتنا.وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى) قال الله: (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) فجعل علم الصدق و الايمان بالبرهان وهل يؤتى بالبرهان إلاّ في الجدال بالتي هي أحسن؟!

قيل: يا ابن رسول الله؛ فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن؟ قال (ع): أما الجدال بغير التي هي أحسن: أن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل ان يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة ان يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا ان يصيروا فتنة على ضعفاء اخوانهم وعلى المبطلين. اما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يديه حجة لهم على باطلهم، وأما الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في رد المبطل.

وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه ان يجادل به من جَحَدَ البعث بعد الموت وإحيائه له فقال الله حاكيا عنه (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم) فقال الله تعالى في الرد عليه: (قل) يا محمد (يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[60]).

نستنبط من هذا الحديث ثلاثة أمور هي:

1- على الداعي ان لا يورط نفسه بالجدال ما دام لا يرى في نفسه الكفاءة التامة عليه.

2-عليه ان لا يجحد حقا لإثبات حق آخر، بل يبين الفارق بينهما. فلو قال المبطل للمحق انك تعتقد بأن للأرض نظاما فلماذا نعتقد بالله مع ان النظام يكفي لتفسير ظواهر الخلق، فلا يقل المحق: ليس في الأرض نظام. فيكون قد انكر حقا. بل ليقل: (لا منافاة بين ان يكون للأرض نظام وان تحتاج الأرض في خلقها ونظامها إلى خالق مقتدر).

3- يندب الجدال بالتي هي أحسن بالنسبة إلى كل مسلم قادر. وهذا الحديث يجعلنا نثبت لأنفسنا الحق ـ ليس في عرض الفكر الإسلامي ـ بل وحتى في الاستدلال له، ذلك ان الدليل الباطل لن يهدي الإنسان إلى الحق. وان تراءى للبسطاء كذلك وهذا ذات ما قد سبق من وجوب الإلتزام المطلق بالمنهج الديني، حتى لا نعرض الدين في ثياب غريبة عنه.

مغالطات مفضوحة..

بعد تمهيد الطريق بذكر معنى (الجدال الحسن والجدال السيء) نعرض جملة من مغالطات الماديين وشبهاتهم حول الله، نفضح ما فيها من تناقض.

1- يقول الدكتور الألماني (بخنر) : بما اننا لم نجد ظاهرة واحدة في هذا الكون الرحيب، من أبعد نقطة اكتشفناها في الفضاء إلى أقرب جرم الينا، لم نجدها شاذة عن النظام الكوني، فليس لنا الحاجة إلى افتراض وجود الله.

الجواب: ان عدم وجود شذوذ في النظام أو شمولية النظام في الكون لا يكون دليلا على عدم وجود الخالق، بل يكون دليلا قاطعا على وجود من خلق النظام وهو الله الخالق العظيم، وإلاّ فمن جعل هذا النظام وقَدَّره وأجراه ؟ وبعد هذا فهل الكون كله خاضع للنظام، أو هل اثبت العلم الحديث هذا النظام؟ لنسمع (هايزنبرغ) العالم الفيزيائي يقول ـ في نظام الذرة ـ: ان من المستحيل علينا ان نقيس بصور دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها جسيم بسيط وان نحدد في الوقت عينه موضعه في الموجة المرتبطة به بحسب الميكانيكا الموجبة التي نادى بها (لويس دوبروغلي) فكلما كان مقياس موضعه دقيقا كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمية الحركة ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبؤ بها ومهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي.

هذا في الذرة التي سماها البعض بمبدأ النظام في اللانظام. وأما في المجرة وهي أكبر وحدة وجودية فإن أحدث النظريات الفلكية اثبتت انه بالرغم من وجود نظام متناسق فيها فإن فيها مجالا واسعا لما نسميه بالصدف.

2- قال طاليس (من قدماء فلاسفة اليونان): لقد كانت المادة ذرات أزلية فاصطدمت ببعضها وكان الكون. وإلى هذه النظرية ذهب بعض الماديين الجدد قائلين ان المادة عبارة عن الذرات الصغار الخالدة التي لا عدم فيها، انها تتكون بين فترة وأخرى بشكل أو بآخر ثم تتلاشى لتتكون بصورة جديدة.

ويقول (هكسلي): (لو جلست ستة قرود على آلات كاتبة تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد ان نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك كان الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ظلت تدور في المادة لبلايين السنين).

الجواب :

أ- كيف ومن أين عرفتم ان المادة كانت أزلية ؟ هل كنتم مع المادة في أزلها، أم آمنتم بها غيبا؟ فإذا أجبتم بالثاني قلنا إذن من اين وكيف آمنتم بأزلية المادة غيبا وانكرتم الله؟ كيف صح ان تؤمنوا بما لا تروه ولا يصح للموحدين الإيمان بما لم يروه؟ ونسأل أيضا: هل المادة الأزلية كانت حية؟ فمن أين جاء الموت، أم هي ميتة فمن أين جاءت الحياة؟ وانكم تقولون ان المادة تصادمت مع بعضها، فما الذي سبب تصادم أجزاء المادة؟ أبالصدفة كما يقول (طاليس) أم بالضرورة أم بإرادة واختيار؟

ب- فإن قلتم بالصدفة قلنا: ألستم تقولون ان للطبيعة قوانين معينة لا يخرج عليها ولا يشذ عنها، فكيف حادت عنها؟ أم كيف تركت نظامها إلى نظام جديد؟ ثم هل تأتي الصدفة بهذا النظام الدقيق المتناسق الذي يحير العقل من دقته وعمقه واتقانه؟ ، ان الصدفة لا تصنع ساعة يد - كما يقول انشتاين - فكيف تصنع العقل المفكر والاجهزة المحيرة للعقول الموجودة في الدماغ؟ وكما يقول أحد العلماء ان القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن تتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار يقع في المطبعة دون فعل فاعل .. ان احتمال ان يكون الضرب على آلة كاتبة على يد أمي سببا لقصيدة شكسبير أبعد من ان يشافى كل مرضى العالم بتناول مواد تقضي على أمراضهم صدفة كأن يذهب أحدهم إلى الحقل ويتناول حشيشة وصدفة يكون فيها دواؤه، ويذهب الآخر الىالبحر فيتناول صدفة سمكة يكون فيها شفاؤه، ويذهب الثالث إلى الصحراء وتلدغه أفعى يكون فيه دواء مرضه، وهكذا كل مريض في العالم وفي يوم واحد يشفى صدفة بسبب مجهول. لو حدث مثل ذلك لما تمالكنا عن القول بأن معجزة إلهية كبيرة قد وقعت. ثم كيف يمكن ان تكون الحياة صدفة مع ان الخلية الحية تحتوي على أجزاء منها البروتين، واحتمال ان يحدث بروتين واحد صدفة يتطلب ـ حسب نظام الاحتمالات ـ مادة يزيد مقدارها الف مليون مرة عن المادة الموجودة ؟ ، وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهي أكثر من 1-243 عاما أي مائتان وثلاثة وأربعون صفرا أمام عشر سنين.. وبعد هذا هل يمكن القول بتكون كل العالم صدفة؟

ج- وان قلتم بالضرورة ، أي ان المادة من طبيعتها ومن قانونها الاجتماع. قلنا فلماذا كان ذلك حادثا ولم يكن منذ القدم كذلك فإن المادة قديمة (كما تدعون) وقوانينها قديمة فيجب ان يكون هذا العالم من قديم ويجب ان تكون ما فيها من صور قديمة ، وليس الواقع كذلك قطعا.

وان قلتم انما صارت كذلك بإرادة واختيار، قلنا: ممن كانت الإرادة ؟ من الطبيعة أم من المادة أم من ذات أغلب وأقوى منهما؟ إذاً دعنا ننظر: ما هي الطبيعة؟! ان هي الا النظام (وهل النظام عاقل؟). وما هي المادة، أليست المادة هذه الذرات، فهل هي الإرادة؟ ارجعوا إلى عقولكم وفكروا. وثم لماذا بدلت صورتها بعد ان كانت في صورة واحدة؟

الضرورة أم الإرادة أم بالصدفة، وكل ذلك من سفه الفكر.

3 - ويقولون لقد تغلغلنا في أعماق المادة وكشفنا غورها البعيد فلم نر غير المادة شيئا وغير النظام مربيا ومدبرا.

الجواب: نحن لا ننكر النظام والمادة، ولكن من خلق المادة والنظام؟ ان العقل يحكم بأن المادة لابد لها من خالق وان النظام لابد له من مدبر عليم، وهل يمكن ان ينكر الإنسان شيئا بمجرد انه لا يراه؟

4 – يقولون: ان الإيمان بالله نشأ من ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة القاهرة في تلك الحقب المعتمة من تاريخ البشر، حينما لم يكن له ملجأ من الحر والبرد، ولا منقذ من المرض والعاهة، ولا وسيلة يدفع بها عادية الأعاصير أو يقهر بها المسافات في البر والأمواج في البحر. اما اليوم فقد قهر الإنسان بعقله العملاق الطبيعة وأخضعها لإرادته الجبارة فلم يبق ما يبرر الإيمان بالله.

الجواب: بالرغم من ان هذه المغالطة تشغل فكر الرجل العصري في كل مكان اعتزازا بنفسه وغرورا بإنجازاته ومكاسبه، فإنها تافهة جدا. وأول تساؤل نوجهه إلى أنصار هذه الفكرة هو ان البشر هل تخلص نهائيا عن أسباب الضعف التي كانت قديما تدعوه إلى التوسل إلى الله؟ أو ليست الأمراض تتصاعد خطورة وتتزايد عددا ؟ أو ليست الوفاة وهي أشد الحوادث هولا لا تزال تهدم أحلام البشر؟ أو ليست الحروب تشكل زاوية خطرة في بناء الحياة السعيدة ؟ أو ليست الحوادث الطبيعية لا تزال تقوى على البشرية ؟ بل أليس الخضوع للإقليمية والمصلحية والطائفية والعنصرية ضعف في الإنسان لم يستطع معالجته حتى الآن؟

والتساؤل الثاني هو انه هل ان تقدم العلم يقضي بعدم الإيمان؟ أيزعمون ان الله يجب ان يعرف في غرفة الاختراع أو تحت مجاهر كهربائية فإذا لم يوجد وجب إنكاره، أم ان تقدم العلم دليل إلى الله؟

والحقيقة ان اتجاه الحضارة اليوم اتجاه كافر والا كان تقدم العلم سببا لزيادة الإيمان لأنه:

أولاً - يجعل البشر يعتقد بأن وراء أفقه آفاقا، وان ما وصل إليه فكره ليس المنتهى الأخير كما كان يعتقد الأولون.

ثانياً - يكشف أسرار الطبيعة التي تدل على اتقان الصنع واحكام الخلق، ولذلك فإن مشاهير العلماء أصبحوا أول المؤمنين بالله. ونكرر هل العلم يتأثر بتقدم الكشوفات؟ فمثلا لو كان البشر يعتقد بأن 2×2=4 قبل قرن يجب ان يقول 2×2=5 لأن البشر أحرز مكاسب جديدة؟! ان الإيمان بالله نابع من فطرة الإنسان التي لا تزداد بالتجارب إلاّ جلاء وروعة. فكيف ننكر ربا يزيد علينا كل يوم فضلا كبيرا، وكيف نرفض الشكر لإله يلهمنا كل يوم علما مستجدا و.. و..؟؟

4- ويزعمون: إن المؤمنين يقولون بأن الله صانع الخلق، بمعنى أنه أوجد الشيء من لا شيء وهذا أمر مستحيل عقلا فلا يمكن ان يكون العدم مبعث الوجود.

الجواب:

أولاً: من أين عرفتم إستحالة وجود الشيء من العدم؟ هل لأنكم لم تروه من ذي قبل؟ أو أنكم لم تروه في المختبرات وتحت المجاهر؟ وهل عدم الرؤية دليل على عدم الوجود؟ كم من واقع لم يكن مرئيا ثم أصبح معروفا. فهل كانت الأشعة مرئية حين كانت موجودة منذ ان كانت الشمس، أم كانت الجاذبية مرئية؟ ان الفطرة أمضى حكما وأنفذ بصيرة من العين المجردة.

ثانيا: لابد لنا أن نعترف ببداية الكون لأنها تدل عليها تجاربنا العلمية ومعارفنا الفلسفية، وقد سبقت لمحة موجزة من أدلتها عند الحديث عن حقيقة الوجود.

ثالثا: ان كثيرا من الحقائق نضطر إلى الاعتراف بأنها حادثة فمثلا: حالة الاتصال والإنفصال ـ كمثل اتصال يد بأخرى ثم انفصالها- حالة معدومة ثم يوجدها الإنسان، والإرادة كانت معدومة ثم وجدت. إذن فليس هناك مانع من وجود شيء بعد عدم.

رابعا: ان استحالة وجود شيء من العدم لا يرتبط بخلق الله سبحانه للأشياء ، ذلك لأن الله هو الذي وهب الخلق للأشياء ، فالأشياء جاءت من خلق الله لا من العدم ، والله أبدعها بعد عدم ولم يخلقها من العدم.. قال الله تعالى: [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى](طه 50) . وفي الحديث: (و أنه كَوًّن الاشياء لا من شيء[61] ).

5- لقد ثبت بالتجربة العلمية ان كل شيء يحتاج إلى مكان وزمان، فإذا آمنا بالله فلابد ان نعتقد بوجود شيء لا مكان له ولا زمان ، وهذا أمر غير ممكن.

الجواب: لابد ان نسأل أولا: من أين اكتشفتم أن كل شيء يحتاج إلى حيز يستوعبه من مكان وزمان لولا انكم رأيتم المادة في زمان ومكان فحسبتم ان كل شيء لابد ان يكون مقولبا بهما موجودا فيهما ؟ ولقد اكتشف الإنسان ان بعض الحقائق تقع خارج حدود الزمان. فالجاذبية مثلا حقيقة لا يمكن ان ينكرها رجل عصري بيد انها حقيقة تعيش خارج الزمن. ولو ان (رد الفعل الجاذبي) كان يحتاج في قطع المسافات الىالزمان لكانت نتيجة تبدل المجرات إلى أمواج –الذي يحدث كثيرا- يؤدي إلى تفجر كافة المجرات. هذا عن هذا الزمان وأما عن المكان فأين مكان الحق والباطل، والفضيلة والرذيلة ؟

ونقول ثانيا: ان الله سبحانه محيط بكل زمان ومكان فليست الأمكنة والأزمنة مباينة عنه. فهو إله في السماء وإله في الأرض وهو محيط بكل زمان ومكان، ولكن لا بما ان الله محاط من قبل الأزمنة والأمكنة. بل بما هو محيط بهما.

وثالثا: ان السبب الذي بحثنا من أجله عن الله هو: ان الفطرة تهدينا إلى ان الكون عاجز بذاته عن خلق نفسه وتدبيرها لأنه يجري في حدود الزمان والمكان فلا يمكن ان نسري ذات الصفة إلى الله خالقه إذ نفقد المبرر الذي جعلنا نبحث عن الخالق من أجله- وهو البحث عن إله لا يحتاج ولا يحد بزمان ومكان.

6- إذا كان الله موجودا فلماذا خلق الله الكون؟

الجواب: هل ان عدم معرفة سبب الخلق دليل على عدم حكمة الخلق؟ أليس من الجهل ان نقول ان كل شيء لا نعرفه فهو غير موجود؟ ثم اني لا اعتقد ان أحدا يحمل فكرا مستقيما ينكر فائدة المخلوقات كالشمس والقمر والاجرام السماوية والاحياء جميعا. وهل هناك فائدة اكبر من ذات الحياة التي غمر حبها كل قلوبنا؟

7- نحن لم نشاهد أول خلق المادة فلا يمكننا ان نؤمن بمبدأ لها فهي اذن أزلية.

الجواب: هل رأيتم أزليتها؟ ثم ان الأزلي لا يمكن حدوث التغيّر فيه فلا ينقص ولا يزيد لأن النقصان والزيادة يأتيان من تأثير خارجي والأزلي معناه ان وجود المادة من نفسها ولا يمكن ان يحدث فيها التغيير، بينما نراه في المادة فإذن ليست ازلية. وقد سبق الحديث عن خرافة القول بأزلية المادة.

8- وشبهة أخيرة تقول: ان تقدم العلم يناقض الإيمان بالله؟

الجواب: ولكن لنتساءل لماذا؟ هل ان العلم ينافي الإيمان لأن طائفة من المكتشفين كانوا ملحدين؟ وهل هذا دليل قوي على الكفر؟ فإذاً لابد ان يكون اعتقاد طائفة كبيرة بالله دليلا على وجود الله. وفيما يلي نثبت بعض أقوال العلماء في الله:

1- يقول (هرشل) العالم الانجليزي: كلما يتوسع أفق العلم تزداد البراهين الواضحة على وجود الله الخالق الأزلي الذي ليس لقدرته حد ولا نهاية.

2- ويقول (لينه) الفسيولوجي الفرنسي: لقد تجلى لي الله الكبير المتعال ببدائع صنعه بحيث أدهشتني وحيرتني، أي قدرة وأي حكمة وأي ابداع جعلها في كل مصنوعاته ومخلوقاته من صغارها وكبارها!

3- ويقول (فونتل) في دائرة المعارف: ليست أهمية الكشوف الحديثة في إشباع تهمة العقول الفارغة، بل ان أهميتها البالغة هي ترفيع مستوى العقل إلى الخالق الذي يملأ مشاعرنا احساسا بالجمال والعظمة.

4- ويقول (روسو) الكاتب الفرنسي الكبير: يجب ان نعترف بالخالق القدير الحكيم وذلك لأن الحركة في الجسم ليست ذاتية ولابد ان تنتهي سلسلة المحركات إلى محرك واحد. وما أبعدها من فرضية تقول: ان هذا النظام العجيب جاء نتيجة الصدفة.

5- ويقول (نيوتن): أتشكون في الخالق؟ الا ان من السخف الاعتقاد بأن الضرورة هي الرائدة للكون.

مرحلة الهداية

وبعد دحض الشبهات وتسفيه الأباطيل، تأتي مرحلة الهداية حيث يذكّر الداعي بالآيات، ويوجه الفرد إلى ربه، ويختلف توجيه الناس حسب اختلاف مستوياتهم وأفكارهم:

1- فقد يستدل بآيات الله الكونية كالشمس والقمر والأجرام والمنظومات والمجرات وما فيها من دقة ونظام.

2- وقد يستدل بما في جسم كل بشر وكل حي من عظيم الآيات.

3- وقد يستدل بالنفس البشرية، وانها كانت ضعيفة ثم قدرت وكانت جاهلة ثم علمت وانها تحس في واقعها بالصغار والذل أمام قوة قاهرة عالمة، فلابد ان الذي أعطاني القوة والفهم هو أقوى مني وأفهم.

4- وقد يستدل بما في الكون من نظام شامل دقيق عميق على قدرة الخالق وعلى علمه.

5- كما انه قد يستدل بما في الوجود من تناسق وترابط واتحاد في النظام على ان خالقها ومدبرها فرد احد.

هذه هي الأصول المشتركة التي توحي إلى العقل بوجود الله وما له من صفات، ونذكر هنا جملة من الآيات والأحاديث التي تعتبر نماذج حية للتوجيه إلى الخالق بهذه الطرق المذكورة.

قال الله سبحانه وتعالى: [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً * لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً](نوح 15-20).

[وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُم مِن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ](الروم 20-24).

قال الإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام وقد سئل عن الدليل إلى الله، قال: (اني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه ، وجر المنفعة إليه علمت ان لهذا البنيان بانيا فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات[62]).

وقال رجل لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين بما عرفت ربك؟ قال عليه السلام: (بفسخ العزم ونقض الهمم ، لما أن هممت ، حال بيني وبين همي وعزمت فخالف القضاء عزمي فعلمت ان المدبر غيري..)[63] وقال: (لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم صنعه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر وسوى له العظم والبشر، أنظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر كيف دبت على أرضها وضنت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في مستقرها تجمع في حرها لبردها ، وفي ورودها لصدورها مكفول برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان[64]).

قيل لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على ان الله واحد ؟ قال: (اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال الله سبحانه: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا[65]).

وقال أمير المؤمين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن:و اعلم يابني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه[66]).

ولو شئنا ان نعرض هنا ـ ولو موجزا ـ معشار آيات الله اذن لوجب ان نملأ أسفارا طوالا ، ولكننا ذكرنا جانبا من الآيات والأحاديث، لتكون هداية كافية لنا إلى كيفية الحديث حول التذكر بالله العزيز، وعلينا بعد ذلك ان نقولب كلما نملك من ثقافة ومعرفة حول النفس البشرية من آفاق المعرفة في قالب التذكر بالله.

صفات الله

لقد سبق القول في أسماء الله الحسنى، وهناك قلنا ان التفكر في الخلق يهدينا إلى ان في كل شيء مخلوق صغير أو كبير جوانب كمال وجوانب نقص، جوانب قوة وجوانب ضعف.. وقلنا ان ذات المخلوقات انما هي العجز والضعف والنقص، وما فيها من القدرة والمعرفة والكمال فهي موهوبة له من لدن القادر القوي بالغ الكمال. وعلى هذا فكلما نرى من صفة كمال في الخلق تهدينا إلى ان الله الذي وهبها يملك ما لا نهاية له منها، وكلما نرى في الخلق من صفة النقص نعلم ان بارءها منزه عنها. إذ كما سبق لا يمكن ان يجتمع النقص الذاتي والكمال الذاتي في شيء واحد، ويبين هذه الحقيقة الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: (اما التوحيد فأن لا تجّوز على ربك ما جاز عليك[67]). ويقول الامام علي عليه السلام: (الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا، ولم يلد فيكون موروثا هالكا، ولم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحا ماثلا، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا، الذي ليست له في أوليته بداية، ولا لآخريته نهاية الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولا يوصف بأين ولا بما ولا بمكان، الذي لطف من خفيات الأمور، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض بل وصفته بأفعاله، ودلت عليه بآياته لا تستطيع عقول المتفكرين جحده لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع العظيم لهن فلا مدفع لقدرته ، الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله، الذي خلق الخلق لعبادته، واقدرهم على طاعته، بما جعل فيهم وقطع عذرهم بالحجج. فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا[68]).

وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لمعرفة صفات الله الجميلة وأسمائه الحسنى ، تقديسه عن شبه المخلوقين ، وتسبيحه عن كل نقص يُرى فيهم ، وتكبيره عن كل عجز يوصفون به سبحانه!

--------------------------

الإيمان بالله

كيف يؤمن الإنسان

أ- نجد أنفسنا تتردد في قبال كثير من الأعمال، ولدى التدبّر في حقيقة ترددها نجد ان قوتين تتنازعانها، فقوة تريد لها اختيار ما ينفع ودفع ما يضر، وقوة تريد اتباع الحق والعدل. ولدى تدقيق النظر نرى ان التي يحبذ إليها النفس هي التي تدعو إلى الشهوات من المال والبنين ومظاهر الأبهة والجمال[69]، والتي تدعو إلى الحق هي التي تدعو إلى الخير والفضيلة والوفاء وأداء الأمانة والإحسان إلى المساكين وما إلى ذلك..

ب- القوة الأولى تدعى بالجهل والهوى وحب الذات، والقوة الثانية تدعى بالعقل والعلم والضمير.

1- ان الجهل يدعو إلى المادة وما يرتبط بها ، ويدعو إلى الدنيا وما فيها ، ويزين الشهوات العاجلة للنفس، ويفضلها على الحق والعدل الشامل، و يدعو في سبيلها إلى نسيان الواجبات واغتصاب الحقوق.

2- ولذلك فإن طبيعة الجهل تمنع النفس عن التسليم للحق والهدى والطاعة لله تعالى والشكر له وإلتزام أحكامه والعمل ليوم الحساب، كل ذلك لأنها تتنافى واللذائذ التي يتعجلها حب الذات ويزينها الجهل له، وتتنافى مع كبرياء الجهل وغفلته عن المستقبل البعيد.

أما العقل فإنه يدعو إلى المثل العليا.. والخير ويفضلها على الشهوات العاجلة ، ويدعو إلى الطاعة الصادقة وأخيرا إلى الإيمان بالله سبحانه والتسليم له ما دام ذلك كله يؤدي إلى حسن الثواب وحسن المصير وما دام ذلك هو الحق والعدل اللذان يأمر بهما العقل.

ج- وليس للإنسان من عمل الا ويتأثر بنشاط إحدى هاتين القوتين ، وبمدى افساح المجال لواحدة منهما للعمل في ساحة النفس تنسحب الأخرى –للطبيعة المضادة بينهما- فإذا اختار الإنسان الجهل على العقل واطاع الهوى واتبع الشهوات وترك الحق والعدل فقد أمات عقله، لأنه لم يترك مجالا لطاعته في اتباع الهدى والعمل بالحق والعدل فيتغلب لديه الجهل على العقل. ويكون العكس تماما إذا اختار العقل على الجهل حيث لا يدع مجالا للجهل ولا لحب الشهوات العاجلة واللذائذ القريبة المتواضعة.

د- وتبقى النفس البشرية متوترة بفعل هذه المنازعة حتى يتغلب أحد الجانبين على الآخر بالعمل به أو التفكير فيه ، فإذا غلب الجهل على العقل ذهب نور العقل وطبع على النفس بطابع الكفر، وأصبح الفرد –حينئذ- لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئا.

ان هذا الفرد لا يُرجى منه الخير أبدا ، إذ أن القوة التي كان يعمل بها الخير قد ذهبت إلى غير رجعة ، وتدعى هذه الحالة في منطق الدين بالجحود والعناد.. وإذا غلب العقل على الجهل تضاءل الجهل في النفس وانكمش ظل الهوى عنها، وضعف حب الشهوات فيها وكان كل نشاط الفرد ذا صبغة واحدة هي صبغة العقل ، وتدعى هذه الحالة في منطق الدين بالإيمان..

فالإيمان إذاً حالة تنشأ من توجيه كافة نشاطات النفس بالعقل وتغليب جانبه على الجهل بحيث لا تبقى له قوة توجه نشاط الفرد بتوجيه منحرف ، وهذا هو الذي يشير إليه الإمام علي عليه السلام حيث يقول: ( العقل والشهوة ضدان، ومؤيد العقل العلم ، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما فأيهما قهر كانت في جانبه[70])

والسؤال الآن: كيف يتم تغليب جانب في النفس على جانب، وكيف يصبح فرد مؤمنا وآخر جاحدا ؟

ينبغي أولا ان نؤكد على الحرية التامة التي يتمتع بها البشر في اختيار الإيمان أو الجحود. وان ما نذكره من دوافع الإيمان والجحود لا تسلب النفس إرادتها بل لا تعدو ان تكون أداة ضاغطة عليها فقط.

بعد هذا نقول: ان الإيمان يكمل بالتسليم المطلق للحق ، ولا يتم التسليم التام لو لم يتمتع الفرد بواحدة من ثلاث: إرادة صلبة أو عقل كامل أو شهوة ضعيفة.

أ- فالإرادة الصلبة تتجاوز كل السلبيات الداخلية وتقهر النفس قهرا حتى ولو لم يكن العقل تاما أو الشهوة ضعيفة. وقوة الإرادة ناشئة عن التربية العائلية أو التربية الذاتية. فمن أراد العظائم أصبحت إرادته عظيمة هي الأخرى. والتوجيه الخارجي قد يؤثر في هذا الحقل لو ركز الموجه كل نُصحة على ثقة الإنسان بذاته وتحسسه بشخصيته مما يشحذ عزيمته ويقوي إرادته.

ب- والعقل يزيد باتباعه والتفكر في احكامه والمزيد من مدارسة العلم ومصاحبة ذوي العقول. والتوجيه الخارجي يفيد قوة للعقل بالتذكرة المستمرة بحقائق الكون واستعراض آيات الله فيها، وشرح اسمائه الحسنى.. واذا تم العقل في الفرد لم يرض لنفسه بالدنيا ولا بالمخلوق ، واستشرف الآفاق البعيدة متطلعا إلى الأهداف السامية وقال: ما دامت الآخرة خيرا لي من الأولى فإن اختياري الدنيا عجز وصغار، ومادام الله اكبر من كل شيء فإن رضاي بغير إلاها أو حبيبا غير الله ذل وخساسة، وما دمت قد خلقت لكي اكون عظيما عند الله فَلِمَ أفضل اللذات العاجلة على التقوى؟! وهكذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أصل ديني العقل.

ج- وانما تضعف الشهوات بتوجيه النفس إلى ابدالها. فالشهوة القصيرة الأمد السريعة الزوال المشوبة بالألم خير أم ما عند الله من النعيم الدائم الخالص؟ هكذا تقارن كل شهوة في الدنيا بلذة في الآخرة فتضعف الشهوات. والواقع ان النفس تستبدل آنئذ عنها بشهوات أسمى منها. وانما هو اختيار بين شهوتين عاجلة وآجلة تماما كمن يغري نفسه بالصحة واللذة الدائمة حينما يريد ان يتجنب ما يضر بنفسه ويقول: لو أكلت هذه اللقمة فصحيح اني سأحصل منها على لذة ولكنها ستمنع عني ألف لقمة هي ألذ وأطيب من هذه. وهكذا يفضل الآخرة على الأولى.

ولو تدبرنا قليلا في النصوص الشرعية إذاً لعرفنا ان الدين قد استخدم الطرق الثلاثة في بعث النفوس إلى الإيمان. فقد وجه الإنسان إلى نفسه وعرَّفه بكرامته عسى أن يقوي ذلك إرادته، ومن ناحية أخرى ذكره بآيات الله في الكون لكي يزيد عقله، ومن ناحية ثالثة وّجّه أنظاره إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، وأنهار من عسل لذة للشاربين، وحور عين كأنهن اللؤلؤ والمرجان، لذة للناظرين.

و كل هذه الامور تشكّل حقيقة الإيمان. وفيما يلي نص بشأنها:

(جاء في السنة المروية عن الإمام أمير المؤمنين (ع): الإيمان على أربع دعائم؛ على الصبر واليقين والعدل والجهاد.

فالصبر منها على أربع شعب؛ على الشوق والشفق والزهد والترقب. فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات[71].

واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة وتأول الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين. فمن تبصّر في الفطنة تبينت له الحكمة ، و من تبيّنت له الحكمة عرف العبرة ، و من عرف العبرة فكأنما كان في الأولين.

والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم وغور العلم وزهرة الحكم وساخة الحلم. فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا[72].

والجهاد منها على أربع شعب[73]؛ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين. فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين. ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنئ الفاسقين و غضب لله ، غضب الله له و ارضاه يوم القيامة[74]. )

-----------------

معطيات الإيمان

ما هي معطيات الإيمان في النفس والحياة؟

(الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان[75]) هكذا يحدد النبي صلى الله عليه وسلم واقع الإيمان فهو يستقر في النفس لكي يظهر على اللسان ثم تصدقه سائر الجوارح.

1- إذاً فالذي يعرف ولا يقر كافر وليس بمؤمن. قال الله تعالى: [وَجَحَدُوا (أي الكفار) بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً](النحل 27).

2- والذي يقر ولا يعمل فهو مسلم وليس بمؤمن. قال الله تعالى: [قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ](الحجرات 14).

3- والذي يقر بالذي يعرف، ويعمل بالذي يقر، فهو مؤمن حقا. ولابد للمؤمن ان يسلم لله وحده جميع أموره ويتصف بكل صفة يريدها الله له ويعمل بكل فعل يأمر به الله. والحديث التالي يفصل هذا الواقع.

قال رسول الله (ص): (الإيمان في عشرة: المعرفة [بالله، واليوم الآخر، والكتب، والأنبياء] و الطاعة [لله] والعلم [بأحكام الله،] والعمل [بها،] والورع [الخوف من الله]، والاجتهاد [بذل كل الجهد في سبيل الله]، والصبر [في النوائب وعلى الطاعات الشاقة،] واليقين، والرضا [بأمر الله،] والتسليم [لأمر الله.] فأيها فقد صاحبه بطل نظامه [أي إذا كانت للفرد صفة واحدة من هذه الصفات ولم تكن له أخرى لم يكن مؤمنا حقا[76]].

ما هي فوائد الإيمان؟:

ان الإيمان أثقل ما في ميزان العدالة، فلابد ان يقابل بأجر عظيم. وإذا كانت الأعمال تُقوِّم بما لها من الصعوبة فلابد ان يكون الإيمان أعظمها أجرا لأنه أشقها جميعا. ونحن إذ نشير إلى فوائد الإيمان لا ندعي استيعابها جميعا:

1- الفلاح في الآخرة؛ لنفترض ان وراءنا عالم آخر يصيبنا فيه جزاء أعمالنا ان خيرا وان شرا. فمن هو رب ذلك العالم؟ وما هي الأعمال التي تُجزى بخير؟ وما هي التي تُجزى بشر؟ بكل بساطة: ان رب هذا العالم، الخالق الواحد هو رب ذلك العالم لأنه لا إله الا الله[77].

وبكل بساطة إن صفات الصدق والوفاء والصلاح والعمل على خدمة الناس، وعبادة الله، وطهارة القلب من الحسد والبخل والحقد والجبن والكبر والغرور،إنّ هذه صفات و أعمال ان كان هناك خير فإنما هو فيها، وان كان هناك جزاء حسن فإنما هو لها. وان صفات الكذب والنفاق، ونقض العهد، والفساد في الأرض، وهدم المجتمع وتفكيك أواصره والاعتداء على حقوق الآخرين، إن تلك هي الشر الذي لا يمكن أن يبقى دون عقاب.

ان هذا أمر وجداني لا ريب فيه. وهنا نسأل: ما هي الوظائف الدينية التي يلتزم بها المؤمن؟.. من المعلوم انها لن تقع الا في صف الخير فلابد ان يكون جزاء المتدين في الآخرة جزاء حسنا.

إذاً فإن كانت وراء هذه الحياة حياة أخرى فإن المؤمنين هم الفائزون فيها لا ريب في ذلك بشهادة الفطرة والوجدان بأن جزاء الخير لا يمكن ان يكون شرا.

وفي النصوص التالية شهادة على الفلاح الذي يحرزه المؤمنون في الآخرة، ولكن يجب ان نعلم في البدء انه لا يمكن ان نعتقد –ونحن عقلاء- بأن الله يأمر عباده بطاعته ويعدهم بالجزاء الحسن في الآخرة ثم يخلف وعده. فلماذا يخلف؟؟ هل لأنه كان محتاجا إليهم فأراد ان يخدعهم ليطيعوه ثم يخلف وعده، ام انه عاجز عن الوفاء لهم بوعده؟؟ سبحانه!، ليست هذه من صفة الخالق الغني الوهاب. وبعد فلنعرف ما هي حقيقة الفلاح في الآخرة التي أثبتتها النصوص للمؤمنين: يموت المؤمن بعد ان يرى محله من الجنة ثم تزف روحه إلى جنة البرزخ، حتى تتمتع بالملاذ الروحية. ويؤمن من قبل الملائكة عن أهوال يوم القيامة، ثم ينتظر في ظل عرش الله حتى يتم الحساب ثم تزلف إليه الجنة فيدخلها آمنا. ويجد على أبواب الجنة مكتوبا (للخلود) ويهب له الله خيرات ليست الدنيا بالنسبة إليها الا كالرمل في البادية الفضفاضة، له سبعمائة ضعف مثل الدنيا، وله سبعون ألف قبة، وسبعون ألف قصر، وسبعون ألف حجلة، وسبعون ألف أكليل، وسبعون ألف حلة، وسبعون ألف حوراء عيناء، وسبعون ألف وصيف، وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها ملاذ روحية، وفيها رضوان الله، وفيها أمان من النار، تلك النار التي يصفها جبرئيل (ع) للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ان الله أوقد عليها ألف عام فاحمرت ثم أوقد عليها ألف عام فإبيضت ثم أوقد عليها ألف عام فاسودت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا ينطفي لهبها.. والذي بعثك بالحق نبيا، لو ان مثل خرق إبرة خرج منها على أهل الأرض لاحترقوا عن آخرهم، ولو ان رجلا دخل جهنم ثم أخرج منها لهلك أهل الأرض جميعا حين ينظرون إليه لما يرون به، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن آخرها، ولو ان بعض خزان (جهنم) التسعة عشر نظر إليه أهل الأرض لماتوا حين ينظرون إليه، ولو ان ثوبا من ثياب أهل جهنم أخرج إلى الأرض لمات أهل الارض من نتن ريحه[78]).. هذا فلاح المؤمن في الآخرة، انه ينجو من هذه النيران.

2- الفلاح في الدنيا؛ فإن الفلاح هي السعادة، فما هي سعادة الإنسان في الدنيا؟

ان السعادة تنشأ من تزاوج عاملين: القضاء على أسباب الشقاء، وتوفير سبب الفلاح. وللشقاء أربعة أسباب نبينها ونشير إلى كيفية قضاء الإسلام عليها أو لا أقل من تهوينها:

أ- الخلق السيئ؛ ان الحسد والحقد والغرور والكبر والقلق وسوء الظن، والشعور بالنقص وعقدة الحقارة وما أشبه تنغص عيش طائفة كبيرة من الناس. ومهما توفرت أسباب الرفاه، فإن عذاب النفس الداخلي لا يدع الفرد يتمتع بالرفاه أبدا. والإيمان يقلع جذور الفساد من قلب صاحبه ويجعل نفسه نقية راضية مرضية[79].

وفيما يلي نرى كيف يقضي الدين على ذلك؟ ان الدين يغير نظرة الإنسان المادية فيستهين بالدنيا التي هي منشأ الرذائل، ففي القرآن: [إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (يونس 62).

وفي الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: (أنصف الناس من نفسك، وواسهم من مالك وأرض لهم ما يرضوه، واذكر ثواب الله كثيرا، وإياك والكسل والضجر فيما يقربك منه ...)[80] والمؤمن يجيد هذه التعاليم.

ب- ظلم الناس بعضهم بعضا؛ والمجتمع المؤمن يسوده العدل والإحسان. والاسلام –الدين الذي يلزم المؤمن بتطبيق شرائعه - يضمن للناس العدالة التامة ، ويتمتع كل فرد تحت ظله بالكرامة والأمن لا فرق في ذلك بين عربي أو أعجمي، أبيض أو ملون، صغير أو كبير، فقير أو غني، ويضمن لهم حقوقهم جميعا ويقول: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](الزلزلة7-8).

هكذا يعالج الإسلام الظلم لو كان المجتمع المؤمن قائما وأما لو لم يكن فإن المؤمن يتمتع أيضا بالكرامة والأمن في ظل المجتمع الجاهلي ذلك لانه لا يظلم أحدا أبدا.

ومن لا يَظلم لا يُظلم. ولو أنه ظُلِم، فلأنه يحتسب مظلمته عند الله، فإن شقاءه سوف يخفف كثيرا لأن هناك فرقا نفسيا كبيرا بين من يعلم بأن بعد هذه الحياة يوما ينتقم الله من الظالم أضعافا مضاعفة، ومن لا يعلم ذلك فإن الأول يستسلم لما لابد منه راضيا بالإنتقام الآجل بينما يحترق الثاني بنار الحقد والقلق الذي لا مناص له منها. هذا فيما إذا كان الظالم أقوى منه وان كان أضعف فمن خصال المؤمن العفو عمن ظلمه، وهذا العفو تنازل اختياري عن الحق المشروع فلا يكون شقاء عليه[81].. إذا فالإيمان يجنب الإنسان من الشقاء المتسبب عن مظالم الناس بعضهم لبعض بطرق ثلاثة:

1- تشريع نظم تضمن للناس - كل الناس - حقوقهم العادلة.

2- تحريم الظلم الفردي مهما كان صغيرا ورد المظالم مهما كانت حقيرة.

3- تسلية النفس المؤمنة بالرضا لما لابد منه في انتظار يوم القيامة. أو العفو عن الظالم لمن انتصر على الظالم، وهذه معالجة نفسية، وتلك معالجة خارجية عامة وخاصة.

قال الله تعالى: في صفة المتقين-[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ](آل عمران134-135).

وجاء في الحديث عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام:

(ان لأهل الدين علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، و وفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الخلق[82] واتباع العلم وما يقرب إلى الله عز وجل زلفى)[83].

ج- الحوادث الطبيعية؛ (الزلازل، الأوبئة، الفيضانات، حوادث السير، الحرق، الغرق، العواصف، الأمطار المهلكة، والجفاف الطبيعي وغيرها).. ان هذه أسباب أخرى لشقاء البشر والإيمان يدفع هذه بطرق عديدة نتعرض لبعضها:

1- تدبير الغيب؛ النظر الرشيد في الكون يهدينا إلى ان هناك نظاما دقيقا ومرنا في الكون، ولابد لكل نظام من مدبر يجريه. وبالرغم من اننا لم نكتشف الا القليل من هذا النظام، واننا نزعم ان لا نظام ولا تدبير في بعض حوادث الكون (كالزلازل والفيضانات)، وبالرغم من ذلك لابد ان نعترف انه لا ريب في انها خاضعة لنظم دقيقة. إذ ان مدبر الشمس والقمر لا يعجز عن تدبير الزلزال والفيضان، بل هناك إذن إرادة موجهة لها، وهي إرادة الله، فإذا آمن به البشر وسألوه وهو الغني الكريم فلماذا لا يعطي ولا يدفع البلاء[84].

2- ان طائفة من الآفات –كموت الفجأة- تتسبب عن أسباب طبيعية ، والدين الإسلامي يشرع أحكاما للتحصن ضدها، وبذلك يتخلص الملتزم بأحكام الشرع منها[85].

3- وبالرغم من ان بعض الآفات تصيب المؤمن، فإن وراءها حكمة الإبتلاء ، حيث ان الله يمتحن العباد المؤمنين ببعض البلاء ، فإن صبروا واستقاموا أعطاهم أجرهم مرتين؛ مرة في الدنيا ومرة في الآخرة، وبذلك يبدل الله عزا وأملا[86].

الإيمان وقاية وعلاج:

د- الأمراض؛ وتشكل الأمراض نوعا من الشقاء البشري. فالمريض لا تتوافر عنده متعة الحياة وان توافرت له سائر أسباب الرفاه. والإيمان يدفع شقاء المرض بوسائل شتى:

1- ان كثيرا من الأمراض تنشأ من الصفات النفسية كالقلق والعقدة[87]، وبما ان الإيمان يعالج الأمراض النفسية فإنه يقضي على ما تنشأ منها من أمراض.

2- في أحكام الشريعة كثير من الوقايات المحصنة ضد الأمراض كالطهارة (الوضوء والغسل)، واجتناب النجاسات التي تسبب الأمراض، وتحريم الخمر والزنا واللواط والعادة السرية، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أشبه من السباع والهوام والمضر من صيد البحر. ان تحريم ذلك كله لم يكن الا لما تسبب من الأمراض، بل الإسلام يحرم كل ما فيه ضرر على صحة الإنسان ضررا كبيرا ويقول: [وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( البقرة 195).

وما دام المؤمن ملتزما بأحكام الشرع هذه، فإنه يقي نفسه طائفة كبيرة من الأمراض.

3- ان هناك تعاليم كثيرة يفرضها الدين وأخرى يندب إليها، نجد فيها الوقاية أو العلاج التام لطائفة كبيرة من الأمراض. فالصلاة تهدئة سيكولوجية وتمارين رياضية، والصوم ترويض نفسي ووقاية صحية، وآداب الأكل والشرب والنكاح وغيرها كلها وقاية عن الأمراض. والمؤمن حيث يلتزم بها يتخلص من غائلة قسم كبير من الأمراض الناجمة عن تركها.

5- ان الدين يدعو إلى العلم –والطب بصورة خاصة- وينشر الطب ويوفر الأدوية كل ذلك من خلال نظمه وتعاليمه الرائعة وهذا يؤدي إلى التقليل من إنتشار المرض في المجتمع[88] وبالتالي يقضي على جانب كبير من جوانب الشقاء الإنساني.

6- ويبقى من شقاء المرض الشيء، القليل والإيمان يجعل المبتلى به يحس بأن هذا المرض سعادة له بما يسليه به من مثوبات يعوض الله بها مرضى المؤمنين. وإليك بعض ما يقوله الدين عن المرض والمريض المؤمن:

أ- ان المؤمن إذا مرض كتب له كل ما كان يعمله في الصحة، وانه يغفر له ذنوبه كلها.

ب- ان المؤمن إذا أصابته الحمى ليلة واحدة كتب له عبادة سنة كاملة.

التطلع نور السعادة

هذه هي عوامل الشقاء وهكذا يقضي عليها الإيمان أو يخفف من شقائها، ولكن الإيمان لا يكتفي بذلك بل يعطي الفرد نور السعادة ليجعله مفلحا حقا.. وذلك ان البشر قد خلق طموحا لا يكتفي بما تكفيه من ضرورات الحياة حتى يطلب المزيد، ولذلك فهو يحرص على جمع المال حرصا عجيبا [وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً] ( الفجر 20) ليس فقط لأن المال يفي بحاجاته الضرورية، بل لانه حسب اعتقاده يجعله شيئا كما جاء في المثل (إذا ملكت شيئا فقد اصبحت شيئا).. وطموحه لا يقتصر على الملاذ المادية، بل ان ملاذه الروحية تدعوه إلى النشاط أكثر؛ فمثلا: حب المعرفة وحب السيطرة وحب الشهرة قد يبلغ بالبشر حدا يضحي في سبيله بالمال والأهل جميعا ، وهذا الطموح إن لم يتحقق عمليا بقي الإنسان يشعر بفراغ، وكلما تحقق شيء منه طار فرحا وغمر نفسه شعور بالسعادة، واذا وجه الإنسان طموحه إلى حطام الدنيا ازداد شقاء بعد شقاء لانه كلما جد في طلب الدنيا كلما اصطدم بقوى خارجية توقفه، بينما إذا وجه طموحه نحو العالم الروحي تقدم إلى الأمام دون أي اصطدام. والدين يوجّه طموح الانسان هذا في مجالات ثلاثة مما يجعله سعيدا متطلعا:

1- في مجال التحلي بفضائل إنسانية تزيد الفرد قيمة إلى قيمته ورفعة بعد رفعة.

2- في مجال طلب النعم في الآخرة والتي عرضها كعرض السموات والأرض مما تمتص تطلعات المؤمنين وتزيد.

3- في مجال الاتصال بنور الله والقرب من رضوانه الذي يعطي الإنسان فيضا من السعادة التي لا تنتهي.. وأين تلك السعادة من سعادة الجسم[89]. وبكل هذا يؤتي الله المؤمن فلاحه في الدنيا والآخرة، ويقول: [أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ](البقرة 5).

الإيمان نبع لا ينضب

كل فرد يريد أن يفعل الخيرات ، بيد ان شهواته النفسية والقوى الخارجية هي التي تمنعه منها وتجره إلى اقتراف السيئات. وكثيرا ما يندم البشر من بعض تصرفاته السيئة ولكنه سرعان ما يرجع إليها مرة أخرى إذا واجه نفس الظروف التي واجهها أول مرة. والإيمان يزيد من قوة العقل ويبعثه إلى فعل الخيرات ، ذلك لأنه يجعل صاحبه بين أيدي الله العليم القدير الذي بيده أمره وإليه مصيره، ذلك الله الذي أعد للمحسن ثوابا عظيما وللعاصي عقابا أليما.. فالمؤمن يجد نفسه أمام سلطان الله الدائم فتذل نفسه ويضعف هواها فلا يستطيع ان يردعه الهوى عن الخير. والمؤمن يشعر كأنه منعم في الجنة وكأنه معذب في النار (من شدة يقينه بالمستقبل وتطلعه لحياة الخلود) فتزيد رهبته ورغبته شدةً وعمقاً وتجعلانه نشطا سباقا إلى الخيرات مهما كانت صعبة ، وحذرا من السيئات مهما كانت صغيرة[90].

جاء في القرآن.. [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [91]](آل عمران 191-192). هكذا يكون الإيمان نبعا لا ينضب لفعل الخيرات!!

التحلي بالفضائل

ما هي الرذيلة؟ ما هي صفة الكبر، والغرور، والبخل؟ لدى التحليل تبين انه إذا التهب حب الذات في زاوية من الزوايا سبب صفة نفسية رذيلة؛ فمثلا: إذا التهب حب الذات في زاوية الدفاع عن الذات حدثت صفة الكبر التي لا تعدو ان تكون مغالاة في تقييم الإنسان لنفسه، والحرص لا يعدو ان يكون زيادة في حفظ الذات، والبخل إفراط في الإحساس بالخوف من الحوادث وهكذا.. ومن هنا فالذي يتغلب على هوى نفسه بقوة عقله، فإنه سوف يقضي على الرذيلة قضاء باتا. والنفس المؤمنة تميت الهوى وتجعله تابعا لإرادتها فتقضي على الرذيلة، أضف إلى ذلك ان النفس التي تشعر بعظمة الله لا يمكن أن تتكبر وان النفس التي تعلم أن لا حول لها ولا قوة الا بالله لا يمكن ان تغتر، والنفس التي تعلم ان الله يملك الخير والشر كله، لا يمكن ان تحسد الآخرين وتحقد عليهم. ومن جهة أخرى النفس المؤمنة بالله الجميل الجليل، لا تملك إلاّ ان تكن حبا عميقا لله وحبا لمن خلقه الله. فالنفس المؤمنة نفس محبة للناس أجمعين ولا يمكن لهذه النفس ان تحقد أو تحسد أو تبغض أو تغضب (الا للحق) ولا يمكن ان يقوم صاحبها بما ينغص الناس عيشهم كالنميمة والغيبة والسب والإهانة، وكل أذى.

