Translate

السبت، 6 مايو 2023

ج1. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل جمع وإعداد/الباحث في القرآن والسنة/علي بن نايف الشحود



ج1. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(1)

الباب الأول

الحضارة الإسلامية وأسسها

جمع وإعداد/الباحث في القرآن والسنة/علي بن نايف الشحود

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة هامة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد :

فإن الكلام عن الحضارة الإسلامية حديث له شجون ، فعندما أكرم الله تعالى هذه الأمة بالرسالة الخاتمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران

أمرها أن تكون شاهدة على الخلق بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، كما قال تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (143) سورة البقرة

يقتضي ذلك أن يكونوا أهلا لحمل هذه الأمانة للناس ، كما قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور

فانطلق المسلمون في الأرض وفقاً لأمر الله تعالى لهم بذلك كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة

فاتحين للقلوب والعقول والنفوس ، ومطهرين لها من كل رجس وإثم ،

إن هذه الأمة المسلمة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض , نفس ما كانت تواجهه العصبة المؤمنة التي تنزلت عليها هذه الآيات , لتحدد على ضوئها موقفها , ولتسير على هذا الضوء في طريقها ; وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات , لترسم طريقها على هداها .

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية ; وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبنيا على قاعدته الكبرى:"شهادة أن لا إله إلا الله" . .

لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر , وحذيفة بن محصن , والمغيرة بن شعبة , جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية , وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية , قبل المعركة:ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب:الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه , فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه , وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر" .

وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون ; ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة ; ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع , فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه ; فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد , ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - [ وهي الأديان ] . . إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام .

----------------

إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ; وفي إعلانه العام , وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه , في مراحل محددة , بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته , وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة , وموقوتة !

وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . . (في سبيل الله) . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ; ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .

إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهواته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . . ومع كل دافع إلا العبودية لله , وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .

--------------------

نعم عندما انطلق المسلمون في الأرض لتحقيق هذه الغاية السامية لم تقف في طريقهم قوة أبدا

فمن حق الإسلام أن يخرج "الناس" من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . . ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين , وتحرير الناس أجمعين . . وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي . فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم . حاكمهم ومحكومهم . أسودهم وأبيضهم . قاصيهم ودانيهم . فقيرهم وغنيهم تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء . .

أما في سائر الأنظمة , فيعبد الناس العباد , لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية . فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً , سواء ادعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء ! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها !

والإسلام ليس مجرد عقيدة . حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس . والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو . ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام . وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله . فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته , كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد !

إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر , وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر , يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة . لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة . ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة . . ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام , بنفي هذا الاتهام ! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته , وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء .

وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" . . وأنه مجرد "عقيدة " في الضمير ; لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . . ومن ثم يكون الجهاد للدين , جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !

ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام . فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع , في ظل النظام العام , بعد رفع جميع المؤثرات . . ومن ثم يختلف الأمر من أساسه , وتصبح له صورة جديدة كاملة .

وحيثما وجد المجتمع الإسلامي , الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي , فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام . مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان . . فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد , فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ . مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة . وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة , في المراحل التاريخية المتجددة . ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية , والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .(الظلال)

-----------------

وهناك أمر هام جدًّا وهو أن المسلمين عندما انطلقوا في الأرض -فاتحين- كانوا من حيث النواحي الحضارية والعمرانية في آخر الركب كما هو معلوم ولكنهم كانوا من حيث النواحي المعنوية في القمة عقيدة وعبادة ومنهج حياة ، فلم يقدموا للعالم صناعات ولا مخترعات ولا فلسفات .....

إنما قدّموا لهم هذه الرسالة الخاتمة التي قال الله تعالى عنها : {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم

وذلك لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ظلمات الجهل وظلمات العقيدة الباطلة والفاسدة وظلمات الهوى وظلمات المجتمع وظلمات الحياة العفنة الآسنة .

ثم بعد مدة وجيزة هضموا جميع ما عند الناس من خير ، ثم طهَّروه من الرجس والمنكر ثم أضافوا عليه الكثير الكثير فغدوا بناة الحضارة الإنسانية الرفيعة ، والتي لا تماثلها حضارة أخرى في الأرض قديما وحديثا.

فإما حضارات جاهلية مادية وثنية صرفة ، وإما حضارة ربانية رفيعة

فالحضارة الإسلامية نسيج وحدها ، ولها تصور شامل عن الإنسان والكون والحياة ، فهي تربط بين الروح والجسد والقلب والعقل ، والدنيا والآخرة ، برباط متين محكم أنزله العليم الخبير بنفوس البشر ، قال تعالى : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك

أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:

1 - الوحدانية المطلقة في العقيدة

- أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة ، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريد له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يُعيد، وهو وحده الذي يُقصد (إياك نعبد وإياك نستعين) وهو الذي يعز ويذل، ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.

هذا السمو في فهم الواحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين.

كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الالياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء.

إن الإسلام الذي أعلن الحرب على الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ، كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين.

وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة؛ لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.

2 - إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة

- وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[الحجرات: 13].

إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.

3 - مراعاة المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا

- وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها ، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط ، ولم تجعل وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة أو أفراد، ففي الحكم وفي العلم وفي التشريع وفي الحرب وفي السلم وفي الاقتصاد وفي الأسرة، روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوًا ساميًّا بعيدًا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث، ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء

4 - الحضارة الإسلامية حضارة تؤمن بالعلم في أصدق أصوله ، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها

- ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معًا ، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد ، وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ.

وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمًا على مبادئ الحق والعدالة، مرتكزًا إلى الدين والعقدية دون أن يقيم الدين عائقًا ما دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلى أنحاء الدنيا قاطبة.

إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى.

لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرًا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (رواه البخاري ومسلم)، " الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله "(رواه البزار). هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس ولا لرجل دين ولا لشريف ولا لغني (قل إنما أنا بشرٌ مِثلُكم)[الكهف: 110].

5 - التسامح الديني العجيب

- وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، على أن يجور في الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه. إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين وشادت قواعدها على مبادئه ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية ! وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد ولكنها كانت للأديان جميعًا.