والخلاصة: النفس المؤمنة يغمرها الحب ولهذا فهي مبعث الخير والجمال.

في القرآن –يصف الله المؤمنين: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * ... * وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً](الفرقان 63-72).

وجملة أخيرة ان الإيمان بالله هو الذي ينفذ شرائع الدين وتعاليمه ولا يمكن ان يُستغنى عنه بأي شيء آخر:

1- فالتربية مهما تكن صالحة، فإن النفس قد تهوى الرذيلة بسبب اتباع مصلحتها الذاتية، هذا مع ان الحصول على التربية الصالحة قد تتعذر للناس جميعا.

2- وقوانين العقوبات، مضافا إلى انها تختص بما إذا كانت هناك حكومة صالحة، فإنها لا تستطيع ان تمنع الجريمة، كما تدل على ذلك زيادة الجريمة في الدول المتقدمة..

3- والضغط الاجتماعي لا يؤثر الا في مجال محدود.

وفي الإيمان بعد ذلك قوة لا توجد في أي شيء آخر، ذلك لأنه يقوم بتوجيه رشيد من داخل الذات ويجعل فيه ما يراقبه ويوجه خلجات النفس وانحرافاتها الداخلية. وأخيرا المؤمن يعيش مع الله الخالق القدير الذي يقول( يا ابن آدم ! أنا أقول للشيئ كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون.)[92].. فما أعظمه مقاما. والآن دعنا نسأل: أليس من الأفضل أن نكون مؤمنين حقا وأن نغرس في قلوب الآخرين بذور الإيمان؟ ماذا يضرنا لو آمنا بربنا الذي يدعونا إليه ويهب لنا فلاح الدنيا والآخرة، ويوفقنا للخيرات ويعصمنا من السيئات ويستجيب لنا الدعوات؟ فلنؤمن بالله ولنزدد إيمانا.

=======================

البحث الثاني -الرسالة

الرسالة والرسول

قبل كل شيء لابد لنا من تحديد هذين اللفظين لتتبين بعض الأخطاء التي وقعت في تفسيرهما.

الرسالة تعني:

توجيه الله غيبيا لشؤون الإنسان الفكرية والعملية.

الرسول هو:

الوسيط بين الله والناس في نقل هذا التوجيه. فالرسالة من الله، والرسول من البشر. الرسالة وحي يوحى، والرسول صاحب هذا الوحي. الرسالة أمر مخالف لسنن الحياة، انها أمر جديد في مسيرة الكون، والرسول خليفة الله ليس بطبيعته ولا بمؤهلاته وانما لأن الله قد شاء ذلك، فجعل الرسول خليفة من لدنه جعلا. ان عملية (الجعل هذه ترتبط) بالغيب وليست عملية نمو طبيعية كما ينمو الطفل فيصبح يافعا واليافع شابا أو كما يصبح المفكر مصلحا والعالم مكتشفا.

ان الرسول رجل مختار من قبل الله ومبعوث عنه كما تبعث الدولة سفيرا إلى دولة أخرى وتعتمده عندها.. فالعملية بحاجة إلى اعتماد ولا تكون بتدرج ذاتي. هكذا يحدد الله سبحانه واقع الرسالة وواقع الرسول ويقول: [إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ](الجن 23) و[إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الْنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي]( الاعراف 144) و[يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ](ص26) . ففي هذه الآيات كما في مئات الآيات الأخرى، تقرير لحقيقتين:

1- ان لله رسالة تنسب إليه وتضاف الى إسمه، انها رسالة الله وكلامه. ورغم ان كل شيء هو من الله ، فإن للرسالة اضافة خاصة إليه نابعة من ان الرسالة انما هي خرق لسنة الله سبحانه في خلق الأشياء عن طريق ، أسبابها فهي موهوبة للإنسان بطريق مباشر بينما أوجد الله سبحانه سائر الأشياء بطريق الأسباب الظاهرة. إذاً فالرسالة آتية بطريق غيبي لا بطريق عادي.

2- ان الله -حينما ينزل رسالة- يحملها رجلا مصطفى من عباده عن علم واختيار. فالرجل الموحى إليه ليس بشيء لولا الوحي. ومن هنا يأتي الاختلاف بينه وبين العباقرة والنوابغ الذين ترتفع بهم العظمة الشخصية إلى قمم الحياة دون ان يكون للغيب أي تأثير في عظمتهم.

هكذا يحدد الله واقع الرسالة وهكذا يدعي الرسل أنفسهم. ولكن الماديين الذين يبغون الحقائق عوجا، يخترعون لكلمة الرسول والرسالة معنى جديدا ، ويقولون: انما الرسول إنسان عبقري يتمتع بمواهب وافرة ترفعه مكانا محمودا عند الناس، شأنه شأن الألوف من العباقرة في التاريخ، ولا فرق إذاً بينه وبين أي عظيم آخر. فالعظماء كلهم من فصيلة واحدة ويجب ان ينظر اليهم بالإجلال دون أي اعتبار لإتجاهاتهم الفكرية ، أهي مستقيمة ام منحرفة، ولا ملاحظة لأعمالهم أهي صالحة ام مضرة، ولا تقييم لمنجزاتهم أهي مفيدة للإنسانية ام لا ، ذلك لأن كلا منهم يملك موهبة تميزه عن سائر الناس وتجعلنا نقدره بها تقديرا. و يقولون : إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف شيئا عن أبي سفيان. كما ان عليا (ع) خليفة محمد صلى الله عليه وسلم لا يفترق عن معاوية ابن أبي سفيان. اما ابراهيم وموسى وعيسى والنبيين (ع) فليسوا إلاّ نظراء أديسن وروسو وماركس.. لأولئك مواهب ولهؤلاء مواهب، فهم جميعا رسل الله إلى البشرية وليست الرسالة سوى انجاز تلك المواهب سواء كانت في طريق مشروع ام غير مشروع، يحبها الله ام يبغضها.

ويزعمون: إن كل كاتب وشاعر ومفكر فهو رسول من عند الله، أبى الله ام رضي، ولكل منهم رسالة أحب الله ذلك ام كره.

والواقع ان الذي يعتقد بالرسول عبقريا ـ فقط ـ وبالرسالة موهبة فحسب ليس بمعتقد بالرسالة أبدا. ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح انه مبعوث من قبل الله سبحانه وانه عبد كسائر العباد، وانه يتخذ كل اعتباره وقيمته من الوحي ويقول [قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ](الكهف 110).. واما القرآن فيقول في صفة الرسول [وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ](النساء64).. [يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ](ص26).. في الآية الأولى يؤكد الله سبحانه ان الرسول يطاع بإذن الله لا بما فيه من موهبة ونبوغ. وفي الآية الثانية يصرح القرآن ان الله قد جعل داود خليفة في الأرض جعلا.

وعلى هذه الحقيقة يبني الدين كل بنائه، فالرسول مبعوث من قبل الله ، و حكمه حكم ربه [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى](النجم3-4).. وليس الرسول حالا في الله سبحانه انما هو رجل يوحى إليه من ربه، ولا الله تعالى قد ولده ولا هو منطو على جزء من الالوهية ـ كما زعمته الفلسفات الجاهلية والأديان المتأثرة بها ـ ذلك لأن اعتباره لم يكن نابعا من ذاته حتى يكون دليلا على الوهيته ـ كما زعموا ـ بل لو تجرد عن الوحي عاد بشرا مثل سائر البشر.

ولهذا ينسف الإسلام كل مزاعم اليهود والنصارى بما ظنوا في أنبيائهم من مراتب الالوهية زعما منهم ان ما في الأنبياء من علم وحكمة وان ما تجري على أيديهم من معاجز وخوارق للعادة انما هي ناشئة من ذواتهم التي فيها نوع من النبوغ يميزهم عن سائر البشر بدرجة.

فعيسى الذي كان يحيي الموتى كان نبيا وكان إلها ـ بزعمهم ـ وعزير الذي مات ثم أحياه الله كان نبيا وكان إلها في الوقت ذاته، ذلك لأنهم لم يعرفوا واقع الرسالة فزعموا ان عيسى وعزير حين شذا عن الآخرين وعملوا أعمالا خارقة فإنما كان بسبب ما كان فيهما من الالوهية. ومثلهم في ذلك مثل الذين زعموا ان النبوة موهبة ذاتية ونبوغ شخصي للرسول، فكلاهما لم يفهم واقع النبوة فتخبطا في الظلمات خبطا. وانما الفرق بينهما أن الفلسفة القديمة كانت تعترف بأن كل من فاق البشر كان إلها دون أنصار الفلسفة الحديثة.

شبهة المنكرين

شبهة واحدة تشبث بها المنكرون كلما بُعثَ إليهم رسول أو دعوا إلى اتباع رسول. شبهة واحدة لا تختلف منذ عهد نوح وإبراهيم (ع) وإلى هذا اليوم الا في المظاهر والأشكال، فما هي تلك الشبهة؟.. قالوا كيف يمكن ان يتدخل الله سبحانه في أوضاع الأرض. أهو قادر على ذلك؟ كلا؛ إذ انه حين خلق الكون وقدر ما فيه من النظم غُلتَّ يداه -سبحانه- فلم يعد يؤثر فيه أي تأثير.

تلك هي شبهة واحدة ولكن تصاغ في قوالب شتى:

1- فمرة يقولون: [يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ] -كما قالت اليهود- ( المائدة 64).

2- وأخرى يقولون: [أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً]؟ كما قال الناس لرسلهم ( الاسراء 94).

3- وتارة يقولون: أيعتني الله الكبير، خالق هذه السماوات العظيمة، بهذا البشر الحقير ـ كما قال بروفيسور ألماني ـ.

4- وأخرى يقولون: ان الله رب كبير لا شأن له بالتشريع ولهذا فالدين لله والقانون للبشر ـ كما يقول كاتب عربي ملحد ـ.

ومرد هذه الشبهة إلى ان الله قد صدر منه الخلق صدورا ـ كما يصدر الماء من النبع دون ان يكون له إرادة ومشيئة في ذلك- ولهذا فهو ليس بقادر على ان يغير شيئا مما أوجده.

فالشبهة إذاً ناشئة من عدم معرفة الله سبحانه كما ينبغي أن يعرف..

اما جوابها فيتلخص في كلمة هي ان الله القادر الذي رأينا في الكون آثار قدرته البالغة لا يمكن ان يعجز عن الخلق ، ذلك أن الخلق أضعف من الخالق بصورة ذاتية والأقوى يستطيع ان يؤثر في الأضعف، وإذا ثبتت قدرة الله غير المحدودة، فإن أي اعتراض آخر حول إمكانية الوحي يغتدي تافها جدا. وقد سبق الحديث حول ذلك لدى التكلم حول الفلسفة الميكانيكية.

ويقص القرآن الحكيم نبأ هذه الشبهة التي كانت تثار حول الأنبياء ثم يجيب عنها جوابا متينا فيقول: [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( ابراهيم10-11).

[1]- في هاتين الآيتين معالجة شاملة لكافة القضايا الرسالية لابد ان نشير إليها إشارة خاطفة:

أ- ان الناس كانوا يشكون في الأنبياء (ع) وكان مبعث شكهم هو ان الأنبياء ـ عليهم السلام ـ انما هم بشر مثلهم وكيف يمكن ان يبعث الله بشرا رسولا؟

ب- لم ينكر الأنبياء انهم بشر، كما انكر اليهود ذلك في عزير (ع) والنصارى في المسيح (ع) بل قالوا ان نحن الا بشر مثلكم. فلسنا نوابغ أفذاذ، نملك مواهب جمة بها نسئل منكم الطاعة. ولكننا أناس لا نستحق طاعة ولا ولاء لو تجردنا عن الرسالة الموحاة إلينا من الغيب.

ج- بيد انه ليس من العجيب ان يمن الله على من يشاء من عباده بشيء يميزه عن الآخرين إذ ما دمنا عباده فهو الذي يدبر أمورنا كيف يشاء ويختار للرسالة من يشاء. نحن عباده، والعبد لابد ان يكون خاضعا لتدبير مولاه خضوعا تكوينيا شاملا فإذا كان خاضعا هذا الخضوع فليس من المستحيل ان يهب له علما وحكما ويبعثه إلى الناس رسولا مطاعا بإذنه.

د- بيد ان رسالتنا – كما يقول الرسول - لا تجعلنا فوق مستوى الناس ـ من حيث الذات ـ بل اننا لا نزال خاضعين لله ولذلك ما كان لنا ان نأتيكم بسلطان فيه نوع من السلطة عليكم الا بإذن الله ذلك لأننا وان كنا أنبياء الا اننا لا نملك شيئا من دون الله.

و- وليست لدينا أية قوة ظاهرية نعتمد عليها بل كل ما في الأمر اننا نتوكل على الله وكذلك نقول للناس (وعلى الله فليتوكل المؤمنون). فالمؤمنون انما يتقون بالله ـ سبحانه ـ لا بما لنا من قوة ذاتية.

هذه هي الرسالة في منطق القرآن وهذه هي الشبهة الوحيدة عليها وهذا هو الرد الحاسم. وسنذكر ـ ان شاء الله ـ ان هذه الرسالة تنسجم مع العقل وفيها حجة على ذاتها.

لماذا يجب ان نستمع لمدعي الرسالة؟

هناك سبب بسيط لوجوب الاستماع إلى مدعي الرسالة هو ان الرسالة ممكنة عقلا ـ كما سبق آنفا ـ وهي ضرورية عقلا ـ كما سيأتي قريبا إن شاء الله ـ فإذا ادعاها أحد وكان من الممكن أن يكون صادقا وجب على الناس الاستماع إليه والبحث عن صدقه أو كذبه لكي يشغل هذا الفراغ. ولكن إذاً ثبت بصورة جازمة انتهاء الرسالات فليس لأحد ان يستمع إلى مدعي الرسالة لأنه إذا كاذب لا ريب في كذبه. وبما ان القرآن هي الرسالة الخالدة التي انطوت على كل حاجات الإنسان، وبما ان النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين حسب ما ثبت بصورة جازمة، فليس لأحد ان يصغي إلى من يدعي الرسالة بل يجب عليه ان يعتقد كذبه سلفا.

ما هي وجوه الحاجة إلى الرسالة؟

هل البشر يستطيع ان يستغني عن الرسالة؟ فيما يلي الإجابة الموضوعية على ذلك:

قبل أي شيء لابد ان نعلم حقيقتين:

1- ان شواهد كبيرة في الكون تدل على ان الإنسان خلق ليعيش سعيدا.

فهذه آثار رحمة الله وعطفه وحنانه قد غمرت الحياة ، وما هيّأ للإنسان من وسائل العيش، وأسباب الرفاه، وما فطر عليه الخلق من ابتغاء السعادة بصورة دائمة. كل ذلك بعض الشواهد التي تهدي إلى حقيقة ان الهدف من خلق الإنسان هو ان يعيش سعيدا، ولكن هل السعادة تفرض على الإنسان؟ كلا.

2- أما الحقيقة الاخرى التي لابد أن نعترف بها، هي: أن الإنسان خلق حراً مريداً، وان الله ضمن للإنسان إستمرار حريته في الحياة الدنيا، ذلك ان الحرية تسوى عند الإنسان السعادة، وتزيد قيمة عليها.

ومن هنا نعلم ان الإنسان خلق حرا سعيدا، وأي تفضيل لسعادته على حريته، أو لحريته على سعادته انتكاس وتجريد له عن إنسانيته.

ان منطلقنا في الحديث عن ضرورة الرسالة، ينبغي أن يكون من هاتين الحقيقتين.

ولكن كيف؟

حاجة العقل إلى مذكِّر

اننا نجد في انفسنا طاقتين تتصارعان، هذه تدعونا إلى الحق والخير والسلام، وتلك تدعونا إلى الباطل والشر، ونسمي أحداهما بالعقل والثانية بالجهل.. والجهل هاوية والعقل قمة.. والناس أهون عليهم النزول من الصعود. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى ابتعاث أناس منزهين ومؤيدين من قبل الله ليدعوا الناس إلى اتباع عقولهم ونبذ أهوائهم ثم يتحملوا مسؤولية هذه الدعوة الكبيرة، إذ لولا هذه الطائفة لما كان للعقل الداعي إلى الحق والخير فائدة أبدا وكان صنع الله لغوا ـ تعالى الله عن اللغو ـ لأننا نجد كل موجود يؤدي عملا مفيدا وقد خلق لهدف، وان الله قد فتح له المجال لتحقيق ذلك الهدف الذي خلقه من أجله فلا يمكن ان يكون العقل قد خلق دون أية غاية؟!.. فمن الضروري أن يبعث الله الأنبياء (ع) لكي لا يكون خلق الله لغوا.

وبكلمة موجزة؛ للناس عقول هي التي تهديهم إلى الرشاد ولكن هذه العقول لا تفيدهم الا إذا ذكرهم بها مذكر ولا بد لهذا المذكر ان يكون مسددا بالغيب، ليكون هو بنفسه متذكرا مهتديا، وهذا لا يكون الا ببعث الرسل.

وقد سبق القول عند البحث حول العقل بأن من يغفل عن عقله لابد ان يوجه من خارج ذاته إلى عقله.

جاء في الحديث عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام: (فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويثيروا لهم دفائن العقول[93]).

فإثارة كنوز العقول ضرورة بشرية يقوم بها الأنبياء عليهم السلام.

2- ضرورة المذكر

لا يعرف الناس ربهم الا بمذكر يذكرهم به وداع يدعوهم إليه، ذلك لان طبيعة البشر الجهل والنسيان[94] فكان على الله ان يختار لهم من يدعوهم إليه حتى يعرفوه فينالوا به السعادة والفلاح[95].

3- حاجة الإنسان إلى موجه

كلما كررنا النظر إلى ما في أنفسنا وما في الكون المحيط بنا من تكوين ونظام أيقنا أكثر فأكثر بأننا عباد خُلِقنا ولم نكن شيئا مذكورا، ثم أودعت نطفنا أرحاما لم نكن قد عرفناها أو هيأناها من قبل، وفي ظلماتها رُزِقنا وأنشئنا ثم أُخرجنا إلى الدنيا في وقت لم نحدده وبكيفية لم نعينها وعشنا في ظروف لم نعرفها ولم ننشئها وأوتينا الرشد بقدر غير مقدر من قبلنا والآن نأكل من رزق لا نملكه ونمشي على أرض لم نعمرها.

هذا بالنسبة إلى ما يحيط بنا، أما بالنسبة إلى العالم الذي نحيط به، أي عالم الإنسان فإن آلاف النظم وملايين الأجزاء وبلايين الخلايا تحيط بها أجسامنا قد أُنشئت ونمت على غير إرادة منا ولا حتى معرفة لنا بها. العقل والعلم والعاطفة والخيال والحافظة وعشرات أمثالها مما أودعت أرواحنا كانت هي الأخرى ولا تزال مقدرة ومسيرة من لدن غيرنا لم نكن نستطيع تغييرها ابدا.. كل ذلك يلهمنا واقع أنفسنا انها مخلوقة واننا عباد مخلوقون مربوبون. وما دمنا كذلك فعلينا أن نتبع رضوان الرب العظيم الذي وهب لنا كل ذلك وألا نقوم بأي عمل لا نعلم أنه راض عنه.

جاء في القرآن الكريم. [قُلْ اِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ](سبأ 39) [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( الذاريات 56).

وجاء في السنةعن رسول الله صلى الله عليه و آله: ( ... وذلك لأنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر فيما أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن، لنا لا ندري لعله أراد منا الأول وهو يكره الثاني، وقد نهانا ان نتقدم بين يديه..)[96]

إذاً فلابد أن نبتغي رضوان الله. ولكن كيف؟

من الواضح انه لا يمكن أن نتصل جميعا بالله سبحانه مباشرة لأنه أجلُّ من أن يلامس ويواجه من قبل كل أحد، فوجب أن يجعل بينه وبين الخلق رجالا يوحي إليهم.. جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: (انا لما اثبتنا ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه و لا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت ان له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحيكم العليم في خلقه ،و ثبت عند ذلك أن له معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب مؤدين من عند الحكيم العليم بالحكمة[97]).

4- حاجة البشر إلى المنهاج

لا ريب ان في العالم أشياء نافعة وأخرى ضارة، وفيه عمل ينبغي القيام به وآخر يجب تركه. ودون ان نعرف الذي ينفع و الذي يضر لا نتمكن من تحقيق السعادة، ذلك لأنه قد نعمل ما يضر فنشقى وقد نترك ما ينفع فنشقى أيضا ـ ولاريب في هذا أيضا- ومهما أوتي البشر من علم وحكمة لا يكفي لمعرفة كل ما نحتاج إليه من خير وشر وصالح وفاسد.

ان معرفة هذا الأمر تحتاج إلى معرفة ما في الكون وما في النفس من نظم متماسكة، والآن حيث بلغ العلم ما بلغ لا يزال يصرح بعض من هو أعرف الناس بالثقافة بعجز الإنسان عن الإحاطة بعشر معشار ما في النفس وما في الآفاق من أسرار مدهشة. يقول نيوتن - وهو من أكبر المكتشفين - (ان نسبة معرفتنا إلى الواقع ليست الا كنسبة القطرة إلى البحر).. ويقول ابن سيناء - وهو من أكبر الفلاسفة الأقدمين - بعد ان سئل ماذا عرفت ؟: (عرفت اني لم أعرف شيئا،..) ولا يأمل أحد من العلماء اليوم ان يبلغ العلم يوما إلى الإحاطة بما في الكون كله.. وحسب تعبير بعض الفلاسفة المعاصرين (العلم مركبة في فضاء لا تحد؟). ويقول الكسيس كاريل ـ وهو من أكبر العلماء الذين يتمتع بمختلف جوانب الثقافة الحديثة، وأحرز جائزة نوبل ـ قال وهو يستعرض بعض جوانب الجهل بحياة الإنسان: (لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من اننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحيين في جميع الأزمان فإننا استطعنا ان نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا. اننا لا نفهم الإنسان ككل..

وواقع الأمر، ان جهلنا مطبق فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب ، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة.. ثم يقول: فالعقل يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة).

ان هذه الشهادة ذات قيمة علمية بالغة إذا لوحظت انها تأتي متزامنة مع شعور متزايد باكتفاء الإنسان عن الوحي.

ويقول الأستاذ ج.و.ن. سولفيان: (ان الكون الذي كشفه العلم الحديث هو أكثر غموضا وإبهاما من التاريخ الفكري بأكمله. ولا شك في ان علمنا عن الطبيعة أكثر غزارة من أي عصر مضى، ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة، فنحن نواجه اليوم الإبهام والمتناقضات في كل ناحية).

فلابد للبشر – إذاً - من هاد عالم حكيم محيط بالكون كله وليس ذلك الا الله سبحانه، وكان على الله ان يرسل من لدنه أنبياء ينقلون اليهم أوامره وإرشاداته والا لم يفلح الإنسان في الحياة ولم تتم ما خلق له وهي السعادة ولزم اللغو في صنع الله المتعالي عن اللغو.

قال الله سبحانه: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ[98]].(الجمعة 2).

في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام: (فإن قال قائل فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة ؟ قيل: لأنه لما لم يكن في خلقهم وقواهم ما يملكوا لمصالحهم وكان الصانع متعاليا عن أن يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا ، لم يكن بد من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدي اليهم أمره ونهيه وأدبه، ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم ، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه منافعهم و مضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة ولكان إتيانه عبثا لغير منفعة ولا صلاح. وليس هذا من صفة الحكيم الذي اتقن كل شيء[99]).

5- القضاء على خلافات البشر

الاختلاف ظاهرة طبيعية للبشر في كل الشؤون وفي كل العصور وبين كل الناس، ورغم ما كتب الفلاسفة ـ قديما وحديثا ـ من كتب في المنطق لإزالة الاختلاف الذي يقلق الإنسان[100] فإنه لا يزال هذا الاختلاف قائما وقد سبب كثيراً من المشاكل بل وكثيراً من الويلات، فالحروب التي تشتعل بين فترة وأخرى وتفني الحرث والنسل ليست الا بعض نتائج هذا الاختلاف ، فكان لزاما ان يقضي الله سبحانه على هذا الاختلاف ويريح البشر من هذا العامل الخبيث من عوامل الشقاء ، من أجل ذلك كان عليه ان يبعث انبياء لكي يقضوا على الخلافات البشرية بما يوحى اليهم من حكم وعلم من قبل الله الذي لا يرقى إلى حكمه الريب ولا يحتمل منه الجهل أو الخطأ.

قال سبحانه: [وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ](النحل 64).

6- ضرورة النظام للإنسان

الإنسان يأنس إلى الإنسان بصورة طبيعية ويجتمع إليه ويتعاون معه، ولكل تعاون نظام فلولاه يغتدي الاجتماع ليس فقط تافها وغير مفيد، بل ويكون باعثا على الشقاء أيضا. فمن يضع هذا النظام العادل الذي يضمن سعادة الجميع؟.. ليس ذلك في استطاعة الإنسان إذ لابد ان تتوفر شروط ثلاثة لمن يضع النظام:

أ- ان يحيط علما بكل ما في الحياة من خير وشر وبمعرفة مدى تأثير أعمال الفرد في إسعاده أو إشقائه ليس في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضا. ولم يأت إلى الحياة فرد أو طائفة ادعو هذا العلم.

ب- أن يتجرد عن كل هوى حتى لا يفضل مصلحته أو مصلحة طبقته على المصالح العامة، وهذا لا يمكن أن يتحقق لأي بشر، إذ ان أفضلهم لا يخلو من التأثر بميوله وشهواته كما نشاهد ذلك في بني الإنسان جميعا ويجده كل منا في نفسه، فما أن تعرض قضية ترتبط بمصلحة البشر حتى تختلف الأفكار فيها بسبب اختلاف المصالح.

ج- أن تكون له إرادة قوية تعطيه الاستقامة التامة في سبيل تطبيق الحق الذي يحمله إلى الناس، ذلك لأنهم لا يفقهون ان في مصلحتهم تطبيق الحق فيثورون ضد الحق وضد كل من يدعو إليه، فلابد ان يكون للمبشر بالنظام الحق من الاستقامة ما يقابل هذه المقاومة ويزيد. ومن الواضح ان هذه الاستقامة لا توجد الا عند من يؤيد من لدن الله ، ذلك لأن الفرد مهما كان نافذ العزيمة قوي الإيمان فإنه ينهار عند اختلاف النكبات عليه.

لهذه الأسباب الثلاثة لم تتمكن البشرية من وضع نظام صالح كامل عبر آلاف السنين، أي منذ ان سن حمورابي نظمه وحتى القوانين الغربية و الشرقية الأخيرة، رغم كل المحاولات المبذولة في هذا السبيل.

وبما ان البشر عاجز عن وضع هذا النظام وهذا النظام ، ضرورة لسعادة الإنسان وقد خلق الله البشر ليسعدوا، كان على الله سبحانه ان يضع لهم نظام الحياة ويبعث ذلك على يد من يتحمل مسؤولية ذلك. ومن الواضح ان الله سبحانه لا يتاثر بالمصلحة ولا بالجهل ولا يبعث من يعجز عن تحمل مسؤولية الرسالة بل لا يكون المبعوث الا معصوما[101].

قال الله سبحانه : [إِنَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ](النساء 105).

وفي حوار جرى بين الإمام (ع) ورجل مادي قال (ع): (أربك انظر[102] لخلقه ام خلقه لأنفسهم؟ فقال: بل ربي أنظر لخلقه. فقال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال: أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم[103]).

وجاء في الحديث عن فضل بن شاذان: (فإن قال قائل: لم أمر الخلق بالإقرار بالله وبرسوله وبحجته وبما جاء من عند الله عز وجل؟ قيل: لعلل كثيرة منها ان من لم يقر بالله عز وجل لم يتجنب معاصيه ، ولم ينته عن إرتكاب الكبائر، ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويستلذ من الفساد والظلم، واذا فعل الناس هذه الأشياء وارتكب كل إنسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لأحد، كان في ذلك فساد الخلق اجمعين ووثوب بعضهم على بعض، فغصبوا الفروج والأموال، وأباحوا الدماء والسبي وقتل بعضهم بعضا من غير حق ولا جرم، فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الخلق وفساد الحرث والنسل. ومنها: ان الله عز وجل حكيم ولا يكون الحكيم ولا يوصف بالحكمة إلاّ الذي يحظر الفساد ويأمر بالصلاح ويزجر عن الظلم وينهي عن الفواحش، ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش الا بعد الاقرار بالله عز وجل ومعرفة الآمر والناهي فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفة لم يثبت لهم أمر بصلاح ولا نهي عن فساد، إذ لا آمر ولا ناهي. ومنها: انا وجدنا الخلق قد يفسدون بأمور باطنة مستورة عن الخلق فلولا الإقرار بالله وخشيته بالغيب لم يكن أحد –إذا خلا بشهوته وإرادته- يراقب أحدا في ترك معصية وانتهاك حرمة وارتكاب كبيرة، إذا كان فعله مستورا عن الخلق غير مراقب لأحد ، فكان في ذلك هلاك الخلق أجمعين، فلم يكن قوام الخلق وصلاحهم الا بالإقرار منهم بعليم خبير يعلم السر وأخفى آمر بالصلاح وناه عن الفساد ولا يخفى عليه خافية ليكون في ذلك إنزجار لهم عما يخلون به من أنواع الفساد[104].

7- ضرورة التزكية

كل فرد يجد في نفسه الكفاءة التامة للرقي إلى أسمى مراتب التزكية النفسية وأرفع مستويات الثقافة الإلهية وما تتبعها من معرفة النفس والخلق ، أصله ومصيره، وواقع الكون وأجزائه، والعلاقة التي تربط بعضها بالبعض الآخر. ورغم بحث الإنسان عن هذه الحقائق منذ نشوئه وحتى اليوم بحثا مستمرا فإنه عجز عن تحقيق أي تقدم في هذا المجال، حتى أن النظريات الحديثة - ونحن نعيش في عصر الذرة والفضاء - لتتشابه مع نظريات الفلاسفة الاغريق الذين سبقونا بألفي عام فأكثر[105]. واذا ثبت عجز البشر عن بلوغ هذا المستوى الرفيع من التزكية والمعرفة فلابد ان يبعث الله من يعلم البشر ويزكيهم وهم الأنبياء(ع).

قال الله سبحانه: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ](الجمعة 2).

وجاء عن رسول الله صلى الله عليه و آله قوله: (انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق[106]) .وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (أيها الناس ان الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة فعلم انهم لن يكونوا كذلك الا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم والتعريف لا يكون الا بالأمر والنهي[107])

8- اعادة توازن الحياة

تدل حوادث التاريخ انه بين فترة وأخرى كانت الفوضى تعم حياة الإنسان على الكوكب، فكان الله سبحانه يبعث اليهم رسلا يعيدون الإنسان إلى وعيه وإلى صراط مستقيم. وتاريخ الرسالات شاهد واضح على هذه الحقيقة. فإنا نرى ان ابتعاث الرسول كان متزامنا لطغيان البشر في كل ناحية من نواحي حياته، حيث كان قد شاع فيهم الظلم وانتشر الفساد واختلت الموازين وافتقدت القيم ولم يبق من منهج السماء في الأرض الا شيئا قليلا وكانت القوى البشرية عاجزة تماما عن اصلاح الوضع. ومع ان كل الناس كانوا ينشدون الخلاص فإنه لم يكن يستطيعه أي شخص وأية فئة وأية فكرة، وهنا كان الغيب، يتدخل لينقذ حياة البشر، ويخلصه من تيهه وضلاله وكان ضروريا ان يتدخل الغيب. ذلك لأن الله سبحانه لم يخلق الإنسان الا ليسعد في الدنيا ويفلح في الآخرة ولم يكن ممكنا في ظل تلك الظروف التمتع بالسعادة لأي فرد دون تدخل إلهي و بعث الرسل.

9- التبشير و الانذار

ان الله قد جعل الدنيا دار بلاء واختبار وجعل الآخرة دار جزاء وثواب[108] ، وكان من تمام النعمة عليهم ان يبعث من يبشرهم بالجنة التي أعدت للمتقين، وينذرهم بالنار التي أعدت للكفارين والفاسقين، ويبين لهم ما يتقون عنه من السيئات ولولا ذلك لكان للناس عليه الحجة البالغة وكانوا يقولون ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك فإن كنت قد بعثته إلينا لكنا من المهتدين.. ثم ان سعادة الإنسان في اللآخرة تفوق أهمية سعادته في الدنيا، ذلك لأن الآخرة تدوم والدنيا تزول وقليل يدوم أفضل من كثير يزول. ألم يكن إذا من حكمة الله ورحمته الواسعة ان يبعث من يهدي الناس إلى السبل الموصلة إلى الجنة؟ قال الله سبحانه: (وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين)..

هذه طائفة من الحكم التي أرسل الله من أجلها الأنبياء، وفيها الشهادة الكافية على الحاجة إلى الرسول أيضا لأنه لابد للبشر من إنسان يقودهم إلى الحق حتى يستجيبوا له، اما إذا نزلت الرسالة على شكل ألواح بين الناس فمن المؤكد الا يفيد شيئا، كيف وقد جاء الرسل بالرسالة فلم يؤمن الناس بهم الا قليل.

بماذا يعرف الرسول ؟

هناك عدة وسائل يعرف الناس بها الرسول، ونحن إذ نشير اليها لا يمكننا ان ندعي انها كل الطرق الممكنة إلى معرفة الرسول، بل لعله توجد وسائل أخرى إلى هذه المعرفة.

1- الرسالة

لقد سبق آنفا ان هناك عدة أسباب تدعو إلى الرسالة والتي لا يفلح البشر بدونها، وعرفنا بها ان الرسالة واجبة، كما عرفنا انها هي الغاية من بعث الرسول. ومن هنا نعرف انه لابد لكل رسالة من الاحاطة بحاجات الناس و وفائها بها، إذ ان أي رسالة لا تفي بهذه الحاجات لا يمكن ان تكون من عند الله. إذ ان الله ليس بعاجز عن توفير كل ما يحتاج إليه الإنسان، ورحمته لا تضيق عن ذلك، فعدم توفرها في رسالة دليل على عدم صحتها، كما ان توفرها من حيث المجموع دليل على ان الرسالة من عند الله سبحانه لأنه، لم يأت من البشر أحد إدعى انه جاء اليهم بكل هذه الحقائق التي يحتاج الإنسان إليها[109] ولأنه لا يمكن لبشر عادي ان يأتي من عند نفسه بكل ذلك.

2- الرسول

ان شخصية الرسول وما لها من صفات حميدة، حجة أخرى على صدق رسالته. فإذا عُرِفَ بالطهارة من كل دنس والتعالي عن كل رذيلة ، لا يستهويه عن الحق منصب ولا يستدرجه إلى الباطل مأثم، رأيناه يدعي انه رسول من عند الله عالما بأن ادعاءه هذه المرتبة لو لم يكن مالكها ظلم عظيم لنفسه وللناس أجمعين. إذا عُرِفَ الرسول كذلك عُرِفَ انه رسول الله حقا.. قال الله تعالى: [أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ]( المؤمنون 69).

وقال سبحانه: [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ اُرِيدُ أَنْ اُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ اُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ اُنِيبُ [110]] [هود 88].

وقال عزوجل: [وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِنْكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِي اُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُالْحَاكِمِينَ][111] (الأعراف/ 85-87).

وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اعرفوا الله بالله و الرسول بالرسالة)[112].

3- الآيات

ويعرف الرسول بالآيات البينات التي يحكم العقل السليم بأنها ليست من صنع البشر، وذلك مثل ناقة صالح (ع) وتحول النار بردا وسلاما على إبراهيم (ع) وعصى موسى التي إلتقفت حبال السحرة ثم ردها الله إلى سيرتها الأولى، وما كان يشع من يده من نور وانفلاق البحر له اثني عشر قسما، وتكلم عيسى في المهد صبيا واحياؤه الموتى وابراؤه الاكمه والابرص ـ بإذن الله ـ وما أشبه ذلك من الآيات.

4- الفطرة

جاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام: (ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا)[113]. والواقع لا يحتاج الفرد إلى ذكاء خارق حتى يعرف مدى صدق دعوة اصلاحية معينة. ان ذات كل دعوة من هذا القبيل شاهدة على صدقها، فإن مقاومة الظلم والجريمة ، ومحاربة السلبية والميوعة ، ونصرة المعدمين والضعفاء، هي دلائل صدق الدعوة ، وهي أمور تعرفها فطرة كل إنسان التي لا تشك في أن مثل هذه الدعوة صادقة.

فالفطرة تثبت صدق الرسول في دعوته لأنها تنسجم مع معطيات الفطرة ذاتها.

وتزداد هنا المعرفة وضوحا وعمقا كلما ازداد الفرد تفاعلا معها وممارسة عملية لها إذ يبدأ آنذاك، بملامسة الواقع بصورة مباشرة.

5- شهادة أمته:

وتأتي شهادة أمته أكبر حقيقة يشعر بها المؤمنون المخلصون برسالة الرسول.. ولا تنحصر شهادة أمته في بعث الآيات التي تدعم رسالة النبي (ع) ولا تنحصر أيضا في صدق نبؤات الرسول واستجابة دعواته، وانتصاره الخارق على أعدائه، بل تعم أكثر من ذلك حتى تشمل نوعا من الإلهام الشخصي الذي يمن به الله سبحانه على كل فرد حسب أهليته وبطريقة مناسبة له .

-----------------

محمد رسول الله..

كيف يمكن ان نثبت رسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم؟

ان طريقة إثبات رسالة الرسول متشابهة مع طرق إثبات سائر الرسالات التي سبقت الإشارة إليها، ولكن بالإضافة إلى دليل آخر هو ما بشر به الأنبياء السابقون أممهم[114].

1- الرسالة

ان رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسها شاهدة على انها من عند الله، ذلك لأن الرسالة المحمدية لا تفي بكل الحاجات البشرية فقط، بل انها أيضا أكمل الرسالات وفاء بها. أليس الإسلام يذكّر بنور العقل[115]؟ أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهدي الناس إلى ربهم ويذكرهم بما له من نعماء ثم يبين لهم ما يرضيه وما يسخطه من عقيدة وعمل وخلق؟

أو لم يكن يبين لهم الحكمة ويبين لهم ما يصلحهم وما يضرهم، ويزكي الناس ويربيهم على مكارم الأخلاق[116]؟

هذه رسالة محمد بن عبد الله التي نزلت عليه من ربه. أليست تكفي البشر من كل النواحي التي يعجز الإنسان نفسه عن تأمينها، ويرشد العقل إلى وجوب إبتعاث النبي بها؟ وقد جاء الرسول بها كاملة من عند الله ونحن نعلم انه لا يملك ان يأتي أحد برسالة من نفسه تكفي الناس من كل الوجوه السابقة مهما كان عظيم الفكر واسع المعرفة.

فحيث جاء الرسول بها وقال أنها من عند الله تعالى، عرفنا صدقه فيها، وهكذا نجد في القرآن الكريم استدلالا على صدق الرسول بحقيقة رسالته:

يقول الله سبحانه: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ](إبراهيم 1). [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ](إبراهيم 52). [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[117]](النحل 89).

فهذه هي الخطوط العامة لكل رسالة وهي بالتالي الحاجات الضرورية للبشر. وقد اعترف المستشرق (ليتن) برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق شهادة محتوياتها فقال (انني لأجرؤ بكل أدب ان أقول: ان الله الذي هو مصدر الخير والبركات كلها لو كان يوحي إلى عباده، فدين محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الوحي. ولو كانت آيات الإيثار والأمانة والاعتقاد الراسخ القوي ووسائل التمييز بين الخير والشر ودفع الباطل هي الشاهدة على الإلهام فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي هذا الإلهام[118]) .

2- الرسول

من خلال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ان كان يافعا يعزف عن اللهو أو كان فتى يرعى تجارة خديجة فيلتزم بالصدق والأمانة أو كان رجلا يتميز بين أترابه بأنه يقبل الغريب ويرحم الضعيف ويأوي المسكين وإلى ان بعث نبيا يحمل بين كفيه النور والهدى إلى العالم كله وحتى أصبح سيد العرب جميعا من خلال سيرته في سني عمره وأطوار حياته، لم يعهد منه معاصروه الكذب والخيانة فسموه (الصادق الأمين) فلم يستطيعوا نعته بالكذب حتى بعد أن بعث بالرسالة وسفه أحلام قريش وقاد الحروب ضدها. رأوا فيه إنسانا يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويتجنب الرذائل ويتحلى بالفضائل. هذا محمد بن عبد الله الذي أعجب به من عاصره – العدو والصديق - وأعجب به من جاء بعده - من عدو وصديق - . هذا الإنسان ادعى النبوة وكان يعرف أبعاد دعواه وهي ان من يدعو إلى النبوة فهو يدعو إلى الله ويدعي الاتصال به والبعثة من لدنه إلى الناس جميعا في كل العصور[119].

كما كان يعرف بكل دقة ان الذي يدعي النبوة كذبا فإنما هو أخبث الناس وأظلمهم لنفسه وللناس جميعا، لأنه يغر الناس ويخدعهم ويبعدهم عن الصراط المستقيم[120]، ذلك لأنه ينسب الكذب إلى الله رب العالمين ويتسلم قيادة الناس جميعا وفي كل العصور، فإن كان غير كفؤ لها جرهم إلى الردى ليس في عصره فقط بل على مر العصور حيث ان اتباع هذا الرسول لا يقتصر على زمان حياته بل قد يدوم إلى الأبد، كما هي الحال في رسالة النبي محمد (ص). فمعنى كذب مدعي الرسالة اضلال الملايين عن السعادة. ان هذا الظلم ما أعظمه وما أكبره.. ولا يقدم على هذا الظلم الا أخبث الناس الذي انسلخ عن كل قيمة إنسانية، فكيف يدعيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله الذي عرفناه بالصدق والأمانة؟

ان دعوى الرسول –هذا الصادق الأمين- لا تحتاج الىحجة تدعم صحتها بل انها شاهدة بذاتها على انها الحق الواضح. ذلك ان محمدا صادق وأمين، والصادق يصدق في كل أمر كما ان الأمين أمين مع كل أحد. وليس بصادق من يصدق مرة ويكذب مرة، وليس بأمين من وفى مرة وخان أخرى، وحيث نُعِتَ الرسول بالأمانة والصدق فلابد ان المجتمع كان قد رأى فيه تجسيداً لهذه من الصفات الحسنة ، فكيف يكون كاذبا في هذا الأمر الذي هو أهم الأمور جميعا؟ ولقد كان أهل مكة يأتمنون النبي محمدا على أموالهم حتى بعدما كفروا برسالته.. فبعد ان اضطروه إلى الهجرة إلى المدينة كانت لديه أمانات أمر وصيه الامام عليا عليه السلام بردها لأصحابها.

ولقد كانت قريش أعدى أعدائه وكانت تعترف له بصفة الأمانة. فهذا النضر بن الحارث وقد كان من سادة قريش وأكبر المعارضين للنبي ـ ص ـ وكان يعد من المحنكين في مكة، ألقى يوما خطابا في جمع من الكفار وقال:

(يا معشر قريش انه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم خلقا وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاء بما جاءكم به قلتم ساحر. لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم[121]).

ولم يدع أحد من قريش على النبي محمد ـ صلى الله عليه و آله ـ الكذب والخيانة الا وهو متردد بالرغم من انهم قالوا فيه أعظم من ذلك وأكبر، وكان السبب لتحرزهم عن إتهامه بالكذب أو الخيانة انها كانت تهمة لا تنسجم أبدا مع المشهور من حياة النبي قبل الرسالة. فلنسمع إلى حوار جرى بين هرقل ملك الروم وبعض كفار قريش ـ بعدما تسلم هرقل رسالة من النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها إلى الإسلام ـ فسأل عمن يعرفه من أهل وطنه فجيء إليه ببعض، التجار فسألهم هرقل عمن هو أقربهم نسبا بالرسول.

فقال هرقل: (هل انتم كنتم تتهمونه بالكذب قبل ان يقول ما قال؟).

أبو سفيان: لا.

هرقل: هل يغدر؟

أبو سفيان: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.

هرقل: قد أعرف انه لم يكن يذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وأبو سفيان هذا كان من أبرز المعارضين للرسول الذي قاد حروبا ضارية ضده وألب عليه العرب جميعا ولكنه يقول فيه انه لم يكن كاذبا ويبرر قولته بعدئذ بأنه (والله لولا الحياء من ان يأثروا علي كذبا لكذبت عليه). ان هذا المبرر شاهد على السمعة الطيبة التي أحاطت بالنبي ـ صلى الله عليه و آله ـ وجعلت أعداءه يعترفون ـ رغما منهم ـ بصدقه وأمانته.

وبهذا الدليل يكتشف البروفيسور بورسورت سميت شخصية النبي ـ ص ـ البالغة البهاء والروعة فيقول:

(عندما ألقي نظرة إجمالية استعرض فيها صفاته وبطولاته، ما كان منها في بدء نبوته وما حدث منها فيما بعد، وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة وكم من البطولات المعجزة أحدثوا، أجده أقدس الناس وأعلاهم مرتبة حتى ان الإنسانية لم تعرف له مثيلا).

ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قادرا على إحراز أكبر قدر من السيادة والثروة والرفاهية لأنه كان يتمتع بمركز اجتماعي فريد في قومه بسبب انه من قريش ومن بني هاشم ساداتها التقليديين. وقريش كانت سيدة العرب بسبب حكمها على مكة عاصمة الجزيرة العربية ، وأما الثروة فقد كان يتصرف في أموال زوجته البرة خديجة (ع) التي كانت من أغنى الناس في مكة. وأما من ناحية الرفاهية فقد كان يملك الوداعة والأمن والعيش المناسب لعصره، وفجأة دعى الناس إلى الرسالة الجديدة بعد الأربعين من عمره، و بالضبط حين يذهب عن النفس البشرية طيشها وغرروها ويبدأ المرء يتعقل، وحين كانت التقاليد تقضي لصاحب الأربعين بالتفوق والكمال.. في هذا الحين بالضبط عرض نفسه لأكبر الأخطار وأعظمها إبتداءً من افتقاده سمعته كسيد قريش في المستقبل و تحوله في الاعلام المعادي إلى ساحر ومجنون و.. و..؟ والى ضرب الحصار الاقتصادي عليه في شعب أبي طالب وإلى ان ذهب إلى الطائف فعامله سادتها أسوأ معاملة وقال أحدهم في وجهه مستهزءا: (سوف أمزق ثياب كعبة ان كان الله قد أرسلك نبيا علينا). وقال الآخر: (أما وجد الله أحدا يرسله غيرك). وقال الثالث: (والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من ان أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي ان أكلمك) ثم أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى سقط على صخرة مثخنا بجروح بليغة فلم يدعوه يستريح حتى تابعوه بالحجارة والسب فتابع رحلته إلى خارج الطائف وناجى ربه قائلا: (لك العتبى لك العتبى حتى ترضى) دون ان يبالي بكل ذلك.

أقول لم يكن للرسول أية دوافع شخصية ولا دوافع اجتماعية أو اقتصادية ان يعرض نفسه ومركزه للخطر مبتدءا بافتقاده مركزه الاجتماعي ومرورا بمصائبه الكبيرة في مكة وإنتهاءً بالحروب التي شنت ضده في المدينة. ولم يكن كل ذلك من مثل محمد صلى الله عليه وسلم الا شاهدا كبيرا على صدقه في دعوته وشدة يقينه برسالته. وهكذا نقول بكل تأكيد ان الرسول ذاته دليل رسالته.

ثم ما الذي يدعوه إلى الكذب والخيانة؟ أهو المال؟ وهو الذي رفض العرض المغري الذي قدمه إليه سادة قريش والذي احتوى على أكثر أموال العرب مقابل تنازل الرسول عن دعوته الرسالية. أم هو الجاه؟ وقد عرض عليه ان يسود على العرب جميعا بشرط ان يترك رسالته فرفض. أم كان العيش الرغد؟ وهو الذي اكتفى بأزهد نصيب بين المسلمين وحَمَّل نفسه أشق الأعمال ولم تختلف به الحال منذ ان كان يتيما في حضن عمه والى ان أصبح سيد العرب المطاع، بل زاد رغبة عن الدنيا وزهدا.

وكلمة الخلاصة ان تحليل شخصية الرسول ـ ص ـ يهدي إلى واقع رسالته، فإن طهارة النفس ونقاءها لا تجتمع مع الكذب والخيانة في أمور بسيطة فكيف بالخيانة العظمى المتمثلة في دعوى الرسالة كذبا، ان هذه الرسالة التي يدعيها انما هي من الله إلى البشر جميعا. هذا من ناحية شخصية الرسول التي تدل على صدق رسالته، و هو :

1- رجل واحد يتحدى التاريخ كله والبشر كلهم، ويبعث الإنسان بعثا جديدا في تصوره وسلوكه وأخلاقه، ويكوِّن شخصيات نموذجية لا مثيل لها[122]. ان هذا لم يقع ولن يقع لغير الرسول الصادق المؤيد بالغيب حيث لم يشهد التاريخ إنسانا استطاع توحيد القبائل المتناحرة في وحدة تجعلهم كأنهم بنيان مرصوص، ثم قام ببعثهم إلى العالم حاملين رسالة العدل والحق والسلام إلى كل إنسان في الأرض.