خاتمة

هذه هي بعض خصائص حضارتنا وميزاتها في تاريخ الحضارات، ولقد كانت بذلك محل إعجاب العالم، ومهوى أفئدة الأحرار والأذكياء من كل جنس ودين، يوم كانت قوية تحكم وتوجه وتهذب وتعلم، فلما انهارت وقامت من بعدها حضارة أخرى، اختلفت الأنظار في تقدير قيمة حضارتنا، فمن مزرٍ بها ومن معجب، ومن متحدث عن فضائلها، ومن مبالغ في الانتقاص منها، هكذا تختلف أنظار الباحثين الغربيين اليوم في حضارتنا، وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا أنهم وهم الذين بيدهم مقاييس الحكم وعنهم تؤخذ الآراء، هم الأقوياء الذين يمسكون بدفة الحضارة اليوم، وإن الذين يُحكم عليهم وعلى حضارتهم هم الضعفاء الذين تتطلع أبصار الأقوياء إلى استلاب خيراتهم وحكم بلادهم بشره وجشع، ولعله هو موقف القوي من الضعيف يزري به وينتقص قدره. كذلك فعل الأقوياء في كل عصور التاريخ، إلا نحن يوم كنا أقوياء فقد أنصفنا الناس قويهم وضعيفهم، وعرفنا الفضل لأهله شرقيهم وغربيهم، ومن مثلنا في التاريخ، عدالة حكم، ونزاهة قصد، واستقامة ضمير ؟

ومن المؤسف أننا لم ننتبه تمامًا لعصبية الأقوياء ضدنا وجورهم في الحكم على حضارتنا، وكثير منهم إما متعصب لدين أعمت العصبية بصره عن رؤية الحق، أو متعصب لقومية حمله كبرياء القومية على أن لا يعترف لغير أمته بالفضل، ولكن ما عذرنا نحن في تأثرنا بآرائهم في حضارتنا ؟ فيم يزري بعض الناس من أبناء أمتنا بهذه الحضارة التي ركعت الدنيا أمام قدميها بضعة قرون ؟

لعل حجة المستخفين من قومنا بقيمة حضارتنا أنها ليست شيئًا إذا قيست بروائع هذه الحضارة الحديثة واختراعاتها وفتوحاتها في آفاق العلم الحديث، وهذا لو صح لا يبرر الاستخفاف بحضارتنا لسببين:

الأول: أن كل حضارة فيها عنصران: عنصر روحي أخلاقي، وعنصر مادي. أما العنصر المادي فلا شك في أن كل حضارة متأخرة تفوق ما سبقها، تلك هي سنة الله في تطور الحياة ووسائلها، ومن العبث أن تطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة، ولو جاز هذه لجاز لنا أن نزري بكل الحضارات التي سبقت حضارتنا، لما ابتدعته حضارتنا من وسائل الحياة ومظاهر الحضارة ما لم تعرفه الحضارات السابقة قط، فالعنصر المادي في الحضارات ليس هو أساس التفاضل بينها دائمًا وأبدًا.

أما العنصر الأخلاقي والروحي فهو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها عن المخاوف والآلام، ولقد سبقت حضارتنا كل الحضارات السابقة واللاحقة في هذا الميدان، وبلغت فيه شأوًا لا نظير له في أي عصر من عصور التاريخ، وحسب حضارتنا بهذا خلودًا.

إن الغاية من الحضارة هي أن تقرب الإنسان من ذروة السعادة، وقد عملت لذلك حضارتنا ما لم تعمله حضارة في الشرق والغرب.

الثاني: أن الحضارات لا يقارن بينها بالمقياس المادي، ولا بالكمية في الأعداد والمساحات، ولا بالترف المادي في المعيشة والمأكل والملبس، وإنما يقارن بينها بالآثار التي تتركها في تاريخ الإنسانية، شأنها في ذلك شأن المعارك والممالك، فهي لا تقارن بينها بسعة الرقعة ولا بحساب العدد، والمعارك الفاصلة في التاريخ القديم والوسيط لو قيست بمعارك الحرب العالمية الثانية من حيث أعداد الجيوش ووسائل القتال لكانت شيئًا تافهًا، ولكنها لا تزال تعتبر معارك لها قيمتها البالغة في التاريخ لما كان لها من الآثار البعيدة.

إن معركة " كاني" التي هزم فيها القائد القرطاجي الشهير " هنيبال " الرومانيين هزيمة منكرة لا تزال من المعارك التي تدرّس في المدارس العسكرية في أوروبا حتى الآن. وإن معارك خالد بن الوليد في فتوح العراق والشام لا تزال محل دراسة العسكريين الغربيين وإعجابهم، وهي عندنا من الصفحات الذهبية في تاريخ الفتوحات العسكرية في حضارتنا. ومع هذا فما كان قدم معركة كاني أو معركة بدر أو معركة القادسية أو حطين ليحول دون النظر إليها على أنها معارك فاصلة في التاريخ.

=============

وقد كتب الكثيرون عن الحضارة الإسلامية وخصائصها منهم :

العلامة عبد الرحمن حبنكة – الحضارة الإسلامية وأسسها

كتب العلامة أنور الجندي

العلامة أبو الأعلى المودوي

أنور الرفاعي – الإسلام في حضارته ونظمه

صحبي الصالح – النظم الإسلامية

عبد المنعم خفاجة في عديد من الكتب

السيد قطب رحمه الله

عماد الدين خليل وخاصة في كتابه القيم التفسير الإسلامي للتاريخ

محمد سعيد رمضان البوطي – منهج الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم

ومالك بن نبي في عديد من كتبه

العلامة مصطفى السباعي وخاصة في كتابه النفيس من روائع حضارتنا

وعبد الكريم بكار

ومحمد تقي المدرسي _ وهو عالم شيعي معاصر – له كتابات قيمة عن الحضارة الإسلامية ، ولكنها لا تخلو من نزعة شيعية واضحة ، ومع هذا فهي بشكل عام مقبولة وجيدة

وغيرهم كثير جزاهم الله عنا ألف خير

وهذا الكتاب الذي بين يدينا يتحدث عن الحضارة الإسلامية من خلال الأبواب التالية :

الباب الأول -الحضارة الإسلامية وأسسها

الباب الثاني -الفكر الإسلامي مواجهة حضارية

الباب الثالث -الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات

الباب الرابع -كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟

الباب الخامس -قيم التقدم في المجتمع الإسلامي

الباب السادس -حقيقة الحضارة الإسلامية

الباب السابع -الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها

وقبل ذلك تمهيد عن أهم خصائص التصور الإسلامي

وفي كل منها أبحاث كثيرة

وقد جمعتها من مواقع كثيرة جدا وأهمها :

موقع صيد الفوائد

المسلم اليوم

المسلم المعاصر

شبكة مشكاة الإسلامية

الشبكة الإسلامية

شبكة نور الإسلام

المختار الإسلامي

الإسلام سؤال وجواب

موقع المنبر

مجلة البيان

مجلة الجامعة الإسلامية

ومن كتب ومقالات أولئك المذكورين وغيرهم

====================

وحتى تعود لنا عزتنا القعساء ومجدنا التليد لا بد من العودة التامة للإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ومنهج حياة متكامل ، لا نستقي شيء من أمور حياتنا صغر أم كبر إلا من وحي القرآن والسنة ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24) سورة الأنفال

إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة , وبكل معاني الحياة . .

إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من قيود الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .

ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .

ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .

ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة !

ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .(الظلال)

وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) [الحج/77، 78] }

وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة , ويلخص تكاليفها التي ناطها بها , ويقرر مكانها الذي قدره لها , ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل , متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .

إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة , وحركة ظاهرة في التعبير , ترسمها مشهدا شاخصا , وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور .

ويثني بالأمر العام بالعبادة . وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها , وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات , ولم يتحول في طبيعتها شيء , ولكن تحول القصد منها والاتجاه !