2- إنسان أمي لم يتعلم عند أي فرد ولم يدرس الكتب ولا خط بيديه شيئا. هذا الإنسان ينقلب ـ بعد البعثة مباشرة ـ إلى بحر زاخر من المعارف التي عجزت البشرية عن سبر غورها حتى يوم الناس هذا. هل يكون ذلك الا رسولا صادقا؟

3- ودليل آخر نلمسه في إنقطاعه المديد إلى الله ـ سبحانه ـ وعبادته التي لم يكن لها مثيل، وإلتزامه قبل كل أحد بشريعته التي انزلت عليه ، بل إيجابه على نفسه من فروضها أكثر من أمته ـ كصلاة الليل والتهجد بها ـ وان في ذلك دليلا قويا على صدق دعوته، ولم يكن ليقول ما يقول الا باعتقاد جازم وقناعة شخصية تامة، ذلك مهما استطاع المرء ان يخدع الناس فإنه لا يتمكن من ان يخدع نفسه خداعا يحملها على الأعمال الصعبة دون عقيدة راسخة واخلاص تام.

قال الله سبحانه: [وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطَّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ](العنكبوت 48)، [قُل لوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلآ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ][123] (يونس 16) .

3- المعاجز الخارقة

ما هي المعجزة، وهل يمكن عقلا حدوثها؟

في الكون سنن فطرية تجري وفقها كل الأحداث، فالنار تبعث الحرارة والحرارة تولد الامتداد والامتداد يتسبب في التبخر و.. و.. طائفة من هذه السنن معروفة للإنسان ويستخدمها في صالحه، بيد ان طائفة أخرى منها غير معروفة وهي كبرى الطائفتين، ولا يمكن لذلك استخدامها كما لا يمكن رفضها سلفا.

والمعجزة قد تعني خرق السنن المعروفة بسنن أخرى غير معروفة للبشرية بعد، ويكمن اعجاز المعجزة آنئذ في ان رجلا ساذجا (وأميا في بعض الأحيان) كيف استطاع ان يعرف السنن التي لا يعرف أحد من العلماء شيئا منها. وهذا النوع واقع في حياة الأنبياء عليهم السلام وأبرز الأمثلة عليها بساط سليمان، فإن ركوب الريح سنة فطرية بالرغم من أنها لم تكن معروفة في عهد سليمان عليه السلام. والمثل الآخر معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعتقد البعض انه كان نوعا من المركبات الفضائية التي لم تعرف حتى اليوم خصائصها.

في مثل هذين النموذجين من المعاجز، ان الله سبحانه لا يغير سنن الكون انما يهدي نبيه اليها بشكل معجز ومن دون وسائل مادية.. وقد تعني المعجزة اختراق كافة السنن الفطرية وذلك مثل القرآن الذي لم يوح به بمقتضى سنة فطرية بل خرقا لكافة السنن.. والسؤال هنا هل يمكن حدوث المعجزة؟

لدينا شهادتان على إمكان حدوث المعجزة:

الشهادة الأولى: شهادة الوقوع؛ ذلك اننا لم نعرف إمكانية وقوع أية حادثة الا بعد ان وقعت تلك الحادثة فعلا. فمثلا: إمكانية وقوع أبسط الحقائق وأوضحها وهي نمو البذرة بعد دفنها في التراب، لم نعرفها الا بعد ان عرفنا وقوعها فعلا. فالقول بعدم إمكانيتها غير وارد أصلا. ذلك لأن المعارضة الوحيدة لهذه الإمكانية تأتي من قبل العادة التي تعودنا عليها بالنسبة إلى سائر الحالات، ولكن تلك العادة لم تكتشف واقعيتها الا بتكرار وقوعها فليكن تعودنا على المعجزة سببا من أسباب العادة أيضا.. بل ان تحليل معارفنا يشهد بأن الإنسان لا يزال يعرف قدرا ضئيلا من السنن الكونية ولعله لدى تطور العقلية البشرية من واقعها الضحل إلى مستوى أرفع يتبين أن سنناً أخرى تحكم الحياة جنبا إلى جنب مع السنن المعروفة. فمثلا: نحن ننكر إمكانية المعراج لأنه ينافي معارفنا حول الجاذبية، ولا ننكر إمكانية الصعود إلى القمر لأننا عرفنا ان استخدام الصواريخ والوقاية الكافية و.. و.. يجعل المركبة الفضائية تتحكم بالجاذبية فلا يجري آنئذ قانون الجاذبية في هذه الحالة المعينة ولعله لو تقدم العلم اكتشفنا طريقة أبسط وأسهل للتحكم بالجاذبية التي تجعلنا نطير حول الفضاء دون الإستعانة بالمركبة الموجودة.

وهنالك نعرف ان نسبة معارفنا اليوم إلى معارفنا ذلك اليوم كنسبة معارف القرون الوسطى إلى معارف القرن العشرين، وعندئذ يمكننا التصديق بالمعراج حتى بدون مركبة فضائية.

فالمعجزة ظاهرة تعيش إلى جانب الظواهر الواقعة يوميا. وكما لا يسعنا إزاء هذه الظواهر الا البحث عن سنتها بموضوعية دون ردها سلفا، فكذلك لا يسعنا أمام المعجزة الا البحث عن واقعها دون إنكارها اعتمادا على سائر الظواهر المعروفة.

الشهادة الثانية: وهي تأتي من الإيمان بالقدرة اللامتناهية لخالق الكون سبحانه، الذي لم يعجز عن خلقه بأية صورة شاء، بل جعل الاختلاف في مظاهر القدرة دليلا بارزا على احاطة قدرته لكافة المحتملات. وقد سبق الحديث منا حول ان قدرة الله غير متناهية وان من مظاهر قدرته: إجراء السنن وانه لولا هذا الاجراء لما كان هناك أي تسلسل بين خط الأسباب وخط المسببات.

فهاتان شهادتان دلتانا على إمكانية حدوث المعجزة. بعد هذا نقول: من الشواهد الواضحة على نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الآيات التي أظهرها الله على يديه. وقد ثبت لنا بالنقل المتواتر الذي لا يحتمل الكذب[124] حيث ان المسلمين باختلاف فرقهم وتشتت مذاهبهم أنبأوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه جاء بمئات من المعاجز التي تدل بصفة قاطعة على وجود طائفة منها قطعا.

هذا بالإضافة إلى بعض القرائن الأخرى التي تؤكد ظهور المعجزة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الأمور التالية:

1- ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقص على المسلمين معاجز الأنبياء السابقين وكان يقول ان على النبي صلى الله عليه وسلم ان يأتي بآية بينة لقومه حتى يصدقوه فلو لم يكن يأتي هو لهم بمعاجز كان مكذبا لنفسه إذ كان لقومه ان يقولوا له إذا كنت قد نبأت فعلا وتزعم ان النبي يأتي قومه بالمعاجز فلماذا لم تأتنا بها[125]؟

2- ان القرآن نقل للناس طائفة من معاجز الرسول (ص)؛ مثل محاربة الملائكة معه يوم بدر، وإخباره بالغيب كفتح مكة، والتغلب على ملك الفرس والروم وما أشبه.. ولو كان كاذبا في نقله إذا لكذبه الكفار فورا[126].

3- المعهود من أقوال الكفار المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم انهم كانوا ينسبونه إلى السحر، وقد قص لنا القرآن ذلك نقلا عنهم فقال: [وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِاَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ](الأنعام 7) ولابد انهم شاهدوا منه ما يتشابه والسحر في اعينهم فنسبوه إليه، جهلا منهم بواقع السحر والفرق بينه وبين المعجزة.. في حين ان الفارق بين السحر والمعجزة كبير ويكمن في ثلاثة أمور:

الأول: ان السحر يحتاج إلى تعلم والمعجزة تأتي موهبة من عند الله، ولذلك فإن الساحر لا يكون ساحرا الا بعد سنين من الدراسة المرهقة، أما الرسول فإنه تصدر منه المعجزة بغير تعلم. والساحر لا يعرف الا نوعا خاصا من السحر بعد ان يتقن معرفته في حين يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من القيام بعدة معاجز مختلفة نوعا في وقت واحد؛ فمن شق القمر إلى تسبيح الحصى إلى انقلاب الجذع نخلة باسقة.

الثاني: ان السحر يأتي باختيار الساحر وإرادته بينما لا يأتي الاعجاز الا بإرادة الله سبحانه، ولذلك فإن السحر قد يأتي مؤيدا للحق وقد يأتي مخالفا له، أما المعجز فلا يقع إلا موافقا للحق، وللحكمة التي ترشد إليها الرؤية الصائبة وفي سبيل الاصلاح.

وبكلمة: ان السحر يستخدم في المطامع والاهواء بعكس المعجزة، التي لا يمكن استخدامها الا في سبيل الخير ولا يؤتى بها الا بإرادة الله. ومن هنا كان الكفار يطالبون الأنبياء (ع) بالمعجزة في بعض الأحيان، ولا يستجيب لهم الأنبياء (ع) قائلين: ان ليس لهم من الأمر شيء بل ان يشاء الله نزل عليهم آياته في حين كان هوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقا مع إبداء الآية ـ بحسب الظاهر ـ ولكن حيث ان الحكمة لم تكن مع ابدائها لم يكن الله تعالى يبعثها. وأوضح شاهد على ذلك قصة موسى (ع) مع السحرة إذ لم ياذن الله لموسى بالقاء عصاه الا بعد ان امتلأ رعبا وخاف ان لا يؤمن الكفار وكان في ذلك دليل على ان موسى عليه السلام لم يكن بذاته قادرا على إحداث الخارقة بل بإذن الله، حيث ان السحر يؤثر في إطار محدود بينما المعجزة لا تتحدد بإطار. فالساحر ـ مثلا ـ لا يتمكن من احياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص أو قلب العصى الصغيرة إلى ثعبان مبين يلقف الحبال ثم يرجع إلى اصله وكأن شيئا لم يكن، أو خلق طوفان يملأ الأرض ماء، إن الساحر لا يفعل مثل هذه وقد فعلها الأنبياء عليهم السلام.

الثالث: بل لعل السحر لا يتمكن من البناء بل على الهدم فقط بينما يستطيع النبي ان يبني كما يستطيع ان يهدم بالمعجزة . فالساحر قد يتمكن من ان يجعل شجرة باسقة أعوادا يابسة ولكنه لا يجعل العود اليابس شجرة باسقة. واما المعجزة فإنها التي تجعل من الجذعة الذابلة نخلة تساقط رطبا جنيا. الساحر يمكن ان يجعل الناس فرقا شيعا ولكن لا يستطيع ان يؤلف قلوبهم كانهم بنيان مرصوص ويبعثهم أمة وسطا. السحر قد يجعل الأمة القوية شعبا مستضعفاً ولكنه لا يتمكن من ان يفعل خلاف ذلك – كما تفعل المعجزة- فتبدل الشعب المستضعف امة قوية. السحر قد يجعل من النظام فوضى ولكن لا يخلق من الفوضى نظاما يبهر العقول.

إذا فهناك فروق أساسية بين السحر والمعجزة نابعة من مصدر السحر الذي لا يعدو ان يكون استخدام بعض السنن الخفية بعد دراستها واتقانها. ثم يكون استخدام الساحر الذي يتأثر بالضعف البشري فيستخدم ذلك في الغالب فيما يضر الناس دون ما ينفعهم. وعلى ذلك نعرف ان انكار الكفار المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاته واتهامه بالسحر لم يكن الا خلطا ساذجا بين معطيات السحر والمعجزة، لجهلهم أو استكبارهم عن الحق.. فإذا عرفنا نحن ان ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من السحر علمنا انه كان معجزة فكان كلام الكفار دليلا على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وثبوت المعجزة له.

الكتاب المعجزة

القرآن هي المعجزة التي تبقى دليلا واضحا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مدى الدهر.. رجل أمي -عرفه معاصروه انه لا يقرأ ولا يكتب - يأتي بكتاب مفصل فيه علم كل شيء، بلغ في الفصاحة والبلاغة الذروة، وضرب في الأسلوب والمحتوى أرقى رقم يقاس، ثم يتحدى به العالم كله ويقول لهم – بأعلى صوت- [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَآءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ](البقرة 23).. ثم يقول: [... لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً](الأسراء 88).

القرآن يتحدى العالم..

ان مجرد التحدي من رجل أمي في الجزيرة العربية لشهادة كبيرة على ان صاحبه ليس برجل عادي، لاسيما وأن هذا التحدي لازم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية حياته حيث لاحظ حضارات البشرية عن كثب وعرف أبعاد ما فيها، وقد عجزت البشرية رغم تكاثر الأعداء الألداء، عجزت حتى عن محاولة التحدي المضاد.

وفي بداية البعثة، زعم بعض العرب المغرورين بفصاحتهم؛ انهم قادرون على التحدي المضاد، الا انهم سرعان ما اكتشفوا ضلالهم البعيد.

فالشاعر العربي (بشير) الشهير ببلاغته قال أبياتا زعم أنها أفصح من القرآن فعلقها على الكعبة، ولم يكن يعلق عليها الا شعر أفصح العرب، ولما رأى المسلمون اعجاب (بشير) بأشعاره كتبوا بعض آيات القرآن وعلقوها إلى جنب أشعار بشير، فلما مر بها بشير أبهرته قوة البلاغة في القرآن وهتف قائلا: والله ما هذا بقول بشر وأنا من المسلمين.

وبعد قرن من بزوغ الإسلام زعم بعض المنافقين ان الوقت حان للإجابة على تحدي القرآن فاتصل بالأديب العربي الشهير (بن المقفع) الذي أغرته ثقافته الفارسية الفلسفية الواسعة فقبل الدعوة إلى التحدي المضاد ولكنه اشترط على صاحبه المقترح ان يتكفل له بما يحتاج إليه خلال سنة، وهي المدة التي زعم انه قادر على انجاز مهمته فيها، ولما مضى نصف عام عاد إليه صاحبه ليعرف مراحل العمل في مواجهة تحدي القرآن فوجده جالسا والقلم يرتعش بين أصابعه وقصاصات الورق تتناثر من حوله، فاعترف بأنه قد أصيب بفشل ذريع في محاولته هذه رغم ما بذله من جهود جبارة إذ انه لم يستطع ان يأتي بآية واحدة من طراز القرآن..

ولسنا بحاجة إلى ذكر المزيد من القصص التاريخية بعد ان اعترف بعظمة القرآن كل من تدبر فيه. ولم يظهر حتى الآن من نجح في صياغة آية واحدة ـ ولو بصورة تقليدية ـ كآيات القرآن الحكيمة، وان أغمضنا النظر عن تحدي القرآن فإن ذاته يدل على صدق هذا الكتاب الذي ظاهره أنيق وباطنه عميق، ظاهره حكم وباطنه علم، قيم لا عوج فيه، حق لا باطل معه، لا تختلف أحكامه ولا تتناقض مبادؤه ولا تتعارض أصوله وفروعه ومفاهيمه وأحكامه.

هذا الكتاب الذي بهر البلغاء فرفعت اعلام الاستسلام واستهوى العالم كله، فظل يستلهم منه طيلة أربعة عشر قرنا فلم تبل عجائبه ولم تخلق نضارته بل جاء كل جيل فاقتبس من نوره واهتدى بهداه وذهب ليستخلفه الجيل الثاني في ذلك دون ان يؤثر تطور الحياة وتقدم العلوم واختلاف الزمن شيئا في عظمته وأهميته. هذا الكتاب يأتيه رجل أمي محض، أليس في هذا معجزة دونها معاجز الأنبياء عليهم السلام.

أين معجزة القرآن؟

القرآن معجزة لاشك في ذلك، إذ لو لم يكن معجزة إذا لاستطاع البشر ان يأتوا بمثله وقد تحداهم جميعا من أول يوم وإذا كان يشبه كتب البشر في شيء واحد بينما يختلف عنها في كل شيء فلا يكون الا معجزة ولكن أين من القرآن المعجزة؟ في أية ميزة منه اختبأت المعجزة؟ في الجواب نقول:

أ- قد احتوت آياته على علوم لم يعهدها البشر ذلك اليوم واكتشفها عصر النور.. فبالرغم من ان رموز القرآن لم تحل بصورة دقيقة نظرا لضحالة معارف الإنسان، فإن آيات قرآنية كثيرة اشارت إلى حقائق علمية لم تعرف الا منذ زمن قريب. وان مقارنة القرآن في هذا الحقل بأي كتاب تاريخي يظهر لنا بوضوح مدى الفرق بين كتاب البشر وكتاب الخالق الأبدي الذي لا يمكن ان يتجاوزه الزمن، أنى سارع في مسيرته. بل انه يبقى أبدا أمام الاكتشافات، فيعود الإنسان إليه كلما عرف سرا ليجد به إشارة بارزة إليه حتى انه يعتقد بيقين ان القرآن يحتوي على العلم كله.. ونحن إذ نذكر بضعة أمثلة فإنها ليست سوى طليعة الشواهد العلمية التي تتلاحق لتكشف عن إعجاز القرآن:

1- لقد اكتشف العلم ان المادة كانت جامدة وساكنة وحدث فيها انفجار هائل قبل خمسة ملايين مليون سنة فبدأت المادة تتمدد حتى ان دائرة المادة كانت ألف مليون سنة ضوئية وأصبحت الآن عشرة أمثال ذلك. وهكذا تتوسع المادة الا انها كلما توسعت كلما كثر بداخلها الفضاء الخالي حتى انه لو طوينا الكون بحيث لم يبق فيه فضاء خال تضاءل الكون حتى أصبح كحجم الشمس بضعة عشرة مرة. أليست تدل هذه الكشوف العلمية تدل على بضع رموز الآيتين الكريمتين:

أ- [أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا](الأنبياء 30).

هل هناك تعبير أفصح من تعبير الرتق والفتق تكشف عن هذه الحائق؟

ب- [يَوْمَ نَطْوِي السَّمآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ](الأنبياء 104).

أليس الطي أصدق تعبير لاخلاء المادة عن الفضاء؟.

2- من المفهوم لدى العلماء اليوم ان المادة الخفيفة وزنا ارتفعت على سطح الأرض وكانت الجبال، وبقيت المادة الثقيلة مكانها فكانت البحار، واستطاع ارتفاع مكان وانخفاض آخر ان يحافظ على توازن الأرض والا لمادت بأهلها. هذه الحقيقة، الا ترى دلت عليها الآية التالية بأبلغ تعبير: [وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ](لقمان 10).

3- وتتفق نظريات علماء الجغرافيا والنبات وغيرهم على ان الأرض كانت متمركزة في البدء ثم انتشرت. وهذه تتفق تماما مع كلمة (دحو) التي استعملتها آية قرآنية عند بيان بداية الأرض، ذلك لأن (الدحو) تعني التسوية في الانتشار من مكان تتجمع فيه المادة.

قال الله تعالى: [وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا](النازعات 30/31).

وكفى بهذه الأدلة دليلا على مدى الانسجام بين آيات الكتاب وكشوفات العلم الحديث وهي مقتبسة من موضوع تكون المادة فقط.. وفي سائر المواضيع شواهد أكبر وأكثر.

ب- والقرآن ليس فيه اختلاف بين المبدأ والشريعة والأخلاق الذي نجده في المبادئ الأخرى. فالقرآن مثلا يقر مبدأ التوحيد ثم لا يشذ عنه في صغير أو كبير، بل يصدر عنه كل شيء، بعكس المبدأ الماركسي – مثلا – فإنه يتبنى مبدأ في الفلسفة يناقضه في التشريع أو في الأخلاق.

ج- وهو أفصح ما عهده العرب وأبلغ ما عهده الإنسان من ألفاظ وتراكيب، ولذلك أنزلت العرب معلقاتها العشرة الفصيحة عندما نزلت بعض الآيات، قائلين انها سوف تفضحنا لأنها من قبيل وضع الحصى في عرض الأحجار الكريمة.

د- وأعتقد ان أهم ما في القرآن هي معارفه التي حلت للناس كل مشاكلهم الفكرية والتي عجزت عن حلها البشرية جميعا. والقرآن نفسه يذكر ان سر عظمته بالدرجة الأولى هي معارفه فيقول: [يَآ أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ](يونس 57).. يظهر من هذه الآية ان شفاء ما في الصدور والهدى هي السمه الكبرى الموجودة في القرآن وهي مرتبطة بظاهرة كشف الحقائق في القرآن. ومن هنا فقد تحدى القرآن بتلك المعارف البشر جميعا، لا العرب وحدهم.

تبشير الكتب المنزلة

وحجة أخرى على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بشارة الكتب السماوية به. يمكننا معرفة هذه البشارة بطرق ثلاثة:

الأول: لقد ذكر القرآن في عدة آيات ان الأنبياء السابقين قد بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال سبحانه [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ](الأعراف 157) .. ولعن الأحبار والقسيسين الذين كتموا الحق بالبشارة به صلى الله عليه وآله وسلم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ](البقرة 159) وقال في سياق الحديث عن رسالة النبي عيسى(ع) انه كان يبشر بنبي يأتي من بعده فلو لم يكن الرسول صادقا في قوله انه قد بشرت به الكتب السماوية السابقة، إذن لكان يكذبه اليهود والنصارى مع انا لا نعهد منهم ذلك أبدا. بل كل ما في الأمر انهم قالوا -استكبارا عن الحق- ان الرسول الذي وصف في الكتاب انما يأتي بعد قرن من تاريخ بعثة الرسول وأظهرت الأيام كذبهم؛ ولم يكن ذلك الا من بعضهم، اما الآخرون فإنهم آمنوا به اعتمادا على الأوصاف التي اعتقدوا بأنها ظاهرة في الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط.

والخلاصة: ان الرسول ادعى انه المبشر الموعود في الكتب السابقة، وحيث لم ينكر ذلك أحد من معاصريه عرفنا انه كان صادقا في هذه الدعوى.

الثاني: القدر الموجود بأيدينا من الكتب السماوية تتضمن، على الرغم من كثرة التحريف فيها بأيدي المعاندين للرسالة الجديدة الذين هددت الرسالة مصالحهم الشخصية؛ على الرغم من كل ذلك فإن الكتب السماوية الموجودة لا تزال تحتوي على بشائر كثيرة بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإليك طائفة منها:

1- في انجيل برنابا؛ الفصل الثاني بعد الأربعين: (ولا أحسب نفسي كالذي تتحدثون عنه، ذلك لأني لا أليق أن أحل سير رسول الله الذين تسمونه (مسبأ) الذي خلق قبلي وسيبعث قريبا وسيأتي بكلام الحق والذي ليس لدينه نهاية).

2- (وذلك لأن الله قد وعد إبراهيم ان يبعث من ذريته من يبارك به جميع قبائل الأرض وكما حطمت الأصنام فسوف يحطم ابنك جميع الأصنام).

3- وفي التوراة - السفر الأول، الباب الرابع عشر، الآية 20-: (وفي خصوص اسماعيل أجبت على دعوتك وباركت في نسله ويظهر منه اثني عشر رئيسا وسوف يأتي من قبله شعب عظيم).

4- وفي نفس الفصل ذكر ما نذكر فيما يلي نصه وترجمته: وهمفريتي اتو = (واجعله محظوظا وفيرا)، وهريتي اتو = (وأجعله كثيرا)، بمئد بمئد = (بسبب محمد)، شنم عاسار = (اثني عشر)، نسئيم بوليد = (إماما يولده)، وانشتيوا لفهي كادول = (وأجعله أمة كبيرة)[127].

5- وفي التوارة، السفر الخامس، الباب الثامن، الآية 18-: (وقال لي الرب ما قيل لك حسنا سأبعث لهم نبيا من أخوتهم بني اسماعيل) ولم يدع منهم النبوة أحد سوى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو إذا المقصود بهذا النص.

6- وفي التوراة أيضا – السفر الخامس، الباب الثالث والثلاثين، الآية 21: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى بني إسرائيل قبل وفاته قال: جاء يهوى عن سيناء - وهو الوادي الذي بعث به موسى عليه السلام - وطلع لهم من ساعير - وهو مبعث عيسى عليه السلام - واستنار من جبل فاران - وهي مكة المكرمة-) .. والواضح انه لم يبعث من جبال مكة الا النبي محمد (ص).

وهناك طائفة كبيرة أخرى من النصوص التبشيرية نتركها للإيجاز.

الثالث: المناظرات؛ وثالث ما نستكشف به البشارات الموجودة في الكتب السابقة ببعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو ما ذكرت في المناظرات التي جرت بين علماء المسلمين وبين علماء اليهود والنصارى.. وبما إننا عرفنا من الرواة الناقلين لهذه المناظرات الصدق والضبط بطرق فنية دقيقة فإن هذه المناظرات معتمدة لدينا كما هي معتمدة لدى جميع العقلاء على أصلهم الثابت من الاعتماد على كل ما يفيد ثقة واطمئنانا نفسيا. ونحن فيما يلي نستعرض مناظرة واحدة فقط اختصارا للحديث، وهي المناظرة التي جرت بين الإمام الرضا (ع) وبين كبير علماء اليهود والنصارى.

قال عليه السلام لجاثليق – كبير علماء النصارى- : ( فأقسمت عليك هل نطق الانجيل ان يوحنا قال: ان المسيح عليه السلام اخبرني بدين محمد العربي (ص)، وبشرني به انه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟

قال جاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح (ع) و بشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ولم يخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.

قال عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرء الانجيل فتلى عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال جاثليق: سديدا (أي نعم بالتأكيد).

قال الرضا (ع): لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الانجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت الرضا (ع) إلى رأس الجالوت، وكان عالما يهوديا: ألست تقرأ الانجيل؟

قال راس الجالوت: بلى لعمري.

قال عليه السلام: فخذ عليَّ السفر الثالث (فقرأ الإمام فقرات منه حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقف ثم قال): يا نصراني اني أسالك بحق المسيح وأمه أتعلم إني عالم بالإنجيل؟

قال: نعم.

ثم تلا عليه ذكر محمد وأهل بيته وأمته.. ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم (ع) فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبتَ موسى وعيسى[128]؟

ثم إلتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت اليهودي فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي انزلت على موسى بن عمران، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: (إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد فليفزع بنوا إسرائيل اليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض) أهكذا هو في التوراة مكتوب؟

قال رأس الجالوت: نعم انا لنجده كذلك[129].

ان هذه الحادثة التاريخية التي أثبتتها كتب الحديث المضبوطة تدل على ان علماء أهل الكتاب لم يكن يمنعهم انكار البشارة بالرسول، حتى في أواسط القرن الثاني من الهجرة، والواقع ان علماء بني إسرائيل كانوا يقولون ان البشارة موجودة ولكنها تختص بمن يأتي بعد قرن من بعثة الرسول ولكنه لم يأت.

شهادة الله

لقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم كل البشر بما لهم من مبادئ وأفكار وبما ينتحلون من شرائع وأديان، تحداهم في أكثر من آية وأكثر من مشهد بأن الله شهيد بيني وبينكم.. قال الله في كتابه العزيز: [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ](الأنعام 19)… [وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ](الرعد 43)..

ما هي هذه الشهادة وكيف يشهد الله على صدق نبوة محمد (ص)؟ ان الله يشهد من عدة طرق:

1- استجابة الدعاء لكل من توسل إلى الله بالنبي وآله صلى الله عليه وسلم مما يدل على إخلاصهم لله..

2- ونصرة الله لمن يؤمن بشريعة الرسول ويتمسك بها تماما.

3- مضافا إلى هاتين الشهادتين هناك نوع آخر من الشهادة هي: ان من يؤمن بالله إيمانا حقيقيا يجد نفسه أمام أسلوب جديد للتفكير، ومنهج جديد للسلوك، وقيم جديدة للأخلاق، ثم يجد نفس ذلك الأسلوب والمنهج والقيم موجودة في شريعة الرسول فيعلم انها من عند الله وإليك مثلا لذلك: من عرف الله بقلبه صدقا وعدلا، يعرف ان الأشياء تأتي من الله وإلى الله تعود، وان خير الأعمال هي التي تقربه إلى الله زلفى، وخير الأخلاق ما تطهره من الهوى والغضب، ويشهد على هذه الحقائق وجدان كل من باشر بقلبه حقيقة الإيمان. فإذا وجد في الإسلام وفي شخص الرسول نفس هذا الاتجاه وهذا الأسلوب عرف انه من عند الله تعالى يقينا.. ثم ان من آمن بشريعة الرسول واستشعر قلبه التقوى دنى إلى الله أكثر فأكثر حتى انه يرى الله بنور الإيمان، فيعرف ان دعوة الرسول كانت صادقة ويكون مثل الدين بالنسبة إليه مثل من هُدي إلى طريق وقيل له انه يبلغ بالفرد إلى بلد معين، ثم سلكه فوصل إليه فعلا. فلا تبقى لديه أية ريبة بالنسبة إلى صدق الهادي.

=======================

البحث الثالث عن: الولاية[130]

(1)

الحاجة إلى الإمام

كما لا تكمل الرسالة بدون الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك لا تتم الشريعة بدون إمام. ذلك لأن طبيعة البشر تهوي به إلى أسفل ولا يكفيها وجود شريعة محفوظة في الأسفار، بل لابد من تجسيد تلك الشريعة في إنسان يتمتع بتفوق تشريعي يعطيه صلاحية تطبيق الشريعة على الناس، إذ لابد لكل قانون من مطبق نافذ الكلمة والا عاد القانون حبرا على ورق.

ولقد شاء الله تبارك وتعالى ان يسعد الإنسان في الحياة بدون ان يضطره إلى ذلك فيسلبه كرامته وحريته، إذ أنهما أعز على الإنسان حتى من السعادة ذاتها. وهكذا كان ينبغي عليه ان يوفر له كل وسائل السعادة حتى إذا شاء أخذ بها، فشرع له الشرائع وعبَّد له المناهج، ثم بعث رسولا يبين له وينذره ويبشره ويدعوه إلى تطبيق ذلك ويشرف على تنفيذه، وكان عليه لهذه الناحية ان لا يترك الخلق فوضى دون منفذ للشريعة بعد الرسول (ص)، بل كان ينبغي ان يعين لهم أئمة يتمتعون بما يتمتع به الرسول من صلاحيات، ويقومون بما يقوم به الرسول من مهمات. كل ذلك إتماما للنعمة وتحقيقا للحكمة وتوفيرا لوسائل السعادة التي هي الهدف النهائي لحياة الإنسان. ولكن كما لم يشأ الله ان يُكرِه الناس على الهدى في عهد الرسول إبقاءا لهم على النعمة الكبرى الموهوبة لهم، وهي نعمة الحرية؛ فكذلك لم يشأ ان يجبرهم على اتباع الإمام جبرا. وهكذا أبقى على الإمام الأخير صاحب الزمان (عجل الله فرجه) إتماما لحجته على خلقه وتوفيرا لمنتهى ما يمكنهم ان يبلغوه من سعادة الدنيا والآخرة. غير ان الحكام شردوا الأئمة عليهم السلام وقتلوهم وأزالوهم عن مراتبهم ولم يستفيدوا من علومهم وكفاءاتهم، فكان مثل الأئمة بينهم كمثل سراج يطفئه طاغية فلا يستفيد منه الناس.

هذا موجز الحديث عن فلسفة الإمامة عند الشيعة وان من يستوعبها يتمكن من رد الشبهات التي تلوكها ألسنة البسطاء والتي تتلخص في الأمور التالية:

يقولون: ألم يكف الناس كتاب الله وفيه علم كل شيء؟

نقول: إذاً فماذا كان السبب في ان يبعث الله أنبياء ان كان يكفي الناس نزول الكتاب في قرطاس؟ ان الحاجة إلى وجود مبلغ للرسالة هي الحاجة إلى وجود منفذ للشريعة وهو الإمام.

يقولون: إذا فلماذا لم ينصر الله الأئمة بالغيب؟

نقول: لأنه شاء ان يجعل الدنيا دار بلاء يعمل الناس فيها بحريتهم تماما كما ان كثيرا من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لم يرد الله إجبار أممهم على اتباعهم!

يقولون: فما هي فائدة إمام غائب؟

نقول: مثله مثل طبيب لا يدعوه الناس إلى مرضاهم، الذنب ذنب الحكام الطغاة الذين تسببوا في غيبته. اما الله فقد اتم نعمته باصطفائه الإمام. وان هناك ظهورا ينتظره القدر حيث يعود الإمام (عج) إلى المسرح لكي يطبق أحكام الله جميعا وهي فائدة كبيرة.. ونظرا لأهمية الحديث يجب ان نفصل وجوه الحاجة إلى الإمام ضمن بضعة نقاط، وقبل التفصيل لابد ان نعلم ان الحاجات تنبعث من منطلق واحد هو ان الله خلق في الإنسان الكفاءة التامة لبلوغ أسمى درجات الفلاح في الدنيا والآخرة، وانجاز هذه الكفاءة يتوقف على وجود الحجة الذي يأخذ بيد من يشاء ويبلغه الفلاح المتوخى فلو لم يجعل الله حجة لخلقه إذاً لكانت هذه الكفاءة لغوا تعالى الله عنه.

1- الولاية لله:

ان الله هو الحاكم المطلق الذي لا يحق لأحد ان يشرع للخلق من دونه في قليل أو كثير. وبما انه أجل من أن يباشر الخلق بالهداية والتشريع فإنه يبعث أنبياء يهدونهم ويبلغونهم رسالاته. وبما ان من الواضح ان المسلمين لم يبلغوا بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم درجة من النضج الفكري والرشد الاجتماعي، وأخيراً لم يتقمصوا الشريعة الإسلامية بصورة كاملة لا علما ولا عملا، لما دل على ذلك من اختلافهم الواسع في الأحكام والمعارف الإسلامية، لزم ان يكون لهم امام معصوم من بعد الرسول يقوم ببيان الأحكام وشرح المعارف حتى يكتمل نضج طائفة طليعية في الأمة تستمر بها الأمة مدى الدهر محتفظة بالروح الإسلامية الكاملة. هذا من جانب ومن جانب آخر لزم ان يكون لهم من يُجري عليهم الأحكام حتى لا تضيع الرسالة في زحمة الأهواء المادية. والحديث التالي يشير إلى هذه الحقيقة إذ يقول الإمام الرضا (ع): (فإن قال قائل: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل لعلل كثيرة منها: ان الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم الا بان يجعل عليهم فيه أمينا، يأخذهم بالوقف عندما أبيح لهم، ويمنعهم من التعدي والدخول فيما خطر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام)[131].

القيادة ضرورة أبدا

هل الأمة بحاجة إلى قيادة ؟

لأن كانت هذه الحقيقة موضوع نقاش حينما قالت طائفة الخوارج بعدم حاجة المجتمع إلى قيادة، أو عندما قالت الفوضوية بذلك، فإنها غير واردة أبدا اليوم، إذ لم يعد هناك أي إنسان يشك في ضرورة القيادة للإنسان، والتاريخ لم يهدنا إلى مثال واحد استغنى فيه المجتمع عن القيادة.. ومن هنا وجب على الإسلام أيضا ان يعين القيادة الصالحة.

وبما ان الدين الإسلامي أتم الشرائع، كان لابد ان تكون قيادته بمستواه، وهل يتحقق ذلك في غير الإمام المعصوم وهو أعلم أهل عصره وأتقاهم؟

والخلاصة: ان المجتمع بحاجة إلى القيادة، وخير القادة المعصوم العالم المؤيد من قبل الله تعالى، فكان من حكمة الله ورحمته ان يعين للمسلمين هذه القيادة التي تتمثل في الإمام عليه السلام.

الحديث التالي عن الفضل بن شاذان يوضح هذه النقطة: (انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا بقيم ورئيس لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لابد لهم منه ولا قوام لهم الا به فيقاتلون به عدوهم ويقيمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم)[132].

الإسلام رسالة خالدة

علم الله من خلقه انهم لو تركوا وشأنهم لبدلوا السنن وأظهروا البدع ولم يدعوا للأجيال القادمة فرصة السعادة بالدين المبين، فلزم ان يجعل لهم من يحفظ السنة ويمحق البدعة. وإذ كان الإسلام رسالة خالدة فكان لابد ان يوفر الله الوسائل الممكنة لبقائها عبر الأجيال نقية صافية.

قال الإمام الرضا عليه السلام: انه لو لم يجعل لهم (أي للخلق) إماما قيما حافظا مستودعا، لدُرست الملة وذهب الدين، وغُيرت السنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبَّهوا ذلك على المسلمين، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بينا، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلقُ أجمعين[133].

لكي تتبين الشرائع

هناك طائفة كبيرة من الشرائع والأحكام تُبيَّن في الكتاب والسنة، أما الكتاب فبسبب احتوائه على المتشابهات وعدم وجود تفسير صحيح لها. وأما السنة فلعدم وجود كل ما يحتاج إليه الناس فيها، ولبعد الناس عنها، وقلة الثقاة، وكثرة المحرفين ذوي الميول والأهواء المختلفة، كل هذا مضافا إلى كثرة الاشتباه في الموضوعات الخارجية وتطبيق الأحكام العامة عليها. ولذا احتاج الناس إلى إمام عالم معصوم لبيان الأحكام وتوضيح المتشابهات، قال الإمام الصادق (ع): (لم يترك الله الأرض بغير عالم يحتاج الناس إليه ولا يحتاج اليهم.. يعلم الحلال والحرام)[134].

التذكرة بالآخرة

الدنيا قريبة إلى حواس الناس بينما الآخرة بعيدة عنها، وأكثر الناس تغرهم الدنيا فينسون ذكر ربهم ويغفلون عن الآخرة.. اذاً فلابد لهم من داع يذكرهم بها، ذلك لأن الآخرة حق وفي نسيانها الشقاء العظيم!

جاء في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام: (ان الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. ان الامامة رأس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. والإمام يحلل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. ثم يضيف الامام في مقطع آخر من نفس الرواية: ( عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله)[135].

مرجع الأمة

لابد للناس من مرجع ينتهي إليه كل خلاف.. ذلك ان الناس لا يزالون مختلفين في كل الأمور وهذا الخلاف يؤدي بهم إلى الشقاء الدائم. فلولا ان الله يصطفي من عباده من يحسم لهم الخلاف، فقد كان يقتضي سلب الناس سعادتهم بدوام الخلاف بينهم واقتضى ذلك ان يقض غرضه الذي خلق لأجله الناس وهو الفلاح، وتعالى الله الحكيم ان يفعل شيئا لغاية محددة ثم لا يوفر الوسائل التي تحققها؛ أعجزا ام جهلا ام ظلما؟ سبحانه و تعالى عن ذلك.

جاء في حوار بين أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) وكان يدعى بهشام، ورجل شامي وذلك في حضور الإمام (ع):

قال هشام: فبعد رسول الله من؟

قال الشامي: الكتاب والسنة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه حتى رفع عنا الاختلاف و مكّننا من الاتفاق؟.

قال الشامي: نعم.

قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا؟

فسكت الشامي.

فقال أبو عبد الله (ع) للشامي: مالك لا تتكلم؟

قال الشامي: ان قلت إنا ما اختلفنا كابرتُ، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجه. وان قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذاً الكتاب والسنة.. ولكن لي عليه مثل ذلك.

فقال ابو عبد الله (ع): سله تجده مليا[136].

فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق، ربهم ام أنفسهم؟

فقال هشام: بل ربهم أنظر لهم.

فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم و يرفع اختلافهم ، و يبيِّن لهم حقهم من باطلهم؟

قال هشام:نعم.

قال الشامي: من هو؟

قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، و أما بعد النبي فغيره.

قال الشامي: من هو غير النبي القائم مقامه في حجّته؟

قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله؟

قال الشامي: بل في وقتنا هذا.

قال هشام: هذا الجالس (يعني أبا عبد الله عليه السلام) الذي نشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد.

قال الشامي: فكيف لي ان أعلم ذلك؟

قال هشام: سله عما بدا لك.

قال الشامي: قطعت عذري[137].

الإمامة ضرورة حضارية

ان أبسط تعريف للإنسان وأشمله هو: ان الإنسان خلق حضاريا. وهذا يعني امتلاكه لمؤهلات الحضارة.. وليست الحضارة سوى القدرة على التحكم في الذات.

ولا ريب في ان كل إنسان يجد أمامه آفاقا واسعة يستطيع الانطلاق فيها إلى أسمى مراتب الضبط الذاتي.. ولو فتشنا التاريخ لوجدنا ان قفزاته التقدمية كانت نتيجة البطولات السامية التي تتمتع بها فئة قليلة من بني آدم، ولم يكن الآخرون الا مجرد اتباع اقتفوا آثار البطولات تلك.. فلولا تلك البطولات إذاً لكان يلف التاريخ ظلام كثيف. وأحداث التاريخ تدل على ان أعظم أولئك الرجال هم المؤيدون بالغيب. فلم يشهد التاريخ من استطاع ان يزكي الناس ويربيهم بسيرته المشرقة سوى الأنبياء ومن إتبعهم.

وهكذا كان مقتضى النظام الكوني الذي يتمتع بالدقة المتناهية ألاّ يدع مدبرها الإنسان الذي جُعِلت فيه مؤهلات التقدم الحضاري يعيش الهمجية دون ان يبعث إليه المزيد من هؤلاء الرجال الافذاذ الذين يعلمون الناس بسيرتهم الشخصية كيف يمكن لهم ان يبلغوا المجد الرفيع، وهذا التعليم العملي يُدعى في منطق الشريعة بالحجة، إذ ان هؤلاء سيكونون دليلا واقعيا على إمكانية التقدم الحضاري.

والخلاصة: لابد للناس ممن يربيهم على الضبط الذاتي والأخلاق الحضارية، ولابد ان يتفوق هذا الرجل علما وعملا ويبلغ في ذلك المنتهى، ولا يكون ذلك الا لمن عصمه الله. فلزم ان يبعث الله من خلقه مِن يربيهم، فبعث الأنبياء في حينه وجعل من بعدهم حججا يمثلونهم وهم الأئمة المعصومون (ع) ويحتج الله يوم القيامة بهم على خلقه. فإن قال أحد منهم لم أتمكن، قال له: كيف استطاع هذا الرجل وهو بشر مثلكم ان يقوم بما هو أهم من هذا؟ إذاً فإن وجود نموذج بشري يمثل قمة الحياة الحضارية السامية ضرورة إنسانية لا يمكن ان يتخلف عنها نظام الخلق الدقيق الحكيم!

قال الإمام الصادق (ع): يا هشام يحتج الله تعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون اليه[138]؟! (أي لا يمكن ذلك أبدا بل يجب ان يكون الحجة قمة الفضيلة والمعرفة.. ).

الإمام من يعينه؟

هل يعين الله الإمام أم الناس أنفسهم؟

من الواضح ان الذي يُعين لتنفيذ النظام ينبغي ان يكون عالما به مطبقا له، وان الذي يُبعث لكي يربي الإنسان حضاريا وخلقيا، يجب ان يكون زكي النفس طاهر القلب وأسمى حضاريا من كل الناس.. وان الذي يُصطفى ليكون مرجعا لخلافات البشر في أمور الدين والدنيا، يجب ان يتفوق عليهم بالعلم والتقوى لكي لا يُختلف فيه بدلا عن أن يُختلف إليه. وان الذي يعلم الناس المعارف ويذكرهم بربهم والدار الآخرة وينشر العدالة بينهم، يجب ان يكون أعلم الناس وأتقاهم وأعبدهم وأكثرهم ذكرا لله. وان الذي يقود أمة الإسلام في جمعتهم وجماعتهم وسياستهم الخارجية والداخلية، يجب ان يكون أعدل الأمة وأعلمها.

وبصورة موجزة ان الذي يقوم بتغطية حاجات المجتمع المسلم، يجب ان يكون بحيث يستطيع ان يسوق الإنسان إلى السعادة التي خلق من أجلها البشر، ولا يمكن للبشر أنفسهم ان يصطفوا هكذا إنسان لعدة أسباب:

1- لأنهم لا يستطيعون معرفة هكذا إنسان، بل قد يخيل اليهم أن رجلا أعلم واتقى وهو بالتالي أحرى بالإمامة، ثم لا يكون فيه أدنى جدارة.

2- ولو عرفوه لما قاموا باصطفائه و اختياره، لأن الناس ينظرون إلى الزعماء من زواياهم الخاصة وحسب شهواتهم ومصالحهم فلذلك يختلفون في اخيتارهم له.

3- وأخيرا.. لأن الأهداف التي يجب ان يحققها الإمام تشترك مع الأهداف التي ينبغي ان يحققها الرسول (ص). وكما ان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن ان يعين من قبل الناس أنفسهم لأنه وسيلة متصلة بين الله والانسان فإن الإمام لا يمكن ان يعين الا من قبل الله أيضا.

وبتعبير آخر: ان الإمام ينبغي ان يكون مؤيَّداً بالغيب، عارفا بالله ودينه معارفه بعيدا، عن تأثرات المادة، وبعيدا عن ظروفها الضيقة. ولا يؤيد الله من يختاره الناس بل من يصطفيه هو سبحانه، وليس للناس الخيرة إذا قضى الله أمرا، ذلك لأنهم عباد مربوبون يجب ان يسلموا بالحاكمية المطلقة لله في كل الشؤون.. والواقع ان من عجيب الرأي ما يقوله بعض البسطاء من ان على الإنسان التسليم لله في كل مناحي الحياة سوى القيادة، في الوقت الذي تعتبر القيادة أعظم ما يجب اصلاحها. أليست السياسة ان صَلُحَت صَلُحَت الحياة وان فَسَدَت ساد الأرض الفساد والفوضى؟. فلماذا يجب ان نخضع لله في شرائعه كلها ما سوى القيادة؟ ام كيف نعتقد بأن على الله ان ينزل اليهم الدين وليس عليه ان يختار من ينفذه؟

قال الله سبحانه مخاطباً النبي ابراهيم: [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ]( البقرة 124). وقال تعالى: [يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ](ص 26). وقال: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً]( البقرة 30). من هذه الآيات يظهر بوضوح ان الخلافة والإمامة – اللذين هما تعبيران عن واقع واحد- ليستا من حق أحد وإنما هما لله وحده لا شريك له.

وجاء عن الامام الرضا عليه السلام:

(ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملأ. فقال عزوجل: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ](الانعام 38). وأنزل في حجة الوداع وهي آخر حجة حجها رسول الله وكان في أواخر أيامه [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً]( المائدة 3). فأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَيَّن لأمته معالم دينه، وأوضح لهم سبله، وتركهم على قصد الحق، وأقام لهم عليا علما وإماما، و ما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة الا بينه.

فمن زعم ان الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل، ومن رد كتاب الله عز وجل فهو كافر. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من ان يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم فيقيموا إماما باختيارهم.

ان الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (ع) بعد النبوة والخله مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها و أشاد بها ذكره فقال عز وجل: (اني جاعلك للناس إماماً) فقال – الخليل سرورا بها- ومن ذريتي. قال – عز وجل -: (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة.

ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ](الانبياء 72-73). فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله جل جلاله: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ](آل عمران68) فكانت له خاصة فقلدها النبي صلى الله عليه وسلم عليا بأمر الله عز وجل على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل: [وَقَالَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ](الروم 56) ، فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (ص)، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

ان الإمامة منزلة الأنبياء وارث الأوصياء. ان الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (ع).

ان الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.

الإمام المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب مخصوص بالعلم موسوم بالحلم.

الإمام واحد في دهره لا يدانيه أحد، لا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من الله المتفضل الوهاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟

هيهات! هيهات! ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب! فأين الاختيار من هذا؟

أظنوا ان ذلك، يوجد في غير آل الرسول عليهم السلام؟ كذّبتهم – والله- أنفسهم، ومنّتهم الأباطيل فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم. راموا إقامة الإمام بعقول بائرة ناقصة..

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم. والقرآن يناديهم [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ](القصص68). وقال عز وجل [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ](الاحزاب 36). وقال عز وجل [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ][139](القلم36-41).

ان الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل: [وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً]( البقرة 296). وقوله عز وجل في طالوت: [إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللّه ُوَاسِعٌ عَلِيمٌ](البقرة 247). وقال عز وجل لنبيه [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً](النساء 112). وقال عز وجل في الأئمة من أهل بيته وعترته وذريته: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً](النساء 54-55).

وان العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن صواب وهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطايا والزلل والعثار، وخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه بهذه الصفة فيقدمونه؟؟، تعدوا -وبيت الله- الحق، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فإنهم لا يعلمون. وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله ولعنهم، فقال عز وجل [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](القصص 50). وقال عز وجل [فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ]( محمد 8) . وقال عز وجل [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [140]](غافر 35).

--------------------

(2)

كيف نعرف الإمام؟

كيف نهتدي إلى الإمام ؟

بما ان الإمامة بمثابة النبوة، فإن هناك وسائل مشتركة بينهما في التعرف عليهما.. ومن الطبيعي إذاً ان يكون العقل هنا – كما في الرسالة – هو الرائد الوحيد الذي يهدينا إلى الحق.. ولقد سبق منا القول المفصل في آيات النبوة. ولذلك فلا ينبغي هنا الا الإشارة اليها ونوعية تطبيقها على واقع الإمامة بإيجاز كثير!

نعرف الإمام:

1- بالإمامة.

2- بالإمام نفسه.

3- بالمعجزة.

4- بالنص.

5- بشهادة الله.

1- الإمامة:

لقد سبق الحديث عن حاجة الإنسان إلى الإمام، وهي حاجة متشابهة تماما مع حاجتهم إلى الرسول. فلو رأينا من اكتملت فيه شروط الاستجابة لحاجة البشر من هذه الناحية فكان مذكرا بالله، وبما أودع في الإنسان من العقل والمعرفة الفطرية، مبينا لما يرضي الرب وما يسخطه، دالاًّ على مصالح البشر ومفاسدهم، ولديه علم يرفع به كل خلاف بين البشرية، ويذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويعلمهم الفضائل ويربيهم عليها، ويهديهم سبيل الوصول ألى ربهم.. وكان يدعي ان ليس له من الأمر شيء بل كل ذلك من الله بسبب الرسول، فعند ذلك فقط نعرف انه صادق وبأنه الإمام الحق. وهذا الأمر لم يتحقق الا بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام فقط. فمن أظهر غيرهم فلسفة الإسلام المستوحاة من الكتاب والسنة ودعمها بالحجج والبراهين الوجدانية؟ ومن سواهم أرشد الناس إلى واقع العقل وبَيَّن ما يحجبه وكشف عن النفس ما يرديها؟ ، من غيرهم كان دأبه التذكرة بالله وباليوم الآخرة؟ ثم كان يدعي إمامة الخلق جميعا ؟

إن الذي ادعى الخلافة، ابتداءً من أول شخص وانتهاءً إلى آخر خلفاء العثمانيين، لم يدع بأنه قائم بكل ما يرشد العقل إلى لزوم توفره في الامام.. والذي ادعى العلم في الأمة لم يدع الولاية على الرقاب والأموال.. فمن هو جامع العلم والولاية؟ من الذي يقول: سلوني قبل ان تفقدوني؟ ثم يقول: لم أزل مظلوما منذ قُبِض رسول الله – إشارة إلى زحزحة الخلافة عنه- من يقول ذلك غير أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام؟

ان منصب الإمامة بالمعنى الذي سبق لم يدعه أحد غير الأئمة الاثني عشر، ولم يسجل التاريخ رجلا كان لديه من مواهبها ما كانت فيهم. ان الإمامة هي الشهادة الحقة على صدق الأئمة عليهم السلام، ونظرة واحدة إلى أقوالهم وسيرتهم ونظرتهم إلى أنفسهم تدلنا على هذه الحقيقة.

2- الإمام:

والإمام نفسه دليل إمامته لما يتميز به من تفوق علمي وخلقي من دون ان يتعلم علومه من أحد، فهو لا يحتاج إلى اكتساب علم في حين يحتاج إليه الناس أجمعون. أرأيت ابن تسع سنين كالإمام الجواد (ع) يجيب على ثلاثين ألف مسألة علمية؟ أم هل سمعت مثل الإمام الصادق (ع) من يعلم تلاميذه كل العلوم ولم يدرس عند أحد شيئا؟. ان العلم لا يأتي الا بالاكتساب أو الوحي والإلهام فإذا علمنا من تاريخ الائمة انهم لم يكتسبوا العلم من أحد، أيقنا ان علمهم كان من الله، فهم الأئمة صدقا وعدلا.

أما الأخلاق: فإذا عرفنا من أحد الصدق والأمانة والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والكرم والطهارة. وبكلمة: رأيناه مثلا لكل الفضائل ثم رأيناه أعبد الناس وأتقاهم وأخشى الناس من الله.. كان هذا هو الإمام حقا، ذلك لأن حكمة الله تقتضي أمر الناس بطاعة هذا دون غيره.. أيأمر الحكيم العالم باتباع الجاهل، أو يأمر الله الورع باتباع الفاسق وهو يقول: [أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ](السجدة 18) ويقول [هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ] ( الانعام 50) ويقول [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُولُواْ الاَلْبَابِ] (الزمر 9).

وبما ان التاريخ لم يهدنا إلى أفضل من الأئمة عليهم السلام علما وتقى فإنهم لا غيرهم الصالحون لقيادة الخلق[141].

3- المعجزة:

وأظهر معاجز الائمة عليهم السلام علومهم التي لم يسبقهم فيها أحد من البشر والتي ثبتت بالعلم الحديث صدقها. وقد كان الرأي السائد ذلك اليوم بخلافها، كأقوالهم في العوالم الأخرى وفي حجم الأرض وفي بعد الشمس وفي جسم الإنسان وكثير من أمثال ذلك.. فإذا أضفنا إلى ذلك بأنهم لم يكونوا قد تعلموا عند أحد عرفنا ان علومهم من الله بالمباشرة والإلهام أو بالوراثة. وهناك طائفة من المعاجز التي ثبتت بالنقل الصحيح والمتواتر أو اعترف بها أعداؤهم.

ومن الواضح؛ ان الحكيم لا يضل الناس بإعطاء الكذاب المعاجز الباهرة التي تغري الناس وتلحد بهم عن الصراط السوي، فعلم انهم أئمة حق لا ريب فيه[142].

4- النص:

والنص ها هنا بمثابة البشارة للرسول، والنصوص الشرعية الشاهدة على إمامة المعصومين على ثلاثة أقسام:

أ- الآيات القرآنية.

وهي كثيرة نذكر منها نبذة يسيرة.

1- [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ](البقرة 124).

بنص هذه الآية لا يكون الإمام والخليفة ظالما باجماع المسلمين ولم يدع أحد العصمة الا الأئمة الطاهرون.

2- [يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( النساء 59).

حيث ان الآية وردت في المعصومين فقط،. ذلك لأن غيرهم قد يأمر بخلاف الشرع ووجوب طاعته يعني التناقض في الدين.

3- [إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] (سورة القدر).

على من تنزل الروح - الذي هو جبرائيل أو ملك أعظم منه- في ليلة القدر؟ على ولاة الأمر من ملوك الأمويين أو العباسيين ام على العالم المعصوم من آل محمد (ص)؟

4- [اِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً](الاحزاب 33). ان رجس الشيطان أخبث رجس، والمعروف انه لم يدع أحد ارتفاع رجس الشيطان - الذي هو الذنب - عن أحد سوى الشيعة في أهل بيت الرسول (ص)

إننا لم نعتمد في استنباط ولاية الأئمة من الآيات على التفسير ولا على الأحاديث فإن هناك بضع مئات من الآيات صرح مفسروا الفريقين وكما صرحت رواياتهم عن الرسول انها نزلت في أهل البيت (ع) وهي أما تدل على ولايتهم أو تدل على فضائلهم، والأول صريح والثاني يدل دلالة ضمنية على ولايتهم، ذلك لأنه لو ثبت أنهم أفضل الخلق بنص الآيات، فهل من المعقول ان يجعل الله عهده في المفضول ويترك الأفضل؟ تعالى الله الحكيم العليم عن ذلك وهو يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

ب- أحاديث الفضيلة.

طائفة كبيرة من الأحاديث جاءت من الرسول تؤكد ان أهل بيته لهم الفضائل الجمة التي دونها فضائل الآخرين، وهذه النصوص –التي تواتر نقلها لدى الفريقين- تدل دلالة ضمنية على أمامة أهل البيت، إذ مع العلم بأن الله حكيم يصطفي الأفضل، لا يبقى مجال للشك في أنه اصطفى أهل البيت، لأنهم أفضل من غيرهم بنص الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر النقل عنه. ونحن إذ نذكر حديثا واحدا من مئات الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، نرشد القارئ إلى الكتب المطولة مثل (الغدير) و(الصواعق المحرقة) و(فضائل آل الرسول) و(المراجعات) من تأليف كبار الباحثين من الفريقين.

قال ابن أبي الحديد -وهو من علماء السنة-: (ونحن نذكر ما استفاض من الروايات عند مناشدته أصحاب الشورى وتعديده فضائله وخصائصه التي بان[143] بها منهم ومن غيرهم، قد روى الناس ذلك فأكثروا، والذي صح عندي انه لم يكن الأمر كلما روى من تلك التعديدات الطويلة، ولكنه قال لهم بعد ان بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان وتلكأ هو – أي علي - عليه السلام عن البيعة، قال بعد كلام: أنشدكم الله أفيكم أحد آخى رسول الله بينه وبين نفسه حين آخى بين بعض المسلمين وبعض، غيري؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فهذا مولاه، غيري؟ فقالوا: لا.. قال: أفيكم أحد قال فيه رسول الله أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي، غيري؟ قالوا: لا.. قال أفيكم من أؤتمن على سورة البراءة وقال له رسول الله أنه لا يؤدي عني الا أنا أو رجل مني، غيري؟ قالوا: لا.. قال: الا تعلمون ان أصحاب رسول الله فروا عنه في الحرب في غير موطن وما فررت قط؟ قالوا: بلى.. قال: ألا تعلمون اني أول الناس إسلاما؟ قالوا: بلى.. قال: فأينا أقرب إلى رسول الله نسبا؟ قالوا: أنت..)[144].

ج- أحاديث الولاية.

وهي التي تدل دلالة صريحة على انهم الائمة المصطفون من قبل الله.. ورغم ان السلطة السياسية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله كانت تعارض بشدة نقل مثل هذه الأحاديث فقد تواتر النقل إلينا بطريق الفريقين مما دعانا إلى القطع بصحتها كما نقطع بصحة نقل الخبر عن وجود البلاد النائية والأمم الخالية بالخبر المتواتر.. وإليك جزءا يسيرا منها:

نقل بسند متواتر عن طرق السنة (أنظر الصحاح الست مثلا) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال:

1- (سيملك بعدي اثنى عشر أميرا كلهم من قريش[145]).

أترى من كان هؤلاء الأمراء؟ أمية أم بنو العباس؟ وقد كانوا أكثر من اثني عشر.. أم الراشدون ـ كما يعبرون ـ وهم أقل عددا منهم؟ أليس الحديث ينطبق على الأئمة الاثني عشر فقط؟

2- (من كنت مولاه فهذا علي مولاه..[146])

لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بعد ان قال للمسلمين: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم[147]) فكانت كلمة تشير إلى تلك الولاية وهي صريحة نصا، ومقبولة عقلا، ومقطوعة سندا فما بالنا لا نأخذ بها؟

3- قول الرسول (ص): (ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة فرقة، في الجنة، والباقون في النار[148]). وقوله لعلي (ع): (وإن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي[149]). وقوله: (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار[150])، أترى من هي الفرقة الناجية وما هي الفرق الهالكة؟ أيعقل ان تكون الفرقة التي مع علي هي الهالكة مع هذا الحديث؟ كلا

4- روي عن ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام في احدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يا بن عباس أشكو اليك ابن عمك - أي الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام - سألته ان يخرج معي فلم يفعل ولا أزال أراه واجدا فما تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين انك لتعلم. قال: أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة. قلت: هو ذلك، انه يزعم ان رسول الله أراد الأمر له. قال: يا بن عباس وأراد رسول الله الأمر فكان، ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك. ان رسول الله أراد أمرا وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله. أو كلما أراد رسول الله كان؟ إنه أراد اسلام عمه ولم يرد الله فلم يسلم)[151].

كانت تعتلج في قلب عمر شبهة الجبر و هكذا تهرَّب من المسؤولية، والا فكيف أراد الله شيئا وأراد الرسول غيره وهو القائل: (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى) الا ان نقول ان المذنبين غير مقصرين لأن الله أراد شيئا فكان كما أراد الله..

5-وعن إبراهيم بن محمد الحمويني – و هو من علماء السنة – مسندا عن سليم بن قيس في حديث طويل ذكر فيه بضع عشرة من فضائل علي (ع) إلى ان قال الإمام - والجمع بين المهاجرين والأنصار شاهدون - :

.. فنصبني للناس بغدير خم، ثم خطب فقال: أيها الناس ان الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري فظننت ان الناس مكذبوني فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني – أي ان الله هدده صلى الله عليه وسلم ان يبلغها والا عذبه وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). - ثم أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم خطب فقال: أيها الناس! أتعلمون ان الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: قم يا علي، فقمت. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه. فقام سلمان فقال: يا رسول الله ولاء كماذا؟ فقال: ولاء كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه! فأنزل الله تعالى ذكره [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة 3). فكبر رسول الله وقال: الله أكبر، تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية علي بعدي. فقام ابو بكر وعمر فقالا: يا رسول الله هذه الآيات خاصة في علي؟ قال: بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة. قالا: يا رسول الله بينهم لنا. قال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن من بعدي، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين ثم تسعة من ولد الحسين[152] واحدا بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض.. فقال الحاضرون – وهم أكثر من مائتي رجل من الصحابة- : قد سمعنا ذلك وشهدنا كما قلت سواء[153]).

ان هذا الحديث يشهد على ولاية الأئمة (ع) جميعا كما يشهد على ان الثاني عشر منهم سيبقى إلى يوم القيامة، حيث قال الرسول: وفي أوصيائي إلى يوم القيامة.

وهنا دليل آخر وهو: ان الإمامة كما حددناها سابقا منصب إلهي ليس لأحد الحق في انتحاله من دون أمر الله، والشيعة فقط يحددون الإمامة هذا التحديد فهم فقط يعتمدون على النص وليس أحدا من السنة ادعى ان النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أهل البيت (ع) فهم مجمعون على عدم النص في غير أهل البيت، وقد عرفنا بالدليل السابق ان الإمام لابد ان ينتخب من قبل الله.. إذاً فلابد من النص، فلو فرض اننا لم نعثر على نص موجود، فلابد ان نقول انه كان موجودا ولكن السلطات الجائرة حذفته من التاريخ اثباتا لسلطانها الظالم.. وبكلمة موجزة:

من اعتقد ان الإمامة من الله، لا يمكنه الا ان يعتقد ان أهل البيت هم الأئمة، إذ لم يدع أحد ان غيرهم قد انتخب من قبل الله.

5- شهادة الله:

والله تبارك و تعالى يشهد بصدق الأئمة بنفس الأسلوب الذي يشهد بصدق الأنبياء وهو:

1- بإستجابة الدعاء، إذا توسل الفرد بهم، وبالشفاء بتربة الإمام الحسين مثلا وما شابه.

2- بنصر من آمن بهم وهدايته في الدنيا والآخرة.

3- بشهادة المؤمن على صدق الإمامة عندما يصفو من كل كدر.

4- بالوصول إلى الحقيقة مع سلوك منهج الإمامة[154].

كيف نثبت الإمام؟

ولابد لنا ان نشير هاهنا إلى الحقيقة التي سبق وان أشرنا اليها عندما تحدثنا عن كيفية إثبات وجود الله وهي:

ان المهم في اقناع الناس في القضايا المبدئية تذليل أنفسهم المستكبرة لقبول الحق عن طريق الترهيب والترغيب بما في الدنيا والآخرة من أجر للمحق ومن عذاب للمبطل. والأسلوب القرآني الناجح يستخدم قوة الترهيب بعذاب الله في الآخرة ونقماته في الدنيا أكثر من الترغيب بثواب الله الجزيل في الآخرة والفلاح الدائم في الدنيا. ومن هنا فلابد:

أولا: ان نشرح للذي نبتغي هدايته للحق – في الامامة- ان المبطل يلقى جزاءه الرئيسي في الدنيا والآخرة ولا يجني الإنسان من معارضة الحق الا الخزي والويل.. وان الامامة لو كانت على بينة من الله فما يزيد جاحدها غير تخسير لنفسه، وان التقليد واتباع الهوى والخوض مع المبطل كيفما يخوض كل ذلك ويل وشر عريض، ولابد من دعم هذه الحقيقة بآيات قرآنية وأمثال من الأمم الماضية، كيف خسرت نفسها عندما عارضت الحق.

ثانيا: ثم يأتي دور شرح معنى الإمامة، والحاجة إلى الامام عقلا بصورة مفصلة.

ثالثا: بعرض صفات الأئمة (ع) ومآثرهم وكيف ظُلِموا في سبيل الحق.

رابعا: وأخيرا ببيان النصوص المتفقة بين الفريقين ونسف الشبهات التي تختلج في قلوب بعض البسطاء من العامة والتي يجب ان نشير إليها هاهنا ونردها بالحجج الدامغة.

شبهات مردودة..

1- يقولون: لو كان الإمام علي – كما تزعمون – صاحب الحق الشرعي للخلافة بعد الرسول فلماذا بايع أبا بكر وعمر وعثمان وهو الرجل الشجاع؟

نقول في الجواب: السبب نعرفه من خطبة ارتجلها الامام في الكوفة ومن كلمات له أخرى نوجزها فيما يلي:

أ- لأن الإمام لم يجد أنصارا يحارب بهم الأعداء، ولقد صرح مرة بأنه لو كنتُ قد وجدت أربعين شخصا لدافعت عن حقي.

ب- ان الإمام -ع- كان يعلم ان الأمة الإسلامية لم تبلغ النضج الفكري الذي يؤهلها لتصحيح أخطائها بالحرب المسلحة.. فإذا كان الإمام يقاوم أعداءه بالسلاح كان يعرض الأمة لما لا تطيق، فكانت تسبب الردة، ولذلك فقد آثر الإمام الإغماض عن حقه في سبيل الإبقاء على الإسلام حتى يأتي ذلك اليوم الذي ينشر الحق بالتبليغ.

ج- ان بيعة الإمام (ع) لأبي بكر وعمر وعثمان كانت بالإكراه.. حيث كان مهددا بالقتل في كل الحالات. والحديث التالي أكبر شاهد على هذه الحقائق الثلاثة في كتاب سليم بن قيس المعاصر للإمام (ع):

قال قائل – ولعله أشعث بن قيس- يا بن أبي طالب: ما منعك حين بويع أخو بني تميم بن مرة (أبو بكر) وأخو بني عدي (عمر) وأخو بني أمية (عثمان) بعدهما ان تقاتل و تضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق الا قلت فيها (والله اني أولى الناس بالناس وما زلت مظلوما مُذ قبض رسول الله)، فما يمنعك ان تضرب بسيفك دون مظلمتك؟.

قال عليه السلام: يابن قيس! اسمع الجواب؛ لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهة للقاء ربي وأن لا أكون أعلم بأن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله وعهده الي. أخبرني رسول الله بما الأمة صانعة بعده إلى ان قال: قال صلى الله عليه وسلم ان وجدت أعوانا فإنبذ إليهم وجاهدهم وان لم تجد أعوانا فكف يدك وأحقن دمك.. إلى ان قال: ثم حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين فلم أدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار الا ناشدتهم..)[155]

وقال الإمام الصادق (ع) في جواب سؤال وجهه إليه بعض أصحابه قائلا: (ما منع أمير المؤمنين (ع) ان يدعو الناس إلى نفسه ويجرد في عدوه سيفه؟ فقال: الخوف من ان يرتدوا فلا يشهدوا ان محمدا رسول الله)[156] .

2- ويقولون: لو كان الله يريد لعلي الخلافة بعد الرسول فلماذا لم يعلن ذلك في الكتاب المجيد؟

ونقول:

1- أولا يجب ان نعلم ان القرآن لم يكن كتاب دستور للتنظيم بقدر ما هو كتاب تربية وتذكير للبشر، ولذلك فهو خال من طائفة كبيرة من الأحكام بينتها السنة.

2- ان في القرآن آيات كثيرة هي كالنص القاطع على خلافة الإمام، وعلى أهم نقطة في الخلافة وهي أنها لله وليس لأحد ان يتصرف فيها من قبل نفسه، وهذا هو المبدأ الأساسي الذي يرتكز عليه أمر الخلافة.

3- لو كان في القرآن نص صريح على خلافة علي إذا لحرفته السلطات التي قامت بجمع وتأليف القرآن.. وكانت سواء عندها آية القرآن وسنة الرسول في امتداد يد الخيانة إليهما.

3- ويقولون: ما هو الدليل على وجود الإمام الثاني عشر؟

ونقول:

هناك دليل عقلي – وقد أشرنا إليه- وهو لزوم وجود حجة بالغة بين الله وبين الخلق.. ومن المعلوم عدم وجود حجة غير الإمام المنتظر..

وأما الدليل اللفظي، فهي الأحاديث المتواترة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة المعصومين.

4- و يقولون: كيف يمكن ان يبقى إنسان – له مثل ما للآخرين من قوى وإمكانيات – هذه المدة المديدة بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة؟

ونقول: من المعروف ان عقيدة الشيعة في الإمامة تعتمد على مبدأ المعجزة واذا ثبت ان الله قد يفعل بقدرته اللامحدودة أشياء على غير مجرى السنن الطبيعية، فكل شبهة حول عمر الإمام الطويل تغتدي تافهة، ذلك لأن علم الإمام بدون اكتساب أحرى بالشبهة، ولكن من يعترف بقدرة الله الواسعة لا صعوبة عنده في ذلك.

5- ويقولون: ما هي المصالح العامة التي نغتنمها من وجود الإمام الحجة عليه السلام وهو مستور غائب عن أبصارنا؟

ونقول: هناك عدة مصالح سوف نشير إليها، ولكن يجب ان نعرف أولا ان الله تبارك وتعالى قد أتم حجته على الخلق إذ جعل من لدنه حجة وأعطاه كل ما يحتاج إليه الناس، ولكن الناس أبوا الا التواثب عليه لقتله فأغابه الله عن أبصارهم حفاظا عليه. والآن إذا رجع الناس إلى الحق وسلموا أمورهم إلى الإمام صدقا وعدلا، يظهر الله إمامهم لهم.

ففي الحديث إذا بلغت عدة الصادقين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يظهر الله الإمام الحجة (عج).

ان الله أتم حجته على الخلق ببعث الرسل واصطفاء الحجج – لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل – ولكن الله ليس مسؤولا عن رجوع الناس إليهم أو نكوصهم عنهم. فالله لا يكره الخلق على الهدى، وقد فعل ذلك بالنسبة إلى الإمام المنتظر (عج) إذ اصطفاه وجعله حجة حاضرة فإن أرادوا أخذوا به والا فعليهم إجرامهم.. ان الله يوفر للمرضى الطبيب فإن أرادوا تداووا عنده والا فليموتوا!

بعد هذا لنعرف:

1- ان مثل الإمام الحجة (عج) كمثل الشمس وقد وارتها السحب ولكنها لا تمنع عن العالم دفئها وضوءها ومنافعها العديدة. فإن الإمام يؤيد وهو تحت ستار غليظ من الغيبة أنصار الحق أنى كانوا ولنا نحن الشيعة شواهد تاريخية جمة على ذلك.

2- كما ان الإمام هو ملاذ الناس لدى هجوم الدواهي عليهم، فكم من مشكلة تم حلها بالتوسل إليه، ولكل فرد تجربته الخاصة في ذلك.

3- في الوقت الذي لا نستبعد – بل هو كائن فعلا- وجود علاقات سرية بين الامام (ع) وبين مراجع الشيعة من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون بالمباشرة أو بواسطة بعض وكلاء الامام، وهذا هو السر العظيم.

----------------

(3)

ما هي مسؤولية الناس تجاه الإمام؟

ماذا يجب على الناس تجاه الإمام؟

هذا السؤال يفرض نفسه على من اعتقد ان الامام شخص ينتخبه الله تعالى، وجواب هذا السؤال لابد ان يأتي من قبل الأئمة أنفسهم – بعد الإيمان بهم مجملا- وهناك عدة وظائف مفروضة على الناس بالنسبة إلى الإمام نشير إلى عشر منها، ونذكر الدليل الشرعي القائم عليها:

1- معرفة الإمام بشخصه.

والدليل على ذلك قول ابي عبد الله الصادق عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) (قال الراوي سألته) : جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه. قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال[157].

2- ان يعتقد بولايتهم.

والحجة على ذلك قول الصادق (ع): (ان أول ما يسأل العبد عنه إذا وقف بين يدي الله جل جلاله؛ عن الصلوات المفروضات وعن الزكاة المفروضة وعن الصيام المفروض وعن الحج وعن ولايتنا أهل البيت، فمن أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته و حجه وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عزوجل شأنه شيئا من أعماله)[158].

3- أن يسلم لهم ولا يرد عملا من أعمالهم.

والبرهان على ذلك قول علي بن الحسين (ع): (ان دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب الا بالتسليم، فمن سَلَّم لنا سَلِمَ، ومن اهتدى بنا هُدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم)[159].

4- ان يطيعه في كل ما يقول.

قال أبو جعفر الباقر (ع): (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته. ثم قال: ان الله تعالى يقول [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً][160] ( النساء 80).

5- ان يرد أمر المشاكل إليه.

(انما كلف الناس ثلاثة: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد اليهم فيما اختلفوا فيه[161]).

6- ان يتعلم منه الأحكام والعلوم والأخلاق.

قال رسول الله (ص): (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقون هالكون، والناجون الذين يتمسكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم فأولئك ما عليهم من سبيل)[162].

7- ان يرجع في تفسير القرآن وتأوليه إليه.

قال الإمام الباقر (ع): قال الله تعالى: (وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم) ونحن نعلمه[163]..

8- أن يفزع إليه في الدواهي.

قال الإمام الرضا (ع): (الإمام، الأمين الرفيق، والوالد الرقيق، والأخ الشفيق ومفزع العباد في الداهية)[164].

9- ان يعرض على الإمام النصرة متى شاء.

قال الإمام الباقر (ع): ( إنما أمروا ان يطوفوا بها (أي الكعبة)، ثم ينفروا الينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم. )[165]

10- أن يؤمن به وبحقانيته.

قال الإمام الباقر (ع) في تفسير الآية الكريمة [فَأَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ](التغابن 8): النور والله الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة[166].

هذه هي الوظائف العامة التي تلزمنا تجاه الإمام في كل عصر.. ولكن هناك عدة مسؤوليات ضخمة مفروضة علينا اليوم بصورة خاصة بالنسبة إلى الأئمة (ع) وهي:

1- ان نفهم معارف الأئمة التي هي بحق المعارف الإسلامية؛ نفهمها بعيدا عن التيارات الدخيلة التي تلصصت في المناخ الفكري الإسلامي وهي ثلاثة:

أ- التيار الفلسفي؛ الذي دخل العالم الإسلامي في بداية القرن الثاني ولبس ثوبا إسلاميا في حين ان جوهره أغريقي مادي.

ب- التيار الأجنبي؛ الذي لا يزال يتغلغل في اعماقنا عن طريق الكتب التي تحتوي على سموم بالغة من حيث: البناء والإيحاء والاتجاه .

ج- التيار الجاهلي؛ الذي نبع عن ابتعاد الشيعة عن مصادر الأئمة (ع) فذهبوا إلى ما أوحت اليهم أهواؤهم وآراؤهم.

والتحاشي عن هذه التيارات انما يمكن بالتوجه إلى المنابع الأولية للمعارف الإسلامية ، وهي الروايات دون ان نستعين في فهمها أو تأويلها إلى كتب مؤلفة ، بل نعتمد على فهمنا الشخصي لظواهر الأحاديث كما لو كنا نحن المخاطبين بها.

2- ان نكيف حياتنا العملية والفكرية مع توجيهات الأئمة عليهم السلام دون ان ندع حرفا واحدا منها غير مطبق تطبيقا كاملا.

3- ان ننشر معارف الأئمة (عليهم السلام) في الأوساط العامة وبمختلف المستويات، ونضحي في سبيل ذلك بالوقت والمال والجهود.

نسأل الله ان يوفقنا لذلك حتى نحظى بسعادة الدنيا والآخرة.

----------------------

البحث الرابع- الحياة بعد الموت

الدليل على البعث

إن نظرة واعية إلى ما يجري حولنا من أحداث في هذه الدنيا الواسعة، تدعونا إلى الاعتراف بالبعث بعد الموت:

1- فهناك طائفة كبيرة يعيشون معنا يحيون ويموتون طيبين –أعمالا وقلوبا- لا يبرحون عن إسداء الخدمات الإنسانية إلى بني نوعهم دون أن يريدوا منهم جزاءا أو شكورا.. انهم يعبدون ربهم ويظلون يذكرونه بالعشي والأبكار، ولكن مع ذلك لا يظلون مظلومين مقهورين، منكدة عيشتهم، طويلة أحزانهم، متوالية نكباتهم وويلاتهم، إلى جنب هذه الطائفة هناك أناس يتمتعون بالعدة والثروة والجاه العريض وبعكس ما قد يُتصور لا يزالون قاسطين.. هناك بغاة يهتكون الحرمات، ويرتكبون الخطيئات، وكثير منهم يموت على ما هو دون ان يلقى جزاءه في الدنيا.

وان كثيرا من أولئك الطيبين يبلغون في مكارمهم القمة، كالأنبياء والصالحين والمتمسكين بالحق وهم الألوف الألوف.

وان كثيرا من هؤلاء المجرمين يهبطون في أعمالهم إلى الحضيض ويقتلون الملايين ويقترفون الجرائم بحق البشرية جمعاء.

والله الحكيم الذي نرى آثار حكمته في السماء والأرض لم يخلق شيئا عبثا ولا كان بحاجة إلى اللعب واللهو تعالى عن ذلك.. الله القادر الذي نجد في ذات أنفسنا، وفي كل ما حولنامن أشياء ، آيات قدرته العظيمة التي لا تحد.. كيف لا يعطي جزاء هؤلاء وهؤلاء؟

أعبثا خلقهم؟ أم خلقهم ليظلم قويهم ضعيفهم بغير سبب؟ أم أراد بذلك ان يؤذي غير المؤذي؟ أم عجز عن ان يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟

سبحانه الحكيم الغني ان يخلق الخلق عبثا ، ولا حاجة له إلى العبث، وسبحانه أن يعجز عن ان يجازيهم، أو أن يعجز عن خلقهم مرة أخرى وهو الذي أنشأهم أول مرة.

2- كل دلائل الكون تهدينا إلى أن ما فيه قد سخر لنا (أو قد خلق لأجلنا)، كل ما فيه من شمس وقمر ونجوم تعمل ليل نهار لتبقى الحياة مستمرة. وكل ما فيها مسخر لنا، بما أوتينا من موهبة العقل والقدرة والحرية. وإذا كان كل شيء لنا، فنحن لماذا؟

هل خلقنا لكي نتمتع في الدنيا؟ ومن منا استطاع ان يتمتع بها سعادة وافية؟ أكبيرنا أم صغيرنا؟ سيدنا أم مملوكنا؟ رئيسنا أم مرؤوسنا؟ ليس هناك من استطاع ان يستريح بما في الكلمة من معنى، فلماذا إذاً خلقنا؟

هناك جوابان على ذلك لا ثالث لهما:

أ: ان الله سبحانه أراد ان يلعب ويعبث فخلقنا ليضحك علينا. وهذا بعيد عن دلائل حكمته التي نراها في الكون، وعما يهدينا إليه العقل من كمال ربنا، انه قدوس ليس فيه نقص.

ب: انه خلقنا لعالم آخر.. وجعل ما في هذه الدنيا من خير، دليلا على أفضل منه وأكمل منه يوجد في الآخرة، وما هنا من شر، دليلا على أسوأ منه وأطول منه يوجد في الآخرة.. وأذاقنا من هذا حينا ومن هذا حينا، ثم بين لنا عن طريق رسله كيف نتجنب الشر ونقترب إلى الخير.

وهذا هو التفسير الصحيح لظواهر الكون كلها.

3- وإلى هذا تشير النصوص الشرعية التي سوف نلم بنبذة يسيرة منها والتي تعتبر بذاتها دليلا مستقلا على الحياة الآخرة لما ثبت بالأدلة العقلية ان لنا إلها كاملا وانه بعث رسلا صادقين ونقلوا عنه ان من عمل سوءا جوزي به، وانه من صلح عملا اثيت عليه.. علما بأن وراءنا جزاءً وثوابا قال الله في كتابه الكريم:

[وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَآءِي رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ](الروم 6-8).

قال سبحانه: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ]( المؤمنون 115).

شبهات وردود

أما الشبهات التي أثيرت حول إمكانية البعث فهي كالتالي:

1- إمكانية البعث.

وهذه الشبهة هي من أكبر الشبهات تفاعلا في ضمير المنكرين مع سائر العوامل ولذلك فقد خصص الأنبياء (عليهم السلام) كثيرا من الأدلة لدحض هذه الشبهة وتسفيه القائل بها. وأساس هذه الشبهة هو كيف يحيي الله الموتى بعد ان تحولوا إلى العناصر الأولى.. وتبدلوا إلى أجزاء في الأرض والهواء والماء ، وكما نقل عنهم الله سبحانه في الكتاب وأوضح الشبهة بلسان عربي مبين حيث قال: [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ](يس 78)، ولكن أصل الشبهة نشأ من عدم الإيمان بالله وبقدرته، والا فأي عقل لا يهتدي إلى قدرة الله الواسعة؟ ان الذي قدر على خلق الكون وإخراجه من ظلمات العدم إلى نور الوجود قادر على أن يعيده مرة أخرى؛ وهل الاعادة أصعب أم الإبداع؟

وقال الله سبحانه في الرد على هذه الشبهة: [قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَاَهآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ](يس 79-82).

بهذه الكلمة الفاصلة مزق القرآن الشبهة القائمة على عدم إمكانية البعث. والواقع ان العقل حينما هدانا إلى ان الله قادر على كل شيء وانه لا حدود لقدارته الواسعة، فمن السفه ان نفكر بعد ذلك انه كيف يعيد الخلق مرة أخرى.

وفي الحوار الذي كان بين الإمام الصادق عليه السلام وبين منكر للمعاد توضيح وشرح لهذه الحقيقة:

قال الزنديق: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟

قال (ع): بل هو باقٍ إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس، ثم أعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.

قال: وأنىّ له بالبعث والبدن قد بلى والأعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بُنيَ به مع الطين حائط..

قال (ع): ان الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه.

قال: أوضح لي ذلك..

قال (ع): ان الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء وأوزانها. وان تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا[167].

2- أي الأبدان تحشر؟

منذ ان يتكون الجنين والى ان يموت ـ وبعد سبعين عاما مثلا ـ يتبدل جسم الإنسان أكثر من مرة، ففي كل سبع سنوات تتغير كل خلايا الجسم، فإذا اعتقدنا بعودة الأجسام، فأي الأبدان، وأي الخلايا تعود مع الروح؟ كلها ؟ فيكون جسم الإنسان أكبر من وضعه الفعلي عدة مرات عند الحشر، أو بعضها؟ وأي بعض؟ أم يحشر الإنسان في جسم جديد؟

في الافتراض الأول -عودة كل الخلايا التي أصبحت في يوم ما جزءاً للإنسان - يلزم ان تكون الخلايا الكونية تعذب حينا وتستريح حينا آخر، ذلك لأن المحتمل ان تصبح الخلية الواحدة بجسم كافر ثم تصبح جزء لجسم مسلم فيكون بعض جسم الكافر في الجنة وبعض جسم المسلم في النار، وهذا لا يكون.

وبعضهم صاغ الشبهة صياغة أخرى فقال: لو فرضنا ان الطغاة قتلوا مسلما ثم أكلوه ولم يبقوا منه شيئا فماذا سوف يحدث؟ هل يذهب هذا المسلم المأكول إلى الجنة، ومعناه أن يذهب الطغاة إلى الجنة، أو يذهب إلى النار؟ وكيف يعذب الله جسم المسلم وقد أكل ظلما؟

وفي الافتراض الثاني: يلزم ان يعذب أو يتنعم بعض الأبدان دون بعض بغير سبب معقول.

أما الافتراض الثالث فإنه يؤدي إلى ان يعذب أو يتنعم جسم جديد لا علاقة له بالعمل الخاطئ أو الصالح، وكل هذا بعيد عن حكمة الله وعدله.

الجواب:

هناك إجابة إجمالية عن الشبهة هي: ان هناك جامعا مشتركا - لدى العقل والعقلاء- بين أطوار كل شخص منذ ان كان جنينا والى ان يموت، جامعا مشتركا يرى العرف بموجبه انه بعينه في كل الأطوار. فهو الجاني الذي يؤخذ بجريمة اقترفها قبل عشر سنوات، وهو المثاب بعمل صالح أسداه قبل عشرين سنة.. فهو هو يرى نفسه كذلك، ويراه الناس كذلك. وبتعبير أولى وأهدى: ان الإنسان الجنين هو الإنسان عند السبعين –عند العقل والعقلاء- وان الزيادة والنقصان عندهما بمثابة الهواء الذي يدخل الرئتين ثم يلفظ خارجا. وان الله يعذب أو ينعم نفس هذا الإنسان الجامع المشترك، بعمله ويعيد نفس هذا الجسم الذي لم يتغير منه بزيادة شيء عليه أو بدون زيادة.

وهناك خلاف فلسفي واسع حول ان الذي يحس بالألم أو بالنعم ما هو؟ الجسم المادي أو النفس أو الروح؟ أو هما معا؟ أو الجسم بالروح أو الروح بالجسم؟

النظريتان الأخيرتان تتفقان في ان أحدهما وسيلة للآخر، والجسم في النظرية الأولى هو الذي يحس بالألم، ولكن لسبب وجود الروح فيه كما ان المصباح الكهربائي هو الذي يشع ولكن بسبب جريان التيار فيه. كما ان الروح في النظرية الثانية هي التي تشعر بالألم أو بالنعم، ولكنها تتوسل بوسيلة المادة – الجسم- لكي تتمكن من هذا الإحساس. وقد ذهب إلى هذه النظرية الأخيرة طائفة كبيرة من الفلاسفة غير انهم لم يكونوا عالمين بالعلوم الحديثة التي أثبتت تأثر الجسم بالألم واللذة بسبب الأعصاب.

والإسلام يقدر ان الجسم والروح كلاهما يلتذان أو يتألمان مستدلا على ذلك بالوجدان. فكل فرد منا يرى ان جسمه هو الذي يتألم ويلتذ بالإضافة إلى روحه الحساسة.. وعلى هذا فلابد ان يجازي الله كلا الجزءين: الروح والجسم معا لأن الاكتفاء بمجازاة أحدهما دون الآخر مخالف لحكمة الله تعالى.. ولهذا فقد أوضحت الأديان إلى جانب العقول ان المعاد لا يقتصر على الأرواح بل يشمل الأجسام. ولابد ان يكون المُعاد نفس الجسم المتألم والمتنعم.

إذا ليس من الصحيح ان نقول ان الله يعذب أو ينعم روح البشر في أجسام جديدة ، كما قال به بعض من كتب حول المعاد.

ثم ان الإسلام يقدر حقيقة في أصل الخلق كما يكتشفها العلم الحديث فيقول: ان الله خلق الناس جميعا أولا وبدفعة واحدة من دون ان يخرج بعضهم من أصلاب أو أرحام بعض، خلقهم من الأرض بصورة أجسام صغيرة للغاية ، عبرت عنها الأحاديث بالذر ولذلك سمي العالم الذي كانت تعيش فيه بعالم الذر، ثم أدرجت الأبدان الصغار في أصلاب الآباء وحولها الآباء إلى أرحام الأمهات وجعل كل من شاء في صلب كل من اختار.

وان تلك الأجسام الصغار تنمو في الأرحام بجمع مواد جديدة إلى نفسها تصبح كثيرة من دون ان تتغير من موادها الأصلية شيئا وانما التبدلات التي تحدث في خلايا الجسم فإنها لا تشمل المواد الأصلية وإنما تقتصر على المواد الإضافية التي تعتبر بمنزلة الهواء في الرئة والغذاء في المعدة. تكشف لنا هذه الحقيقة ظواهر كثيرة من جملتها: بقاء جميع الخواص في الجسم منذ ان كان جنينا إلى ان يموت.. وشعور الإنسان بأن جسمه لم يتبدل رغم علمه ومعرفته بتبدل أجزائه كلها.

بعد توضيح هذه الحقيقة نقول:

ان الذي يعود من جسم الإنسان هو ذلك البدن الذري الناعم الصغير الذي كان يتألم ويلتذ منذ ان كان جنينا إلى ان مات وقبر، وان هذا البدن لا يعد من أجزاء بدن آخر الا في وقت محدود ثم يخرج ليعود في التراب أو في الهواء أو في أي مكان آخر، ثم يجمعه الله سبحانه مرة أخرى وقد يخرجه في يوم البعث بإضافة أجزاء جديدة عليه ليكون إنسانا عاديا. وقد لا يفعل ذلك، بل يخرجه بنفس الحجم الأصلي فيكون نوعا من العذاب، كما جاء في الأحاديث ان المتكبر يخرج يوم الحشر بصورة الذرة ، ولكن كيف ينميه الله مرة أخرى؟ هل يتم ذلك ضمن أرحام جديدة مثل ما نماه في هذه الدنيا في أرحام الأمهات؟

تجيب بعض الأحاديث على ذلك بقولها: ان الله يجعل الارض بمنزلة الرحم فيهطل عليها وابل من السماء ويوفر للبدن الذري وسائل التنمية الجديدة فيخرج كالنبات من الأرض إخراجا.. أفليس الله الذي خلق الرحم ووفر فيه وسائل نمو الجنين بقادر على ان يجعل الأرض كذلك؟ ولهذا فإن الإنسان يوم القيامة يكون ابن الأرض وليس ابن امه ولا ابن أبيه، ومن هنا جاء في الآية الكريمة: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ]( المؤمنون 101).

المعاد في السنّة..

1- قال الإمام الصادق عليه السلام: ( إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

2- قال الإمام العسكري عليه السلام: (أما [الاحياء] في الدنيا فيتلاقى ماء الرجل ماء المرأة فيحيي الله الذي كان في الأصلاب والأرحام حيا. وأما في الآخرة فإن الله ينزل بين نفختي الصور بعد ما ينفخ النفخة الأولى من دوين السماء الدنيا من البحر المسجور الذي قال الله تعالى فيه (والبحر المسجور) وهي من مني كمني الرجال فيمطر ذلك على الأرض فيلقى الماء المني مع الأموات البالية فينبتون من الأرض ويحيون[168]).

هذان الحديثان اللذان يكشفان النقاب عن حقائق هامة تنتظر الإنسان على أبواب الآخرة يستدعي شرحهما إلى بعض التوضيح فنقول:

ان الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ، وكانت حية شاعرة ثم خلق الأبدان بصورة الذرة ثم أسكنها الأصلاب، فإنتقلت من صلب إلى آخر حتى استقر كل ذر في رحم أمه، وأدخل في كل بدن بعد ان بلغ أربعة أشهر في الرحم روحه الخاصة به بسبب حكيم، وأخرجه إلى الدنيا ثم أماته فانتقلت الروح إلى مكانها معذبة أو منعمة حتى تعاد إليه مرة أخرى.. والفترة التي تمتد بعد الموت إلى حين البعث تعتبر فترة الهجعة والرقدة ذلك لأن الروح في الوقت التي تنفصل عن الجسم تبقى ذات علاقة به، تشبه علاقة الشمس بالأرض، تبعث إليها بالنور من دون ان تدخل فيها.

هنا تنكشف عدة أمور:

1- ان الأرواح كان لها وجود مستقل وسيبقى لها ذلك بعد انفصالها عن الأبدان ولها أعمال خاصة بها قبل وبعد ورودها في الجسم. وهذا يعني انها محدودة وبإمكانها القيام بأعمال مستقلة ، وقد كانت الفلسفة اليونانية تعتقد ان الروح مجردة عن المادة وليس لها مكان ولا زمان ولا حد ، ولكن الإسلام سفه هذه الفكرة وبين أن الأرواح مادية[169] تتشكل من أجزاء لطيفة وان لها حدودا وأعمالا.. فبالإضافة إلى وجدان كل منا بأن نفسه ليست مطلقة وإنما هي محدودة ضمن المكان والزمان فتكون هنا ولا تكون هناك.. وبالإضافة إلى شعور كل واحد منا بأن نفسه لم تكن ثم كانت، بالإضافة إلى هذا الوجدان فإن هناك دليلا واضحا على محدودية الأرواح ومحدودية إمكانياتها العملية بعد إنفصالها عن الجسم، وهو ما كشفت عنه الإتصالات التي جرت بطريق أو بآخر مع الأرواح بأساليب حديثة وسئلت عن إمكانياتها وخصائصها مما علم منها ان كل روح محدودة بحدود خاصة ولها أعمال خاصة منفصلة عن الجسم.

ومن هذا الواقع نعرف الرد على شبهة فلسفية حول المعاد تقول: ان الروح تبقى – على القول بالمعاد – معطلة، فلابد لها من الحلول في جسم جديد لكي لا تبقى معطلة.. ورد هذه الشبهة ان الأرواح تتمكن من القيام بأعمال مستقلة فإذا خرجت من الأجسام بدأت نشاطاتها الخاصة ولم تبق معطلة كما يقول صاحب الشبهة.

2- ان الأرواح قد تتذكر من عالمها السابق أشياء، فقد ثبت علميا ان الإنسان قد يعلم كثيرا من الأشياء بدون معلم. مثلا: يذهب إلى مدينة لأول مرة في عمره ثم هو يهتدي إلى أسواقها ومعالمها وشوارعها ويتذكر انه سبق له ان رأى هذه المدينة بكل تأكيد. وأغرب من هذا انه قد يتفق ان يرى الواحد منا رجلا لأول مرة في عمره ويحس بأنه صديق منذ الأزل بما يكن له من حب ومعرفة سابقة. ولا يكون هذا دليلا على أن الارواح كانت تعيش في أبدان سابقة ثم انتقلت إلى أبدانها الجديدة كما زعم القائلون بالتناسخ حديثا، وانما هو دليل على وجود مسبق للروح على الجسم.

3- ان حياة الجسم بالروح، وإن واقع الموت لا يعني سوى انفصال الروح عن الجسم وهو أشبه شيء بالنوم الذي تنفصل فيه الروح عن الجسم قليلا.. وكما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: ( و الذي بعثني بالحق لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون.)[170] كما جاء في حديث آخر عن الامام الباقر عليه السلام: ( كان فيما وعظ به لقمان إبنه أن قال... و إنما النوم بمنزلة الموت، و إنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت.)[171] وكما تعذب الروح في حالة النوم بالأحلام المزعجة ويتأثر البدن بذلك إيلاما وتنعم بالأحلام الطيبة فتنعكس آثارها على الجسم أيضا كذلك يكون بعد الموت..

---------------------

الجبر والاختيار..

يتحدث الناس عما إذا كانوا مختارين في أعمالهم أم مجبورين من قبل الله عز وجل ومن قبل قوى الكون. وهناك موضوع آخر سيأتي تحت عنوان (القضاء والقدر) حيث يجري الحديث حول انه ما معنى ان الله قدر هكذا، أو قضى هكذا؟ أيمكن أن يكون معناه انه سبحانه يجبر الناس ويضطرهم على ما هم عاملون، أم له معنى آخر؟

ولابد لنا في الموضوع الأول ان نقول:

ان الوجدان الشخصي الذي هو أكبر شاهد على الحقيقة، يشهد بأن الإنسان عندما يقوم بأعماله العادية ، يكون متمتعاً بحرية تامة في الاختيار، ومعنى ذلك انه يجد نفسه حينذاك غير مكره على اختيار أحد الطرفين، وان له استطاعة تامة في ان يقدم أو لا يقدم، يعمل أو يترك، يختار هذا الطريق أو ذاك.. ألست ترى نفسك حينما تنتقل من وإلى البيت انك تخطو باختيارك، ولك ان ترجع؟ وحينما تقرأ كتاباً انك تقرأ بحريتك ولك ان لا تقرأ؟ ولكن هاهنا واقع يجب ان لا ننساه وهو ان هذه القدرة التامة على الفعل والترك بنسبة واحدة ليست من ذات الإنسان. هذه السلطة والإرادة الحرة، قوة يهبها الله للإنسان حينما يتردد بين الفعل والترك. فهي تماما مثل موهبة العقل وموهبة العلم، فبإستطاعة الله ان لا يعطي عبده هذه القدرة فيصبح لا إراديا أو مجنونا، ولذلك فإن العبد في الوقت الذي هو مختار بكل معنى الكلمة في ان يترك وان يعمل، فهو تحت سلطان الله المطلق، لأن اختياره هذا وقدرته هذه مستمدة وموهوبة من الله. فهو مختار في حدود صلاحياته الموهوبة له لذاته، لذلك فإن الله إذا أراد ان يمنعه من الحرية سلبه هذا الاختيار. وهذا جوهر كلام الإمام الصادق عليه السلام: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)[172] ذلك لأن الجبر يعني ان الإنسان لا إرادة له ولا رأي مستقل، بل انه مضطر ومجبور من قبل الله أو بسبب القوى الطبيعية. وهذا يسلب الفرد تكاليفه ومسؤولياته تجاه أعماله ذلك لأن المجبور لا تكاليف له ولا عقاب عليه.

والنصوص التالية تشرح هذا الواقع وتشهد له:

1- عن الإمام الرضا عليه السلام، قال أحد أصحابه: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟

قال (ع): الله اعز من ذلك، قلت: فأجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل و أحكم من ذلك. ثم قال: قال الله عزوجل يا بن آدم انا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك[173].

ومثال بسيط يكفي معنى هذا الحديث فلو وهبت لصديقك وهو رجل عاقل دينارا فذهب واشترى به متاعا حسنا فمن الذي ينسب إليه شراء المتاع، انت ام هو؟. طبعا أنت لأنه لولا أنك اعطيته الدينار لم يستطع من شراء المتاع.. ولو انه اشترى به مسدسا وقتل به نفسه فمن المسؤول، أنت أم هو؟. طبعا هو لأنك أقدرته على المال ولم تجبره على شراء المسدس أو قتل نفسه.. وهكذا الله حينما أعطانا القدرة على اختيار الحسنات كان أولى بها، وحينما اخترنا –بتلك القدرة- السيئات كنا أولى بها.

2- عن الإمام الصادق عليه السلام: (الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم ان الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله عزوجل في حكمه وهـو كـافر. ورجل يزعـم ان الأمر مفوض إليهـم فهذا وَهَّنَ الله في سلطانه فهو كافر، و رجل يقول: إن الله عزوجل كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم مالا يطيقـون، فإذا احسن حمد الله، و إذا اسـاء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ)[174].