ويختم بفعل الخير عامة , في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة .

يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة , الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .

فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة , فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة:

(وجاهدوا في الله حق جهاده) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق , يصور تكليفا ضخما , يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .

(وجاهدوا في الله حق جهاده) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء , وجهاد النفس , وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .

(وجاهدوا في الله حق جهاده) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة , واختاركم لها من بين عباده: (هو اجتباكم) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة , ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !

وهو تكليف محفوف برحمة الله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة , والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !

وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية , موصول الماضي بالحاضر: (ملة أبيكم إبراهيم) وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض , ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .

وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) . .

والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سلمت إليها الأمانة , وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله: (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) . . فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة , ويحدد نهجها واتجاهها , ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا , فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ; وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها , وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج , المختار من الله .

ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه , وتخلت عن تكاليفه , ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .

هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله:فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .

فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد

بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها , بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد , والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .

فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .

إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ; ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .

وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية , ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة , المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .(الظلال)

=================

أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وناشره والدال عليه في الدارين آمين

{.. رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) سورة الممتحنة

وكتبه

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

في 28 شعبان 1428 هـ الموافق ل 10/9/2007 م

!!!!!!!!!!!!!!!!

تمهيد

خصائص التصور الإسلامي

مقدمة هامة

تحديد "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته( )" … مسألة ضرورية، لأسباب كثيرة:

ضرورية لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود .. لابد من تفسير يقرّب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهية. وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون. وحقيقة الحياة. وحقيقة الإنسان) .. وما بينها جميعاً من تعامل وارتباط.

وضرورية لأنه لابد للمسلم من معرفة حقيقة مركز الإنسان في هذا الوجود الكوني، وغاية وجوده الإنساني.. فمن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" في "الكون" وحدود اختصاصاته كذلك. وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعاً.

وضرورية لأنه بناء على ذلك التفسير الشامل، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان في الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني، يتحدد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج. فنوع النظام الذي يحكم الحياة الإنسانية رهين بذلك التفسير الشامل، ولابد أن ينبثق منه انبثاقاً ذاتياً وإلا كان نظاماً مفتعلاً، قريب الجذور، سريع الذبول. والفترة التي يقدر له فيها البقاء، هي فترة شقاء "للإنسان"، كما أنها فترة صدام بين هذا النظام وبين الفطرة البشرية، وحاجات "الإنسان" الحقيقية! الأمر الذي ينطبق اليوم على جميع الأنظمة في الأرض كلها – بلا استثناء – وبخاصة في الأمم التي تسمى "متقدمة( ) ! "

وضرورية لأن هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد. وهي في الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة، والمناهج الضالة، والتصورات الضالة- وهو ما تعاني اليوم مثله مع اختلاف في الصور والأشكال – وإدراك المسلم لطبيعة التصور الإسلامي، وخصائصه ومقاومته، هو الذي يكفل له أن يكون عنصراً صالحاً في بناء هذه الأمة، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز، وعنصراً قادراً على القيادة والإنقاذ. فالتصور الاعتقادي هو أداة التوجيه الكبرى، إلى جانب النظام الواقعي الذي ينبثق منه، ويقوم على أساسه، ويتناول النشاط الفردي كله، والنشاط الجماعي كله، في شتى حقول النشاط الإنساني.

* * *

ولقد كان القرآن الكريم قد قدم للناس هذا التفسير الشامل، في الصورة الكاملة، التي تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية، وتلبي كل جوانبها، وتتعامل مع كل مقوماتها .. تتعامل مع "الحس" و "الفكر" و "البديهة" و "البصيرة" … ومع سائر عناصر الإدراك البشري، والكينونة البشرية بوجه عام – كما تتعامل مع الواقع المادي للإنسان، هذا الواقع الذي ينشئه وضعه الكوني- في الأسلوب الذي يخاطب، ويوحي، ويوجه كل عناصر هذه الكينونة متجمعة، في تناسق، هو تناسق الفطرة كما خرجت من يد بارئها سبحانه!

وبهذا التصور المستمد مباشرة من القرآن، تكيفت الجماعة المسلمة الأولى. تكيفت ذلك التكيف الفريد. وتسلمت قيادة البشرية، وقادتها تلك القيادة الفريدة، التي لم تعرف لها البشرية – من قبل ولا من بعد- نظيراً. وحققت في حياة البشرية- سواء في عالم الضمير والشعور، أو في عالم الحركة والواقع- ذلك النموذج الفذ الذي لم يعهده التاريخ. وكان القرآن هو المرجع الأول لتلك الجماعة. فمنه انبثقت هي ذاتها.. وكانت أعجب ظاهرة في تاريخ الحياة البشرية: ظاهرة انبثاق أمة من خلال نصوص كتاب! وبه عاشت. وعليه اعتمدت في الدرجة الأولى. باعتبار أن "السنة" ليست شيئاً آخر سوى الثمرة الكاملة النموذجية للتوجيه القرآني. كما لخصتها عائشة –رضي الله عنها- وهي تُسأَل عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتجيب تلك الإجابة الجامعة الصادقة العميقة: "كان خلقه القرآن" .. (أخرجه النسائي).

* * *

ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوُّها الجوُّ الذي تنزّل فيه القرآن .. وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكاً وموحياً كذلك. فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقة، ومن معاناة هذا الأمر العسير وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان!

إن المسألة-في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي "تفسير" القرآن- كما اعتدنا أن نقول! المسألة ليست هذه. إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهي تتلقاه في خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس. جهاد الشهوات وجهاد الأعداء. والبذل والتضحية. والخوف والرجاء. والضعف والقوة. والعثرة والنهوض.. جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشَّعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلا عن الله.. ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم والكفاح .. جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية". وجو "الفتح"، و "حنين" و "تبوك". وجو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة وفي خلال التنظيم.

في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية.. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها. وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور ..

لقد كانوا يومئذ يدركون حقيقة قول الله لهم:

"يَمنُّون عليك أن أسلموا. قل: لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين"..(الحجرات: 17)

والذين يعانون اليوم وغداً مثل هذه الملابسات، هم الذين يدركون معاني القرآن وإيحاءاته. وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن. لأن لها رصيداً حاضراً في مشاعرهم وفي تجاربهم، يتلقونها به، ويدركونها على ضوئه.. وهم قليل..

ومن ثم لم يكن بد – وقد بعد الناس عن القرآن ببعدهم عن الحياة الواقعية في مثل جوه- أن نقدم لهم حقائق: "التصور الإسلامي" عن الله والكون والحياة والإنسان من خلال النصوص القرآنية، مصحوبة بالشرح والتوجيه، والتجميع والتبويب. لا ليغنى هذا غناء القرآن في مخاطبة القلوب والعقول. ولكن ليصل الناس بالقرآن- على قدر الإمكان- وليساعدهم على أن يتذوقوه، ويلتمسوا فيه بأنفسهم حقائق التصور الإسلامي الكبير!

على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة. . إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي، مجرد المعرفة الثقافية. لا نبغي إنشاء فصل في المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية". كلا! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتحسب في رصيد "الثقافة"! إن هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص! إنما نحن نبتغي "الحركة" من وراء "المعرفة". نبتغي أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع. نبتغي استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصور الرباني. نبتغي أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعاً في الأرض، يتمثل في أمة، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء.

ولقد وقع – في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية، المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوان الحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك. ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد.

واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية- وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية- كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية- اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلى اللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين وفي الأندلس أيضاً، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل. التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردها إلى التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة، للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير. ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة. كما يصون الإدراك البشري أن يطوح به في التيه بلا دليل.

ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك، وهذا الانحراف، بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله-سبحانه- وصفاته. وحول القضاء والقدر. وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة. قدرية وجبرية. سنية ومعتزلة…. إلى آخر هذه الأسماء.

كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية- وبخاصة شروح فلسفة أرسطو- أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" – وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي- زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات! وكما يفتن من اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها. فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية. وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو!

وبدلاً من صياغة "التصور الإسلامي" في قالب ذاتي مستقل، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب "الفكر البشري" وحده خطاباً بارداً مصبوباً في قالب المنطق الذهني.. بدلاً من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفي ليصبوا فيه "التصور الإسلامي"، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامي.. أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة!

ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" –كما سميت- نشازاً كاملاً في لحن العقيدة المتناسق! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصفر مساحته، وأصابه بالسطحية.

ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط. مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام، وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه، وأسلوبه!

وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة – على الأقل!- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامي" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية". وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامي". مع بيان "خصائصه" التي تفرده من بين سائر التصورات. ولا بأس من بعض الموازنات- التي توضح هذه الخصائص – مع التصورات الأخرى- أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماماً.

ولعله مما يحتم هذا المنهج الذي أشرنا إليه أن ندرك ثلاث حقائق هامة:

الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي، وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة وتلوينه، لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً مضطرباً في لغة سقيمة. مما ينشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح!

والثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثنى مشحون بالأساطير، واستمدت جذورها من هذه الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس "التوحيد" المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن "الحكماء" – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين، ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام "الحكماء" وبين العقيدة الإسلامية. ومن هذه المحاولة كان ما يسمى "الفلسفة الإسلامية"!

والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي – تلك التي أثارت ذلك الجدل منذ مقتل عثمان –رضي الله عنه- قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية، وبالأفهام والمفهومات انحرافاً شديداً. فلما بدأ المباحث لتأييد وجهات النظر المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية، بحثاً مغرضاً في الغالب ومن ثم لم تعد تلك المصادر- في ظل تلك الخلافات- تصلح أساساً للتفكير الإسلامي الخالص، الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت، في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية. ومن ثم يحسن عزل ذلك التراث جملة! عن مفهومنا الأصيل للإسلام، ودراسته دراسة تاريخية بحتة، لبيان زوايا الانحراف فيه، وأسباب هذا الانحراف، وتجنب نظائرها فيما نصوغه اليوم من مفهوم التصور الإسلامي، ومن أوضاع وأشكال ومقومات النظام الإسلامي أيضاً..

منهجنا إذن في هذا البحث عن: "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة – بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً – وأن نستحضر بقدر الإمكان- الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر، والملابسات الاعتقادية والاجتماعية والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدى. ثم التيه الذي ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي!

ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً. لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية – من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته –نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة.

لقد جاء النص القرآني –ابتداء- لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم. وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير، وهذه الرعاية من الله ذي الجلال –هو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرّغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نظيفاً من كل رواسب الجاهليات –قديمها وحديثها على السواء- مستمداً من تعليم الله وحده. لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئاً!

ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى. إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا! وهذا – وحده- هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوّماته.

* * *

ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض حقائق "التصور الإسلامي" اقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة "الموضوع" وطبيعة "القالب". وأن الموضوع يتأثر بالقالب. وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه، إذا عرض في قالب، في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته! الأمر المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي. والذي يدركه من يتذوق حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآن!.

نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين".

إن العقيدة –إطلاقاً- والعقيدة الإسلامية-بوجه خاص- تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء. الإيحاء بالحقائق الكبيرة، التي لا تتمثل كلها في العبارة. ولكن توحي بها العبارة. كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها. ولا يخاطب "الفكر" وحده في الكائن البشري.. أما الفلسفة فلها أسلوب آخر. إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة. ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أن ينحصر في منطوق العبارة –فضلاً عن جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه "الفكر" البشري( ) –فإن الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف، كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة!

ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئاً مما دفعتها العقيدة، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمن، وظلام الطريق.

لابد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيجاءها، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية الكثيرة.

ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها.

ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية"! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي، ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص "الفكر الإسلامي". بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه!

* * *

وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضاً …

إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله. بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته".. إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور –في ذاتها- كما جاء بها القرآن الكريم، كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق هذه الفطرة وتوازنها.

ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه، وصياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه .. منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم .. والانحراف انحراف على كل حال !!!

ونحن نجد نماذج من هذا الخطر في البحوث التي تكتب بقصد "الدفاع" عن الإسلام في وجه المهاجمين له، الطاعنين فيه، من المستشرقين والملحدين قديماً وحديثاً. كما نجد نماذج منه في البحوث التي تكتب للرد على انحراف معين، في بيئة معينة، في زمان معين!

يتعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنه دين السيف، وأنه انتشر بحد السيف.. فيقوم منا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا "الاتهام"! وبينما هم مشتطون في حماسة "الدفاع" يسقطون قيمة "الجهاد" في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته، بأنها كانت لمجرد "الدفاع"! – بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق! – وينسون أن للإسلام – بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية – حقه الأصيل في أن يقيم "نظامه" الخاص في الأرض، لتستمع البشرية كلها بخيرات هذا "النظام".. ويستمتع كل فرد – في داخل هذا النظام – بحرية العقيدة التي يختارها، حيث "لا إكراه في الدين" من ناحية العقيدة .. أما إقامة "النظام الإسلامي" ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقونها، فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه. ولا يتم ذلك إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض!

وليس هذا إلا نموذجاً واحداً من التشويه للتصور الإسلامي، في حماسة الدفاع ضد هجوم ماكر، على جانب من جوانبه!

أما البحوث التي كتبت للرد على انحراف معين، فأنشأت هي بدورها انحرافاً آخر، فأقرب ما نتمثل به في هذا الخصوص، توجيهات الأستاذ الإمام الشيخ "محمد عبده". ومحاضرات "إقبال" في موضوع: "تحديد الفكر الديني في الإسلام"( ).