شبهات وردود

هناك بعض الشبهات انتحلها بعض المنكرين، ممن قالوا بالجبر، لابد من التعرض لها. ولكن قبل ذلك يجب ان نعلم انه حين عرفنا بوجداننا ان لنا كامل الحرية بأن نترك أو نعمل أي شيء، بعد هذا لا بد ان نتحقق عن واقع الاستطاعة هذه. الإسلام يقرر ان كل عمل اختياري لابد له من عامل، ولابد لهذا العامل من ان يملك القدرة التي يرجح بها أحد الطرفين على الآخر.. وهذه القدرة هبة من الله للنفس التي تريد أن ترجح، وهي لا تتأثر بأية دوافع خارجية.. وبكلمة أخرى فإن الاستطاعة عند الإسلام نور يفيضه الله على النفس حين العمل فتصبح كل العوامل متساوية بالنسبة اليها وتفقد كل قوتها أمام تلك الومضة الإلهية التي تعطي النفس القوة الكاملة على الفعل والترك. هكذا يقرر الإسلام واقع الاستطاعة، وعليه فالقوة الإرادية تأتي من الله حين العمل، فبمشيئة الله وقوته يستطيع العبد ان يختار هذا الجانب أو ذاك.. وهذا ينافي التفويض، إذ التفويض يعني ان العبد يختار بعيدا عن مشيئة الله. إذاً فلا جبر، إذ الجبر يعني ان تختار للنفس أحد الجانبين قوة خارجة عن ذات الإنسان. ولا تفويض لان ذلك يعني امتلاك الإرادة بصورة ذاتية وهذا مما يخالفه الإسلام. ولنعرج على الشبهات للرد عليها وبيان تفاهتها:

1- إن الإنسان مفطور على حب ذاته وحب مصلحته الخاصة، فهو يسير بصورة طبيعية وراء ما ينفعه. والمصالح المختلفة هي التي تحددا تجاهه في الواقع وفقا لملابسات نفسه فهي إذاً الرائدة للإنسان نحو ما تقتضيه من اتجاه.. ومن هنا ظهرت الجبرية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي قال بها كل من: ماركس، دركهايم، فرويد.

والجواب: صحيح ان النفس تهوى ذاتها بصورة طبيعية، وان الإنسان يحاول دائما ان يجلب إلى نفسه النفع ويدفع الضرر، ولكن هذا لا يعني ان النفس مجبورة على اتباع هذا الهوى وهذا الحب.. ان النفس تملك - بإذن الله - قوة فوق قوة الحب وهي قوة الرأي وقوة الإرادة، فتختار حينا ما تحب النفس فتتبع بذلك هوى النفس، وتختار حينا آخر ما تكره النفس وخلافا لما تحب. وبعبارة شاملة: ان هناك فرقا واضحا بين ان تكون حركة الإنسان وراء مصالحه حركة لا إرادية وجبرية - كحركة الشمس حول الأرض - وان تكون إرادية بمعنى ان بإستطاعة البشر ان يتوقف عن السير ولا يستمر في جلب المنافع، لا يأكل ولا يكتسب ولا ينكح تماما كما يفعل الزهاد وبعض الثائرين..

والوجدان شاهد على ان للبشر مقدرة كافية في مخالفة النفس بالسير في اتجاه آخر، وهذا هو الشرف الإنساني الذي يتميز به عن كل حي آخر. كما ان باستطاعة الإنسان ان يخالف تقاليد الاجتماع وان سبب له ذلك ضررا كبيرا وان يغلب حالته النفسية بإتجاه معاكس.

2- و يقولون: أليس الله يعلم ان عباده يذنبون علما سابقا على وجود ذنبهم؟ ثم أليس الله عليم ولا يجهل ولا يمكن ان يخطأ؟ إذاً فلو علم الله اني أكذب فإني لا اقدر على أن لا أكذب، إذ لو لم أكذب إذاً لزم ان يكون علم الله جهلا؟

الجواب: بالرغم من ان هذه الشبهة تعتبر قوية في الأوساط الفلسفية فإن جوابها واضح وبسيط يُعرف بعد ان نفهم واقع العلم، ولنأت له بمثل:

انك تعلم ان أخاك سوف يموت بعد مئة سنة علما يقينا فماذا يعني هذا العلم ، و ما هو تأثيره في الحدث؟ ان يعني الواقع الخارجي الذي يحدث بعد مئة سنة قد انكشف لك بصورة واضحة، وهل هناك شيء آخر يؤثر في الواقع؟ طبعا لا، حيث ان علمك لا يؤثر في الواقع الخارجي فلست انت الذي تقتل أخاك، بل ان لموته سببا خاصا، و أنت فقط تعلم انه سيموت. فالعلم ليس الا معرفة الواقع كما هو وليس سببا في صنع الواقع.. وإليك مثلا آخر:

تعلم ان زيدا سوف ينتحر غدا بصورة إرادية واختيارية، فهل يعني هذا: أنك قتلته؟ أبداً، ذلك لأنه انما انتحر بإرادته الخاصة ووفقا لدواعي مخصوصة، ولست أنت الا عالما بما سوف يجري. فالعلم لا يؤثر في صنع الأمر والواقع، بل في كشفه. ولدى مقايسه العلم بالمستقبل بالعلم بالماضي يصبح الأمر أكثر وضوحا، لو انك علمت بأن زيدا مات أمس فهل يعني هذا ان لعلمك تأثيرا في هذا الموت؟ وبما ان حقيقة العلم واحدة في الماضي والمستقبل فليس هناك مجال للقول بتأثير العلم في الواقع، وعلم الله بالأشياء لا يعني انه هو الذي يفعلها مباشرة. فإنه يعلم مثلا ان زيدا سوف يختار الكفر بحريته وإرادته على الإيمان، وليس معنى هذا انه تعالى يجبره على ذلك.

وبتعبير آخر: ان زيدا يختار بين الكفر والإيمان، ولابد انه يختار بحريته التامة، فأيا منهما يختاره؟ انا لا أدري. ولكن الله يعلم بأنه سوف يختار – بكل حرية وإرادة- الكفر لا الإيمان. وهذا لا يعني سوى انه يعلم بنتيجة الاختيار لا انه هو الذي أجبر عليها صاحبها. أترى لو أنك عرفت ان لو خيرت إبنك بين دينار وبين متاع جميل قيمته نصف دينار، وعلمت بأنه سوف يختار المتاع – بكل حرية- فهل معناه انك أجبرته على اختيار المتاع؟ طبعا لا. انما أنت عالم فقط.

3- و يقولون: ان طينة كل فرد قد خلقت بشكل خاص.. فالشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه.. وولد الزنا لا ينجب إلى سبعة بطون.. ومن انعقدت نطفته في حرام لا ينجب.. وهكذا الجينات الوراثية تؤثر على تعيين سلوك الفرد فهو مضطر إلى اتخاذ نوع خاص من السلوك فهو إذاً مجبور وليس بمختار كما يزعمون.

الجواب: ان الطينة (متخذة من لفظ الطين باعتبار ان أول الخلق كان طينا لازبا)؛ تعني خلق جوهر النفس. وهذا الجوهر قد يكون صالحا يرغب في الصالحات، وقد يكون طالحا فيهوى الخطيئات.. الناس بطبعهم الأولي على قسمين: فريق يحب الخير بذاته، وفريق يهوى الشر بذاته (كل يعمل على شاكلته) و(كل حزب بما لديهم فرحون).. بيد ان هناك شيئا آخر يثبته الإسلام غير حب النفس وغير هواها، ذلك هو الرأي. تلك هي القدرة التي توهب للإنسان وتجعل الفعل والترك سواء عندها، تلك القدرة التي نطلق عليها اسم (الإرادة).. وأنها ليست مخلوقة مع النفس حتى تتأثر بالطينة، بل انها كالعلم موهبة إلهية. فولد الزنا مثلا يحب الشر بذاته ولكن حينما يعمل الشر لا يعمله لأنه يحبه بل لأنه أراد ذلك بحيث لو انه كان يريد خلافه – وان كان صعبا عليه – كان يستطيع ان يأتي به أيضا.

مثال ذلك: من تعود على التدخين يحب هذا العمل كثيرا، ويصعب عليه تركه ولكن لا يعني هذا انه مجبور على ذلك، بل بإمكانه التغلب على هذه الصعوبة وترك التدخين.. فالطينة والعادة وأكل مال الحرام وما أشبه تحدث حالات نفسية تهوى جانبا من جانبين، ومن الصعب مخالفته باختيار الجانب الآخر. ولكن بما ان الإرادة ليست من النفس فإنها حاكمة على هذا الحب والهوى وباستطاعة الإنسان بها ان يختار الجانب الآخر. وبعبارة وجيزة: الطينة تسبب الحب والهوى، وللنفس فوق الحب إرادة ترجح ما تحب النفس وقد ترجح ما تكره.

--------------------

القضاء والقدر

1- كلمة القدر (المتخذة من مادة قدر – يقدر – تقديرا) تعني: التحديد والتنظيم والتدبير.. فالله قدر كل شيء تقديرا. فالشمس مقدرة ، فلا تقترب ولا تبتعد عن الأرض أكثر من المدار المقرر لها ولا تبعث الضوء خارجا عن المنطقة المحدودة له ، وهكذا القمر مقدر بمداره ، ومقدار نوره ، وكل شيء مقدر بتحديد وتدبير.

وكلمة القضاء (متخذة من مادة قضى – يقضي- قضاءً) تعني إمضاء التدبير. فبعد أن قَدّرَ الله الأشياء أجرى هذا التقدير في عالم الكون. فمثلا يقدر الله ويحدد إعطاء ولد لزيد ثم يقضي بذلك بأن يعطيه الولد فعلا ، فهنا يكون قدر وقضاء حيث قدر الله ذلك أولا ثم قضى ما قدره ، وهذا المعنى للقدر والقضاء معترف به دينيا وعقليا الا انه لا ينافي حرية الإنسان إذ انه هو في حدود الاقدار المقضية.

وهناك معنى آخر للقدر وهو العلم، فقدر الله يعني: علم الله بالأشياء كيف تقع منذ الأزل. وقد سبق ان علم الله بالأمور لا يؤثر أيضا في اختيار العبد لها وقدرته على تركها وفعلها جميعا بنسبة متساوية ، وفي الحديث المروي عن حمدان بن سليمان قال: كتبت إلى الإمام الرضا عليه السلام أسئله عن أفعال العباد مخلوقة ام غير مخلوقة؟ فكتب (ع): (أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام[175]).

2- أما القضاء والقدر بمعناهما الاصطلاحي فيعني ان كل عمل للعباد مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ الذي ينظر إليه الأنبياء والملائكة والصالحون فيعرفون ما سوف يجري في المستقبل. ولكن ما كتب في هذا اللوح يتبدل بإرادة الله حيث قال: [يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ](الرعد 39).

3- ان كل عمل يجري من العبد – فهو انما يقدر من قبل الله ، أي بما أعطاه الله من قوة وبما وفر له من ظروف مواتية.. وجاء في الحديث عن البيزنطي قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ان أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم يقولون بالاستطاعة؟. فقال عليه السلام: (أكتب: قال الله تبارك وتعالى: يا بني آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ما تشاء، وبقوتي أديت الي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك. وذلك أني لا اُسئل عما أعمل وهم يسألون[176]).

وفي حديث آخر عن الحسين بن علي عليهما السلام: سمعت أبي علي ابن ابي طالب عليه السلام يقول: (الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي. فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضا الله وبقضائه وتقديره ومشيئته وعلمه. وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيئة الله وبعلم الله. وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء وبقدر الله وبمشيئة الله وبعلمه، ثم يعاقب عليها[177]).

(تقدير الله يعني: تحديده للأشياء.. وقضائه: تهيئة الوجود للأشياء.. ومشيئة الله .. نعمته بهذا الاعطاء أولا.. وعلم الله: انه كان يعلم منذ الأزل) هذا وان واحدا من هذه لا يخالف الاختيار إذ ان الله شاء ان يكون العبد مختارا ثم قدر، وقضى ذلك بإعطائه الاستطاعة فكان صدور الفعل منه بالاختيار وبقضاء من الله يعني: ان الله لم يمنعه بل اذن له في ذلك. فلو انه كان يسلب القدرة في اللحظة الأخيرة لم يتمكن من الفعل أبدا ولكنه لم يفعل.

وبصورة موجزة ان للقدر ثلاثة معانٍ:

1- ان الله عالم من الأزل بما هو كائن.

2- ان الله كتب ما يجري في اللوح المحفوظ وله تبديله متى شاء وهو المعبر عنه (بالبداء).

3- ان كل شيء يقع في الأرض أو السماء، فإنه يقع تحت سلطان الله، وبما يعطي الله العباد من القوة والقدرة لحظة بعد أخرى.

ومن الواضح ان أيا من هذه لا تؤثر في اختيار العبد، إذ ان العلم تابع لما يقع، وان اللوح –وهو نوع آخر من العلم - فيه البداء. وأما ان كل شيء من الله فلا يؤثر في ان يكون العبد مختارا بتلك القدرة الموهوبة التي أعطاها الله له.

--------------------

الغاية من الخلق

ما هي الغاية من الخلق؟

سؤال يفرض نفسه على الإنسان ليوفق مسيره طبقا للغاية التي جاء من أجلها.. الغاية ليست اللعب والعبث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . أيلعب أو يعبث الحكيم الذي ملأت آثار حكمته السموات والأرض؟ وليست الغاية حاجته إلينا ليدفع ضرا أو يجلب نفعا، وهو القادر القاهر الغني المتعال. والواقع انه بتواتر النعم وتوالي الآلاء، وما سخر لنا من الشمس والقمر والنجم والشجر، وما كرمنا به من العقل والقدرة ، وما فضلنا به على كثير ممن خلق تفضيلا، بذلك كله نعرف: ان الغاية من خلقنا هي الرحمة بنا ، بيد انه لما نرى ان النعمة في الدار الدنيا تمتزج بالنقمة، وان الراحة يعقبها التعب، وان في العالم ظلما فاحشا وفسادا ظاهرا، نهتدي بذلك الى ان الله لم يجعل هذه الدار التي نعيش فيها دار الرحمة التي لأجلها خلقنا، وان كان قد اسبغ علينا فيها بالنعم والآلاء.. فلا بد إذاً ان نبحث عن مكان آخر غير الدنيا فيه الراحة الكاملة التي تناسب وكمال الله سبحانه فما هو ذلك المكان؟ انه الآخرة التي وعدنا بها، فالغاية من الخلق السعادة في الآخرة . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا ريب في ان الدنيا تنطوي على خير وشر، ولا يمكن ان يكون الشر فيها نعمة أيضا، وبما ان الله متعال عن الشر الذي ينافي الرحمة الواسعة التي لا حدود لها، فلابد من القول بأن الله تعالى انما جعل الخير والشر في الدنيا ليختبرنا بهما، إذ انه كلفنا بأن نختار بحرية أحدهما. والى هذه الحقائق تشير الآيات التالية:

1- [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ] ( الدخان 38) ، [مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( الدخان 39).

2- [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ]( المؤمنون115).

3- [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( الذاريات 56).

4- [.. وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ..] (أي للرحمة).(هود 118-119).

5- [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ اَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](هود7).

من الآية الأولى يظهر ان الله لم يخلق الخلق لعبا بل خلق السماوات و الارض بالحق ، ويظهر من الآية الثانية انه لم يخلقهم عبثا. فلماذا خلقهم؟ لكي يعبدوه (كما في الآية الثالثة). ولماذا يعبدوه؟ يظهر من الآية الرابعة انها لكي يرحمهم؛ أي ان العبادة انما فرضت لتكون وسيلة لرحمة الله تعالى. وأين يرحمهم؟ ليس في الدنيا لأنهم جاؤوا هنا ليبلوهم أيهم أحسن عملا، (كما في الآية الأخيرة) بل يرحمهم في الآخرة.

وجاء في السنة الشريفة:

قال الراوي سألت الصادق عليه السلام فقلت: له لم خلق الله الخلق؟ فقال(ع): (ان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم:

1- لإظهار قدرته.

2- وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه.

وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)[178].

وعن الإمام الحسين عليه السلام قال: (أيها الناس! ان الله جل ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه[179]).

وسأل أحد الكفار الإمام الصادق (ع) فقال: لأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج اليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث بنا؟

قال (ع): (خلقهم لإظهار حكمته وإنفاذ علمه وإمضاء تدبيره[180]).

أقوال وردود..

ولدى معرفة هذه الغاية تتوضح لنا طائفة من الحقائق التي يسبب الجهل بها الوقوع في سلسلة من الشبهات، وهي شبهات بناها الماديون لتبرير إنكارهم لوجود الله سبحانه. ونحن إذ نشير إلى هذه الشبهات وردودها نعتمد في التوضيح على وعي القارئ لما سبق من الحديث المفصل:

1- يقولون: لو كان الله موجودا، وكان قديرا حكيما، فلماذا -إذاً- هذه النكبات وهذه الويلات التي تلف الناس من حين لآخر؟

الجواب: ان الله القدير الحكيم لم يخلق الدنيا الا ليعلم من يصمد أمام نكباتها ومن ينهار.. إذاً فالويلات ضرورية إلى حد ما لفلسفة هذا الكون، ذلك لأن للويلات غايات عديدة وأسباب مختلفة نشير إلى بعضها اختصارا وهي:

ألف: ان الويلات تسبب رجوع الناس إلى ربهم ومعرفتهم به واقترابهم إليه. قال الله تعالى: [فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ]( الانعام 42).

وليس من ريب في ان العودة إلى الله توجب خيرا كثيرا.

باء: انها تكفِّر عنهم بعض ذنوبهم، أو تكون معاقبة من الله على تلك الذنوب، ذلك لأن طائفة من المعاصي يلقى فاعلها العقاب العاجل، ومن هذا النوع كان العذاب الذي لف قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وما أشبه.

جيم: ان الله بها يرفع درجات الصالحين من عباده.

ففي الحديث: ان للحسين (ع) درجة لم يكن ينالها الا بالشهادة.

دال: ان الكوارث تعمل على التمييز بين المؤمن والكافر.

قال سبحانه: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( العنكبوت 1-3 ).

2- ويقولون: قد نرى في حوادث الكون انها تصيب أناسا لا يستحقون أي جزاء سيء، فما سبب ذلك؟

الجواب: ان هؤلاء الناس سوف يضاعف لهم الأجر في الآخرة، فإن الله ليس بظلام للعبيد.

3- ويقولون: ان هناك طائفة من الجبابرة والطغاة يسلطون على رقاب الناس ويهلكون الحرث والنسل فلماذا لا يعذبهم الله؟

الجواب: في الوقت الذي قد يكون تسلط هؤلاء بسبب أعمال الناس أنفسهم كما ورد في الحديث: [كما تكونون يُولّى عليكم[181]].. في الوقت ذاته فإن سبب بقاء هؤلاء ليس لكي يزدادوا ثوابا إذ لا ثواب لهم بل يزدادوا إثما ويزداد المظلومون أجرا في يوم القيامة.

4- ويقولون: لماذا لا يهدي الله الناس جميعا؟ ولماذا ترك بعض الناس يفسدون ويقترفون المعاصي الكبيرة؟ فهل يعني ذلك ان الله راض بالمعاصي أو هو عاجز عن هدايتهم؟

الجواب: تعالى الرب الحكيم عن ان يرضى بالقبيح أو يعجز عن ردعه، وانما الله أراد ان يجعل الدنيا دار بلاء وامتحان وقد ترك الناس يختارون ما يشاؤون حتى يختاروا طريقهم بأنفسهم ويحصلوا على الجزاء المناسب، ومجرد هذا الاختيار المخول إليهم كرامة لا تقدر.

5- و يقولون: لماذا نرى المؤمنين الصادقين أكثر الناس بلاء وأضيقهم عيشا وأشدهم عناء مع أنهم متصلون بالرب العظيم وهو قادر رحيم فلماذا لا يراعيهم؟

الجواب: ان الله لم يجعل الدنيا للمؤمنين الا مزرعة مباركة للآخرة، ولذلك فإن نفوسهم رغبت عنها وزهدت فيها، وليسوا –كما زُعِمَ- أضيق الناس عيشا بل العكس صحيح.

وبصورة مجملة: الشبهة نابعة من اعتبار الدنيا دار راحة ومنزلة قرار بينما هي دار بلاء وامتحان وانها مجرد جسر نحو الآخرة.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (الدنيا مزرعة الآخرة)[182].

فطوبى لمن فهم ذلك.. واتخذها طريقا.. ولم يتخذها قرارا..

------------------------

القسم الثالث: الإنسان والمجتمع

البحث الاول:النظريات المادية و الانسان و المجتمع

كلمة في البدء

بعد ما طفنا حول الفكر الإسلامي ابتداء من نظرته إلى العقل والعلم، ومرورا بالفلسفة العامة، وانتهاء بالعقائد الإسلامية كان لابد من حديث موجز عن الإنسان والمجتمع في الفكر الإسلامي.. لكي نحصل على النظرة الإسلامية الشاملة في الحضارة الإنسانية، ولكي نطلع على مدى الانسجام بين الركائز الفكرية والتشريعات العملية في البناء الحضاري للإسلام.

ونبدأ الحديث باستعراض الحلول العامة التي وضعت حتى الآن للمشكلة الاجتماعية، ثم نقوم ببحث النظريات المادية، الواحدة تلو الأخرى، وما تنطوي عليه تلك النظريات من أخطاء ثم نستعرض الخطوط العامة للفكر الإسلامي. ونختم الحديث ببيان مقتضب حول ميزات التشريع الإسلامي، والله المسدد.

ماذا تعني المشكلة الاجتماعية؟

لقد خلق الإنسان حضاريا يتطلع إلى آفاق أبعد من إشباع الحاجات الضرورية كما في سائر الاحياء.. وقد اكتشف ان تحقيق تطلعه البعيد لا يمكن بدون تشكيل مجتمع يسوده التعاون.

ونبعت المشكلة من هنا. فما هو المجتمع المتعاون؟.. ليس من شك في ان الظلم عقبة تعترض طريق التعاون، ولكن كيف يمكن القضاء على الظلم الاجتماعي وكيف يحل العدل مكانه؟

للإجابة على هذا السؤال كان لابد ان يحدد بدقة: ما هو الظلم؟ بل ما هو العدل؟.. فجاء الجواب: العدل اعطاء الحقوق وافية ولكن استمر الغموض أيضا، وجاء سؤال آخر: ما هي الحقوق وكيف يمكن الوفاء بها؟ ما هو حق الفرد على المجتمع؟ وما هو حق المجتمع على الفرد؟ وبأي الحقين نضحي لدى تعارضهما؟ وما هي الدولة الصالحة التي تقوم باداء الحقوق؟

وكان من الطبيعي ان يتصل الموضوع مباشرة بمعرفة واقع الحق ثم بمعرفة واقع صاحب الحق. فمن هو الانسان؟ ما هي حقيقته؟ ما هي حاجاته؟ ما هي حقوقه؟

وما هو المجتمع؟ ما هي حقيقته، فحاجاته، فحقوقه؟

والنظرية الفكرية التي تجيب على هذه الأسئلة بدليل علمي أو فلسفي تسمى بالفلسفة الاجتماعية أو الفلسفة العملية.. أما الإجابات الجانبية التي تقوم على أساسها فإنها تسمى بالنظام الاجتماعي.

وجملة المسائل الغامضة التي تشكل مواضيع هذه الاجابات هي المشكلة الاجتماعية.إذاً:

1- الفلسفة العملية= نظريات حول حقيقة الإنسان والمجتمع.

2- النظام الاجتماعي= الأحكام الواضحة التي تستنبط من تلك النظرية.

3- المشكلة الاجتماعية= البحث عن إجابة صحيحة لهذا السؤال: كيف يمكن ان يصنع الإنسان حضارته؟

فالمشكلة الاجتماعية تعتبر الموضوع الأول للفلسفة العملية ثم يأتي دور النظام الاجتماعي. إذ نحن – في البدء - نطرح السؤال عن الطريقة التي يمكن ان يصنع الإنسان بها حضارته؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال نحاول أولا: وضع نظام اجتماعي. إلا ان المحاولة تبوء بالفشل لعلاقة الموضوع بالبحث عن حقيقة الإنسان والمجتمع فنضطر أخيرا إلى معرفة الفلسفة العملية التي تعالج حقيقة الإنسان والمجتمع.

النظام الاجتماعي

بعد ان طاف البشر تطوافا مرهقا حول النظام الأصلح للمجتمع انتهى إلى نظامين رئيسيين نابعين من مفهومين متعاكسين:

1- التسليم لله، وتقبل تشريعه كاملا. وهذا هو النظام الإسلامي في صيغته الأخيرة المتمثلة في دين النبي محمد (ص).

2- الاستبداد بوضع النظام لنفسه، وهو ينقسم تبعا لافتقاد البشر المقياس الدقيق لمعرفة الصحيح عن الباطل، ينقسم إلى نوعين:

أ- النظام الفردي الرأسمالي.

ب- النظام الجماعي الشيوعي.

وبالرغم من ان الإنسان اضطر إلى تعديل كلا النظامين المتطرفين ذات اليمين وذات اليسار، تعديلا جعلهما يقتربان نوعا ما إلى النظام الإسلامي.. فإن الإنسان العصري لا يزال يسرح خياله في متاهة الجهل، ويعتقد بأن الشيوعية أو الرأسمالية المتطرفة أصلح الأنظمة التي تسير بحضارة الإنسان قدما إلى الكمال.

ومن هنا فإنه لا تزال توجد فكرة تنادي بسلب حقوق الفرد بصورة تامة ودفع المجتمع إلى مستوى الإله المعبود.. وتقابلها فكرة متطرفة تنادي بوجوب إعطاء الفرد كامل حريته وجعله إلاها من دون المجتمع.

ونحن إذ نتحدث عن النظريتين المتقابلتين نحاول تجريدهما عن التعديلات العملية التي طرأت عليهما اضطراراً وبعد ان فشلا في حقل التطبيق الخارجي.

النظام الرأسمالي

يرتكز هذا النظام على فلسفة عامة تقول: ان تصارع الأفكار والمصالح يظهر على المسرح أفضل ما ينتجه الإنسان!

ويلزم على النظام الاجتماعي ان يهيء ظروف هذا التصارع كأفضل ما يكون، وذلك بفسح المجال لأكبر قدر ممكن من الحريات الفردية لتكون وسيلة مشجعة للإنسان تبعثه لإبداع أفضل الأفكار والقيام بأحسن الأعمال.

والحريات تتلخص في أربعة أقسام هي: السياسية والاقتصادية والفكرية والشخصية.

فالحرية السياسية تعني إفساح المجال لكل فرد على ان يقرر مصيره السياسي بنفسه عن طريق اعطائه حق التصويت والمحافظة على هذا الحق.. وينشأ من هذا الحق: التنافس الحر على السلطة، ويكون أقدر الناس على السياسة هو المنتخب النهائي للمجتمع.

والحرية الاقتصادية تدفع بكل فرد إلى خوض صراع حر على العمل، وينشأ من هذا ان كل فرد يضع كل طاقاته الممكنة في المعركة، وبهذا يحصل المجتمع على أكبر قدر ممكن من طاقات أفراده الانتاجية.

هذا من ناحية التنمية الاقتصادية. وأما من ناحية الاقتصاد السياسي فإن الحرية تحفز بكل فرد إلى اختيار مصالحه الخاصة، وهذا الحافز يحفظ التوازن الاقتصادي للبلاد؛ فمثلا: تبقى هناك نسبة معينة بين دخل الفرد ومستوى معيشته، إذ مجرد ان ينخفض دخل الفرد أو يرتفع مستوى معيشته حتى يطالب بازدياد الأجور وهو بدوره يقضي بتعديل الأسعار.

والحرية الفكرية تعني ان لكل شخص حقا في التمسك بعقائد وآراء معينة تروق له ولا يحق لغيره منعه من الالتزام بتلك الآراء. ومن الحرية الفكرية تنبثق الحرية الدينية وهي تقضي بتعديل الأفكار التي تنتشر في المجتمع بسبب التصارع بينها واختيار الجمهور لها.

والحرية الشخصية، تعطي لكل فرد الحق في التزام سلوك يختاره دون ان يكون لأحد الحق في منعه عنه.. وهذه الحرية تعين أيضا أفضل أقسام السلوك عن طريق اختيار أكثرية الناس له؛ فمثلا: الزي المناسب الجميل يختاره المجتمع بعد تقارن الأزياء المختلفة التي تختارها كل فئة فتستقر الأكثرية على أنواع معينة من الزي.

نقد الرأسمالية

ان الرأسمالية لم تعد اليوم تلك الجنة التي وعد بها البشر منذ قرون طوال، إذ منيت بنكبات مريرة، والتي كان من أهمها تمخض الشيوعية عنها كرد فعل عنيف لنظام النفاق والتنافس المرهق. وتتلخص نقاط ضعف الرأسمالية فيما يلي:

1- انها نظام مادي ينطلق من مبدأ الاستبداد بالحكم من دون الله وهو لذلك ينطوي على أخطاء ضخمة لا يمكنه التملص منها، لأن البشر مهما أوتي من علم وقدرة وأخلاق فإنه لن يبلغ مستوى دين الله الذي يشع علما وقداسة وقوة.

وقد تقدم في فلسفة الرسالة، ما يدعونا إلى الأخذ بالإسلام جملة وتفصيلا.

2- الرأسمالية مادية لأنها تجعل القيمة التامة للمصلحة، وتقيِّم الحقائق الأخرى من دين وأخلاق وفق ما تنطوي عليها من تلك القيمة؛ قيمة المصلحة الذاتية. وهذا التقييم المطلق للمصلحةالذاتية يشكل جذر الأخطاء في النظام الرأسمالي.

3- كانت الرأسمالية مادية مرة ثالثة حين شرعت نظمها بعيداً عن التفكير في الحياة بعد الموت، تلك الحياة التي لو كانت واقعية وهي كذلك، لكانت أسمى من هذه الحياة. فينبغي ان يجند الإنسان بعض طاقاته لا أقل لتلك الحياة ويعمل وفق معطياتها. هكذا تنطلق الرأسمالية من منطلق مادي سواء آمنت بذلك أو رفضت الاعتراف به كسبا للمزيد من الأنصار.

4- بانطلاق الرأسمالية من العقلية النفعية وتأليهها المصلحة الذاتية، قضت على أية قيمة للأخلاق، ذلك لأن من انحصر تفكيره ضمن نطاق ضيق من المصلحة لا يستشرف ليرى جمال القيم الخلقية وروعتها. ولذلك نلاحظ ان الرجل الرأسمالي يعيش بعيداً كل البعد عن المناقبية السلوكية ولا ينظر إلى الحياة الا من زاوية المصالح الخاصة. وفي تاريخ الاستعمار والعنصرية نقرأ ألف مأساة ومأساة استلهمت من الذاتية الغربية.

وبالرغم من ان الوعي الشديد بسبل الانتفاع يهدي الإنسان إلى تعديل سلوكه وفرض بضعة قيم خلقية على نفسه، فإنها لا تعدو ان تكون متواضعة ومجتثة الجذور. ذلك ان صاحب المصلحة قليلا ما ينظر بعيدا ، ولئن نظر فقليلا ما يعتقد ان في مصلحته الالتزام بالأخلاق ولأن التزم فسرعان ما يتركها حينما تعارض مصالحه.

5- الرأسمالية إذ تنطلق من المصلحة في كل مناحي الحياة ، فإنها تعطي الحق للأكثرية في وضع النظم الصالحة لها وان كانت تضار مصالح الأقلية. فالمصلحة انما هي مصلحة الأكثرية، أما الأقلية فإنها ستعيش طبيعيا تحت رحمة الحكم ما دامت لا تملك ضمانا من الأكثرية برعاية شؤونها.

ولقد كانت الشريعة الإسلامية واعية لمأساة الأقلية فلم تجعل المصلحة ولا مصلحة الأكثرية هي القيمة النهائية للنظام، بل الحق والحق وحده كانت القيمة الأساس.

6- القضية المأساوية العظمى التي تورط فيها النظام الرأسمالي كانت عودة الأكثرية أقلية حاكمة، إذ ما أن أطلقت الحرية الاقتصادية حتى تكتلت الأدمغة البشرية الواعية ومضت قدما في تحقيق مصالحها الذاتية، وأحرزت لنفسها ثروة طائلة. والثروة كل شيء بالنسبة إلى أمة المصالح التي تسودها العقلية النفعية بصورة كاملة. ولهذا فقد أمست الثروة الطائلة التي كدستها الأقلية هي سيدة الموقف تماما.. إذ قامت الأقلية الثرية اعتمادا على ثروتها الطائلة وحفاظا عليها، قامت بضرب مواقع القوة التي كانت تهدد مصالحها. فالقوى السياسية لم تكن قادرة على الصمود بعيدا عن الثروة. وهكذا غزيت الأحزاب السياسية في عقر دارها، بإشتراء ضمائر سادتها وكذلك تنازلت السياسة للاقتصاد بصورة كاملة. وتنازل الاقتصاد للصفوة الثرية، فكانت هي دون الأكثرية، الحاكمة المطلقة الا انها غطت حاكميتها تحت غطاء واسع من الدعاية. فإذا بالناس يختارون ما توافق مصلحة الأقلية وهم يحسبون انها مصالحهم أنفسهم.

ولقد تسلحت الأقلية هذه باليقظة التامة بحيث كانت تتصدى لكل من أراد ان ينفلت من قبضتها و تقضي عليه قضاء تاما، ولكن بعد ان مزجت السم بالعسل والموت بالأحلام.

ولسنا بحاجة إلى القول بأن العقلية الاستعمارية وما أعقبت من مآسٍ وويلات وبلبلة وثورات كانت نتيجة حتمية للعقلية النفعية الرأسمالية.

ذلك لان الترابط بين العقليتين انما هو ترابط بين سبب ونتيجة وعلة ومعلول.. ذلك لأن تلك العقلية التي توحي باستثمار الأكثرية في بلدها هي التي تتطلع إلى استغلال البلاد الأخرى. هكذا كانت الرأسمالية جحيم الشعوب في الوقت الذي كانت تدعي انها الجنة الوارفة.

النظام الشيوعي

لقد أحدثت الرأسمالية أزمة حادة في صفوف تلك الأكثرية المحرومة، فبدأت تشعر بالسم في العسل، والموت في الأحلام، فتسلحت بنظرية الصراع الطبقي والتفسير الديالكتيكي لأحداث التاريخ وصاغت نظرية (الشيوعية العلمية) التي انبثقت منها كمقدمة وتمهيد، الاشتراكية العلمية.

وانطلقت الشيوعية ووليدتها الاشتراكية من هذا المنطلق.

ما دامت الأقلية الثرية تشكل بؤرة الفساد، فلابد من القضاء عليها، بل لابد من القضاء على تلك الأجواء المساعدة لنموها.

وبحثت عن البديل فجاء الجواب في البداية بتشكيل حزب يمثل الطبقة المحرومة فيقودها إلى الحرب الباردة فالساخنة ضد الأقلية المستبدة وتبني دولة العمال.. وتستلم الدولة مقاليد الحكم من أولئك المستغلين ريثما تنضج العقلية الشيوعية في المجتمع. فلا حاجة آنئذ إلى الدولة أيضا فيمكن التخلص نهائيا من الدور السلبي للثروة.. وكانت خطوط الشيوعية تتلخص فيما يلي:

1- تحديد الملكية الفردية لحساب توسيع الملكية الجماعية وتأميم وسائل الانتاج والتوزيع كخطوة أولية لإلغاء الملكية الفردية نهائيا.

2- توزيع الدولة للسلع المنتجة حسب القانون الشيوعي العام (من كلٍ حسب قدرته ولكلٍ حسب حاجاته).

3- تخطيط الدولة لمناهج الاقتصاد العامة.

وينطوي النظام الشيوعي وما يتبعه على خطأ جذري هو: النظرة السطحية إلى مشكلة الثروة.

فمشكلة الثروة ليست مشكلة أناس بأسمائهم وصفاتهم ، وليست مشكلة أشخاص بمؤسساتهم، انما هي أعمق من ذلك وأشمل. المشكلة هي ان البشرية حينما نظرت إلى نفسها نظرة مادية ضيقة تورطت في سلسلة لا تنتهي من المشاكل. فما دامت الحياة المادية هي كل شيء، فعلى كل فرد ان يحصل فيها على أكبر قدر ممكن من المتع الذاتية.

ولذلك فإن أي فرد يعطى له الحق في التصرف بدون رقابة خارجية فإنه سوف يقيم مصالحه على حساب المصالح الاجتماعية بصورة طبيعية.. ولا فرق بين ان يكون إسم هذا الشخص زيد وتكون صفته رئيس شركة كبيرة، أو يكون اسمه عمر وتكون صفته رئيس دولة كبيرة. وحتى لو افترضنا جدلا انه يبتغي الاصلاح وتقديم المصلحة العامة فإنه لا يستطيع ان يراعي الا مصلحة طائفة معينة هي طائفته التي كانت وراء سيادته، كالحزب في دولة العمال ومصالح الرأسماليين في الدولة الرأسمالية. فلو لاحظ رئيس الدولة ان الحزب أصبح بيوقراطيا وجائرا فليس من المعقول ان يتمكن من ضربه أو تحديده. إذ هو الذي يسيره ويدعمه، وضربه يعني الانتحار. وهكذا لا تتمكن الدولة الرأسمالية من تحديد الرأسمالي لانه هو الذي يدعمها وينصرها. فما دامت المشكلة قائمة وهي نابعة من نظرة الشخص المادية إلى الحياة، فإن الخطأ موجود. والفرق ان الأكثرية كانت خاضعة في الرأسمالية لحكم الأقلية المستغلة بأسماء مستعارة وبطرق ملتوية، وكانت تلك ترائي لها انها حامية مصالحها، وتمزج السم بالعسل.. ولكن الأكثرية في الشيوعية تخضع للأقلية الحاكمة تحت اسم معين وبطريق مباشر ولا تحتاج هذه الأقلية إلى تبرير حكمها بدليل ولا خسارة بضعة دنانير في العسل لتمزج به السم ذلك لأنها ستُجبر الأكثرية على اجتراع السم قهرا.

ان تجربة أكثر من نصف قرن من قيادة الحزب الشيوعي لطائفة من دول العالم أظهرت بوضوح عدم قدرة الشيوعية على كشف جذر الخطأ، وهو الذي يتلخص في المفهوم المادي للحياة.

ومن هنا فإن النظام الإسلامي استطاع ان يقضي على الاستغلال، ليس بتبديل شخص المستغل من زيد إلى عمر، ولا تبديل صفته من رئيس شركة إلى رئيس دولة أو رئيس حزب، بل بتبديل النظرة المادية إلى نظرة معنوية. وحين بنت الفلسفة الإسلامية بناءها على أساس معنوي - مناقبي واستطاعت بناء طليعة مناقبية تفضل مصالح المجتمع على مصالحها الذاتية، أوحت إلى الناس ان اتبعوا هؤلاء، وأعطت بيدهم القدرة على تحديد نشاط الأثرياء ومنعهم عن الاستغلال وعن الفساد ثم أعطت للناس كلهم الحرية الكاملة.. هذه هي خطوط النظام الإسلامي والتي تتلخص في نقاط:

1- الإسلام يغير الإنسان المادي إلى الإنسان المعنوي بفلسفته العامة والصائبة عن الكون.

2- الإسلام يبدل مقياس الانتخاب والقيادة من مقياس راعي المصالح الطبيعية إلى راعي الحق والعدالة الاجتماعية بالنسبة إلى كل إنسان يعيش على الكوكب.

3- حينما يقوم أساس الدين على النظرة المعنوية و الروحية فإن فريقا من الناس ينمون في هذا الحقل فيكونون هم طليعة الأمة وقادتها.

4- يحدد الإسلام المصالح الشخصية بالحق والعدل ثم يطلق الحريات.

هذه هي الخطوط العامة للنظم الاجتماعية الثلاثة، وهي تعتمد على الآراء الفلسفية المتفاوتة في حقل الإنسان والمجتمع وهذا ما نود بيانه فيما يلي بإذن الله.

------------------------

آراء وملاحظات

الحديث عن واقع الإنسان والمجتمع يتناول أعمال الإنسان الاختيارية.. كيف يجب ان تكون لكي تضمن له السعادة والرفاه؟ كما يتناول البحث في جوانب مختلفة من حياة البشر، هي:

1 - الاجتماع؛ ويبحث عما يرتبط بالمعاشرة مع الآخرين والذي ينبثق منه (علم الاجتماع).

2- الأخلاق؛ ويبحث عما هو أفضل أنواع السلوك.

3- الاقتصاد؛ ويبحث عن وسائل العيش وكيف يوفر الإنسان لنفسه حاجياته بصورة أفضل وجهد أقل.

4- السياسة؛ وتبحث عن الحقوق والواجبات وانه كيف يحفظ الناس أنفسهم من تعدي بعضهم على بعض، وهي تكون بين أفراد أمة واحدة وتسمى بـ(بالحقوق المدنية)، وقد تكون بين أمم مختلفة وتسمى بـ(الحقوق الدولية).

ونحن نتعرض هنا للآراء والنظريات التي قدمها فلاسفة قدماء ومحدثون، ونكشف عن نقاط الضعف فيها، تمهيدا للبحث عن موجز فلسفة الإسلام حول الإنسان والمجتمع.

أرسطو*

(322-384 ق.م.)

1- الاجتماع:

الإنسان مدني بطبيعته، ولابد لأفراد البشر من العيش معا حتى يتعاون بعضهم مع بعض، ويتقاسموا الأعمال بينهم فينالوا السعادة التي هي الغاية المتوخاة من الحياة. وتندلع الثورات الاجتماعية (عند أرسطو) عندما ينعدم التساوي بين الناس في الحقوق، ولا تراعى الكفاءة في توزيع الأعمال والثروات والوظائف مما يحمل على إشاعة السخط بين المقهورين فيثورون على الأوضاع. ولذلك فلابد من تشريع قوانين ونظم تحفظ للناس حقوقهم حسب كفاءاتهم وأعمالهم.

2- الاقتصاد:

يعتقد أرسطو انه لابد من تقرير الملكية الفردية، ذلك لأنها ان ألغيت وبدلت بالاشتراكية، سوف يحسب كل فرد انه يعمل أكثر من غيره ويحصل على ثروة أقل فيسخط على الوضع ويثور!

3- الاخلاق:

ولابد لتقرير الصلاح النهائي للمجتمع من تحسين التربية العامة، ولابد من الأسرة لتنشئة الفرد الطيب الذي يتعلم من أبويه (المجربين الرشيدين) تعاليم الحياة.

ويعتقد ان للنفس الإنسانية جانبين: عقلي ونباتي. ولابد للوصول إلى السعادة من توجيه النباتي بالعقلي، واكتساب الفضائل بذلك.

والفضيلة هي مراعاة التعادل في الأمور، فمثلا: الشجاعة هي الوسط بين التهور والجبن، والتواضع هو الوسط بين التكبر والتملق، وهكذا.

4- السياسة:

تتنوع الحكومات – عند أرسطو – بثلاثة أنواع:

أ- الحكومة العامة (الجمهورية الديموقراطية) وفيها يشترك الجميع في الرأي، ويفصلون النزاع بإتخاذ رأي الأكثرية، ولابد فيها من تقرير العدالة والمساواة بين جميع الأفراد.

ب- حكومة الأعيان (الارستقراطية) حيث يتغلب على الحكم طائفة من الأقوياء النبهاء وينتحلون لأنفسهم الرتب المفتعلة.

3- الحكومة الوراثية (الملكية): حيث يتسلط على الناس رجل قوي ثم يجعل الملك إرثا في عقبه.

ولا يفرق أرسطو بين هذه الأوضاع ولا يرى وجود ضمان في أحدها مفتقد في الآخر، بل يقول: ان هذه الأقسام الثلاثة ان عملت على الاصلاح والكفاءة والمسؤولية ورعاية القانون كانت صالحة. أما إذا كانت تتبع الأهواء والمصالح فإنها تكون فاسدة. ويقول – في بيان نقطة الضعف في هذه الأقسام -: ان الظلم والاستبداد يسودان المجتمع في القسمين الأخيرين بينما يشيع المكر وتغرير الجماهير في القسم الأول.

الملاحظات:

نظريات أرسطو التي كانت سائدة أكثر من ألفي عام على الأوساط العلمية في العالم، قريبة نوعا ما إلى الحقيقة ولكنها تتميز بالضعف من جهتين:

الأولى: انها لم تذكر الا الكليات العامة والمشكلة انما هي في تفاصيلها.

الثانية: انها في حين سكتت عن الحكومة التي تضمن سعادة الناس، لم تحدد الملكية الفردية ولم تبين مَن سوف يكون المشرع الذي لا يتبع أهواءه ولا يضل بجهالته وكيف نضمن ذلك؟

لوك

(1632 – 1704 م )

1- الاجتماع:

يعتقد جون لوك ان الحالة الطبيعية للإنسان ليست العداوة والبغضاء والحقد والحسد (كما يزعم بعض الناس) بل ان حالته الأولية تقتضي سيطرة كل فرد على نفسه، ذلك لأن أفراد البشر كلهم أحرار مختارون ومتساوون.. إذاً فليس لأحد الا السيطرة على نفسه والسيطرة على ماله ناشئة من حقه هذا.

2- الاقتصاد:

بما ان المال من عمل الإنسان فله الحق في التصرف فيه بحريته (الملكية الفردية)، وحق الحياة ناشىء من العمل أيضا كما ان حق التصرف في المال هو الآخر ناشىء من هذا الحق ولكنه مشروط بأمرين:

الأول: ان لا يدع المالك ماله عاطلا.

الثاني: ان لا يحرم الآخرين من حقوقهم ولا يعتدي على ممتلكاتهم، ولابد أن يحفظ في ذلك، طريق الاعتدال.

3- الأخلاق:

وليس لجون لوك آراء تذكر في الأخلاق.

4- السياسة:

يعتقد لوك: ان سيطرة الدولة على الشعب ليست الا من جهة التباني والمواضعة؛ يعني ان الناس كانوا – أول الأمر- أحرارا ، وبما ان حرية بعضهم كانت تزاحم حريات الآخرين وتسلب منهم الراحة والأمن، تنازل كل منهم عن بعض حريته في مقابل تنازل الآخرين له عن بعض حرياتهم.

ومن هنا نشأت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويقول في كتابه (الحكومة المدنية): ان وظيفة القوة المدنية والسياسية إقرار العدالة، إذ ان الإنسان يدخل الحياة ليعيش بحرية، وأما الملك (أو أية سلطة سياسية أخرى) فإنه يكسب قوته من الشعب وليس الا وكيلا عنه، فإذا استغل الملك تلك القوة التي أعطاها ليحيد عن الصالح العام، فللشعب الحق في الثورة عليه وخلع طاعته عن نفسه.

الملاحظات:

مع ان آراء لوك تحتل الصدارة في الفلسفة الأوروبية، وكانت هي السائدة في القرن الثامن عشر فإنها لا تخلو من نقاط ضعف نشير إلى بعضها:

1- انها ناقصة من جهات شتى.

2- ان النزوع إلى الشر أمر طبيعي في الإنسان بجانب حبه للخير، كما سيأتي الحديث عنه.

3- ان الحكومة لا يمكن ان تكون مواضعة من قبل كل الناس. إذ ان المخالف للحكومة وان كان غير راض فإنه لا يسمح له الخروج على القانون. ولذلك نعرف ان النزعة الفردية التي تبدو ظاهرة في فلسفة لوك تشكل بؤرة الأخطاء، وسوف يأتي التفصيل في ذلك.

منتسكيو

(1689 – 1755 م )

لم يكن منتسكيو يرى الثورة المفاجئة بصالحة للحياة، بل كان يعتقد ان الاصلاح لابد ان يكون بالتدرج.

1- الاجتماع:

ان الإنسان خلق مدنيا ولابد له من التعايش مع نظرائه في الخلق، ولابد له لكي يسعد في تعايشه هذا من ان يكون حرا مطمئنا، فلا مناص من ان يشرع قانونا في تنظيم العلاقات التي تربط الناس بعضهم ببعض بحيث انه لو عاش قوم بدون قانون ينفذ عليهم لسلبت عنهم الحرية والأمن والطمأنينة.

فأهم الأشياء للإنسان هو القانون وأحسن القوانين ما يضمن للناس أوسع ما تجيزه المصلحة العامة من الحرية.

ويعتقد: ان هناك قوانين طبيعية لابد ان نتعرف عليها ثم نستعمل عقولنا في تعيين الظروف الملائمة لتطبيقها.. ويقول: العدل حسن والظلم قبيح، الحرية خير من العبودية والعلم أفضل من الجهل. ولكن هذه أمور عامة وليست بقوانين، إذ لابد في وضع القوانين من مراعاة الظروف من جهة القومية والمناخ والأخلاق والآداب والتقاليد والعقائد والاستعداد الطبيعي لكل بلد.

فلابد إذاً في وضع القوانين من مراعاة الأصول العامة إلى جنب الظروف الخاصة.

2- الاقتصاد:

يرى منتسكيو في الاقتصاد: لابد ان يُعطي كل فرد قدرا من ماله (ضريبة) ليحفظ له سائر أمواله، ولابد ان تراعي الدولة حاجاتها الحقيقية، ولا تضع الضرائب حسب الأهواء.. وعلى الدولة ان تهيء فرص العمل للشعب كافة..

3- السياسة:

الحكومات في نظر منتسكيو على ثلاثة أقسام:

1- الحكومة الجمهورية؛ التي تعطي لكل الأمة أو بعضها الحق في السلطة.

2- الحكومة الملكية الدستورية؛ وفيها يحكم البلد الملك بعد ان يستشير نواب الشعب.

3- الحكومة الملكية غير الدستورية؛ حيث يعمل الملك وفق أهوائه الخاصة.

في الحكومة الجمهورية؛ ان كانت تحكم من قبل كل الشعب كانت ديمقراطية وان كانت تدار من قبل بعض الشعب كانت ارستقراطية (حكومة الاشراف).

على الحكومة وظائف ثلاث:

تشريع النظم (القوة المقننة)، وتطبيقها على الموارد الخاصة (القوة القضائية)، وإجرائها (القوة التنفيذية).