لقد واجه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، بيئة فكرية جامدة، أغلقت باب "الاجتهاد" وأنكرت على "العقل" دوره في فهم شريعة الله واستنباط الأحكام منها، واكتفت بالكتب التي ألفها المتأخرون في عصور الجمود العقلي وهي – في الوقت ذاته- تعتمد على الخرافات والتصورات الدينية العامية! كما واجه فترة كان "العقل" فيها يعبد في أوربا ويتخذه أهلها إلهاً، وخاصة بعد الفتوحات العلمية التي حصل فيها العلم على انتصارات عظيمة، وبعد فترة كذلك من سيادة الفلسفة العقلية التي تؤله العقل! وذلك مع هجوم من المستشرقين على التصور الإسلامي، وعقيدة القضاء والقدر فيه، وتعطيل العقل البشري والجهد البشري عن الإيجابية في الحياة بسبب هذه العقيدة … الخ. فلما أراد أن يواجه هذه البيئة الخاصة، بإثبات قيمة "العقل" تجاه "النص". وإحياء فكرة "الاجتهاد" ومحاربة الخرافة والجهل والعامية في "الفكر الإسلامي".. ثم إثبات أن الإسلام جعل للعقل قيمته وعمله في الدين والحياة، وليس – كما يزعم "الإفرنج" أنه قضى على المسلمين" بالجبر" المطلق وفقدان "الاختيار" .. لما أراد أن يواجه الجمود العقلي في الشرق، والفتنة بالعقل في الغرب، جعل "العقل" البشري ندّاً للوحي في هداية الإنسان، ولم يقف به عند أن يكون جهازاً –من أجهزة – في الكائن البشري، يتلقى الوحي. ومنع أن يقع خلاف ما بين مفهوم العقل وما يجئ به الوحي. ولم يقف بالعقل عند أن يدرك ما يدركه، ويسلم بما هو فوق إدراكه، بما أنه – هو والكينونة الإنسانية بجملتها- غير كلي ولا مطلق، ومحدود بحدود الزمان والمكان، بينما الوحي يتناول حقائق مطلقة في بعض الأحيان كحقيقة الألوهية، وكيفية تعلق الإرادة الإلهية بخلق الحوادث.. وليس على العقل إلا التسليم بهذه الكليات المطلقة، التي لا سبل له إلى إدراكها( )!.. وساق حجة تبدو منطقية، ولكنها من فعل الرغبة في تقويم ذلك الانحراف البيئي الخاص الذي يحتقر العقل ويهمل دوره.. قال رحمه الله في رسالة التوحيد.

"فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله. والعقل الإنساني أثر أيضاً من آثار الله في الوجود. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض، ولا يعارض بعضها بعضاً"..

وهذا صحيح في عمومه.. ولكن يبقى أن الوحي والعقل ليسا ندين. فأحدهما أكبر من الآخر وأشمل. وأحدهما جاء ليكون هو الأصل الذي يرجع إليه الآخر. والميزان الذي يختبر الآخر عنده مقرراته ومفهوماته وتصوراته. ويصحح به اختلالاته وانحرافاته. فبينما –ولا شك- توافق وانسجام. ولكن على هذا الأساس. لا على أساس أنهما ندان متعادلان، وكفو أحدهما تماماً للآخر! فضلاً عن أن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له في دنيا الواقع، وإنما هو "مثال"!

وقد تأثر تفسير الأستاذ الإمام لجزء عم بهذه النظرة تأثراً واضحاً. وتفسير تلميذه المرحوم الشيخ رشيد رضا وتفسير تلميذه الأستاذ الشيخ المغربي لجزء "تبارك" حتى صرح مرات بوجوب تأويل النص ليوافق مفهوم العقل! وهو مبدأ خطر. فإطلاق كلمة "العقل" يرد الأمر إلى شيء غير واقعي! –كما قلنا- فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان .. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى "مقرراته". وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى!

وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين.. ولو أخذ الأمر – في ذاته- لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك. وعرف للوحي مجاله. وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح..

إن "العقل" ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص مُحكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح. ويقيم منهجه على أساسه (وفي صلب هذا البحث تفصيل واف للحد المأمون والمنهج الإسلامي المستقيم).

ولقد واجه "إقبال" في العالم الشرقي بيئة فكرية "تائهة!" في غيبوبة "إشراقات" التصوف "العجمي" كما يسميه! .. فراغه هذا "الفناء" الذي لا وجود فيه للذاتية الإنسانية. كما راعته "السلبية" التي لا عمل معها للإنسان ولا أثر في هذه الأرض. وليس هذا هو الإسلام بطبيعة الحال – كما واجه من ناحية أخرى التفكير الحسي في المذهب الوضعي، ومذهب التجريبيين في العالم الغربي. كذلك واجه ما أعلنه نيتشه في "هكذا قال زرادشت" عن مولد الإنسان الأعلى (السوبرمان) وموت الإله! وذلك في تخبطات الصرع التي كتبها نيتشه وسماها بعضهم "فلسفة"!.

وأراد أن ينفض "الفكر الإسلامي" وعن "الحياة الإسلامية" ذلك الضياع والفناء والسلبية. كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية "التجربة" التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي!

ولكن النتيجة كانت جموحاً في إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها، كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي. لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة. ولا حتى القيامة. فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضاً-عند إقبال - بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء.. ولكن هذا الغلو إنما جاء من الرغبة الجازفة في إثبات "وجود" الذاتية، واستمرارها، أو ألـ "أنا" كما استعار إقبال من اصطلاحات هيجل الفلسفية.

ومن ناحية أخرى اضطر إلى إعطاء اصطلاح "التجربة" مدلولاً أوسع مما هو في "الفكر الغربي" وفي تاريخ هذا الفكر. لكي يمد مجاله إلى "التجربة الروحية" التي يزاولها المسلم ويتذوق بها الحقيقة الكبرى. "فالتجربة" بمعناها الاصطلاحي الفلسفي الغربي، لا يمكن أن تشمل الجانب الروحي أصلاً! لأنها نشأت ابتداء لنبذ كل وسائل المعرفة التي لا تعتمد على التجربة الحسية.

ومحاولة استعارة الاصطلاح الغربي، هي التي قادت إلى هذه المحاولة. التي يتضح فيها الشد والجذب والجفاف أيضاً. حتى مع شاعرية إقبال الحية المتحركة الرفافة!

ولست أبتغي أن أنقص من قدر تلك الجهود العظيمة المثمرة في إحياء الفكر الإسلامي وإنهاضه التي بذلها الأستاذ الإمام وتلاميذه، والتي بذلها الشاعر إقبال .. رحمهم الله رحمة واسعة .. وإنما أريد فقط التنبيه إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ هي انحرافاً آخر. وأن الأوْلى في منهج البحث الإسلامي، هو عرض حقائق التصور الإسلامي في تكاملها الشامل، وفي تناسقها الهادئ. ووفق طبيعتها الخاصة وأسلوبها الخاص..

* * *

وأخيراً فإن هذا البحث ليس كتباً في "الفلسفة" ولا كتاباً في "اللاهوت" ولا كتاباً في "الميتافيزيقا".. إنه عمل يمليه الواقع. وهو يخاطب الواقع أيضاً..