ولابد ان تنفصل هذه القوى بعضها عن بعض حتى تتمكن من اتقان عملها باخلاص.

ولابد في الحكومة الجمهورية من ان يكون أفراد الشعب مخلصين لوطنهم والموظفون لمسؤولياتهم، وإلا ساد الفساد الحكم.

ولابد في الحكومة الارستقراطية، ان لا يستغل الأعيان نفوذهم في سبيل مصالحهم الخاصة.

ولابد للملك ان يتبع القانون.. أما إذا استبد برأيه فالحكومة فاسدة من رأس.

الملاحظات:

لم يجعل منتسكيو ضمانا لعدم تسرب الفساد إلى هذه الحكومات من جهة - شأنها شأن حكومة ارسطو وغيره من الحكماء - ومن جهة ثانية لم يعين ضمانا كافيا لصلاح القوانين المشرعة من قبل هيئة التقنين.. في حين ان علمها بقوانين الطبيعة كلها لا ولن يمكن أبدا، إذ قد اعترف العلم الحديث انه لا يمكن ان يحيط أحد اليوم بكل جوانب الإنسان[183]. وبعد ان يعلم فرضا، فما هو الضمان لعدم انحرافه إلى أهوائه أو اهواء سادته؟ (ومن الواضح ان قوانين الدول اليوم تجري طبقا لاهواء الرؤساء).. وما قلناه في السياسة نقوله في الاقتصاد. إذ ان منتسكيو لم يذكر لنا حدا للضرائب، ومن هو الأمين الذي يوكل إليه أمر تعيين قدرها بحيث لا يجحف ولا يعمل بأهوائه الخاصة.

روسو

(1712 – 1778 م )

1- الاجتماع:

يعتقد روسو ان جميع المشاكل ناشئة من اجتماع الناس، وان الراحة كل الراحة في الانعزال.

ولكن اعترافا بالأمر الواقع لابد لنا ان نضع قوانين للتقليل من مفاسد الاجتماع.

2- الأخلاق:

أساس الفلسفة عند روسو، حب الطبيعة. ويقول: ان القلب لا يخطئ، وكل مفسدة تنشأ فهي من جهة ان الإنسان لا يستعمل عقله في الأمور الداخلية (أي في توجيه نفسه).

ويعتقد ان حرية الإنسان جاءت من جهة انه يملك إلى جانب شهوات نفسه عقلا موجها يستطيع بتوجيهه ان يعرف خيره. والسعادة الحقيقية للإنسان تكمن في عدم الظلم وان يكون برا بالناس وهذا يكفيه في حقل الأخلاق.

3- السياسة:

وبعد ان اجتمع الناس بعضهم إلى بعض (وان كان في ذلك ضررهم)، فلابد ان تقلل من مفاسد الاجتماع بأمرين:

الأول: التربية.

الثاني: الحكومة، التي يجب ان لا تتجاوز إطار بلد واحد. وبما ان الناس كلهم لا يعرفون تشريع القوانين فلابد من تعيين من يشرع لهم من الخبراء، والناس أحرار من حيث المجموع، وان وجب على كل فرد منهم ان يتبع القانون ولا يخرج عليه.

هابر[184]

(1588 – 1679 م )

1- الاجتماع:

يعتقد هابر ان ما يقوله البعض من أن الإنسان مدني بالطبع خطأ فاضح لأن الإنسان بطبعه عدو الإنسان! وقد اثر عنه قوله (الإنسان للإنسان ذئب).

لا يريد الإنسان شيئا الا لنفسه وهو يحارب الآخرين أبدا.

2- الأخلاق:

وعلى هذا فليس هناك محل للأخلاق في قلب الإنسان بل الأخلاق تابع للمنافع فقط.

3- السياسة:

وأساس الحكم هو الاستبداد والحكم عن طريق القوة وذلك لأن الناس حيث يحارب بعضهم بعضا، لا يستطيعون العيش بسعادة فلابد من تقرير الأمن الذي يعتبر من أهم الضرورات له.

وتقرير الأمن انما يمكن بأن يتنازل الكل عن حرياتهم ويسلموها بيد رجل واحد يحكمهم بالقوة.. ولا يجوز ان يوضع لهذا الواحد أي قانون ولا يحدد بأي قيد.

نيتشه

(1844 – 1900 م )

1- الاجتماع:

الإنسان جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها، وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير (وافق الحق أو خالفه) ، وما يقال عن تساوي الخلق بعضهم مع بعض خطأ، بل الحق ان في الناس سادة وعبيدا، وعلى العبيد ان يهيئوا وسائل الراحة للسادة.

إذن فالمجتمع الطبقي في أسوء حالاته هو المجتمع الطبيعي الأمثل عند نيتشه.

2- الاقتصاد:

لابد ان يستثمر القوي الضعفاء بأقل ما يمكن، وأن يحاول كل مكار خداع السيطرة على الآخرين في هذا المجال.

3- الأخلاق:

والأخلاق من الضعف؛ ان الجزء الأعظم من فطرة الإنسان التعدي والظلم، وان الجزء الأقل هو العقل والعاطفة، والجزء الأعظم هو الذي يجب ان يتبع.

ولابد ان يمارس الإنسان كل نوع من أنواع الإجرام ليعيش في رفاه وسعادة.

4- السياسة:

وعلى هذا الأساس فالسياسة تقوم على خدمة الأقوياء وسحق الضعفاء وكل ما هناك من الدين والأخلاق فإنما هو وسيلة للسيطرة على المستضعفين.

الملاحظات:

حقا ان لم يكن هناك رب، ولم يكن جزاء، ولم يكن العقل أكثر من محصول أعلى للمادة، ولم يكن هناك حق وباطل وخير وشر أبديين (كما يقول الماديون) كان ما رأى نيتشه هو الحق. (وهذا بالفعل هو الذي تراه الدول الكبرى – عملا – بالنسبة إلى الدول الصغرى).

وليس ما يفعله فريق من الماديين من التظاهر بالعدالة الاجتماعية والمساواة وإعانة الضعفاء الا خداع ومكر.

ان أرادت البشرية ان تعيش في ظل القيم السامية والعدالة و الحرية والمساواة و حفظ حقوق الضعفاء، وان كانت تريد السعادة الحقة فلا بد لها ان تلوذ إلى حمى الدين والمذهب الحق.

ويستخدم الإيمان بالله واليوم الآخر وسيلة لتطبيق هذه المثل والا فليس من المعقول ان ينتظر من القاعدة المادية الا البناء المادي المصلحي، الذي لا يرى الفرد بموجبه الا نفسه فقط.

والواقع: ان الخلق الرفيع والعقيدة بالمذهب الحق توأمان لا ينفصلان وكلاهما من نتائج الوجدان النقي.. أليس كل منا يشعر في واقعه انه يحب العدل والمساواة وينزجر من الظلم والتفاوت؟

أجل ، حتى هابر ونيتشه ، حينما ينزلون من برج خرافاتهم إلى ساحة الواقع لابد لهم من الاعتراف بأن الذي يرحم الضعفاء ويلتزم بالوفاء والصدق والطهارة أفضل من غيره ألف مرة ومرة.

آراء إشتراكية..

خلال القرن التاسع عشر ظهر في أوروبا بعض من سموا بالحكماء والفلاسفة من دون ان يكون لديهم ما يستحقون به هذه التسمية.. نادوا بالاصلاح عن طريق الاشتراكية ويذكر من بينهم (فوريه[185]) (وسن سيمون[186]) و(يرودن[187]).

بيد أن نظرياتهم لم تلق رواجا إذ انها لم تكن الامثاليات تافهة تعيش في عالم الخيال ولا يمكن تطبيقها أبدا.

ماركس

(1818 – 1883 م )

يعتقد ماركس: ان من الضروري على عمال العالم قبل كل شيء ان يتحدوا ليشكلوا جبهة قوية تحارب رأس المال والرأسماليين في العالم، ويجب ان ينزع العمال الحكم من الرأسماليين عن طريق العنف الثوري.. ويؤسسوا دولة العمال الأممية.

تعتقد الماركسية انها لم تتجاوز أبدا الأصول العلمية ولذلك فهي أحسن من سائر المذاهب الاشتراكية[188] ، وسمت نفسها الاشتراكية العلمية[189].

والماركسية اليوم هي الفهم اللينيني لأفكار ماركس.

كما انها مبنية على المنطق الديالكتيكي (والنظرة المادية) والتي تعتبر روح الاشتراكية العلمية. ولهذا يقول جورج فوليستر – أستاذ في جامعة باريس -: (لا يمكن تفكيك الماركسية واللينينية والمادية الديالكتيكية[190]..).

* وأهم المباني العلمية التي تنادي بها الماركسية ثلاثة:

1- التفسير المادي للتاريخ.

2- المادية التي تنكر الدين والأخلاق.

3- ديالكتيك المجتمع.

ولابد لنا ان نشرح هذه القواعد الفكرية لماركس ونذكر عندها النقد الفكري الموجه إليها:

1- المادية:

هي انكار الروح والخالق واليوم الآخر والقيم.. (ولا نعود لننتقد هذه الخرافة بعد ان أشبعنا الكلام حولها في الفلسفة النظرية والعقائد).

2- التفسير المادي للتاريخ:

يقول ماركس: ان علة العلل لكل حوادث التاريخ هو العامل الاقتصادي، ولذلك فإن كل اتجاهات البشر تتبع طريقة الانتاج، ويستدل ماركس على ذلك بالرغم من انه لم يكن مؤرخا ولم يكن عنده علم بالماضي، بأن الإنسان تابع لحاجاته، إذ ليس له روح أو قيم أو دين أو وجدان أدبي، فليس هو إلاّ آلة جميلة تحتاج إلى وقود، إذن فهو تابع لمصلحته.

الملاحظات:

ونحن نستطيع ان نرده من طريقين:

1- اثبات ان الإنسان يملك روحا وعقلا وشعورا بالأخلاق والدين، وان انبثاق الأديان انما كان لحقانيتها. كل ذلك سبق الحديث عنه لدى البحث عن الفلسفة والعقائد.

2- ظواهر كثيرة في التاريخ القديم والجديد.. ونكتفي في ذلك بذكر ثلاثة أمثلة:

أ- في العهد اليوناني نجد ظروفا اجتماعية واحدة انتجت أفكارا متناقضة. مثلا: في القرن السادس قبل الميلاد كان( طالس الملطي) ماديا وكان(فيثاغورس) ميتافيزيقياً. وفي القرن الخامس كان (هرقليط) ديالكتيكيا وكان( كينوقانوس) ميتافيزيقياً.. وفي كل عهد وفي كل البيئات الأغريقية، كان يوجد المتناقض من الأفكار!

ب- الدين الإسلامي جاء في مجتمع بدوي حيث ظهر في مكة المجدبة (ولم يظهر في اليمن الحضاري) وساعد الفقراء، وأكد الملكية الفردية.. فكيف يمكن تفسيره بنزاع الطبقات؟ وان كان جاء دعما للفقراء فكيف أكد الملكية الفردية؟ وان كان في صالح الأغنياء فكيف ساعد الفقراء وساعدوه، وعارض الأثرياء وعارضوه؟ وان كان من نتائج المناخ فكيف جاء في الحجاز البدوي ولم يأت في اليمن أو الشام الحضاريتين؟

ج- لماذا تراجع الاتحاد السوفياتي عن الاشتراكية؟ ولماذا اختلف مع الصين؟ ولماذا تقدمت بعض الدول في الصناعة فلم يحدث فيها انقلاب اشتراكي، وتأخر بعض فحدث فيها؟. ولماذا انقلبت اندونيسيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا عن الاشتراكية؟ ، ولماذا كانت حالة العمال في ألمانيا الغربية أفضل من حالهم في ألمانيا الشرقية؟ كل هذه الظواهر تناقض –لدى التدبّر- التفسير الجبري والمادي للتاريخ، وهو خلاف كل ما تنبأ به ماركس. والأفضل ان نريح أنفسنا بما قاله الدكتور إقبال في تاريخه (بما ان ماركس لم يكن مؤرخا فإنه لم يستطع ان يكتشف أسباب تقدم الأمم وتأخرها).

3- ديالكتيك المجتمع..

يعتقد ماركس ان ديالكتيك الفكر يأتي بعينه في المجتمع. فالجماعة كالفكر تخضع للقوانين الأربع للديالكتيك بالشرح التالي:

1- أصل التغير والتطور – ليس في العالم ثابت-.

بما ان المجتمع البرجوازي لابد ان يتغير، فهو ينقلب بالضرورة إلى مجتمع اشتراكي[191].

2- أصل التفاعل (كل شيء يؤثر في كل شيء).

والمجتمع يأتي نتيجة للأوضاع التي سبقته. فالمجتمع الاشتراكي وليد المجتمع البرجوازي، وثورة العمال على رأس المال.

3- أصل التناقض (كل شيء يحمل نقيضه في داخله).

فالرأسمالية تحمل في داخلها قوة مضادة، هي الاشتراكية. ذلك لأنها تتركب من (أصحاب الأموال) وهم يشكلون القوة المتسلطة و(العمال) وهم القوة المضادة.

ويقول ماركس: ان تقدم العالم ينشأ من تطاحن القوتين؛ قوة الرأسمال وقوة العمال.

ويقول: (ان نزاع الطبقات ليس وليد المجتمعات المعاصرة انما هو نزاع ازلي منذ فجر التاريخ الإنساني وحتى اليوم المعاصر).

بيد ان هذا النزاع القائم اليوم بين طبقتي البرجوازية والعمال سيكون الأخير، ذلك لأن الاشتراكية سوف تتغلب على البرجوازية فتزول الطبقات رأسا، وبمحوها سيزول منشأ الخلاف والنزاع.

4- التغيير الفجائي؛ (ان التغيير الكمي سوف ينقلب إلى تغيير كيفي كتغير الماء الحار إلى بخار).

والمجتمع تتفاعل فيه القوى المتعارضة وفجأة تشتعل الحرب، وعن طريق استخدام القوة العنيفة سوف تزول قوى البرجوازية ويستبد العمال بالحكم، (وهذا هو ما يقصد به من الاشتراكية الثورية).

الملاحظات:

هذه الأصول الأربعة قد سبق وأن نقدنا بعضها في الفلسفة النظرية ولكن تحميلها عمليا على واقع المجتمع خطأة كبيرة لابد من نقدها، ذلك:

1- لأن العلم الحديث قد اثبت صفات ثابتة للفرد والمجتمع لم تتغير منذ وجوده وحتى اليوم، ولا يمكن تغييرها أبدا (ما دام يبقى الإنسان إنسانا).. ومن جملة الصفات النفسية للفرد: حب الشر، وحب الخير، العاطفة، الحرية الشخصية..

ومن صفات المجتمع التي لا تتغير: تفاعل بعض الأفراد مع بعض (علما بأن اثبات صفة واحدة لا تقبل التغيير يكفي لنسف الفكرة التي تزعم ان كل شيء يتغير).. وإذا ثبتت صفات نفسية لا تتغير في الفرد، والمفروض ان المجتمع ليس الا تجمعا للأفراد، فإن هذه الصفات تثبت بحجم أضخم للمجتمع.

فالمجتمع؛ مركب من أفراد يحبون الخير ويحبون الشر ولهم عقل وهوى[192] ، وطائفة من هؤلاء الأفراد يغلب فيهم الخير على الشر، وطائفة يغلب الشر فيهم على الخير، فتنقسم الجماعة إلى طائفتين: طائفة تؤيد الخير وأخرى تؤيد الشر وهكذا تقوم الحرب الباردة أو الحارة بينهما. وهذا الأمر هو الثابت الذي لم يتغير على طول التاريخ وتدل عليه كافة الظواهر التاريخية.

أما ما قاله ماركس من تطور المجتمع من رأسمالية إلى اشتراكية، فهو عين الخطأ الذي لا يذهب إليه من له أدنى معرفة بالتاريخ. ومن حقنا ان نتساءل: هل كانت جهود الحزب الشيوعي، ام حتمية التاريخ هي التي انتجت انقلاب روسيا؟ انهم يعرفون ان جهودهم هي التي أثمرت الانقلاب ليس غير.. ثم نتساءل: لماذا تغيرت الإشتراكية الأولى في الزمن الأول إلى دور العبادة؟ وكيف انقلبت اندونيسيا إلى رأسمالية بعد ان كانت اشتراكية؟ ثم ان ماركس لم يستند إلى دليل فيما قاله.

2- والتفاعل؛ كلمة حق يريد بها ماركس أمرا باطلا، ذلك لأن حتمية الاشتراكية بعد البرجوازية لا دليل عليها. إذن أفكار الناس تؤثر بعضها في بعض ولكن تأثير أفكار الاشتراكيين دون أفكار الرأسماليين لا دليل عليه إطلاقا.

في حين انا نلاحظ بالوجدان ان من كانت له دعاية واسعة وحزب قوي كانت أفكاره هي السائدة في العالم سواء كانت موافقة للإشتراكية ام لا.. ولذلك فإن الحزب الشيوعي يتقدم في أية منطقة تكون دعايته فيها قوية، ولا يتقدم في منطقة تكون فيها الدعاية الرأسمالية هي القوية.

3- أما التناقض الطبقي فليس هناك دليل يبرر تعميمه على المجتمع، ذلك لأن العمال (الطبقة الضعيفة) ان رضيت بشروط العيش (كما هي الحال في أوروبا) فهي لن تعارض الطبقة القوية أبدا. ورضاها وليد تحسين ظروف العمل ومراعاة حقوق العامل. نعم هناك تناقض[193] بين أفراد المجتمع من جهة اختلاف نزعاتهم الفكرية والسياسية، فترى فريقا من العمال ينضمون إلى حزب المحافظين (في بريطانيا مثلا) وفريقا من أصحاب الأعمال يدخلون في حزب العمال..

والتناقض كما سبق ليس الا من جهة ان الناس فريقان أهل حق وأهل باطل.

3- والتغيير الفجائي باطل من أصله كما بينا ذلك في الفلسفة النظرية، إذ لا يمكن ان يحدث بدون علة خصوصا في المجتمع. إذ من المعلوم ان كل حركة سياسية أو إصلاحية تسبقها جهود جبارة من بعض الأفراد وتساعدها عوامل كثيرة. أما إذا جهل ماركس وأتباعه تلك العوامل فما هو ذنب الواقع؟

-------------------------

البحث الثاني - الإسلام والإنسان والمجتمع

كلمة في البدء

ينبغي ان نبدأ الحديث بعرض موجز لنظرة الإسلام إلى الإنسان والمجتمع، ثم تفصيلها كاملة ؛ فالاسلام يعتقد بما يلي:

1- ان معرفة واقع البشر وواقع خلقه ومبدأه ومنتهاه ، هي التي تخط طريقه في الحياة. والإنسان – عند الإسلام – مركب من روح وجسم، ولابد من توفير السعادة لهما. ولكن الجسم لابد ان يضمن له السعادة عن طريق توجيه الروح. وفي روح الإنسان طاقتان: طاقة ذاتية هي الجهل وطاقة موهوبة له هي العقل. وأهم ما في الجهل: هوى النفس (حب الذات) وافتقاد العلم. كما ان أفضل معطيات العقل هو: العلم والحكمة (وهي: تمييز الشر عن الخير) وللبشر فوق ذلك: الإرادة التي بها يرجح إحدى الطاقتين (الجهل أو العقل) على الأخرى.

2- ان حب الذات يؤدي - ان لم يوجه بالعقل - إلى حب الدنيا وعبادة المادة، ومن حب الدنيا تنشأ الشهوات وهي تسبب الرذائل.

كما ان الحكمة - ان اتبعت - تجعل الفرد يتبع الحق، وباتباع الحق يتحلى الفرد بالفضائل، وهي تتلخص في مراعاة حقوق الآخرين واتباع الحق.

3- لابد ان تسخر كل قوى الحياة في تطبيق الحق، إذ به يتمكن الناس من ان يؤدوا الحقوق، وبسببه يلتزم كل فرد بواجباته تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

4- حقوق البشر تنشأ من أحد أمرين: العمل والحاجة. فمن عمل استحق الأجر بقدر ما أحسن، ومن احتاج كان له ـ بقدر حاجته ـ الحق على القادرين.

5- ان البشر خلقوا شعوباً وقبائل مختلفة لكي يتعاونوا في سبيل تحقيق سعادتهم، وهي استثمار الطاقات الموجودة في أنفسهم وفي الآفاق. ذلك لأن الأرض والسماء انما هي مخلوقة للبشر ومسخرة من أجلهم.

6- ان اتباع الحق هو السبيل الوحيد إلى استثمار هذه الطاقات، أما الحق فهو مطابقة العمل للواقع المفروض، والذي يعين هذا الواقع المفروض هو الله، عن طريق الرسل أو العقل السليم بتذكرة الأنبياء (ع).

7- تعاون الناس في هذا السبيل ينشأ من خضوعهم جميعا لتوجيه عقولهم وتسليمهم لنظام واحد وهو الإسلام، وتتمثل قيادته في إنسان تتوفر فيه شروط القيادة، يتعرف عليه الناس بالتجربة الشخصية ومتى فسق أو جهل بطل تمثيله للأمة. وكذلك فيما إذا عجز عن مواجهة المشاكل والأزمات وحلها.

8- الناس باتباعهم لإرشادات عقولهم، يضمنون لأنفسهم الحريات الأربع وهي: حرية الفكر بالارتفاع عن الخضوع للشهوات أو التعصب والتقليد . وحرية السياسة، باتباع من يمثل الدين وعدم الاستسلام لأي طاغوت آخر. وحرية الاقتصاد، فلكل فرد ان يكتسب كما يشاء شريطة ألا يسبب شقاء لنفسه أو شقاء للناس. وحرية الشؤون الشخصية، بأن يعمل بما شاء وكيف شاء، وضمنها حرية السفر والإقامة.

9- وبما ان الفرد له عقل وإرادة فهو مسؤول عن أعماله وعن تغيير الفاسد من واقعه وواقع الناس بمقدار استطاعته، ولكنه من جهة أخرى يعتبر فردا في العائلة البشرية. فهو غير مالك لنفسه بصورة مطلقة، إذ ان البشر مخلوقون لله صائرون إليه، فليس له ان يضر نفسه - لأنه ليس مالك نفسه - ولا بغيره. وبما ان البشر عائلة واحدة فعليهم ان يكفلوا من عجز منهم عن إدراك الحق في فكره، بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتوجيهه إلى الحق. أو عجز عن تحقيق الصحة والكرامة و.. و.. في جسمه، بتوفير الضمانات المحققة لحاجته جميعا.. وعلى هذا الأساس تنشأ بعض التحديدات كحرمة التجارة بالمحرمات وبعض الضرائب كالخمس والزكاة والضرائب الأخرى على الصعيد العام. كما تنشأ لزوم النفقة على المضطر في الصعيد العائلي الخاص.

10- وان القوة التنفيذية لهذه الأحكام هي: الإيمان القلبي بالله الذي خلق البشر وملكهم، وباليوم الآخر الذي يجزي فيه كل صالح بثواب ويجزي كل طالح بعقاب.

11- وان التسليم للدين ناشىء من إيمان الفرد بأنه لا حق لأحد في التشريع غير الله أو التشريع من خلال القواعد والقوانين العامة التي وضعها الله لأنه فقط مالك الناس وهو الحكيم العليم.

هذا موجز القول في نظرة الإسلام إلى الإنسان والمجتمع.

---------------

المجتمع الإسلامي

يقرر الإسلام ان كل فرد مسؤول عن أعماله مكلف بواجباته، وله حقوقه في التمتع باللذائذ الفكرية والجسمية في حدود خدماته أو حاجاته ويقول: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً

يَرَهُ]( الزلزلة 7-8).

* وتنشأ هذه الفكرة في الإسلام - والتي تبدو فيها النزعة الفردية بادئ الامر – من تقرير الإسلام ان كل فرد عاقل حر في إتخاذ أي قرار في الحياة. وبما انه حر فهو مالك لنفسه وليس لأحد عليه حق العبودية (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)[194].

* وإذا كان كل فرد مالك نفسه فهو أملك لعمله وتصرفه من أي فرد آخر [كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ]( الطور 21)..

وعلى هذا الأساس المتين يشرع الدين أحكاما خاصة بالفرد (ليس للمجتمع فيها دخل) كأفعال القلب - العقيدة والإيمان - والعبادات وكثير من الأحكام الأخرى.. وقد جاء في القرآن تقرير لهذه الحقيقة حيث صرح:

[عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( المائدة 105).

ولكن هذه الفكرة – الناشئة من حرية كل فرد ومسؤوليته - لا تنافي فكرة أخرى تبدو فيها جماعية الاتجاه هي: ان الإنسان عبد الله، وان امتلاكه لنفسه ناشئ من تمليك الله له ذلك. وبما انه عبد فهو مسير بأمر الله وفي صراطه [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ](الصافات 96).

وكما خلق الله هذا الفرد خلق الآخرين، فهما متساويان أمام الله، متكافئان في الحقوق والواجبات، كل منهما عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من دون الله.. فليس لأحد أن يطغى على الآخر، ولا أن يشبع هو بينما يجوع جاره، ولا أن يعتزل عن الناس باتباع الرهبانية وباستغلال حق حريته استغلالا غير صالح بالنسبة إلى الآخرين.. وعلى هذا الأساس فلا يصح ان يمحق الفرد حقوق الجماعة ولا أن تهضم الجماعة حقوق الفرد.

* وبما ان الدين يعترف بالفرد كوحدة مستقلة في المجموع يؤكد على الجماعة ألا تغلب على الناس نزعتهم الفردية بحيث تطغى على علاقة بعضهم مع بعض. ولذلك فهو يقرر عدة نظم في سبيل ربط الفرد بالجماعة هي.

1- ان الفرد إنما هو محاط بحلقات متداخلة هي بالترتيب:

عائلته[195]، أسرته[196]، عشيرته[197]، جيرانه[198]، أساتذته وتلاميذه[199] وكل من يمت إليه بصلة كالصاحب في السفر والصديق في الحضر وهكذا..

2- ويقرر ـ بعد ذلك ـ ربط الفرد بالجماعة، فيرسم واقع العلاقة بينهما في أصل الخلق فيعتبر أن أفراد (المجتمع المؤمن) أخوة فيجب ان يقوموا بإصلاح بعضهم البعض [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( الحجرات 10).

وتارة يقول: ان أفراد الأمة المسلمة كأعضاء جسم واحد.. (المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

3- وأما حق الأمة فإنه يقرر هكذا (وأما حق أهل ملتك عامة (أي أهل دينك) فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة لهم والرفق بمسيئهم، وتآلفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم وكف الأذى عن مسيئهم، وان تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك، وان يكون شيوخهم بمنزلة أبيك وشبابهم بمنزلة أخوتك وعجائزهم بمنزلة أمك والصغار منهم بمنزلة أولادك..)[200].

4- أما أفضل الناس في المجتمع الإسلامي فهم :

التقي[201] العالم، يقول الله سبحانه: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( الحجرات 13) ويقول: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( المجادلة 11)

المجاهد في سبيل الله.. يقول الله سبحانه: [وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُـجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً](النساء 95)

السابق إلى الدين.. قال الله تعالى: [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ]( الواقعة 10-11) ولكن كل هذه المزايا لا تبرر تكبر هؤلاء على الناس أو تطاولهم على حقوق الآخرين..

5- كما ان من أفضل الناس عند الله هو الذي ينفع الناس أكثر من غيره قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس من انتفع به الناس[202]) و قال: (خصلتان ليس فوقهما خير منهما: الإيمان بالله والنفع لعباد الله.. وخصلتان ليس فوقهما شر: الشرك بالله والاضرار لعباد الله)[203]

6- المؤمنون في منطق الإسلام وعلى لسان الامام الصادق (ع) خدم بعضهم لبعض (قيل له وكيف يكون خدم بعضهم لبعض)؟ قال: (يفيد بعضهم بعضا)[204].

7- لابد لأفراد المجتمع من أن يتراحموا ويتباروا.. يقول الامام الصادق عليه السلام: (تواصلوا وتباذلوا وتباروا وتراحموا وكونوا اخواناً أبرارا كما أمركم الله عز وجل)[205] وقال النبي (ص): (عليكم بالتواصل و التباذل وإياكم والتقاطع والتحاسد والتدابر)[206].

ويقول الرسول (ص): (ألا ان في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين)[207].. ويقول (ص): (لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه)[208].. ويقول الإمام الباقر عليه السلام: (إذا احتجت فاسله (أي أخاك المؤمن) وإذا سألك فأعطه، ولا تدخر عنه خيرا، فإنه لا يدخر عنك. كن له ظهرا فإنه لك ظهر، ان غاب فاحفظه في غيبته، وان شهد فزره، وأجلّه وأكرمه فإنه منك وأنت منه)[209].

8- لابد لكل فرد في المجتمع المسلم ان يراقب الأمور العامة ويهتم بها فإذا وجد فيها فسادا سارع إلى إصلاحه. يقول الإمام الصادق (ع): (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)[210].

9- أما التمايز الطبقي أو العنصري أو القومي، فإن الإسلام يتبرأ منه ويتبرأ من كل من ينادي به، ويضع كل تعاليمه على أساس المساواة والعدالة الشاملة، يقول الله سبحانه:

[يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( الحجرات 13).

ان هذه الآية لا تقدم وصية خلقية وتربوية إلى المسلمين ولكنها توضح فلسفة تشريعية يبني عليها الدين كل أسسه، وهي تقرر ثلاثة حقائق أساسية في بناء الحقوق الدولية والوطنية هي:

ألف: ان الناس مخلوقون فلا يملكون الا ما وهب لهم الله تعالى.

باء: ان أصل خلقهم ذكر وأنثى فهم اخوة في الأصل، وما طرأ عليهم من الاختلاف فهو عرض يجب الا يعتنى به.

جيم: ان هناك شعوبا متمايزة وقبائل مختلفة، ولكن كل هذه لا بد أن تستغل في سبيل التعارف والتعاون، فالقوميات لابد ان تستغل للصالح العام لا للتباغض والتحارب.

10- والإسلام يقرر العدالة الاجتماعية على الصعيدين: الحكومي والفردي. ويقول:

[يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإِن تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً]( النساء 135).

هذه الآية تنسف خرافة القرابة أو الصداقة أو الغنى نسفا وتجعل الميزان هو العدل والحق فقط.

11- أما الحروب فإنها – حسب الرؤية الاسلامية - تنشأ في المجتمعات بأحد سببين:

الأول: ان الناس يصبحون أمام الدعوات الخيرة إلى فريقين: مهتد وضال. ويحاول الضالون ان يقضوا على المهتدين لكي يصفو لهم الجو.. ولابد من هذه الحرب حتى تصبح كلمة الحق هي العليا شريطة الا تستغل هذه الحرب للمصالح المادية.

الثاني: ان بعض الطبقات تريد ان تستغل طبقة أخرى فتقوم الحرب، ولابد من القضاء على هذا النوع من الحرب، بالقضاء على جرثومتها وهي الاستغلال.

أما الاستغلال فإن سببه: حرص الإنسان على المادة. وعلاجه هو: توجيه الناس إلى الحق ومعاقبة المستغلين معاقبة صارمة. ويقرر الدين: ان رأس المال حيث يستغل العمال، وان الحزب حيث يستغل الشعب فإنما هو لأمر في قلب المستغِل وأمر في قلب المستغَل.. أما الأول فلأنه: جعل المادة إلهه المعبود.. وأما الثاني فلأنه سكت على الظلم وخضع للنظام الباطل وكان عليه أن يثور ضده.

12- والإسلام يوفر (بالنظام السابق) ما تحلم به الرأسمالية من حرية الشعب وما تدعو إليه الاشتراكية من الضمان الاجتماعي للفقراء دون ان يجر إلى العالم الدمار الذي جرته هاتان الآفتان. أما الحرية فحيث يقرر ان كل فرد مختار في أعماله، فهو حر فيما يعمله وله كلما ينتجه.. وأما الضمان فحيث يقول: ان الناس عباد الله فلهم جميعا حق البقاء وكذلك فعلى كل مسلم ان يوفر ـ حسب امكاناته ـ ضرورات الحياة لكل إنسان مسلما كان أو كافرا.

وكلمة الخلاصة: ان الإسلام يمزج مبدأين في الاجتماع مزجا معتدلا، وهما:

ألف: ان كل فرد حر ومسؤول، له مثل ما عليه من الحقوق والواجبات وأن لكل فرد ما ينتج، ولكل امرئ حسب كفاءته.

باء: ان الناس عباد لله ومتساوون في الحقوق العامة فلكل حسب حاجته.

وعلى هذين الأساسين يبني الدين صرحه الشامخ في المجتمع الصاعد من دون ان ينزلق في أخطاء النظم المادية المعاصرة.

------------------

الاقتصاد الإسلامي..

في حقل الاقتصاد يرى الإسلام: ان الله خلق الأرض والسماء وجعلها مسخرة للبشر، وجعل فيها متاعا إلى حين[211] وان ما جعل لهم يكفي لكل البشر[212]، ويقول في ذلك [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً](البقرة29).

ويرى: ان للإنسان صلاحية استخراج الرزق من الأرض بإذن الله.. فيقول: [وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الاَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَاتَشْكُرُونَ](الأعراف 10).

ويرى: ان على الناس ان يسعوا في سبيل تحصيل المعاش من الأرض، فيقول: [وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( القصص 73) ويرفض ان يكسل الإنسان عن تحصيل رزقه أو يضعف.. ويقول على لسان الامام الصادق عليه السلام: (ان الله عزوجل يبغض كثرة النوم وكثرة الفراغ[213]) وان الكسل يمنع حظ الدنيا والآخرة، ويقول في ذلك: (إياك والكسل والضجر فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة)[214].

ويرى: انه لابد للمسلم ان يكون نشيطا في طلب الرزق ساعيا، كي لا يكون متأخرا أو يكون كلا على غيره.. ذلك لان من ألقى كله على الناس فهو ملعون. ويقول على لسان الإمام الصادق (ع): (عليكم بالجد والاجتهاد، وإذا صليتم الصبح فانصرفتم فبكروا في طلب الرزق واطلبوا الحلال فإن الله سيرزقكم ويعينكم عليه).

ويرى: ان البلد المسلم لابد له من زراعة وتجارة وصناعة[215].. وقد كان الأئمة عليهم السلام – وهم قادة الدين- يزرعون ويفلحون فيقول أحدهم (اني اشتهي ان يراني الله عز وجل أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي)[216].

كما يرى الإسلام: ان التجارة خير ويأمر بها ويرغب في ان يبكر الفرد اليها وان يتحمل المشاق في سبيلها ولقد كان الرسول والإمام الصادق –عليهما صلوات الله- يزاولان التجارة شخصيا.

أما الصناعة فيشجع الدين عليها ويذهب في تشجيعه بعيدا حيث يرى انه حتى لو كانت الصناعة تُستغل من قبل بعض المستهلكين في وجوه الحرام، فإن الانتاج ذاته لا يكون حراما ذلك لأن في انتاجها منافع للناس (حسب ما جاء في نص إسلامي)[217].

وإضافة إلى هذه التعاليم، فإن الدين يضع مناهج خاصة للتنمية الاقتصادية وإليك طائفة منها:

1- ان الإسلام يُمَّلِك الأرض للذي يعمرها، ويقول: (من أحيى أرضا مواتاً فهي له)[218].

2- و يُمَّلِك المعادن وموارد الثروة الطبيعية لمن استخرجها.

3- ويسهل للناس المعاملات ويكتفي بمجرد المعاطاة فيها، بينما تفرض الشرائع الأخرى قيودا أخرى كالكتابة والاشهاد وما شابه ذلك.

4- ويضع نظام القرض ويشجع عليه ويعتبر الدرهم في القرض خيرا من عشرة دراهم في الصدقة، كما يجعل من الزكاة حصة لأداء دين العاجز فيأمر الناس بأن يقترضوا فإن عجزوا عن الأداء أخذوا من أموال الدولة.

5- ويجعل في أموال الدولة سهما يصرف في الاعمار والتنمية.

6- ويقر نظام المضاربة في حين يحرم الربا، ليشترك كلٌ من صاحب المال والعامل بقدم المساواة في الربح والخسارة، وبذلك يشجعهما على العمل.

7- ويحرم البطالة والإشتغال بالمحرمات ولعب القمار وكثير من أقسام اللهو.

8- ويمنع التبذير ويحجز أموال السفيه (الذي يصرف المال في غير أوجه الصلاح) وبذلك يوفر للأمة مالا كثيرا.

9- ويربي الناس على الجد وملأ الفراغ وضبط المواعيد والوفاء بالعهود والتعاون وتعلم الصناعة وما أشبه مما يساعد على التنمية الاقتصادية.

10- ويسهل على الناس التبادل حينما يقول لهم على لسان الامام علي عليه السلام: (يا معشر التجار اتقوا الله.. وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين[219]) وبهذا تشيع الثقة بين الناس فيسهل التبادل.

11- وأخيرا يطلق جميع الحريات المشروعة التي تنمي التجارة والصناعة[220].

مشكلة الثروة..

ويمكن تحدي هذه المشكلة بالإجابة على السؤال التالي: هل يمنح الناس الحرية التامة في جمع المال، حتى تتضخم الثروة في جانب وتنحسر عن جانب؟ هل ينبغي ان يمنح الناس هذه الحرية المطلقة لكي تكون مشجعة لهم وداعية إلى المزيد من النشاط والحركة؟ ام يُستعبد الناس للدولة ليأخذ كلٌ حسب كفاءته ويُعطي لكلٍ حسب حاجته فيكون في ذلك توجيه صحيح للاقتصاد، ام نوزع الثروة ونتفادى في النهاية مشكلة التضخم ولكن على حساب كبت حريات الانسان؟

أي طريق من هذين، هو الطريق القويم؟ هل الطريق الأول الذي سلكه الاقتصاد الحر ، أم الثاني الذي انتهجه الاقتصاد الشيوعي؟

ان الإسلام يبدأ أولا بتحليل المشكلة، ويبين أسبابها، ويقول: ان الإنسان خلق حرا مختارا ، وكل وجدان يشعر بذلك، وعليه فمن حق كل إنسان ان يسترشد بعقله ويستخدم حريته كيف شاء من دون ان يكون لأي شخص آخر ان يحدد حريته.. وما دام الإنسان خلق حرا وعاقلا فإنه لا تمييز بين بني الإنسان، ويقول على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي علىالعجمي، ولا للأحمر على الأسود الا بالتقوى[221]) . فما دام الناس عباد الله فهم سواء، وليس لأحد ان يظلم أو يطغى على أحد ويقول: (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده[222]).

وحرية الإنسان هي التي تثبت ملكيته الخاصة، ذلك لأن الملكية تجسيد للعمل، والعمل جزء من الإنسان، فإذا كان الإنسان حرا كان مالكا لعمله ولما يؤدي إليه عمله.. ولهذا يقول الإسلام: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه (غيبته) معصية وحرمة ماله كحرمة دمه[223]).

وما دام البشر كلهم يملكون انفسهم وأموالهم: (إن الناس مسلطون على أموالهم[224])، فليس لأحد ان يثري على حساب أحد، كأن يسخره أو يخدعه أو يغصبه أو يأكل ماله بالباطل. يقول الإسلام: (لا يحل مال أمرء مسلم الا بطيب من نفسه[225]). ومن ذلك العمل بالمحرمات التي تضر المجتمع.. وهكذا عرفنا كيف ولماذا تحدد حرية كل شخص إذا عارضت حرية الآخرين؟

وإذا كان الناس أحرارا فمنهم من يعمل كثيرا ومنهم من يعمل قليلا ومنهم ذكي ومنهم غبي[226]. وليس لنا ان نقول لهم كونوا متساوين إذ لا حق لنا في ذلك ماداموا أحرارا.. وحينذاك فهل نمنع أجر الأفضل والأكثر عملا؟ فنمنعه حقه ونمنعه حريته (مع انه سوف يكسل عن العمل الأفضل فيتضرر الجميع) ام الأفضل – كما يقول الإسلام- ان نطلق حريته لكي ينشط ويتفنن ويتقن عمله اتقانا، ولكن بشرط ان لا تكون حريته سببا لسلب الآخرين حريتهم.. وفي حدود القانون.

ومن ناحية ثانية: فإن الغني الذي يكتسب المال في ظل دولة توفر له الاطمئنان والأمن ، من الطبيعي ان يكون بعض ماله من حق تلك الدولة (كالذي يكتسب المال في متجر غيره) فلابد إذا ان يؤدي حق هذه الدولة لتحفظ أمواله ونفسه وأمنه.. ومن هنا ينشأ الخمس والزكاة..

ومن جهة ثالثة: فإن الإنسان الحريص على المال لابد وأن يغفل حينا - ولو كان مسلما تقيا - ويسلب مال الناس من حيث لا يشعرون[227] ، فلابد أن يرجعه إليهم، ومن هنا ينشأ رد المظالم.

ومن جهة رابعة: فإن الناس كلهم – لاسيما في النظام الإسلامي – يشتركون في تنمية ثروة هذا الشخص الثري بتعاونهم وحفظهم للأمن وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأمثال ذلك.. فلابد ان يكون لهم سهم في أمواله، وهنا تنشأ سائر الضرائب.

وأخيرا فإن الإسلام – بوحي من الله العليم البصير – وضع مناهج دقيقة ومضبوطة لاستخراج اسهم الدولة والناس الواقعية من ثروة الغني، ففرض عدة أنواع من الضرائب، تسبب التقليل من تضخيم الثروة، وهذه الضرائب تكفي ـ لدى التدبير ـ لسد حاجات الضعفاء والحاجات العامة..

وهذا هو الخط العريض والدقيق لفرض ضرائب عامة، وقد رأينا كيف انه يوافق أدق أحكام الفطرة والوجدان.

ولكن هذا لا يعني ان الإسلام لا يتوسل بوسائل أخرى في سبيل تحديد الثروة، لكن حتى تلك الأمور تسير باتجاه صحيح على ضوء الفلسفة الإسلامية العامة[228] وهي:

1- ان الإسلام يرى الإنسان في رحلة طويلة، وان ما يقدمه لنفسه من خير يوفاه في الحياة الأخرى، ولذلك فهو يأمر بالصدقات وهي زيادة في إعطاء المال للفقراء والمشاريع الخيرية.

2- وعلى هذا الأساس يأمر الناس الا يحرصوا في طلب الدنيا[229].

3- وقانون الإرث يحد نوعا ما من تضخم الثروة في يد واحدة.

4- حكم عام بلزوم الانفاق في ضرورات الحياة للفقراء ( وقد مرت فلسفته في فصل سابق).

5- وإذا أضيفت هذه الأحكام إلى الحقوق المشار إليها سابقا وهي: الزكاة و الخمس و الخراج و الكفارات و النذور، كانت الضرائب الإسلامية خمسة.

وخلاصة الحديث:

ان الإسلام يحل مشكلة التضخم في الثروة عن طريقين عادلين:

الأول: منع ظلم الناس بعضهم لبعض وتحريم السخرة والاستغلال، علما بأن التضخم ناشئ عن طرق غير شرعية في كسب المال كالربا والحكرة والاقطاع والإجحاف والغش والتزوير وما إلى ذلك مما هو معروف في دوائر الرأسماليين[230].

الثاني: توزيع الثروات وتحديدها عن طريق فرض الضرائب المناسبة (كالخمس والزكاة) والترغيب عن الدنيا، وفرض قانون الإرث والإلتزام بالنفقة على المضطرين والترغيب على إعطاء الصدقات[231].

------------------

الأخلاق الإسلامية

دعنا نجري في العنوان على عادة الفلاسفة القدماء ونطلق على الموضوع عنوان (الأخلاق) وان كان الاجدى ان يسمى الموضوع بـ(معرفة النفس) مثلما يسميه الإسلام. أو (علم النفس) مثلما يسميه العلم الحديث، ذلك لأن الموضوع أشمل من الأخلاق بكثير إذ ان معرفة النفس قاعدة أصلية تبنى عليها كثير من البحوث في الإسلام.. ففي القرآن الحكيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).. في الحديث: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وفيه.. (اتزعم انك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) من هذا يظهرأن معرفة الله ومعرفة العالم انما تكون عن طريق معرفة النفس ومع ان البشرية قد احرزت تقدما باهرا في كل المجالات فإنها لا تزال عاجزة عن معرفة النفس البشرية وما فيها من طاقات[232].

وأهمية الموضوع تفرض توسعا بالإجابة على الأسئلة التالية:

ما هي حقيقة النفس؟

ما هو واقع القوى المختبئة في النفس؟

هل للمُثُل أصالة في النفس؟

كيف يمكن اصلاح الناس اصلاحا شاملا؟

ما هي المؤثرات في النفس وكيف يستغلها الإسلام في الاصلاح؟

1- حقيقة النفس

حقيقة النفس (الروح، القلب) أنها مادة[233] لطيفة محددة تحيا إذا أوتيت الحياة وتموت إذا افتقدتها. وتعرف إذا اوتيت المعرفة وتجهل إذا فقدتها.. وهي غير البدن وبإمكانها ان تعيش خارج الجسم – بعد الموت – دون ان تدخل في جسم آخر.

والدليل على كل هذه:

أولا: الوجدان الإنساني.. ألسنا نحس بانا نعلم ونقدر ونحيا، ولكن العلم والقدرة والحياة ليست من ذاتنا (انا حي، أي انا أملك الحياة ولكن لست نفس جوهر الحياة) ، ذلك لأننا لم نكن عالمين ثم علمنا. إذاً فالعلم ليس من ذاتنا الذي لا ينفصل عنه.

ثانيا: تجارب احضار الأرواح المفصلة في كتبهم التي تبلغ المئات في الغرب والشرق.

ثالثا: الآيات والأحاديث التالية:

1- [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً](النحل 70) . وواضح ان المجرد لا يمكن ان يصبح جاهلا، فحيث ان النفس تعود جاهلة بعد العلم فهي غير مجردة بنص هذه الآية.

2- في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام في حوار طويل مع أحد الزنادقة: (والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا. ) ثم قال: ( الروح بمنزلة الريح في الزق، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولو جها فيه، ولا ينقصها خروجها منه، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن[234]).

2- قوى النفس..

كل عمل يعمله البشر فإنما تعمله روحه بسبب جسمه، فالجسم آلة للروح[235] (والأرواح القوية كأرواح السحرة والمرتاضين تعمل بدون الجسم أيضا).. كما ان كل صفة يمتلكها البشر فإنما هي صفة نفسه لا صفة جسمه.

وفي النفس قوتان متعارضتان: قوة تجرّها إلى الأرض، وأخرى ترفعها إلى السماء.. وهما:

أ- الجهل، وهو من طبيعة النفس وذاتها وتنسب إليه الجاهلية. وهو منبت كل رذيلة كالشرك والكذب والكفر وعدم العلم وعدم الإرادة[236].

ب- العقل، وهو من الله سبحانه وهو أصل كل صفة حسنة كالعلم والحكمة ومعرفة الخير والشر والإرادة وبه يدرك الإنسان كلما يريد.

وأبسط دليل على ذلك: ان كل فرد يشعر في نفسه ان قوتين تتغالبان في ذاته: قوة تريد مصلحته الخاصة وقوة تريد الحق. وقبل كل عمل ـ فيه مصلحة الإنسان من جانب وضرر الآخرين من جانب ثان ـ يجد الفرد نفسه في معركة داخلية. ومن الممكن ان تغلب إحدى القوتين على الأخرى فيقوم الفرد بفعل ما فيه مصلحته مثلا دون أن يشعر بقوة أخرى تمنعه عنه، ولكن سرعان ما يجد في نفسه بعد إتمام العمل قوة تلومه وتوبخه وهي القوة الثانية التي إستترت حين العمل بعض الوقت وخرجت بعده توبخ وتلوم[237].

ودليل آخر على ذلك: إنا نجد أن بعض الناس يعملون من الصالحات ما ليس لهم فيه مصلحة أبدا، بل يقومون به لمجرد إنه عمل خيري، ولربما نكون نحن(وفي بعض الأوقات) قد عملنا أعمالا لم تكن فيها مصالحنا أبدا.

والاسلام يقول: انه نتيجة لتغالب العقل والجهل في البشر، فهو أكثر ما يواجه إزدواجية المشاعر، فهو دائما يجد نفسه حرة في ان تختار الحق أو الباطل، ويجد ان لكل منهما في داخل قلبه قوة ورصيدا.

وللبشر قوة تسمى بالإرادة الحرة تستطيع ان تتجه نحو العقل فتختاره أو نحو الجهل فترجمه. وتلك الإرادة هي التي تقرر المصير كما أنها تحقق حرية البشر ومسؤوليته تجاه عمله السيء وإستحقاقه للثواب تجاه العمل الصالح. وليس أدل على هذه الحرية من أن كل فرد يشعر بأنه حر.

ومن هنا نعلم ان قوى النفس ثلاثة:

1- العقل ؛ وهو منبع كل صفة خيرة كالعلم والصفات الحسنة والحكمة.

2- الجهل ؛ وهو منبع كل صفة سيئة كالرذائل وحب الذات.

3- الإرادة ؛ وهي قوة يختار بها الفرد الخير أو الشر وهي أصل حريته.

والدليل على وجود هذه القوى:

ألف: الوجدان وهو شعور كل فرد بعد التدبر في واقع نفسه انه يريد الخير ويريد الشر، وشعوره بالمعركة الحامية التي تقع في أعماق نفسه بين قوى الخير وقوى الشر، وشعوره بحريته في اختيار جانب أي من القوتين يشاء.

باء: وجود أعمال لا تفسر الا بأنها عملت لأجل الحق.

جيم: الدليل النقلي من القرآن والحديث.