لقد جاء الإسلام لينقذ البشرية كلها من الركام الذي كان ينوء بأفكارها وحياتها ويثقلها. ومن التيه الذي كانت أفكارها وحياتها شاردة فيه. ولينشئ لها تصوراً خاصاً متميزاً متفرداً، وحياة أخرى تسير وفق منهج الله القويم. فإذا بالبشرية كلها اليوم ترتكس إلى التيه وإلى الركام الكريه!

ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية،لتنأى بها عن التيه وعنا لركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة فيا لتيه، وفي الركام الكريه!

ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية، لتنأى بها عن التيه وعن الركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة في التيه، وفي الركام الكريه!

هذا الكتاب محاولة لتحديد خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، التي ينبثق منها منهج الحياة الواقعي- كما أراده الله- ودستور النشاط الفكري والعلمي والفني، الذي لابد أن يستمد من التفسير الشامل الذي يقدمه ذلك التصور الأصيل. وكل بحث في جانب من جوانب الفكرة الإسلامية أو النظام الإسلامي، لابد له من أن يرتكن أولاً إلى فكرة الإسلام.

والحاجة إلى جلاء تلك الفكرة هي حاجة العقل والقلب. وحاجة الحياة والواقع. وحاجة الأمة المسلمة والبشرية كلها على السواء.

وهذا القسم الأول من البحث يتناول "خصائص التصور الإسلامي" وسيتناول القسم الثاني: "مقومات التصور الإسلامي" [والله الموفق والهادي والمعين].

==================

تيه وركام

”أفمن يَمشي مُكبّاً على وجهـه أهـدى؟ أم من يِمْشي سَوِياً على صراطٍ مُستقيم؟"

جاء الإسلام، وفي العالم ركام هائل، من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير البشري – تحت هذا الركام الهائل – يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين. والحياة الإنسانية – بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساط وانحلال، وفي ظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان!

وكان التيه الذي لا دليل فيه، ولا هدى ولا نور، ولا قرار ولا يقين .. هو ذلك التيه الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها وصفاتهن وعلاقته بالكون وعلاقة الكون به، وحقيقة الإنسان، ومركزه في هذا الكون، وغاية وجوده الإنساني، ومنهج تحقيقه لهذه الغاية .. ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص.. ومن هذا التيه ومن ذلك الركام كان ينبعث الشر كله في الحياة الإنسانية، وفي الأنظمة التي تقوم عليها.

ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه، وفي غاية وجوده وفي منهج حياته، وفي الارتباطات التي تقوم بين الإنسان والكون، والتي تقوم بين أفراده هو وتجمعاته.. لم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في شيء من هذا كله، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدتهن وفي أمر تصوره لإلهه، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح، في وسط هذا العماء الطاخي، وهذا التيه المضل، وهذا الركام الثقيل.

ولم يكن الأمر كذلك لأن التفكير الديني كان هو طابع القرون الوسطى – كما يقول مفكرو الغرب، فيتلقف قولتهم هذه ببغاوات الشرق! – كلا .. إنما كان الأمر كذلك لأن هناك حقيقتين أساسيتين، ملازمتين للحياة البشرية، وللنفس البشرية، على كل حال، وفي كل زمان:

الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان –بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون الهائل ذرة تائهة مفلتة ضائعة. فلابد من رباط معين بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه. فلابد له إذن من عقيدة تفسر له ما حوله، وتفسر له مكانه فيما حوله. فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة.. وسنرى حين يتقدم بنا هذا البحث كم كان شقاء الإنسان وحيرته وضلاله حين أخطأ هذا الارتباط، وحقيقة هذا التفسير.

والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازماً وثيقاً بين طبيعة التصور الاعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي .. تلازماً لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة.. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم.. هناك الانبثاق الذاتي.. فالنظام الاجتماعي هو فرع عن التفسير الشامل لهذا الوجود، ولمركز الإنسان فيه ووظيفته، وغاية وجوده الإنساني. وكل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس هذا التفسير، هو نظام مصطنع. لا يعيش. وإذا عاش فترة شقى به "الإنسان"، ووقع التصادم بينه وبين الفطرة الإنسانية حتماً.. فهي ضرورة تنظيمية، كما أنها ضرورة شعورية.

ولقد كان الرسل – عليهم الصلاة والسلام- من لدن نوح إلى عيسى .. قد بينوا للناس هذه الحقيقة، وعرفوهم بإلههم تعريفاً صحيحاً، وأوضحوا لهم مركز "الإنسان" في الكون، وغاية وجوده .. ولكن الانجرافات الدائمة عن هذه الحقيقة، تحت ضغط الظروف السياسية والشهوات البشيرة، والضعف الإنساني، كانت قد غشت تلك الحقيقة، وأضلت البشرية عنها، وأهالت عليها ركاماً ثقيلاً يصعب رفعه بغير رسالة جديدة كاملة شاملة، ترفع هذا الركام، وتبدد هذا الظلام، وتنير هذا التيه، وتقر التصور الاعتقادي على أساس من الحق الخالص، وتقيم الحياة الإنسانية على أساس مستقر من ذلك التصور الصحيح. وما كان يمكن أن ينصرف أصحاب التصورات المنحرفة في الأرض كلها، وأن ينفكوا عمّا هم فيه، إلا بهذه الرسالة، وإلا بهذا الرسول .. وصدق الله العظيم:

"لم يكن الذين كفروا – من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة. رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة"..(البينة: 1، 2)

ولا يدرك الإنسان ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهة في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة .. حتى يطلع على ضخامة ذلك الركام، وحتى يرتاد ذلك التيه، من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال، التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري في كل مكان، وحتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد. التي كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية، التي دخلها التحريف والتأويل، والإضافات البشرية إلى المصادر الإلهية، والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير سواء!

ولما لم يكن قصدنا –في هذا البحث- هو عرض التصورات، إنما هو عرض التصور الإسلامي، وخصائصه ومقوماته.. فإننا نكتفي بعرض بعض النماذج من التصورات الدينية في اليهودية والمسيحية –كما وصلت إلى عرب الجزيرة- وبعض النماذج من التصورات الجاهلية العربية التي جاء الإسلام فواجهها هناك.

لقد حفلت ديانة بني إسرائيل –اليهودية- بالتصورات الوثنية، وباللوثة القومية على السواء. فبنو إسرائيل- وهو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام –جاءتهم رسلهم- وفي أولهم أبوهم إسرائيل- بالتوحيد الخالص، الذي علمهم إياه أبوهم إبراهيم. ثم جاءهم نبيهم الأكبر موسى –عليه السلام- بدعوة التوحيد أيضاً مع الشريعة الموسوية المبنية على أساسه. ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن، وهبطوا في تصوراتهم إلى الوثنيات، واثبتوا في كتبهم (المقدسة!) وفي صلب (العهد القديم) أساطير وتصورات عن الله –سبحانه- لا ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للإغريق وغيرهم من الوثنيين، الذين لم يتلقوا رسالة سماوية، ولا كان لهم من عند الله كتاب..

ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أسسها جدهم إبراهيم – عليه السلام- عقيدة خالصة ناصعة شاملة متكاملة واجه بها الوثنية مواجهة حاسمة كما صورها القرآن الكريم، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه قبل أن يموت:

"واتل عليهم نبأ إبراهيم. إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدونه؟ قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين! قال: هل يسمعونكم إذا تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون؟ قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون! قال: أفرأيتم، ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم".(الشعراء 69-89)

"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه؟ ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟ إذ قال لبنيه: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلهاً واحداً ونحن له مسلمون".(البقرة 130-133)

ومن هذا التوحيد الخالص، وهذه العقيدة الناصعة، وهذا الاعتقاد في الآخرة انتكس الأحفاد. وظلوا في انتكاسهم حتى جاءهم موسى عليه السلام بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد.. والقرآن الكريم يذكر أصول هذه العقيدة التي جاء بها موسى –عليه السلام- لبني إسرائيل، ويذكر تراجعهم عنها:

"وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل: لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً، وذي القربى واليتامى والمساكين. وقولوا للناس حسناً. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون. وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان…".(البقرة 83-85)

ومن لوثة القومية واعتقادهم أن إلههم إله قومي! لا يحاسبهم بقانون الأخلاق إلا في سلوكهم مع بعضهم البعض. أما الغرباء –غير اليهود- فهو لا يحاسبهم معهم على سلوك معيب! .. من هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم:

"ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون".(آل عمران: 75)

وهكذا نرى مدى الانحراف الذي دخل على النصرانية، من جراء تلك الملابسات التاريخية، حتى انتهت إلى تلك التصورات الوثنية الأسطورية، التي دارت عليهم الخلافات والمذابح عدة قرون!

أما الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، فقد كانت تعج بركام العقائد والتصورات. ومن بينها ما نقلته من الفرس وما تسرب إليها من اليودية والمسيحية في صورتهما المنحرفة.. مضافاً إلى وثنيتها الخاصة المتخلفة من الانحرافات في ملة إبراهيم التي ورثها العرب صحيحة ثم حرفوها ذلك التحريف. والقرآن يشير إلى ذلك الركام كله بوضوح:

زعموا أن الملائكة بنات الله –مع كراهيتهم هم للبنات!- ثم عبدوا الملائكة- أو تماثيلها الأصنام- معتقدين أن لها عند الله شفاعة لا ترد، وأنهم يتقربون بها إليه سبحانه:

"وجعلوا له من عباده جزءاً. إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟! وجعلوا الملائكة –الذين هم عباد الرحمن- إناثاً. أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم. ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون"…(الزخرف: 15-20)

"ألا لله الدين الخالص. والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار. لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء. سبحانه هو الله الواحد القهار"..(الزمر: 3-4)

وشاعت بينهم عبادة الأصنام إما بوصفها تماثيل للملائكة، وإما بوصفها تماثيل للأجداد، وإما لذاتها. وكانت الكعبة، التي بنيت لعبادة الله الواحد، تعج بالأصنام، إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً. غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة. ومنها ما ذكر في القرآن بالاسم كاللات والعزى ومناة. ومنها هبل الذي نادى أبو سفيان باسمه يوم "أحد" قائلاً: اعلُ هبل!

وعلى العموم فقد تغلغلت عقائد الشرك في حياتهم. فقامت على أساسها الشعائر الفاسدة، التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة.. من ذلك جعلهم بعض ثمار الزروع، وبعض نتاج الأنعام خاصاً بهذه الآلهة المدعاة، لا نصيب فيه لله –سبحانه- وأحياناً يحرمونها على أنفسهم. أو يحرمون بعضها على إناثهم دون ذكورهم. أو يمنعون ظهور بعض الأنام على الركوب أو الذبح. وأحياناً يقدمون أبناءهم ذبائح لهذه الآلهة في نذر. كالذي روى عن نذر عبد المطلب أن يذبح ابنه العاشر، إن وهُب عشرة أبناء يحمونه. فكان العاشر عبد الله.. ثم افتداه من الآلهة بمئة ناقة!.. وكان أمر الفتوى في هذه الشعائر كلها للكواهن والكهان!

وكانت فكرة التوحيد الخالص هي أشد الأفكار غرابة عندهم، هي وفكرة البعث سواء. ذلك مع اعترافهم بوجود الله –سبحانه وتعالى- وأنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما. ولكنهم ما كانوا يريدون أن يعترفوا بمقتضى الوحدانية هذه وهو أن يكون الحكم لله وحده في حياتهم وشؤونهم، وأن يتلقوا منه وحده الحلال والحرام، وأن يكون إليه وحده مرد أمرهم كله في الدنيا والآخرة. وأن يتحاكموا في كل شيء إلى شريعته ومنهجه وحده .. الأمر الذي لا يكون بغيره دين ولا إيمان. يدل على ذلك ما حكاه القرآن الكريم من معارضتهم الشديدة لهاتين الحقيقتين:

"وعجبوا أن جاءهم منذر منهم. وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب. اجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق"…

ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الأولوهية، وعلاقتها بالخلق، وعلاقة الخلق بها.. فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآدابهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها. وعني الإسلام عناية خاصة بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان.. فلقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير الأثر في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها.

ولقد جاء الإسلام –وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحاً لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد رداً على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات .. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك .. فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين .. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح!

والذي يراجع ذلك الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله –سبحانه- وفي صفاته. وفي علاقته بالخلق وعلاقة الخلق به .. ذلك الجهد الذي تمثله النصوص الكثيرة –كثرة ملحوظة- في القرآن المكي بصفة خاصة، وفي القرآن كله على وجه العموم..

الذي يراجع ذلك الجهد المتطاول، دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل، في ذلك التيه الشامل، الذي كانت البشرية كلها تخبط فيه، والذي ظلت تخبط فيه أيضاً كلما انحرفت عن منهج الله أو صدت عنه، واتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيله الواحد المستقيم..

الذي يراجع ذلك الجهد، دون أن يراجع ذلك الركام، قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر في القرآن، وإلى هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير وكل مسالك الحياة.

ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد، كما تكشف عن عظمة الدور الذي جاءت هذه العقيدة لتؤديه في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وفي تحرير الفكر البشري وإطلاقه، وفي تحرير الحياة. والحياة تقوم على أساس التصور الاعتقادي كيفما كان.

عندئذ ندرك قيمة هذا التحرر في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنجو به الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال .. وندرك قيمة قول عمر –رضي الله عنه- "ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية".. فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به.

إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية –السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة .. رحمة حقيقية .. رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق..

وصدق الله العظيم: "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم؟".

***************

"صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟"

للتصور الإسلامي خصائصه المميزة، التي تفرده من سائر التصورات، وتجعل له شخصيته المستقلة، وطبيعته الخاصة، التي لا تتلبس بتصور آخر، ولا تستمد من تصور آخر.