3- المُثُل

ان الإسلام يرى ان المثل الخلقية تجتمع كلها في اتباع هدى العقل، ذلك لأن العقل يدعو الفرد – من داخله – إلى الحق والخير بصورة مستمرة ويدعم هذا الواقع بدليلين:

1- اننا نرى بطبيعة فطرتنا، ان الصدق والوفاء وحب الآخرين وخدمتهم والعفو والحلم عن المكروه والإيثار بالخير والتضحية في سبيل الاصلاح. نرى هذه الصفات حسنة مرغوبة مئة بالمئة، ونجد إلى جانبها الكذب والخيانة والغدر وبغض الناس والاضرار بهم والحقد والغضب والحسد والاستغلال والجبن.. هذه الصفات نراها مذمومة بذاتها و قبيحة، لا نحب ان ننعت بها ونحب أولئك الذين يتحلون بالنوع الأول منها ونبغض أولئك الذين يتخلقون بالنوع الثاني منها.

2- أينما ذهبت من هذا العالم، ومن صادقت فيه من بني آدم رأيته يمدح الصفات الحسنة ويبغض الصفات السيئة فيرى الظلم والتعدي مثلا أمورا قبيحة بذاتها، ويرى العدل والاستقامة حسنة بذاتها.. وحتى أولئك الذين يعيشون في الغابات بإفريقيا، وأولئك الذين يهيمون في الصحاري والادغال في استراليا (من الهنود الحمر) يرون ذلك ويجعلونه مقياسا يعرفون به الصالح من السيء في الناس. وحتى أولئك الذين ينكرون وجود العدل والخير الأزليين ويزعمون ان المادة هي كل شيء وان كل شيء نسبي ـ كالشيوعيين ـ عندما يريدون ان يمدحوا أحدا يقولون انه يضحي، انه يؤثر المصلحة العامة، انه لا يظلم أحدا، انه يراعي حقوق العامل والفلاح. وهكذا كما انهم إذا أرادوا ذم أحد نعتوه بالظلم والاستغلال.. واذا قلت لأحدهم أنت ظالم أنت معتدي قال لك: كلا.. وجاء بألف تعليل وعذر حتى ينفي عن نفسه الظلم والتعدي.

ان هذا دليل صارخ على وجود أصالة للمثل.

والإسلام يقول: ان وجود العقل والجهل في النفس ليست على صفة الدوام، إذ ان من الممكن ان يضمحل أحدهما في مقابل الآخر إلى غير رجعة أو إلى حين.

أما قوة أحدهما فإنما هي بالممارسة، يعني ان الذي يرجح الجهل على العقل باستمرار ولا يتبع عقله أبدا لابد ، وان يفقد عقله أخيرا فلا يعود يشعر بحب الخير والحق[238].. أما الذي يتبع عقله باستمرار فإن الجهل سوف يذهب عنه نهائيا بحيث يصبح قدوة الآخرين في الفضيلة. ان هذا الفرد لا يحس بحب لنفسه، إذا خالف الحق، ولا يرى تعبا في اتباع الحق والتضحية له.

كما ان العقل والجهل يتأثران بالتربية والتوجيه وبالوراثة والتغذية، ولذلك فإن الدين يستخدم كل ذلك للإصلاح.

4- الاصلاح.

يرى الإسلام ان اصلاح الناس اصلاحا شاملا انما يكون باتباع هدى العقل، ونبذ تسويلات الجهل، ذلك لأن العقل لا يميز الخير للناس عن الشر فقط ، بل يدفع الفرد إلى العمل بالخير ونبذ الشر.. وإذا اتبع الناس عقولهم ، أدوا حقوق بعضهم البعض وزادوا بالإحسان إلى بعضهم البعض. وهل ترى سعادة خيرا من هذا؟

أما إذا غلب على الناس الجهل فانكب كلٌ على عبادة ذاته والعمل لمصالحه الخاصة وتطرف كلٌ في جلب الملاذ لها، فهناك يعم الظلم والطغيان والفوضى والحسد والحقد واستعباد الآخرين.

أما سن القوانين، المدعمة بالعقوبات والتنظيمات، فهو لا يؤثر في اصلاح الناس أبدا، لأن المجتمع الذي يتبع الهوى ويتصف بحب متطرف للمادة، هذا المجتمع لا يسن قانونا الا متأثرا بهذا الحب ولا يطبقه الا كذلك. ومن هنا فسوف يكون القانون والتنظيم وسيلة إلى تحقيق شهواته. أليس الإنسان هو الذي يسن القانون ويقر النظام، أترى انه لا يمكنه الخروج عليه إذا أراد أو إذا خالف شهواته[239].

ولنفرض: ان الإنسان قد نجح في تشريعه وتنظيمه وقلع جذور الجريمة، فهل ينجح في اصلاح نفسه وتطهيرها من الحسد والحقد والقلق والاضطراب؟ فأية وسيلة يتبعها لذلك ما دام قد نبذ العقل واتبع الهوى؟

5- المؤثرات.

ان الإسلام يهدف بتوجيهاته أمرين؛ الأول: زيادة العقل، الثاني: تربية النفس[240] ،أي أن تجعل النفس بحيث لا تهوى الشر كثيرا.

وبالنسبة إلى الأمر الأول يستخدم الإسلام الأساليب التالية:

1- الترغيب في ثواب الآخرة والترهيب عن عقابها.. قال الله سبحانه: [إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِاَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](سورة الزلزال).

2- بيان ان السعادة تكمن في اتباع الحق، كما ان الشقاء يكمن في مخالفته. قال الله سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً][241] (طه 124).

3- إلفات نظر الإنسان بأن له عقلا وفكرا لابد من استخدامهما، ولهذا يكرر في القرآن كلمات مثل (أفلا يعقلون.. أفلا يتدبرون) وأمثالها.

وبالنسبة إلى الأمر الثاني يتخذ الإسلام عدة إجراءات نذكر منها ما يلي:

1- يحرم الزنا، والجماع في حالة الطمث، ويدعو إلى المواظبة على عدم التغذية المحرمة حالة الحمل، والإرضاع. فهذه التعاليم من شأنها ان تمنع من تأثيرات العوامل السلبية في نفس الإنسان.

2- التربية الصالحة للطفل التي أوصى بها الدين الحنيف ابتغاء ان تتعود نفس الطفل منذ البداية على الصلاح فيسهل عليها عمل الخير فيما بعد. والتربية الصالحة تعني: الاعتدال في إظهار الحب للولد ومصاحبته منذ ان يولد بالذكر كالآذان والإقامة عند الولادة ، وتغذيته بالإيمان وتعليمه الواجبات وتأديبه بالآداب الحسنة والفضائل كما هو مشروح مفصلا في كتب الفقه والتربية الإسلامية.

3- توفير البيئة الصالحة التي تساعد على نمو نفس الإنسان نقية صالحة، وذلك بتطهير البيئة من الرذائل والمنكرات ، حتى ان أهل الذمة لا يمكنهم التجاهر بالمنكرات، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[242] ، ومعاقبة وملاحقة المرجفين الذين يشيعون الأفكار الباطلة في المجتمع.. قال الله سبحانه [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](النور 19).

4- تقرير العقوبات الرادعة عن الجريمة كالقصاص والحدود والديات؛ وهذه العقوبات تقضي على الجريمة من الخارج في حين ان الإجراءات السابقة تقضي عليها من الداخل.. وهذا لا يعني ان لا أهمية لهذه العقوبات بل الواقع ان بعض النفوس لا ترتدع الا بالعقوبات الحاسمة[243]. هكذا يأتي الإسلام النفس البشرية من جميع جوانبها ويحيط بها من كل أطرافها، فيقضي على الجريمة والرذيلة من الداخل ومن الخارج معا وبكل الوسائل الممكنة، مستفيدا من كافة القوى التي لها تأثير على النفس. وبهذه الوسيلة يخلق المجتمع الفاضل الذي عجزت كل الحكومات وكل النظريات ان تخلقه حتى الآن.

ولا يملك الإنسان عندما يتدبر هذه الإجراءات ، وتلك التجارب التاريخية التي شيدها الاسلام خلال أربعة عشر قرنا ، الا ان يبدي إعجابه الشديد بها، ويصرخ: ما أشد التعاسة التي تحكم الناس نتيجة تركهم مناهج الدين واستبدالها بنظريات تافهة مائعة لا تغني عن الحق شيئا.

علم النفس..

ولابد ان نتطرق إلى علم النفس الإسلامي، لنشير إلى بعض خطوطه العريضة. إذ ان معرفة النفس ضرورية لاستكمال الموضوع.

ولابد ان نشير إلى ان للإسلام مذهبا خاصا في علم النفس ناشيء من تعريفه للنفس، وهذا المذهب يتناول تارة المرض وأخرى العلاج. فالمرض النفسي في الإسلام ناشيء من تزاوج عاملين:

1- ضعف العقل.

2- قوة الهوى.

فمثلا: القلق ناشئ من شيئين: الأول: فقدان الإرادة التي تضبط النفس وتقيمها في الطريق المستقيم.. والثاني: وجود نقص في الشؤون الدنيوية كخسارة تجارة وما شابه ذلك.. وهذا النقص لا يؤثر في النفس لولا حب الدنيا، وحب الدنيا ناشئ من حب الذات..

وعلاج هذا المرض يتم بأمرين:

1- بالتوجيه إلى نور العقل.

2- وبالتقليل من أهمية الدنيا في نفس الإنسان القَلِق.

كما ان الإسلام يعتبر الكفر والجحود والنفاق وكل الرذائل الأخرى أمراضاً نفسية أولا وبالذات ولابد من علاجها هناك في داخل النفس.

فالكفر – عند الإسلام – ناشئ من الاستكبار وعدم التسليم للحق.. والاستكبار ناشئ من هوى النفس والمبالغة في تقديرها.

اما الايمان فهو تماما ضد الكفر وهو: التسليم للحق.. اما كيف يمكن علاج الاستكبار وإقرار التسليم في قلب الإنسان فهو يتم بما سبق ان قلناه في بيان كيفية اصلاح النفس.

--------------------

السياسة الإسلامية

1- الإسلام يقرر ان المشرع الوحيد هو الله سبحانه، ذلك لانه فقط مالك الناس.. والناس لا يملكون حتى انفسهم تجاه الله، في حين ان الله اعرف بحالهم وما يصلحهم ويفسدهم في الدنيا والاخرة.

قال الله سبحانه: [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ..](يوسف 40).

وقال تعالى: [يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ اِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ](ص 26).

اما السيطرة التي يمارسها القادة في الدولة الإسلامية الشرعية، فإنها ناشئة من هذا الأمر، فحيث ان الله هو المالك الحاكم، فلابد ان يعين من يُتَّبَع في الارض.. وليس لاحد من العباد ان يفرض سلطانه على الناس الا بسلطان من الله.

2- ان الإسلام لا يعترف بسيادة الإنسان على نفسه من دون ان يقررها له الله ربه وخالقه ومالك اموره ومن إليه مصيره، ولذلك فهو يضع أول قواعد السياسة على اساس معتدل فيرتفع البناء باعتدال، في حين ان فلاسفة البشر( أمثال لوك وروسو) يقررون حق السلطة للبشر فينحرف بهم السير من المنطلق حتى النهاية، ذلك لانه:

ألف: إذا كان حق السلطة للبشر، كان لكل منهم الخروج عليها متى شاء، إذ ليست السلطة أكثر من شيء اراده الفرد في زمن، فإذا ما اراد يوماً رفضه، فلماذا لايجوز له ذلك؟ لماذا نأخذ بكلامه الأول دون الثاني؟

باء: ثم ان الناس لا يتفقون دائما في وضع شكل خاص للسلطة، أو فرد معين لممارستها، فيكون مبعث خلافات لا تنتهي (كما هي موجودة الان) وهي تسبب شقاء البشرية.

جيم: ان الإنسان حين يكون معرضا للخطأ في كل أطواره ، ومعرضا للتأثر بالدعاية والتأثر بالنزعات والتأثر بالشهوات وما اشبه من انواع المؤثرات في النفس، فلابد ان يأتي تعيينه لنوع الحكومة والحاكم خطأ على الاغلب (كما نجده اليوم وقبل اليوم ، حيث نواجه كل يوم نظرية جديدة وشخصا جديدا وليس الثاني بأحسن من الأول و ان عارضه وخالفه).

دال: إن سلطة الشعب على نفسه تمنى في احسن الفروض بهذه المساوئ. اما إذا جاء الاستغلال- وهو آت قطعا- واما إذا استبد الرئيس بالحكم وزوَّر الانتخابات، واما إذا اطاح الإنقلاب العسكري بالحكم وحلت الاحزاب فهنالك شقاء ليس وراءه شقاء.

ولهذه النواحي وغيرها فقد قرر الدين ان حق الحكم انما هو لله فقط ولله أيضا حق انتخاب الرئيس وليس للناس أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

والرسول مبعوث الله وخليفته في الأرض. يقول القرآن: [وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ](النساء 64). والإمام خليفة الرسول لقول الله سبحانه [يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ](النساء 59).

أما بعد الإمام فيتولى شؤون المسلمين الفقيه التقي لأنه ممثل عام للإمام عليه السلام بنص صريح منه وهو قول الامام العسكري عن الامام الصادق عليهم السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفاه على هواه ، مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه[244]) وفي حديث آخر (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم[245]) وفي حديث ثالث (فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكماً)[246].

3- ويرى الإسلام ان السلطة لابد ان تعطى بيد من فيه الكفاءة (وهي: الفقه) والأمانة (وهي: التقوى)، ولا ينظر إلى نسبه ووطنه وحسبه ولا أي شيء آخر من الشؤون المادية أبدا.. ذلك لأن المهم في الرئيس اتقان ما عهد إليه بدون ضعف أو عجز أو خيانة، وهو يتوفر في الفقيه العادل سواء كان من هذا الوطن أو ذاك، هاشمياً أو لا، إذ لا قيمة للملاكات المادية في هذا المجال.

ولو ان الدين كان يشترط أمرا ماديا[247] – خارجا عن قدرة الناس- ، فقد ظلم ذوي المواهب الذين يقدرون على نيل السلطة، وظلم الناس بمنعهم عن مواهب أولئك.

4- كما انه يعتبر الدولة دولة دستورية يحكم عليها القانون الإسلامي، وليس لأحد من أبنائها ، ومنهم الرئيس، ان يبدل حكم الله[248] أبدا، ويجعل لذلك ضمانات نشير إليها بإجمال:

أ- من شروط الرئيس ان يكون تقيا. ومعنى التقوى: العمل بالدين، ومن عطل أحكام الله فليس فاسقا أو ظالما فقط بل هو كافر أيضا لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ويعزل عن الرئاسة فورا.

ب- ان الرئيس يعزل بمجرد ان يعمل بالمعاصي أو بمجرد ان لم يحكم بما أنزل الله، ويجري عزله ببساطة جدا ، حيث يجب على الذي عرف منه المعصية ان يتراجع عن متابعته ويرجع عن تقليده.

ج- ان المجتمع المسلم مجتمع واع يعرف أحكام الله ويراقب الرئيس فيها، فمتى انحرف الرئيس قومه ولو بالسيف[249].

د- في الحكومة الإسلامية ليس للرئيس قوة الا بالدين – كما سيأتي – فمتى انحرف عن الدين خارت قوته وخر صريعا.

5- يرى الإسلام انه لابد ان تكون سلطة الرئيس مستمدة أبدا من الشعب[250].. ويقرر ذلك بما يلي:

أ- ان نظام الجيش في الإسلام يختلف عن الأنظمة الأخرى، ذلك لأن الجيش في الإسلام داخل في الشعب، بل هو الشعب كله. إذا احتاج المسلمون إلى الدفاع عن أنفسهم أو الهجوم على أعدائهم، هب الناس كلهم لذلك. ويجب على المسلمين جميعا ان يكونوا قادرين على حمل السلاح كما هو مفصل في كتب الفقه.

ومن هنا فليس من الممكن في الإسلام استخدام الجيش ضد الشعب ـ كما هو الحال في الدول الحديثة ـ بل الجيش يقف دائما مع الشعب لأنه ليس جهازا من غيره.

ب- ان الإسلام يشترط في كافة أجهزة الدولة ان يكونوا كفوئين أمناء ويفرض على الناس مراقبتهم. فلا يمكن للرئيس ان ينصب واليا غير كفوء أو غير أمين.. وإذا انحرفت أجهزة الدولة فليس من الممكن ان تستخدم – بسبب وجود رقابة الناس - للأغراض أو المصالح الخاصة.

ج- ان الدين يقاطع سلاطين الجور ويأمر الناس بمقاطعتهم، ولذلك فإن الرئيس الخائن لا يمكنه ان يعيش في مجتمع مسلم.

وهذه الضمانات الثلاثة وضمانات أخرى يقدمها الإسلام كلها نابعة من فلسفة الإسلام في الحكم، حيث يرفض بكل شدة ان يكون هناك قطاعان: حاكم ومحكوم، شعب وحكومة، بل يمزجهما أبدا ويجعلهما كيانا موحدا.

6- وبعد ان يوفر الإسلام كافة الضمانات في شخص الرئيس يجعل منه القوة الأولى والمركز الأعلى في البلد ويجعل جميع أجهزة الدولة تابعة له، ولا يجعل لهم كيانا مستقلا عنه.. وبهذا يضمن صلاحهم أيضا فتصبح الحكومة الإسلامية أمثل الحكومات جميعا برئاستها وبأجهزتها..

7- ويقر الإسلام التنافس الحر الذي يدع للشعب الخيار في انتخاب أقرب الناس إلى الصواب، وليس معنى هذا ان الإسلام يقر الأحزاب المتحاربة التي تفسد البلاد، بل معناه: ان الدين يقول: على الناس ان يطيعوا كل من توفرت فيه شروط خاصة- كالفقه والعدالة - دون ان يعيّن شخصا خاصا. ويبقى على الناس ان يختاروا بعقولهم لا باهوائهم احسن الفقهاء دينا وأشدهم ورعا، ولهم بعد ذلك ان يرجعوا عن فقيه إلى آخر متى شاؤوا، وليس للفقيه ان يمنعهم عن ذلك.

ومتى توفرت هذه الشروط فلابد ان يرشح كل من يجد في نفسه الكفاءة للرئاسة، اما الناس فإن رأوا فيه ذلك اتبعوه. ولذلك فلا يزال في البلاد الإسلامية فقهاء متعددون لكل منهم رئاسته الخاصة.. فإذا وجد الناس اقل انحراف من الفقيه رجعوا فورا إلى غيره، واذا علم الفقيه ذلك فليس من المعقول ان يتعمد الانحراف (وكل هذه الامور مجربة في العالم الإسلامي حتى اليوم).

8- وبعد كل هذا فإن الدين يحفظ الناس- لاسيما الفقهاء- عن الانحراف بتطهير قلوبهم عن الاهواء والشهوات - وقد مر تفصيل ذلك عند بيان اصلاح الناس- .

9- ويرى الإسلام ان الصفات التي تجعل القائد مثاليا هي:

أ- التقارب بينه وبين الناس. يقول ضرار في صفة الامام علي عليه السلام: (كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا سألناه[251]).

ب- ان لا يتخذ لنفسه حجابا ووسائط من دون الناس.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وظائف الوالي: (ولم يغلق بابه دونهم[252]).

ويقول الامام علي عليه السلام مخاطباً بعض كبار المسؤولين في الحكومة: (لا تتخذُن حجابا ولا تحجبُن أحداً عن حاجته حتى ينهيها اليكم[253]).

ج- عدم التعدي على حقوق الاخرين، وان كان له السيطرة التامة عليهم ، وإجراء العدل بينهم.. قال الله سبحانه [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ](النساء 58).

د- ان يكون برا رحيما بالناس. قال الإمام السجاد (ع): (أما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم انهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك فيجب ان تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم[254]).

هـ- ان يستشير في أمور البلد أهله ولا يستبد برأيه الخاص. قال الله سبحانه: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] آل عمران 159).. وقال: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى 38).

و- التواضع للناس.. قال الله سبحانه: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] (الحجر 88).. وقال الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر (فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وأبسط لهم وجهك[255]).

ز- المساواة بينهم في كل شيء حتى في مثل النظر واللحظة. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لواليه (وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم - أي ظلمك الناس لصالح العظماء - ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم[256]).

ح- أن يعيش مثل أضعف من تحت سلطته.. كتب الإمام علي عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة، وقد بلغه انه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها.. كتب إليه يقول: (أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت اليها.. وأضاف بعد توبيخه على ذلك: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز (الحرير) ولكن هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى (جائعة) وأكباد حرى (عطاشى) ، أو أكون كما قال القائل: (وحسبك داء ان تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد.)؟ أأقنع من نفسي بأن يقال هذا: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش[257]).

ط- ان يلتزم بعهوده ومواثيقه التي يقدمها لشعبه أو للشعوب الأخرى، قال الله سبحانه: [إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَاَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ](التوبة 4).

وليس معنى هذا ان على الرئيس ان يستسلم لشروط مجحفة وعهود ظالمة تفرضها الدول الأخرى، بل على العكس يجب على الرئيس ان يحرض الناس على القتال في سبيل الله، ويستعد دائما للدفاع عن بلاده.. قال الله تعالى: [يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ مِاْئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ](الانفال 65) .

وقال تعلى أيضاً: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ](الانفال 60).. وإنما المقصود ان عليه ان يفي بعهوده التي هي في صالح المسلمين.

10- ويرى الإسلام ان للحكومة وظائف أربعة فقط اليوم:

أ- استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية (السلطة التشريعية).

ب- تطبيق الأحكام على الموارد الخاصة (السلطة القضائية).

ج- تنفيذ الأحكام بإجراء الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العقائد الدينية وما أشبه مستفيدا في ذلك من كافة الوسائل الإعلامية والتربوية الجماعية.

د- تنظيم حياة الناس بتحديد الثروات وتوجيه التجار وجباية الضرائب وبناء المشاريع العامة كالمساجد والطرق والجسور والسدود، وكل ما هو في صالح المجتمع والتي نسميها اليوم بالخدمات الاجتماعية.

أما سائر ما تبنته الدول اليوم، فالإسلام لا يأمر بها.. ذلك:

1- لان الجيش ـ مثلا ـ تابع في كافة شؤونه للشعب، والحكومة هي التي توجه الشعب إلى ما يجب عليهم القيام به.

2- والتربية والتعليم والتثقيف العام (الصحف، الإذاعة، التلفزيون، دور النشر) مؤسسات اجتماعية يجب ان يقوم بها الناس أنفسهم بتوجيه من الحكومة، فإذا عجزوا قامت بها الدولة.

3- وتصنيع البلد أمر يناط بالناس أنفسهم تحت إشراف الدولة ولا تنتج من ذلك المضاعفات التي نتجت في الدول الرأسمالية، ذلك لأن الإسلام يحدد الثروات ويمنع الاحتكار، ويفرض الضرائب كما سبق الحديث في ذلك.

4- والتجارة الخارجية والداخلية أيضا من حق الشعب أنفسهم بعد ان تنظمها الدولة وفقا للمصالح العامة.

5- والزراعة كالتجارة ترتبط بالشعب، ومنها استغلال الثروات المعدنية.

وبصورة موجزة:

ان الدولة في الإسلام منظمة لأمور الناس وحافظة على توازنها، وليست غاصبة لحقوقهم مستقلة بشؤونهم.. نعم، إذا عجز الناس عن إدارة شؤونهم تتدخل الدولة وذلك إما بالاستقلال بها أو بإنشاء تعاونيات شعبية أو شركات عامة.. علما بأن أوامر الدولة في الإسلام مطاعة من قبل الناس.

فإتباع الجيش لأوامر القيادة ليس ذلك رغما على أنفه، بل وفقا لحريته، وخضوعا لما اتبعوه من تعاليم دينهم.

وفلسفة الإسلام في حصر مسؤولية الدولة في الأمور السابقة، يتلخص في ان تدخُّل الدولة في الشؤون الاجتماعية يوجب تحديد المجتمع وسلب حريته وخنق روح الابداع فيه، وأخيرا لا ينتج منه الا الضعف والعجز، كما انه يوجب تضخم مسؤوليات أجهزة الدولة، وتعقد علاقاتها، مما يسبب عدم قيامها بواجباتها الضرورية الهامة، كما نرى ذلك في أكثر الدول القائمة اليوم.

-----------------------

البحث الثالث - ميزات النظام الإسلامي

كلمة البدء

لقد بحثنا في فصل سابق الفلسفة العملية في الإسلام، وعرضنا الخطوط العريضة لأحكام الدين، وكان طبيعيا ان يشمل ذلك العرض شيئا من ميزات الإسلام، بيد انه لم يكن كافيا لفهم أدق وأوسع لأنه كان يفقد نوعا ما عنصر المقارنة. والآن، وبعد ان كملت جوانب الفلسفة العملية في المنهجين الإلهي والبشري، نود ان نعرض ميزات الإسلام عرضا موجزا وشاملا، بمقدار ما تسمح به صفحات هذا الكتاب لأن الموضوع يستدعي أسفارا ضخمة.

والميزات الرئيسية في الإسلام هي: ان الإسلام احق، وأجدر بالإنسان ان يتبعه، وانه منهج الله رب العالمين، وانه شامل لجميع نواحي البشر، وشامل لكل أفراد البشر، وشامل لكل أدواره ومراحل تطوره، وانه ينفذ احكامه وتعاليمه في حين لا يمكن غيره من تنفيذها، ينفذها بالإيمان والضغط الاجتماعي وقانون العقوبات وما أشبه.. وانه مجرب قد أوسع فهما ودرسا.

الحق

في الفلسفة النظرية حصلنا على تعريف دقيق للحق وهو: ان الحق هو (ما يطابق الواقع) وفي الفلسفة العملية عرفنا ان الإسلام، بما له من معارف تطابق فطرة الإنسان وتنسجم مع سنن الكون، هو الحق.. دون سواه.

وهذه ميزة للنظم الإسلامية.. لأن الحق يجب ان يتبع ومن يعارض الحق تكون عاقبة أمره خُسرا. وهذا أمر وجداني نذكر به عبر أمثلة.

1- الحق يقول: ان الله خالقنا الكريم أعرف بحالنا منا وأولى ان يتبع أمره وتنفذ شرائعه، والذي يخالف هذا الحق ماذا سوف يكون مصيره؟ أليس انه يتبع منهجا يضعه هو؟ منهجا ضحلا خاطئا يرديه ويحل عليه كل يوم قارعة جديدة؟

2- الحق يقول: ان نفس البشر تهوى الشر، ومن إتبع نفسه جرته إلى الفساد، وان عقله يهديه إلى الرشد ، ومن اتبعه بلغ السعادة، ومن خالف هذا الحق واتبع نفسه وأعرض عن عقله كانت عاقبته خسرا.

3- الحق يقول: ان الأخلاق الفاضلة وتحقيق الحرية البشرية يخلقان المجتمع الكريم، ومن خالف هذا الحق أبتلي بالمجتمع الفاسد.

4- الحق يقول: ان تيار الكهرباء مضيء، وان القنبلة الذرية تدمر. فمن اتبع هذا الحق استنار بالكهرباء وحذر من استعمال القنبلة الذرية، ومن أعرض عنه (فأعرض عن الكهرباء واستعمل القنبلة الذرية) أليس يخسر نفسه بغير جدوى؟

يقول الله سبحانه [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَّ يَهِدِّي إِلآَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ؟ (يونس 35) .

--------------------

يوم الدين

عرفنا في فصل العقائد ان بعد الموت حياة باقية يثاب فيها المحسن ويعاقب المسيء ؛ [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](الزلزال 6-8) .

ولنقارن إذن بين الدنيا والآخرة. ان حياتنا الدنيا لا تتجاوز في أحسن الفروض السبعين عاما: نصفها نوم وطفولة ومرض وأعمال ضرورية لا نملك الا فعلها، والباقي (35) عاما.. ولنفرض اننا نستطيع ان نتمتع فيها بكامل التمتع بعيدين عن منهج الله سبحانه (وهو مستحيل طبعا)[258]. فماذا يحدث؟

نخسر الآخرة التي ليس لها إنتهاء وانها حياة خالدة لا يمكن ان تحدد حتى بكلمة مليون ومليار أو ما شابه ذلك. (خالدين فيها أبدا).

وإذا خيرنا بينهما: فأي عاقل يبيع أكثر من مليون ومليار عاما وأكثر في سبيل 35 عاما فقط؟!

دع عنك ان عمر الدنيا كلها لا تساوي ساعة من متعة الآخرة ؛ انها متعة لا تقاس بالدنيا.. (فيها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر بقلب بشر)..

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل: (أنا لا اعتقد بالآخرة، ولكن حق على الذي يعتقد بها ان يصرف كل عمره في سبيل تحصيلها. ذلك لأن تسعين سنة لا قيمة لها ازاء حياة خالدة)[259]. أليس من الأفضل ان نتبع الإسلام لنحرز حياة خالدة في الآخرة تطفح بالنعيم والآلاء؟

ولو فرضنا ان الإسلام يسبب لنا شقاء طويلا في الدنيا (وهو فرض غير واقعي طبعا)، أليس من الخير لنا ان نتحمل هذا الشقاء مثلما نتحمل متاعب ليالي الامتحان لنحظى بنعيم الأبد، كما نحظى بنجاح السنة؟

قال الله سبحانه: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَآئِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا * جَزَآءً مِن رَبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً]( النبأ 31-36).

ان نسبة السبعين إلى ما لا نهاية، أقل من نسبة ساعة واحدة إلى عمر الأرض كلها.. فلو قيل لك: انك لو تعبت في هذه الساعة عشت مدى العمر سعيدا ، وبصورة عكسية لو تمتعت فيها شقيت مدى العمر.. ماذا سوف يكون اختيار العاقل الحكيم؟ ان الذين يتبعون أهواءهم من الماديين يخالفون ولا شك عقولهم التي تلومهم على ترك الحق والتعرض لعذاب الله الاليم.. ولكن هل ينفعهم الإنكار؟ هل ينقذهم من عذاب الله؟ ام يستطيعون خلودا في الدنيا وتمتعا بها؟

[قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوْا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ](الزمر15).

---------------

لكل مناحي الحياة

للبشر جوانب مختلفة: فله عقل وجهل، وله جسم وروح، وله حاجات ورغبات وتطلعات وغايات، وله فوق ذلك أطوار؛ فهو جنين في رحم أمه، وصبي في المهد، ويافع وشاب، وله علاقات بعائلته، وأهل بلدته، وأهل مهنته، وله مئات من الشؤون الأخرى..

والغريب ان كل ناحية من نواحي الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بسائر نواحيه. فلجسمه تأثير على روحه وبالعكس لروحه تأثير على جسمه كما ان لعقله تأثيراً في هواه وبالعكس. والفرد يؤثر في المجتمع والمجتمع يؤثر في الفرد، وهكذا[260].

وليس في العالم نظام شامل لجميع هذه النواحي، ليس هذا ادعاء بل لم يأت نظام واحد يدعي انه يضع تعاليم للروح وتوجيهات للنفس وقوانين للمجتمع وأحكاماً للفرد و..و..و..

فالنظام الرأسمالي مثلا، لا يدعي انه شامل لتعاليم صحية أو خلقية أو بيتية أو ما اشبه؛ والنظام الاشتراكي وان ادعى الشمولية الا انه جعل أكثر أحكامه مستوحاة من ارادة الرؤساء المرتجلة القائمة على انكار وجود الروح والاخلاق السامية للانسان ولقد اثبتنا سابقا وجودهما ولم يبق الا الإسلام، الذي هو منهج للتفكير، وفلسفة للكون، وأحكام للجماعة، وتعاليم للفرد منذ ان يكون جنينا وإلى ان يصير ميتا، وتصحيح للسلوك وتهذيب للنفس و.. و..

وفي كل فصل يتعرض الدين لكل ما يمكن ان يقع من احتمالات وفروض[261].

وفي هذا عدة فوائد:

1- انه يبعث قوة في النظام الإسلامي حيث يغني الفرد من تجشم متاعب نظام آخر.

2- انه يجعل بناء حياته متكاملا وعلى نسق واحد ولا يكون أمره فرطا يناقض بعضه بعضا، كما نجده في الرأسمالية. مثلا: يؤمن بالله بينما لا يؤمن بشرائعه، ويؤمن بالإنسان بينما ينسى نظامه بعيدا عنه.. وهكذا..

3- وأخيرا انه يجعل النظام قويا يمسك بعضه بعضا. فمثلا: الإسلام يقول في فصل المعرفة: ان الخطأ في التفكير ناشئ من اتباع الهوى، وانه لابد لمن يريد الحق ان يخالف هواه.. وهو يقول في فصل الأخلاق: لابد من اتباع العقل بدل اتباع الهوى، ويضع كل المناهج الخلقية على أساس هذه الفكرة.. وفي فصل السياسة يقول: لابد ان يكون الرئيس تابعا لعقله وليس لهواه، ولابد ان يكون انتخابه من الناس في هدى عقولهم لا في ظلمات أهوائهم. وفي فصل العبادات: يجعل الصلاة والصوم والحج وما أشبه، وسيلة لدعم عقول الناس وطمس أهوائهم. وهكذا ان مثل الإسلام كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت تتفرع وتتوسع وترتفع حتى تشمل العالم كله.

وكل حكم منه يرتبط بكل شؤون البشر، والأحكام الأخرى ترتبط بهذا الحكم.

----------------

لكل أفراد البشر

1- لا يصلح أي نظام في العالم ان يسود البشرية جميعا.. ذلك لأن النظام الرأسمالي انما هو منبثق من اهواء طبقة الأغنياء، وكل ما فيه موضوع لحمايتهم فقط. انه نظام الأغنياء ويضطر الفقراء إلى اتباعهم.

والنظام الاشتراكي منبثق من اهواء طبقة الفقراء (كما يقولون) ولا يخدم الا مصلحتهم فقط.. ولابد عندهم من سحق سائر الطبقات. ونظم الأرض كلها تميز طائفة على أخرى، سواء على أساس طبقي أو قومي أو إقليمي أو ما شابه.

2- ولا يمكن ان يأتي نظام يشرعه بشر ثم يكون شاملا لهم جميعا وذلك للأسباب التالية:

أ- ان الإنسان يتأثر بمحيطه وبيئته مهما حاول الترفع عنهما فإن اختياره لابد ان يتأثر بذلك ولهذا نرى ان المشرعين والفلاسفة في العالم ينطبع كل منهم بطابع محيطه و بيئته.

ب- ان الإنسان يتبع هواه، فهو ان كان يحب بلده رفعه في النظام درجة وان كان يهوى طبقة معينة مال إليها ميلة. وهكذا.. ومن هنا نجد طابع القومية أو الطبقية باديا على كل نظم الأرض.

ج- ان الفرد الواحد لا يمكنه ان يحصل على المقاييس الدقيقة التي تخضع لها الجزئيات الصغيرة في كل بلد، ولذلك فهو يضع حكما شاملا دون مراعاة حالات الاستثناء.. فيسبب ذلك شقاء طويلا.

د- ان أنظمة البشر مادية تستوحي كل واقعها من المادة، وبما ان للمادة في كل منطقة وفي كل يوم شكلاً جديداً وصيرورة خاصة، فإن الأنظمة تتأثر في كل مكان بما لها من ملامح.. فمثلا: لا تعترف نظم الأرض بالعقل.. ولذلك فإنها تضع كل أحكامها على أساس المصلحة. والمصلحة تابعة لنوعية وسائل المعاش التي تختلف باختلاف الأماكن فيختلف النظام.

والإسلام يعترف بالعقل، ويستوحي منه كل أحكامه. و واضح ان العقل واحد في كل مكان ولا يخضع لببيئة دون أخرى، ولا لحالة دون حالة.. فحينما يقول النظام الغربي للكاذب: أصدق! لا يقوله الا بعد ان يرى مصلحته في هذا ولا تكون مصلحته في ذلك الا في أحوال خاصة. بينما النظام الإسلامي يقول للناس كلهم: أصدقوا وفي كل الأحوال، ويتوسل لذلك بعقولهم لا بمصالحهم المختلفة.. وهكذا.

والإسلام شريعة الله الخالق لكل العباد الذي لا يخضع في ظله شعب لشعب ولا طبقة لطبقة، مما يؤدي إلى اختلال التوازن ونشوب الأزمات.

الاسلام شريعة الله الذي لا يفضل أحدا ولا شعبا، ولا طبقة على غيرها.

شريعة الله الذي لا يتأثر بمحيط وبيئة.

شريعة الله العالم بكل المقاييس التي تخضع لها حياة البشر ولذلك فهي صالحة لأن تطبق على كل البشر على نحو مساو ودون قلاقل.

-------------

تطور الإنسان!

في واقع البشر جوانب ثابتة، وجوانب متطورة. فما يتعلق بروحه وعقله ورغباته وحاجاته وتصوراته وأخلاقه ووجدانياته فإنه لا يتغير.. أما ما يرتبط بكيفية بروز الرغبات وسد الحاجات وامتداد التصورات فهو الذي يتطور.

جوهر الإنسان والمقاييس العامة التي يخضع لها لا تتغير، فلا يمكن ان يكون هناك إنسان لا يحب نفسه أو لا يحب الخير أو لا يعرف ان الصدق والوفاء والايثار أمور حسنة.

وما سوى هذا الجوهر خاضع للتطور، ذلك لأن جوهر الإنسان ونظامه لا يرتبط بالمادة فلا يتغير. أما سوى ذلك فهو أمر مربوط بالمادة ولذلك يتطور بتطورها.

والنظم البشرية، تلاحظ مادية الإنسان، ولذلك فهي خاضعة للتطور والتغيير. أما أحكام الإسلام فهي موضوعة وفقا لجوهر الإنسان ومقاييسه الروحية ولذلك فهي لا تتغير.. وكما يصرح علماء القانون البشري – سواء الغربي أو الشرقي- ان نظمهم مستوحاة (على أفضل وجه) من ظروف البلد الذي يسن له القانون، فإذا تغيرت تغير القانون. أما الدين فيقول: (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة[262]).

---------------

تنفيذ الأحكام

ويمكن ان يكون في النظام الغربي أو الشرقي (الجاهليين) قبسات ضوء أو ومضات خير، ولكنها لا تطبق الا في حالات نادرة. وماذا تغني لائحة حقوق الإنسان في مكتبة الأمم المتحدة، إذا ساد الشقاء، وعم العداء كل أرجاء العالم؟

المهم تطبيق النظام، والمهم ان يملك النظام ضمانا للتنفيذ وان تكون فيه صلاحية ذلك.

والسبب في عدم تطبيق نظم الأرض هي ثلاثة أمور:

1- إنها من صنع البشر أنفسهم وما صنعته يد البشر تنقضه يده أيضا.

2- انها لا تصلح في كثير من فروعها للتطبيق.

3- انها لا تملك قوة كافية للتطبيق ذلك لأنها في الواقع تعتمد على قانون العقوبات، الذي ان كان صحيحا - وهو غير صحيح - ، فهو غير كاف لما سيأتي.

أما النظام الاسلامي:

أ- فهو ليس من صنع البشر حتى يملك البشر نقضه. فليس هناك قوة في الأرض – ومنها قوة السلطة – تملك تغيير حكم الله. فالبشر يشعرون بالتضاؤل أمام قانون الله لأنه قد وضع من لدن حكيم عليم.

ب- أضف الى ذلك أنه صالح للتطبيق، وقد طبق في التاريخ مرات كثيرة. وقد استمد صلاحيته هذه من عدة أسباب:

1- انه يلائم فطرة الإنسان، فإذا هي تنسجم مع طبيعته إنسجاما عجيبا.. فهو مثلا: يحكم بما يهوى إليه العقل، ويشبع رغبة النفس ويسد حاجات الجسم.

2- انه ميسور باعتبار ملاحظته للضعف البشري وليس أدل على ذلك من ان الحكم مرفوع في الدين عن المكره والمضطر والمجنون والصبي والنائم والجاهل، وكل حكم فيه ضرر أو عسر أو حرج أو اختلال نظام فهو مرفوع.

3- انه مبسط ويستطيع أقل المسلمين فهما ان يطلع على ما يحتاجه من أحكام في عمره خلال أشهر معدودة.

ج- إن النظام الاسلامي يملك قوى كثيرة للتطبيق، ولابد ان نشير قبل بيان تلك القوى إلى ان النظام مهما كان شاملا فإنه يحتاج إلى قوة إجرائية أكبر من النظام نفسه.. والإسلام بما هو نظام كامل شامل وفيه مئات الآلاف من الأحكام فإن تنفيذه يدل على ان قواه الإجرائية أكبر وأعظم من كل نظام آخر.

والقوى الإجرائية في الإسلام هي:

1- الإيمان.

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- التربية.

4- الحدود والقصاص والديات.

ولابد ان نعرض كلا منها بشيء من التفصيل

1- الإيمان.

والإيمان بالله – المحيط علما وقدرة – وباليوم الآخر الذي يجازي فيه بالخير خيرا وبالشر شرا قوة لا مثيل لها في دفع الفرد إلى عمل الخير وتتميز عن غيرها بأنها:

1- تستطيع ان تهذب النفس من الداخل وتنظم مشاعر الإنسان وتحفظه من الحسد والحقد والجبن والقلق وما أشبه.

2- تتمكن من حفظ الفرد عن الخروج عن أحكام الله حيث لا مراقب ولا دولة ولا جزاء.

3- ان عمل الخير الصادر عن النفس المؤمنة يكون عملا متقنا باعتباره صادرا عن إرادة الفرد ورغبته وليس مكرهاً عليه.

وبصورة معكوسة تماما نجد القوانين البشرية (الجاهلية):

1- لا تتمكن من تهذيب النفس من الداخل، ولذلك يشيع القلق النفسي في الدول الغربية وتطفح النفوس بالعقد الجنسية والحضارية.

2- وهي لا تستطيع ان تنظم سلوك الفرد الداخلي فلا تستطيع مكافحة الاجرام الذي كثيرا ما يرتكب سرا.

ومن هنا فإن البشر عاجز عن توفير حياة طاهرة عن الإجرام لنفسه وان صرف المبالغ الطائلة.

3- وحيث ان الفرد يريد من الداخل الشر ويجبر على عدم فعله من الخارج، فإنه يعيش أزمة داخلية بإستمرار أو ينمو فيه بغض متزايد للشعب والقانون وينتهي بالعصيان والتمرد اللذين نجد نماذج منها في دول العالم الراقية اليوم.

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

صفة الحياء صفة فطرية في الإنسان. ومن هنا فالفرد تابع لمجتمعه وقليلا ما يخرج عن عاداته التي يعاب من خرج عليها.. والدين يستخدم هذه الصفة حيث يجعل العمل بأحكام الدين صبغة اجتماعية يعاب من تركها، وتبرز هذه السمة حينما يوصي الدين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويفرض على كل مسلم: ان يراقب الناس جميعا فإذا رأى مروقا أو خروجا على حكم ديني أو أخلاقي سارع إلى انكاره، أرأيت كيف يكون حال مجتمع كل أهله رجال أمن وشرطة؟.. ومن الطريف ان الآمر بالمعروف قد يكون مأمورا به غدا من قبل نفس الذي يأمره اليوم.. ذلك لأن المسؤولية في هذا الصدد تجري على الكل بصفة متساوية.. فالمؤمنون يتواصون بالخير.. وهذه القوة لا تبلغ في حجمها القوة الإيمانية ولكنها في نفسها قوة كبيرة إذ ان مراقبة الجماهير أقوى بكثير من مراقبة طائفة خاصة (كرجال الأمن والشرطة) في القانون البشري في حين انه لا يكلف الشعب مالا ووقتا ولا أي شيء آخر.

3- التربية.

والتربية (التي سبق الحديث حولها في فصل اصلاح الناس[263]) عامل آخر مساعد لإجراء أحكام الدين..

ومع ان سائر النظم قد استخدمت هذه القوة الا ان ترابط نظم الدين وتفاعلها مع النفس الإنسانية لا مثيل لهما في النظم الأخرى. ولذلك فإن التربية في سائر النظم لا تستطيع خدمة النظم مثلما تفعله في الإسلام، بالإضافة إلى ان التربية الإسلامية تتميز بعدة سمات تجعلها أقوى من غيرها:

1- استخدام كافة الطاقات الكامنة في جوهر الإنسان كالعاطفة والعقل وحب الذات وحب الأقرباء وهكذا..

2- تقوية أواصر الأسرة والقرابة مما تؤثر في انطباع الفرد بخلقهم.

3- تنقية الجو المحيط بالأطفال بحيث يجعل الطفل لا يفكر مجرد تفكير في الجريمة. وقد لا نستطيع ان نعرف مدى تأثير التربية في تطهير نفس المؤمن وعمله من الرذيلة والجريمة، ولكن الواضح ان لها تأثيرا بالغا جدا.

4- العقوبة.

والعقوبة المفروضة في الإسلام.. ليست فقط تكميلا لنواقص الإنسان بل انها حصن منيع للمجتمع عن الجريمة أيضا.

والعقوبات الإسلامية التي تشمل كلا من الحدود والقصاص والديات تتميز بالسمات التالية:

1- انها لا تثبت بشبهة أو سوء ظن، بل تدرأ بالشبهات[264].

2- وبعد ان تثبت الجريمة ويثبت ان مرتكبها قد ارتدع عنها طوعياً، فللإمام ان يعفو عن صاحبها، فتحا لباب التوبة أمام المجرمين.

3- ولكن ان لم يثبت انه قد تاب، فمن المستحيل قبول الشفاعة فيه أبدا.

4- بما ان الجريمة يجب ان تحسم مادتها بعزم وإصرار فإن الإسلام يضع عقوبات مناسبة لكل جريمة دون ان يرحم المجرم.. ومن هنا كان قطع اليد والاعدام والقصاص في النفس والأطراف مشروعا في الإسلام. وقد ثبت ان وضع هذه القوانين الحاسمة هو العلاج الوحيد لقطع دابر الجريمة، وان تماهل القوانين الأخرى حول الجريمة هي التي سببت ازدياد نسبة الجريمة في كل بلاد العالم.

في حين ان انحسار مادة الجريمة عن المجتمع الإسلامي كان الى حدٍ ما بفضل هذه العقوبات.

--------------------

كلمة الختام

هذا هو الإسلام .. وهذه هي مزايا، أفلا يدعونا العقل و إيماننا بالحق إلى العمل على تطبيقه في واقع الحياة ؟

وحينما يقول القرآن الكريم: (اهدنا الصراط المستقيم) يشير إلى حقيقة هامة ،هي ان الإسلام فقط يمثل الطريق الوسط الذي لا تطرف فيه ولا انحراف، يجمع فيه كل محاسن اليمين واليسار ويرفض كل مساوئهما.. وهذه أمثلة في ذلك:

1- في مجال الفلسفة؛ لم يتطرف الإسلام إلى جانب الروح فينكر الجسد ولا إلى جانب الجسد فينكر الروح، بل قال بهما. كما لم يقل ان الإنسان خير محض ولم يقل انه شر محض (كما تطرف آخرون) بل قال بهما معاً.

2- وفي الاجتماع؛ كان التأكيد على التعاون وتحقيق نظامه ميزة من تطرف إلى جانب الجماعة ونسي الفرد. وكان تحمل المسؤولية والنشاط والابداع ميزة من تطرف إلى جانب الفرد ونسي الجماعة. وكان لتطرفهما مساوئ ولكن الإسلام جمع بين الميزتين، وقال: ان الفرد مسؤول في حين انه يجب عليه التعاون أيضا.

3- وفي الاقتصاد؛ توجد في الرأسمالية حرية ولا ضمان للفقراء ، وفي الاشتراكية ضمان بلا حرية، فجمعهما الدين وقال بالحرية والضمان معا.

4- وفي السياسة؛ كانت قوة التنظيم وشدة الانسجام وإطاعة الأوامر كلها من ميزات حكومة الحزب الواحد والديكتاتورية ؛ وكان البعد عن الخطأ واجتماع العقول والرضا والحرية من ميزات الديموقراطية، فجمعهما الدين وقال: لابد من إطاعة الرئيس وعلى الرئيس أن يستشير، وقال [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( آل عمران 159) . فهناك عزم من جهة ومشورة من جهة ثانية. ثم هناك حرية إذ ان الناس يتبعون قرار الرئيس بمحض إرادتهم التي اختاروا بها هذا الدين.

5- والإسلام لا يتطرف إلى جانب الدنيا فينسى الآخرة كما صنعته اليهودية ولا يعكس كما صنعته المسيحية في الرهبنة بل قال: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا[265]).

وإذ نأتي على آخر ما ذكرنا من مزايا الإسلام فلا يعني اننا قد بلغنا فيها المنتهى، بل لا ندعي الا اننا قد عرضنا شيئا يسيرا منها.

نسأل الله ان يوفق العالم إلى تطبيق هذا الدين الذي ينقذهم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

كربلاء المقدسة - العراق

25-6-1389 هجرية

====================

الفهرس العام

الفكر الإسلامي. 1

مواجهة حضارية. 1

كلمة في البدء. 2

مقدمة الطبعة الرابعة. 8

القسم الأول عن العلم والفلسفة. 25

البحث الأول عن:المعرفة بين الإسلام والتصورات البشرية. 25

العقل وتقييم الأفكار.. 29

العقل ومصادر الفكرة 37

البحث الثاني- نقد التصورات البشرية. 66

أ- آراء في المعرفة. 66

آراء في قيمة المعرفة. 73

كانت والنسبية الذاتية. 82

النسبية التطورية. 87

البحث الثالث - العالم بين الرؤية الإسلامية والتصورات البشرية. 100

المدخل. 100

الديالكتيك فلسفة عامة. 102

الفلسفة الميكانيكية. 115

الإسلام وفلسفة النور. 123

تعاريف لابد منها 128

القسم الثاني- العقيدة والإيمان. 133

البحث الأول عن: الدليل إلى الله... 133

كلمات في البدء. 133

أي رب ندعو إليه ؟. 136

الدليل إلى الله.. 143

التذكر بالله.. 155

الإيمان بالله.. 173

معطيات الإيمان. 178

البحث الثاني -الرسالة. 190

الرسالة والرسول. 190

بماذا يعرف الرسول ؟. 207

محمد رسول الله.. 210

شهادة الله... 232

البحث الثالث عن: الولاية. 234

(1) 234

الحاجة إلى الإمام 234

كيف نعرف الإمام؟. 247

ما هي مسؤولية الناس تجاه الإمام؟ 261

البحث الرابع- الحياة بعد الموت.. 265

الدليل على البعث.. 265

الجبر والاختيار.. 275

شبهات وردود 277

القضاء والقدر. 281

الغاية من الخلق.. 283

القسم الثالث: الإنسان والمجتمع. 288

البحث الاول:النظريات المادية و الانسان و المجتمع. 288

كلمة في البدء. 288

النظام الاجتماعي. 290

آراء وملاحظات.. 297

أرسطو. 298

البحث الثاني - الإسلام والإنسان والمجتمع. 314

كلمة في البدء. 314

المجتمع الإسلامي. 316

الاقتصاد الإسلامي.. 323

الأخلاق الإسلامية. 330

السياسة الإسلامية. 339

البحث الثالث - ميزات النظام الإسلامي. 348

كلمة البدء. 349

يوم الدين. 350

لكل مناحي الحياة 352

لكل أفراد البشر. 354

تطور الإنسان! 355

تنفيذ الأحكام 356

كلمة الختام 361

[1]- الكافي، الجزء 2، ص 33،34 .

[2]- في الكتاب الذي بين يديك أمثلة عديدة على ذلك خصوصاً في أبواب التوحيد.

1 - بحار الانوار ،ج 66 ،كتاب الايمان و الكفر، باب 30، ج6،ص 24-26.

1- بحار الانوار ، ج3 ،ص 152 ، ب5

1 - بحار الانوار ، ج1 ، ص131 ،ح28 .

[6] - بحار الانوار ، ج1 ، ص116 ،ح9 .

[7] - بحار الانوار ، ج1 ، ص129 ، ح12 .

1 – بحار الانوار ، ج1 ، ص 138 (من وصية الامام موسى بن جعفر عليهما السلام لهشام بن الحكم حول العقل) .

2 – بحار الانوار ، ج1 ، ص96 ، ح40 .

1 – النحل 78

[11] - بحار الانوار ،ج1 ،ص99 ،ح14 .

[12] - الكافي ،ج1 ،ص11 .

[13] - غرر الحكم

[14] - جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام : ( حجّة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين العباد و بين الله العقل ) الكافي ، ج1 ، ص25 .

[15] - بحار الانوار ،ج1 ، ص 159 ، ح 32 .

[16] - نهج البلاغة ، الخطبة رقم 1 .

[17] - بحار الانوار ، ج1 ، ص160 ، ح 42 .

[18] و 3- مستدرك الوسائل ، ابواب جهاد النفس، باب 9 ، ح2 .

[20] - بحار الانوار ،ج1 ، ص98 ، ح12.

[21] - مستدرك الوسائل ، ابواب جها النفس ، باب 8 ، ح7 .

[22] - جاء ت الكلمة في : يوسف 18 و 83 ، و طه 96 ، و محمد 25 .

[23] - بحار الانوار ،ج3 ، ص281 ، ح22 .

[24] - (الإنسان ذلك المجهول ص 146).

[25] - الإسلام يتحدى ص 65 عن (Cleaver Thin ding) لمؤلفه ماندير.

[26] - بحار الانوار ،ج74 ،ص208 ، في وصيته لإبنه الحسن عليهما السلام .

[27] - (الإسلام يتحدى ص 64).

[28] - بحار الانوار ،ج58 ،ص132 ،ح4 .

[29] - بحار الانوار ،ج2 ،ص33 ،ح29 .

[30] - بحثنا منطق ديكارت مفصلا في كتاب (المنطق الإسلامي أصوله ومناهجه).

[31] - غرر الحكم ،ص45 ، باب : ثمرة العلم و العمل به، ح155 .

[32] - بحار الانوار ،ج68 ، ص328 .

[33] - لا تعني لفظة القوة هنا وجود قوة داخلية في الشيء تدفعه إلى التحول . كلا، بل معنى القوة هنا: الامكانية، أي من الممكن ان يتحول إلى شيء آخر، ولو بعوامل خارجية؛ فالطفل لولا عوامل الغذاء والهواء لما انقلب إلى شاب.

[34] - الإسلام يتحدى ص 78.

[35] - بحار الانوار ،ج3 ، ص297 ، ح23 .

[36] - بحار الانوار ، ج4 ،ص221 ،ح2 .

[37] - بخار الانوار ، ج4 ،ص253 ح7 .

[38] - بحار الانوار ، ج4 ، ص308 ،ح37 .

[39] - بحار الانوار ،ج42 ، ص142 .

[40] - راجع مقدمة الطبعة الرابعة .. في مطلع هذا الكتاب

[41]- كانت هذه بعض خرافات الفلسفة وأساطير مشركي أهل الكتاب، وقد سبقت طائفة منها لدى بيان الفلسفة الإسلامية.

[42]- أي هل ان الله شيء محقق له صفات خاصة؟ وكلمة انية مشتقة من حرف أنّ وهو للتحقق، وكلمة مائية مشتقة من لفظة: ما هو؟ وهي سؤال عن صفة الشيء.

[43]- هناك مجموعة ضخمة من الشواهد العلمية الحقيقية والأدلة الفلسفية تؤكد الحقيقة الا ان المجال لا يسع لذكرها لأننا لسنا الآن في معرض بيان هذه الحقيقة بل انما نريد هنا عرض الفكرة الإسلامية عن التوحيد وتفسير عدة ظواهر وجدانية عنها.

[44] - الغاشية 22

[45]- سبق الحديث حول ذلك عند الحديث عن طبيعة الوجود.

[46]- أقوى تلسكوب في العالم يستقر في (مأونت بالومار) في الولايات المتحدة ويشاهد بلايين النجوم.

[47] - بحار الانوار ، ج3، ص42 ،ح 17 .

[48] - بحار الانوار ،ج3 ، ص41 ، ح16 .

[49] - بحار الانوار ، ج4 ،ص221 ،ح2 .

[50] - بحار الانوار ، ج4 ،ص222 .

[51] - بحار الانوار ، ج3 ، ص209 ،ح5 .

[52] - نهج البلاغة ، في وصيته الامام الحسن عليهما السلام

[53] - النحل 12 .

[54] - نهج البلاغة ، الخطبة 49 .

[55]- وينبغي ان نستفيد من الحقائق التي سوف نبينها ان شاء الله عند الحديث عن فوائد الإيمان كما ينبغي ان سنتفيد من نصوص الكتاب والسنة وذلك في أسلوب تذليل النفس البشرية.

[56]- هجم عليه ... دخل غفلة ويعني عليه السلام: انهم أثاروهم مفاجئة بالمواعظ.

[57]- مصاحها: بمعنى الصحة والعافية.

[58]- هو الملك الذي وكله الله على النار.

[59] - نهج البلاغة ، الخطبة رقم 183 .

[60] - بحار الانوار ،ج2، ص125 ،ح2 .

[61] - بحار الانوار ، ج75 ، ص416 .

[62] - بحار الانوار ،ج3 ، ص 36 ، ح12 .

[63] - بحار الانوار ، ج3، ص42 ، ح17 .

[64] - بحارالانوار ، ج3 ، ص26 ، ح1 .

[65] - بحار الانوار ، ج3،ص229 ،ح19 .

[66] - نهج البلاغة ، من وصيته لابنه الحسن عليهما السلام .

[67] - بحار الانوار ، ج4، ص264 ،ح13 .

[68] - بحار الانوار ، ج4، ص264 ،ح14 .

[69]- [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَاَبِ](آل عمران 14) .

[70]- مستدرك الوسائل ، ابواب جهاد النفس ، باب 9 ، ح2 .

[71] - ان معطيات هذه المقطوعة تنسجم مع السبب الثالث للإيمان وهو ضعف الشهوات باستبدالها مع رغبات الآخرة، وكشف نعيمها والحذر من جحيمها والزهد عن الدنيا ترقبا للآخرة. والمقطوعة هذه آية في الروعة والعمق حيث لم تغادر واحدة من لفتات النفس الشاردة الا احصتها وجعلت أمامها ما يناسبها من تطلعات البشر نحو عالم أفضل.

[72]- ونجد في هذا البند: العلم سببا من أسباب الإيمان وهو يستند على العقل الذي عبر عنه في الحديث بـ(غامض الفهم) وغمر العلم وهو واسع العلم الذي يغمر صاحبه، وزهرة الحكم تعني لباب الأحكام. وأما روضة الحكم فهي حالة الهدوء التي تسبق وترافق التعلم. وهذه الفقرة تشرح أحد شروط العمل بموجبات الإيمان وهو العلم بها.

[73] - والجهاد: هو جانب النضال من العمل والإيمان وهو في جبهتين، جبهة الكفار وجبهة الفساق، غير الملتزمين بالأحكام.

[74] - نهج البلاغة ، حكم أمير المؤمنين عليه السلام ، الحكمة رقم31 .

[75]- بحار الأنوار، ج 66، ص 64 ، ح11 .

[76] - بحار الانوار ، ج66 ،ص 175 ، ح28 .

[77]- والى ذلك تشير آيات الحمد [الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العَالَمِينَ *الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ](سورة الحمد).

[78]- بحار الأنوار ،ج67 ، ص 393 ، ح63 .. ولسنا بحاجة إلى ذكاء خارق حتى نقارن هذه النيران بالقنابل النووية التي تصنعها يد الإنسان فيزول عجبنا ونعلم انها الجد لا الهزل.

[79]- سنفصل القول في ان الإيمان يسبب التحلي بالفضائل.

[80] - مستدرك الوسائل ، أبواب جهاد النفس، الباب 6،ح11 .

[81]- في الحديث، قال رسول الله (ص): (الا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك، وان تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء اليك، واعطاء من حرمك، وفي التباغض الحالقة، لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين) ( مستدرك الوسائل ،كتاب الحج ، ابواب احكام العشرة ، الباب 96 ، ح1.

[82]- حسن الخلق يعني ان يكون هشا بشا كريم النفس. وسعة الخلق يعني الا يضيق صدره عند نزول بلاء أو رؤية سيء لا يلائمه.

[83] - بحار الانوار ، ج66 ، ص364 ،ح1 .

[84]- قال الله سبحانه: [وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ](زمر 61).

[85]- في الحديث (إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة) ( وسائل الشيعة، ج11،ص513 ،ابواب الامر و النهي ، الباب 41، ح2 ) .

[86]- قال الله سبحانه: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً]( الانبياء 35) وقال: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( العنكبوت 2) يعني ان الله يمتحن المؤمنين ببعض المصائب ولكن يرفع درجاتهم ان أحسنوا العمل ويجزيهم خيرا في الدنيا والآخرة.. و قال عزوجل: [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( البقرة 155/156).

[87]- قال الله سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً](طه 124) والعالم يعاني أكثر شيء من الأمراض الناشئة عن القلق كالأمراض العقلية وضغط الدم وبطالة الكبد وما أشبه مما يجعلنا نعترف بمدى السعادة التي يوفرها الدين للمؤمنين.

[88]- الاحصاءات الدقيقة تبين ان المتدينين ـ ولاسيما رجال الدين ـ من أطول الناس أعمارا. ومن تدبر فيمن يلتزمون بتعاليم الدين كلها عرف انهم قليلا ما يبتلون بالأمراض ولو كانوا في ضنك من العيش وضيق من الحياة.

[89]- قال الله سبحانه وتعالى في صفة المؤمن: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ](النور 36).

[90]- يقول الامام علي (ع) في صفة المتقين : (... فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قدرآها فهم فيها معذبون)( نهج البلاغة ، الخطبة 193) .

[91]- هذه صفة المؤمنين الذين لا ينفكون يشعرون بعظمة الله فيتعوذون إليه من النار المرة بعد الأخرى ويدفعهم ذلك إلى المزيد من العمل والمزيد من النشاط.

[92] - بحار الانوار، ج90 ، ص376 .

[93] - نهج البلاغة ، الخطبة رقم 1 .

[94]- يراجع ( دور الأنبياء في المعرفة) في فصل (الدليل الى الله) .

[95]- أنظر ( الإيمان بالله) من فصل ( الدليل الى الله).

[96] - بحار الانوار ، ج9، ص265 .

[97] - بحار الانوار ،ج10 ، ص 164 ، ح2 .

[98]- في هذه الآية يجعل الله تعالى أحد أسباب البعثة تعليم الحكمة وهي معرفة المصالح العامة التي ينبغي ان تتبع.

[99] - بحار الانوار ، ج11،ص40 ، ح40 .

[100]- فيما أعلم إلى الآن أكثر من عشرة نظريات حول المنطق وما به يرفع الناس خلافاتهم الفكرية والعملية.

[101]- قال الله سبحانه: [الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا].(الجن/27)

[102] - أنظر: أصوب نظراً.

[103] - الكافي ،ج1 ، ص171 ، باب الاضطرار الى إلى الحجة ،ح4 .

[104]- على الرغم من ان هذه الرواية تشير إلى بعض فوائد الإيمان فإن فيها نبذة من دواعي ابتعاث الأنبياء عليهم السلام وتتلخص في منع الفساد الناجم عن الظلم الاجتماعي.( عن: علل الشرائع ،ج1، باب 182 ، علل الشرائع وأصول الاسلام، ح9 .)

[105]- سبق الحديث حول ذلك حيث بحثنا عن دور العقل في توجيه الحس.

[106] - بحار الانوار ، ج16، ص210 .

[107]- الامام عليه السلام أشار إلى ثلاثة حقائق تهدي إلى وجوب الرسالة وهي: أولا ان الله أراد للبشر ان يكونوا على أحسن الآداب وهذا أمر وجداني إذ ان الله كامل فلا يحب الا الذي يتصف بالصفات الحسنة، وثانيا ان الطبيعة البشرية لا يمكن ان تبلغ بالإنسان الأدب الرفيع بدون معلم يعلمهم ذلك، وان التعليم لابد له من وسيلة وهي تتحقق في التشريع وهو الأمر والنهي وهذه الحقيقة الثالثة هي التي أشار إليها الإمام (ع).(عن: بحار الانوار ،ج5،ص316،ح13 ) .

[108]- راجع فصل المعاد.

[109]- والسبب المعقول لذلك ان أحد الوجوه التي ذكرناها لضرورة الرسالة هو التذكير بالله سبحانه، وما التذكير بالحق، ولا يذكر بالله الا من يعتقد به ويديم ذكره كما لا يذكر بالحق الا من يعمل به ، وغير الأنبياء لا يريدون ان يلزموا أنفسهم بالحجة ، إذ ما ان يذكروهم بها حتى يطالبهم الناس بالعمل بما يقولون ولهذا فإن أحدا منهم لم يدع ذلك. فالفلاسفة لم يقولوا انهم جاؤوا من قبل الله وان كلا منهم يصدق من سبقه ويصدقه من لحقه، ولا انهم جاؤوا مبشرين ومنذرين. والمصلحون سواء السياسي منهم أو الاجتماعي أو الاقتصادي لم يدعوا ان اصلاحهم شامل لجميع مناحي الحياة الفكرية والعملية في دار الدنيا وفي الآخرة، بل كانوا بين منكر للحشر والمعاد وبين من حصر إصلاحه على ناحية واحدة من الحياة ، ثم ان أحدا منهم لم يدع انه جاء من عند الله تعالى. وقد سبق انه يجب ان يكون النبي من عند الله. ولقد أوضحنا ذلك عند بيان الحاجة إلى الرسالة وكيف ان البشر عاجز بذاته عن تحقيقها.

[110]- لقد استدل النبي هود عليه السلام في هذه المقطوعة، التي ينقلها القرآن بحجج بليغة على صدق رسالته وهي بالترتيب كالتالي: (ان لي بينة من ربي) وهي المعجزة التي كانت معه، وان الله قد انفعني بالرسالة فرزقني بها السعادة والفلاح. لقد سبق ان الرسالة الإلهية تسعد الإنسان في الدنيا كما تسعده في الآخرة، ثم اني أول عامل بما أقول وفي هذا دليل صدق دعواي، إذ ان الكاذب لا يعمل بما يقول، واني أريد الاصلاح فلست رجلا استغلاليا، واني أجهد نفسي بخوض المعركة بدون ان يعتمد على قوة ظاهرية والفرد الذي يعمل هذا العمل اما مجنون – وانتم ترونني رشيدا – واما اعتمد على قوة هي اكبر من قوة الأرض وهي قوة الله تعالى الذي عليه توكلت وليس في عملي علامة السفه أو الطيش حتى انسب إلى الكذب ، والكاذب لا يكذب الا لأنه يقدم مصلحته الخاصة، اما انا فإنني رجل منيب قد قتلت هواي واخضعت نفسي لتوجيه عقلي. وتدل هذه الآية على ان الله كان ينصر رسله بطرق غيبية وهي الحجة البالغة على صدقهم.

[111]- هذه الآية المباركة نموذج خارجي لواقع دعوة الأنبياء (ع) ذلك لأن شعيبا (ع) أمر قومه بما ينظم جميع نواحي حياتهم فأمرهم أولا بعبادة الله الواحد ثم أمرهم بالعدل الاجتماعي وما يستتبعه من ضبط المكيال والميزان والوفاء بالحقوق والإنتهاء من كل فساد وعدم التآمر على الدولة الحقة لسرقة الحكم ظلما ثم أمرهم بالتذكر والاعتبار وهما توجيهان إلى العقل ثم أمرهم بالصبر وهو تزكية للنفس. هذه هي الخطوط الرئيسية التي سار عليها كل الأنبياء وهي بالذات ما سبق وان قلنا انها وجوه الحاجة إلى الرسالة والرسول.

[112] - بحار الانوار ، ج3، ص270 ،ح2 .

[113] - بحار الانوار ، ج2 ، ص 165 ، ح 25 .

[114]- سيأتي شرح ذلك فيما يلي من الفصول.

[115]- قال الله تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور](الحج 46).

وفي الحديث: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة). ومن الممكن ان نجعل تذكرة الإسلام بنور العقل دليلا كافيا على ان الإسلام هو الدين الحق، ذلك لأننا نعلم ان أنصار الباطل يحاولون ابعاد الناس عن التعقل لكي يضعوهم في معزل عن التدبر في الكون تدبرا منهجيا عقلانيا لأنه سيقضي على باطلهم بينما يحاول المحقون تنشيط عقول الناس حتى يبصروا الواقع بأنفسهم.

[116]- قال الله تعالى في صفة الرسول: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ](الجمعة2).

[117]- هذه الآيات وان كانت في الظاهر تبيانا للحقيقة فقط ولكنها في الواقع دليل عليها أيضا إذ انها تشرح واقع رسالة الرسول (ص). فهي قد أوحيت على شكل كتاب منزل من عند الله يهدي الناس من الظلمات إلى النور وهو بلاغ ونذير للبشر وتذكر بالله وإثارة لدفائن العقول وتوجيه للفكر وانهاء للخلافات البشرية وتبيان لكل شيء يحتاج إليه الإنسان في الحياة ثم هو هدى للمؤمنين وبشرى للمسلمين بصفة عامة لا طائفة دون أخرى وشعب دون آخر بل لمن اتصف بالإيمان والاسلام من كان وانّي كان. ومن الواضح ان هذه هي الصفات التي يهدينا العقل إلى ضرورة توفرها في الرسالة أية رسالة ولا يمكن ان تتوفر في غيرها. فرسالة الرسول رسالة حقة ما دامت تنطوي على هذه الحقائق جميعا فالآيات شاهدة على صدق الرسالة عن طريق بيان ما توفرت فيها.

[118] - (الإسلام يتحدى، ص 176).

[119]- كان النبي (ص) يقول عن الله سبحانه: [يَآ أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ]( يونس57). [قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ]( الفرقان 6)، [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( النجم 3و4) .. هذه هي دعوة الرسول التي هتف بها منذ البداية وهي تدل ـ فيما تدل ـ على ان الرسول كان على يقين بما يدعو إليه وما فيه من ضخامة المسؤولية.

[120]- قال الرسول (ص) عن الله: [قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ](يونس 69و70) تدل هذه الحكمة على ان الرسول كان يعرف بكل تأكيد ان الكذب على الله ظلم عظيم وخطيئة كبيرة جزاءها عذاب أليم.

[121]- سيرة بن هشام، ج1،ص319.

[122]- والى هذا الدليل ترجع الكلمة الشهيرة التي تقول: ان علي بن ابي طالب (ع) من معاجز الرسول. والواقع ان بناء شخصية مثالية كعلي (ع) لدليل واضح على صدق رسالة النبي محمد (ص).

[123]- في هذه الآية تصريح بأن النبي (ص) كان أميا، ومن الواضح انه ان لم يكن كذلك لكذبه أعداؤه الذين لم يفتروا يراقبون جميع حركاته لعلهم يجدون مهمزا يشنون من خلاله حملات دعائية ضده، فلو لم يكن أميا بالفعل لم يكن يصرح بذلك ليعطي مادة نقد دسمة بيد أعدائه وهم قد عاشروه خلال أربعين سنة.

[124]- يعتمد الإنسان في كل شؤونه على النقل المتواتر، وهو نقل طائفة كبيرة من الناس يضمن الإنسان معهم عدم الكذب. فمثلا: يثبت الإنسان وجود البلاد البعيدة بالنقل المتواتر كما يثبت وجود الأمم البالية -كعاد وثمود- بالتواتر. وكذلك ثبت ان للنبي محمدا (ص) معاجز بينات؛ ثبت بالنقل المتواتر حيث لم نر أحدا من المؤرخين المعاصرين للنبي (ص) يبدي أية معارضة لها، مع انها لو كانت كذبا إذاً كان يعارضها طائفة كما أثبتها طائفة، لاسيما مع وجود معارضة قوية للرسول (ص) متمثلة في المشركين اليهود والمنافقين الذين لم يؤمنوا بالرسول ولا بصحة معاجزه الا انهم لم يسعهم انكارها بل نسبوا السحر إليه حيث زعموا: ان المعاجز نوع من السحر. والى هذه الحقيقة ترشدنا الرواية التالية:

في الحديث عن الرسول (ص) انه قال لأبي جهل حينما انكر الآيات المنقولة له بطريق متواتر: (يا ابا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ اسلاف اعدائك؟ وكيف تصدق عن الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها، وهل المخبرون عن ذلك الا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر ما شاهدها منهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرَّصونه الا كان بازائهم من يكذبهم ويخبر بضد إخبارهم)(بحار الانوار،ج17،ص244).

وفي حديث احتجاجي بين الامام الرضا (ع) وبين علماء اليهود، قال (ع): فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم (ع) وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والابرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟

قال رئيس علماء اليهود المدعو بـ(رأس الجالوت): يقال انه فعل ذلك ولم نشهده.

قال الرضا (ع): أرأيت ما جاء به موسى من الآيات، شاهدته؟ أليس انما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى عليه السلام أنه فعل ذلك؟

قال (رأس الجالوت): بلى.

قال الرضا (ع): فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى ابن مريم (ع) فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟ (فلم يحر جوابا).

فقال (ع): وكذلك أمر محمد وما جاء به وأمر كل نبي بعثه الله. ( بحار الانوار ،ج10،ص309 )

والواقع ان المعجزة لا تعدو ان تكون كأية حادثة تاريخية أخرى لابد ان نبحث عنها بصورة موضوعية مجردين تماما عن الاستبعاد الذي يكتنف الموضوع لانه بعيد عما باشرناه من السنن الكونية.. بلى؛ لو لم نستطع ان نؤمن فلسفيا بإمكان المعجزة إمكانا عقليا، إذاً امكننا نبذ الأنباء المتواترة منها وغير المتواترة لأن العقل أمتن ثقة من النقل. بيد انه ثبت لنا فلسفيا امكان بل وضرورة المعجزة فلا يسعنا الا قبول الأخبار الموثوقة بها على صحتها.

[125]- في القرآن آيات كثيرة تدل على ظهور المعاجز على أيدي الأنبياء السابقين وإليك بعضها.. قال الله سبحانه: [وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (سبا10-11).. وقال: [وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِن إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](الأعراف 73).

[126]- قال الله تعالى، وهو يبين بعض آيات الله التي ظهرت على يد الرسول الخارقة:

[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ](الأسراء 1). وقال [ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ](آل عمران 44). وقال [فَاَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا](التوبة40).

[127]- هذه العبارة منقولة من التوراة بترجمة بعض المختصين باللغة.

[128] - بحار الانوار ،ج10 ،ص302 .

[129] - المصدر ،ص305 .

[130] -قلت : هذا المبحث مبني على أصلين :

الأول - حاجة الناس للإمامة وهذا أمر مجمع عليه بين العقلاء مسلمين وغير مسلمين

الثاني - هل الولاية باختيارمن الناس أم بتعيين من الله والرسول ؟

الصواب أنها اختيار من قبل أهل الحل والعقد لأصلحهم ، وليست تعيينا كما يدعي الشيعة ، فكل ما ساقه المؤلف عن الإمامة وأنها تعيين كلام إما غير صحيح

أو أنه صحيح غير صريح ، وقد رد علماؤنا الأفاضل من قبل على هذا الزعم وأهم ذلك كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية

وهم أنفسهم تحت وطأة الواقع تراجعوا عن هذه المزاعم واخترعوا فكرة ولا ية الفقيه ، فسقطت نظريتهم من الوجود لأنه لم يستلم الخلافة سوى اثنين من أئمتمهم والباقي لم يستلم شيئا أصلا ، وبهذا تسقط فكرة التعيين من أساسها ( علي)

[131] - بحار الانوار ،ج23 ، ص32، ح52 .

[132] - بحار الانوار ،ج6 ، ص60 .

[133] - المصدر .

[134] - بحار الانوار ،ج23 ،ص40 ، ح74 .

[135] - بحار الانوار ،ج25 ،ص123-126

[136]- أي واسع المعرفة.

[137] - بحار الانوار ،ج23،ص11-13 .

[138] - الامالي للطوسي ،ص46 ، المجلس الثاني .

[139]- ان النص يستشهد ببعض الآيات التي تذكر الإنسان بحقيقة الألوهية الكاملة والسيادة المطلقة التي يختص بها الخالق الرزاق المدبر:

ويقول ما دام الله هو الذي خلق فهو الذي يختار وإذا اختار فليس لأحد ان يرد اختياره ان كان من المؤمنين. وما دام الله يقضي فإن قضاءه هو النافذ دون المؤمنين الذين ليس لهم من أمرهم الخيرة. وإذا كان الأمر كله لله ومن ضمنه قيادة الناس فإن أي اقتراح آخر سيكون انكارا لهذه الحقيقة وسببا من أسباب الشرك. وهكذا نفت الآية الأخيرة وجود شركاء لله وتساءلت ايهم يضمن وجود هؤلاء الشركاء؟

[140]- للمزيد من التفاصيل راجع كتاب (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي.

[141]- يراجع لمعرفة ذلك كتب التاريخ كلها، بالإضافة إلى أقوال الرسول (ص) الشاهدة على فضائلهم. والرسول كما نعرف لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى.

[142]- راجع مجلدات البحار حول الأئمة الاثني عشر (ع).

[143]- أي تفوق بها عليهم.

[144] - بحار الانوار ، ج40 ، ص88 (نقلا عن: شرح النهج لابن ابي الحديد، ج2،ص96) .

[145] - و هناك روايات مماثلة رويت عن طرق أهل البيت عليهم السلام ، انظر بحار الانوار، ج36، باب41، نصوص الرسول عليهم .

[146] - نقلته أكثر كتب الحديث لدى الخاصة و العامة.

[147] - بحار الانوار ،ج28،ص98 .

[148] - هناك العديد من الروايات بهذا المضمون مع اختلاف العبارات ، راجع: بحار الانوار، ج28 ،ص2 ،باب1 ، افتراق الامة بعد النبي (ص) .

[149] - بحار الانوار،ج37، ص 272 .

[150] - هذا الحديث رواه العامة و الخاصة و تلقوه بالقبول و ذكروه في مصادرهم ، راجع بحار الانوار،ج10 .

[151] -بحار الانوار ،ج30، ص554، عن: شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد،ج12، ص78-79/ص432.

[152]- وهم؛ الإمام زين العابدين علي بن الحسين، والإمام محمد بن علي الباقر، والإمام جعفر الصادق، والإمام موسى بن جعفر، والإمام علي بن موسى الرضا، والإمام محمد بن علي الجواد، والإمام علي بن محمد الهادي، والإمام الحسن العسكري، والإمام الحجة بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.

[153] - بحار الانوار ،ج31، ص410-412 .

[154] - راجع دليل (شهادة الله) في البحث السابق عن نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله .

[155] - بحار الانوار ،ج29 ،ص466-469 .

[156] - المصدر ،ص445 .

[157] - وسائل الشيعة ،ج18،أبواب حد المرتد، باب10 ،ص567 ،ح47.

[158] - مستدرك الوسائل ،مقدمة العبادات ، الباب 27 ،ح11 .

[159] - مستدرك الوسائل، كتاب القضاء ، ابواب صفات القاضي، الباب 6 ،ح25 .

[160] - بحار الانوار، ج23 ، ص294 ،ح33 .

[161] - وسائل الشيعة، ج18 ، ابواب صفات القاضي ،باب 7،ص45،ح14 .

[162] - المصدر، باب 6، ص31 ، ح30 .

[163] - بحار الانوار، ج23، ص197، ح27 .

[164] - بحار الانوار، ج25 ،ص123 .

[165] - الكافي، ج1، ص392،ح1 .

[166] - بحار الانوار، ج23، ص308،ح5 .

[167] -بحار الانوار ،ج10،ص185-186 .

[168] - بحار الانوار،ج13 ،ص273 .

[169]- حين نقول (مادية) لا نقصد بها انها مثل المواد المحسوسة، ولكن نقصد انها مخلوقة ومحدودة وذات كثافة من نوع مختلف عن كثافة ما نراه من المواد.

[170] - بحار الانوار، ج7،ص47 ،ح31 .

[171] - المصدر ،ص42،ح13 .

[172] - بحار الانوار، ج5 ،ص11 ،ح18 .

[173] - المصدر، ص 15 ،ح20 .

[174] - المصدر ،ص9 ،ح14 .

[175] - بحار الانوار ،ج5،ص29،ح35 .

[176] - فقه الرضا، ص349 ،ب93 ، القدر و المنزلة بين المنزلتين .

[177] - بحار الانوار ، ج5 ، ص29، ح36 .

[178] - بحار الانوار ،ج5،ص313،ح2 .

[179] - المصدر ،ص312،ح1 .

[180] - المصدر ،ص317،ح14 .

[181] - كنز العمال. الخبر 14979 .

[182] - عوالي اللآلي،ج1 ،ص267 .

*- ان كان للفيلسوف رأي في أحد أقسام الفلسفة العملية الأربع أثبتناه.. والا تركنا التعرض لذلك القسم رأسا. وغير خاف على القارئ ان تقسيم آراء الفلاسفة إلى آراء اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وسياسية، لم يكن بالعملية السهلة نظرا لعدم وجود هذا التقسيم في أقوالهم. بيد ان هذا التقسيم يسهل على القارئ، ولاشك، فهم النظرية ومقارنتها مع الإسلام.

[183] - (انظر كتاب الإنسان ذلك المجهول)

[184]- هناك حكماء آخرون أمثال اكوست كنت وسبنسر ولكن نظرياتهم تشبه إلى حد كبيرما سبقت من نظريات الفلاسفة السابقين وليس لديهم جديد، غير ان كانت يعتقد ان للإنسان عاطفتين: عاطفة (حب الذات) وأخرى (حب الغير) وهذه الأخيرة: هي التي سببت تكوين المجتمع من أسرة فعشيرة فأقوام، كما أنها أصبحت مبدأ الأخلاق كالصدق والتعاون والوفاء.

ويزعم سبنسر ان المجتمعات البشرية قسمان: مجتمع صناعي ومجتمع حربي، والمجتمع الحربي متقدم زمنا على المجتمع الصناعي، ويعتقد ان الناس لا يزالون في دور الحرب ولابد لهم من الانتقال إلى دور الصناعة، ويعتقد ان الثورة الاشتراكية انما هي من ظواهر المجتمع الحربي.

[185]- كان يرى لزوم تجمع الناس في كوادر صغيرة (عدد أفرادها 1300 شخصا) ويختار كل فرد منهم ما يناسبه من العمل بحريته الشخصية.

[186]- كان يرى لزوم ابطال الثورات والالتزام بتعيين الدولة العمل للأفراد بمقتضى كفاءاتهم، وتعين لهم مقدار معاشهم.

[187]- كان يعتقد: ان على الناس ان يجتمعوا بحريتهم في مكان ليقسموا بين أنفسهم العمل، ويكون التبادل بالحاجات وليس بالنقد، ولم يكن يرى حاجة إلى الدولة.

[188]- تقول بعض المذاهب الاشتراكية: لابد ان توزع الثروة حسب كفاءة الأفراد. ويقول بعضها: ان المقياس في التوزيع هو حاجة الفرد لا عمله ولا كفاءاته. ويقول آخر: كل بحسب كفاءته (يستخدم) ولكل بحسب عمله (يؤجر).

[189]- يقول ماركس: ان الاشتراكية لابد لها من يوم تطبق فيه، فإن وافقت البرجوازية على ذلك طبقت الاشتراكية سلما وبسرعة وسهولة والا طبقت بطرق حربية صعبة طويلة.

[190] - فوليستر: ان تأسيس منطق الديالكتيك أعطى سلاحا جبارا بيد العامل ليستخدمه ضد المستغلين.

ويقول: ان المادية كانت بمثابة سلاح قوي في يد الحزب الشيوعي الروسي لم يكونوا يستطيعون دحر البرجوازية بدونها..

كما ان التفسير المادي للتاريخ يكشف في عقيدة فوليستر عن نوعية التحولات الاجتماعية وينبأ الإنسان بمستقبله في الحياة.

[191]- يقولون ان التغير في العالم قد تناول المجتمع في حالات أربع: 1- الشيوعية الأولى 2- العبودية والاقطاع 3- الملوك والطوائف، 4- الرأسمالية 5- وأخيرا انتهى إلى نهاية الرأسمالية.

[192]- سوف نثبت بإذن الله هذا الواقع عندما نتحدث عن علم النفس والأخلاق الإسلاميين.

[193]- التناقض عند الأوروبيين مطلق التعادي، وليس بمعنى مقابلة الوجود والعدم (كما كان مشهورا عن المنطقيين قديما).

[194] - نهج البلاغة ، في وصية الامام لولده الحسن عليه السلام .

[195]- يقول الإسلام في توثيق علاقة الإنسان بأسرته: (رضى الله مع رضى الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين) (رسول الله ـ ص ـ؛ بحار الأنوار، ج71 ، ص80) ويقول: (نظر الولد إلى والديه حبا لهما عبادة) (المصدر نفسه).

[196]- ويقول في الأسرة: (صلة الأرحام وحسن الجوار زيادة في الأموال والأعمار) ويقول على لسان أمير المؤمنين (ع) في قوله تعالى: (اتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام) قال: (هي أرحام الناس، ان الله أمر بصلتها وعظمها الا ترى انه جعلها منه) (بحار الانوار ،ج71،ص97،ح35).

[197]- يقول الإسلام (على لسان الامام علي عليه السلام): (وصل أمرء عشيرته فإنهم أولى ببره وذات يده ووصلت العشيرة أخاها ان عثر به دهر وأدبرت عنه دنيا) (بحار، ج71، ص105).

[198]- يقول الإسلام (على لسان النبي (ص)): (من اذى جاره حرم الله عليه ريح الجنة ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيع حق جاره فليس منا وما زال جبرئيل يوصني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) (بحار، ج71، ص150).

[199]- يقول الإسلام على لسان الإمام علي بن الحسين (ع): (وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والاقبال عليه. وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم ان الله قد جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم ، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك كنت له أملا معتقدا) (بحار، ج71، ص14).

[200] - بحار الانوار ،ج71،ص9 .

[201] - الإسلام يقرر ان الحياة سواء ما يرتبط منها بالدنيا أو ما يرتبط منها بالآخرة انما هي مبنية على العمل ولا قيمة للعمل بدون اخلاص ولا اخلاص دون ان يكون العمل ناشئا من وعي وإرادة، وكلمة التقوى تجمع هذه كلها إذ تعني الخوف من الله الموجب للاخلاص في العمل الصالح المستمر.

[202] - بحار الانوار ،ج72،ص23،ح1 .

[203] - مستدرك الوسائل ،كتاب الامر بالمعروف ، أبواب فعل المعروف ، الباب 22، ح10 .

[204] - وسائل الشيعة ،ج18 ، كتاب القضاء ، ابواب صفات القاضي،باب 8 ، ص61 ،ح37 .

[205] - مستدرك الوسائل ،كتاب الحج، ابواب العشرة ، الباب 107 ، ح2 .

[206] - المصدر ، الباب 105 ، ح24 .

[207] - المصدر ، الباب 96، ح1 .

[208] - وسائل الشيعة ،ج11، ابواب فعل المعروف ، الباب 35 ، ص595 ، ح4 .

[209] - بحار الانوار ،ج71، ص222 ، ح5 .

[210] - المصدر ،ص338 ،ح119 .

[211]- حينما نقول ـ تبعا للتعبير القرآني ـ إلى حين، فلان هناك غاية وراء هذا التركيز وهي: ان الحياة الدنيا ليست غاية السعادة البشرية وان من يأمل فيها ذلك فإنه يأمل باطلا سرعان ما يصطدم بالواقع ويشقى ويشقي الآخرين.

[212]- خلافا لبعض النظريات المادية التي تعتقد ان ما في الأرض لا يكفي الناس جميعا فلابد ان يتصارعوا لكي يفلح الأقوى بالعيش ويفنى الضعيف.

[213] - بحار الانوار ج73، ص180،باب 38، ح10 .

[214] - الكافي ،ج5،ص85،باب كراهية الكسل، ح2 .

[215]- هناك نظم كاملة في هذه الشؤون الثلاثة تتعرض لها كتب الفقه الحديث فراجع للتوسع..

[216] - وسائل الشيعة ،ج12،كتاب التجارة ، ابواب مقدماتها ، الباب 9 ، ص24 ، ح10 .

[217] - راجع: تحف العقول ،باب ما روي عن الامام الصادق عليه السلام ، جوابه عن جهات معائش العباد .

[218] - الحديث مروي عن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، ( وسائل الشيعة ،ج17،كتاب احياء الموات، الباب 1،ح5 ) .

[219] - وسائل الشيعة ، ج12،كتاب التجارة ، ابواب آداب التجارة ، الباب 2 ، ص283 ح1 .

[220]- وبهذه الأسباب وما أشبهها أحرز المسلمون الأوائل ذلك التقدم الاقتصادي الباهر. أما الغرب اليوم فإن تقدمه انما هو على حساب الشعوب الكادحة.. (انظر كتابي)؛ (التنمية الاقتصادية في الإسلام) و(تشريح جثة الاستعمار).

[221] - بحار الانوار ،ج22،ص348 ، ح64 .

[222] - نهج البلاغة ,قسم الرسائل ، رقم 53 ، من كتاب به كتبه للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر .

[223] - الكافي ، ج2، ص359 ، باب السباب ،ح2 .

[224] - بحار الانوار ،ج2، ص272، ح7 ( عن النبي صلى الله عليه و آله ) .

[225] - عوالي اللآلي ، ج1،ص222 ،الفصل التاسع .

[226]- من الواضح ان الناس مختلفون اختلافا طبيعيا بفعل العوامل الوراثية أو التربوية. هذا الاختلاف نعمة من الله كي يتخذ كل فرد مكانه من العمل. إذ من المعلوم ان الأعمال متفاوتة فإذا كان الناس متساوين اختار كلهم خير الأمور، فينشأ النزاع. قال الله سبحانه: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) ( الزخرف 32 ) .

[227]- ان تضخم الثروة أكثر ما يكون من الاجحاف والتسعير الغالي والأرباح غير العادلة. وهذا وان كان غير محرم ، إن كان عن غفلة ولكن فيه أثر الحرام، وهو ان المال لابد ان يرجع إلى أهله.

[228]- في الإسلام نوعان من التكاليف؛ الأول: الواجبات، وهي تحدد المسيرة اللازمة لترقية المسلم في الحياة.. الثاني: المستحبات، وهي ما يزيد الحياة رفاهية وسعادة.. وفي مجال الحد من تضخم الثروة للإسلام نوعان من التكاليف:

الضرائب اللازمة والضرائب المندوبة (وهي ما وراء الواجب). قال الله سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( النحل 90).

وفي الحديث المفسر للآية: (العدل: الانصاف، والاحسان: التفضل).

[229]- الإسلام ينهى عن الكسل في حين يأمر بعدم الحرص، وليست هناك منافاة بينهما، ذلك لان العمل مرغوب فيه ولكن تضخم الثروة غير مرغوب فيه فيمكن ان يعمل ويعطي للفقراء كما كان من دأب قادة الإسلام (النبي والأئمة).

[230]- والى هذه الحقيقة يشير الحديث الشريف: (ما رأيت نعمة موفورة الا وبجانبها حق مضيع).

[231]- سيأتي في فصل الأخلاق شرح وتوضيح مدى تأثير الترغيب عن الدنيا في الاحتفاظ بتعادل الثروة وحل مشكلة تضخمها.

[232]- راجع كتاب: (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل.

[233]- حينما نقول مادة لا نقصد انها جسم، فالتيار الكهربائي من المادة أيضا مع العلم انه ليس بجسم. وليست كل مادة تحس وتلمس بالحواس الظاهرية. بل المقصود بالمادة ان الروح محدودة الجوانب متقلبة الطبائع تغدو وتروح. وليست المعرفة والقدرة والحياء جزء من كيانها الذاتي، بل انها أشياء خارجية ركبت من قبل الله سبحانه وتعالى خلافا لما قاله فلاسفة الاغريق وتبعهم غيرهم من ان نفس الإنسان مجردة غير محدودة، عالمة حية بذاتها، وبتعبير أخر: انها تحمل صفات الله ـ سبحانه وتعالى عما يصفون ـ وما أبعد ما بين هذا الرأي وبين ما زعمته المادية ان النفس غير موجودة رأسا. وهكذا يتجاذب التطرف من هنا والتعدي من هناك كل الذين ابتعدوا عن هدى الله واتبعوا أهواءهم بغير علم.

[234] - بحار الانوار ،ج10 ، ص185 .

[235]- في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام، انه قال: (الروح مسكنها في الدماغ، وشعاعها منبثّ في الجسد بمنزلة الشمس دارتها (عينها) في السماء وشعاعها منبسط على الأرض، فإذا غابت الدارة فلا شمس، واذا قطعت الرأس فلا روح) (بحار الانوار ،ج6، ص111 ،ح6).

[236]- يمكننا ان نعرف ببساطة: لماذا تكون الرذائل من طبيعة النفس وذاتها، وذلك لأن كل ما يقترفه الإنسان من صفة نفسية سيئة كالكذب وما شابه ذلك فإنه انما يرتكب ذلك فلأن فيه هواه – أي انه يحب ذلك لأنه يتلذذ به أو بنتيجته – فنعرف من ذلك: ان هوى النفس وميلها مع الرذيلة. وإلى هذه الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله (أعوذ بالله من شرور أنفسنا).

[237]- قال الله سبحانه: [والنفس اللوامة] (أي قسما بتلك الروح التي توبخ الإنسان على أعماله السيئة).

[238]- قال الله سبحانه في صفة هؤلاء: [سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ](البقرة6-7).

[239]- عندما نعرض ميزات الإسلام التشريعية سوف نبين ان تشريعات الناس لن تنفع في قلع جذور الشر والفساد.

[240]- ان هناك فرقاً بين الأمرين في: ان زيادة العقل تؤثر على الإنسان، وإن لم تكن تربيته النفسية مساعدة للصلاح، فالفرد الموجه بالإيمان والإرادة والعقل يتمكن من تحقيق المعاجز في مغالبة نفسه وقهرها على الفضائل، ولو كانت نفسه تتوق إلى الشر بسبب من التربية الفاسدة أو المحيط المائع أو ما أشبه. ومن هنا فإن الإسلام يهتم بهذا الأمر كثيرا، في حين ان التربية النفسية لا تفيد الا بالنسبة إلى من ربي في المجتمع المسلم وروعيت جميع أعماله بدقة متناهية.. ومثل زيادة العقل كمثل زيادة قوة الجسم وحصانته عن الميكروبات، كما ان مثل تربية النفس كمثل حفظ الجسم عن دخول الميكروب إليه أو قتل الميكروب بعد ان يدخل؛ فالجسم القوي لا يبالي بالمكروب وكذلك صاحب العقل الحاكم لا يخاف من المحيط أو التربية.. ولكن الجسم الضعيف يراقب الميكروب حتى لا يدخل فيه.

[241]- ومن هذا النوع: ما ورد في القرآن من قصص الأمم الماضية التي عتت عن أمر ربها فأتبعها بعضها بعضا ودمر قراها وجعلها أحاديث.

[242]- قال الله سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] (التوبة/71).. ويقول الرسول (ص): (لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره) (وسائل الشيعة، ج11 ، ص399 ، ح25)، وقال: (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع (وهي النازلة الشديدة) من الله تعالى) ( وسائل الشيعة، ج11 ، ص394 ، ح5 ).

[243]- قال الله سبحانه: [ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب] (البقرة 179).. وقال النبي (ص): (اقامة حد خير من مطر أربعين صباحا) (وسائل الشيعة، ج18 ، ص308 ، ح4 ) .

[244] - بحار الانوار ، ج2، ص88 .

[245] - بحار الانوار ،ج53 ، ص180 ، باب 31 ، ح10 .

[246]- كلمة الجعل التي نجدها في القرآن وفي هذا الحديث عند بيان سلطة النبي والفقيه توحي بأمر هام هو: ان سلطة النبي وكذلك سلطة الفقيه ليست ذاتية وانما هي مجعولة اعتبارية مستمدة من سلطة الله سبحانه.. انها سلطة طارئة، سلطة عارضة. – الكافي ،ج1 ، ص67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 0 .

[247]- خلافا للفارابي الذي اشترط في الرئيس ان يكون قوي الجسم.

[248]- قال الله سبحانه: [يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً](الأحزاب/ 1-2) على عكس أكثر التشريعات البشرية التي جعلت للرئيس الحق في تغيير القانون في كثير من الظروف..

[249]- قال عمر للناس ذات مرة: كيف بكم إذا ملت؟ فقام أحدهم وهز سيفه وقال: إذن لقومناك بهذا.. وأشار إلى سيفه!

[250]- تعتقد بعض الدول المسماة بالديموقراطية ان سلطتها مستمدة من الشعب في حين انها لو كانت صادقة كانت سيادتها أول الأمر تابعة لإرادة الشعب. أما استمرارها فإنما هو لدعم أجهزة الدولة لها.. إذا فالإسلام يفترق عن هذه النظم مع افتراض صحة ادعائها في ان هذه الأخيرة تبتدأ بإرادة الشعب وتستمر بقوة الأجهزة (الجيش والشرطة والأمن والاستخبارات والدوائر) بينما الإسلام يجعل كلا من الابتداء والاستمرار بإرادة الشعب وتحت رحمته فيبتدأ حكمه بالشعب ويستمر بإرادة الشعب أيضا.

[251] - بحار الانوار ، ج41 ، ص14 ، باب 101 ، ح6 .

[252] - بحار الانوار ،ج22، ص495 ، ح41 .

[253] - بحار الانوار ، ج72، ص354 ، ح70

[254] - من لا يحضره الفقيه ، ج2، ص621 ،باب الحقوق .

[255] - نهج البلاغة ، قسم الرسائل ،رقم 27 ، من عهده الى محمد بن ابي بكر .

[256] - المصدر .

[257] - نهج البلاغة ، قسم الرسائل ،رقم 45 ، من كتاب له الى عثمان بن حنيف .

[258]- قال الله سبحانه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. راجع فصل (الإيمان بالله) في العقائد لتعرف ذلك جيدا.

[259]- راجع كتاب (في التربية) تأليف راسل.

[260]- وكان هذا سببا رئيسيا لغموض الإنسان؛ ذلك لأن التفاعل الموجود بين نواحي الإنسان المختلفة بعضها مع بعض لا يدع الفرد يختص ببحث ناحية معزولة عن سائر النواحي. وإذا أراد فرد واحد ان يعرف شؤون كل واحد من جميع النواحي حتى يكون طبيبا ومهندسا وقانونيا و.. و.. في وقت واحد، كان ذلك مستحيلا. راجع للتوسع كتاب (الإنسان ذلك المجهول) تأليف الكسيس كاريل.

[261]- في الإسلام: (واجبه ومندوبه) تعاليم للزواج وللنكاح وللحمل وللولادة وللرضاعة وللتربية وللتعليم وللتجارة وللعلاقات العامة.

[262] - الكافي ،ج1، ص58 ، باب البدع و الرأي ، ح19 .

[263]- وهي: مجموعة تعاليم من شأنها تزكية النفس وتطهيرها عن الرذائل.

[264]- قال الرسول (ص): (تدرء الحدود بالشبهات).

[265] - وسائل الشيعة ، ج12 ، كتاب التجارة ، ابواب مقدماتها ، الباب 28 ، ص49 ،ح2 . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال  المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟ الباب الخامس قيم التقدم   في ا...