هذه الخصائص تتعدد وتتوزع، ولكنها تتضام وتتجمع عند خاصية واحدة، هي التي تنبثق منها وترجع إليها سائر الخصائص .. خاصية الربانية..

إنه تصور رباني. جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكل مقوماته، وتلقّاه "الإنسان" كاملاً بخصائصه هذه ومقوماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئاً، ولا لينقص كذلك منه شيئاً. ولكن ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته..

وهو –من ثم- تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره، وترتقي في إدراكه وفي الاستجابة له. وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائماً، وهذا التصور يقودها دائماً. لأن المصدر الذي أنشأ هذا التصور، هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان. هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان. وهو الذي جعل في هذا التصور من الخصائص ما يلبي هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار.

وإذا كانت التصورات والمذاهب والأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم – في معزل عن هدي الله –تحتاج دائماً إلى التطور في أصولها، والتحور في قواعدها، والانقلاب أحياناً عليها كلها حين تضيق عن البشرية في حجمها المتطور! وفي حاجاتها المتطورة.. إذا كانت تلك التصورات والمذاهب والأنظمة التي هي من صنع البشر، تتعرض لهذا وتحتاج إليه، فذلك لأنها من صنع البشر! الشر القصار النظر! الذين لا يرون إلا ما هو مكشوف لهم من الأحوال والأوضاع والحاجات في فترة محدودة من الزمان، وفي قطاع خاص من الأرض.. رؤية فيها –مع هذا- قصور الإنسان وجهل الإنسان، وشهوات الإنسان، وتأثرات الإنسان. فأما التصور الإسلامي –بربانيته- فهو يخالف في أصل تكوينه وفي خصائصه، تلك التصورات البشرية، ومن ثم لا يحتاج – في ذاته- إلى التطور والتغير .. فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان. ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور. ويختار بلا تأثر من الشهوات والانفعالات. ومن ثم يضع للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها .. أصلاً ثابتاً، لتدور الحياة البشرية حوله، وتتحرك في إطاره. وهو مصنوع بحيث يسعها دائماً ويشدها دائماً. وهي تنمو وترتقي. وهي تتطور وتتحرك إلى الأمام.

وهو –من ثم- كامل متكامل. لا يقبل تنمية ولا تكميلا، كما لا يقبل "قطع غيار" من خارجه. فهو من صنعة الله، فلا يتناسق معه ما هو من صنعة غيره. والإنسان لا يملك أن يضيف إليه شيئاً، ولا يملك أن يعدل به دائماً إلى الأمام .. جاء ليضيف إلى قلبه وعقله، وإلى حياته وواقعه. جاء ليوقظ كل طاقات الإنسان واستعداداته، ويطلقها تعمل في إيجابية كاملة، وفي ضبط كذلك وهداية، وتؤتى أقصى ثمراتها الطيبة، مصونة من التبدد في غير ميدانها، ومن التعطل عن إبراز مكنونها، ومن الانحراف عن طبيعتها ووجهتها، ومن الفساد بأي من عوامل الفساد.. وهو لا يحتاج –في هذا كله- إلى استعارة من خارجه، ولا إلى دم غير دمه! ولا إلى منهج غير منهجه. بل إنه ليحتم أن يتفرد هو في حياة البشر، بمفهوماته وإيحاءاته ومنهجه ووسائله وأدواته. كي تتناسق حياة البشر مع حياة الكون- الذي تعيش في إطاره – ولا تصطدم حركته بحركة الكون فيصيبها العطب والدمار!.

وهو –من ثم- شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً. ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيراً. ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعاً. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير. فليس أمامه –سبحانه- مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة .. ومن ثم فقد وضع له التصور الصحيح. الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته.. المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته. الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.

وهو – من ثم- الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان، بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمهن وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله.. ليعلم أين هو من الحق. وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن .. إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً".(النساء: 59)

وفي خاصية التصور الإسلامي الأساسية –التي تحدد طبيعته- وفي سائر الخصائص التي تنبثق منها .. يرى بوضوح تفرد هذا التصور، وتميز ملامحه، ووضوح شخصيته بحيث يصبح من الخطأ المنهجي الأصيل محاولة استعارة أي ميزان، أو أي منهج من مناهج التفكير المتداولة في الأرض –في عالم البشر- للتعامل بها مع هذا التصور الخاص المستقل الأصيل. أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الرباني الكامل الشامل.

وسنرى هذا بوضوح كلما تقدمنا في هذا البحث. فنكتفي الآن بتقرير هذه القاعدة التي لا بد من مراعاتها جيداً في كل بحث إسلامي، في أي قطاع من قطاعات الفكر الإسلامية أو المنهج الإسلامي .. فهذا هو مفرق الطريق..

والآن فلننظر في هذه الخاصية الأساسية، وفي الخصائص التي تنبثق منها، بشيء من البيان والتفصيل..

=====================

الربانيــة

قال تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (161) سورة الأنعام

الربانية أولى خصائص التصور الإسلامي، ومصدر هذه الخصائص كذلك.. فهو تصور اعتقادي موحى به من الله –سبحانه- ومحصور في هذا المصدر لا يستمد من غيره .. وذلك تمييزاً من التصورات الفلسفية التي ينشئها الفكر البشري حول الحقيقة الإلهية، أو الحقيقة الكونية، أو الحقيقة الإنسانية، والارتباطات القائمة بين هذه الحقائق، وتمييزاً له كذلك من المعتقدات الوثنية، التي تنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية.

ويستطيع الإنسان أن يقول –وهو مطمئن-: إن التصور الإسلامي هو التصور الاعتقادي الوحيد الباقي بأصله "الرباني" وحقيقته "الربانية". فالتصورات الاعتقادية السماوية، التي جاءت بها الديانات قبله، قد دخلها التحريف – في صورة من الصور- كما رأينا. وقد أضيفت إلى أصول الكتب المنزلة، شروح وتصورات وتأويلات وزيادات، ومعلومات بشرية، أدمجت في صلبها، فبدلت طبيعتها "الربانية". وبقي الإسلام –وحده- محفوظ الأصول، لم يشب نبعه الأصيل كدر، ولم يلبس فيه الحق بالباطل. وصدق وعد الله في شأنه:

"إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون" …(الحجر: 9)

وهذه هي الحقيقة المسلمة، التي تجعل لهذا التصور قيمته الفريدة.

ومفرق الطريق بين التصور الفلسفي والتصور الاعتقادي –بصفة عامة- أن التصور الفلسفي ينشأ في الفكر البشري – من صنع هذا الفكر – لمحاولة تفسير الوجود وعلاقة الإنسان به. ولكنه يبقى في حدود المعرفة الفكرية الباردة. فأما التصور الاعتقادي –في عمومه- فهو تصور ينبثق في الضمير، ويتفاعل مع المشاعر، ويتلبس بالحياة. فهو وشيجة حية بين الإنسان والوجود. أو بين الإنسان وخالق الوجود.

ثم يتميز التصور الإسلامي بعد ذلك عن التصور الاعتقادي –في عمومه- بأنه –كما أسلفنا- تصور رباني، صادر من الله للإنسان. وليس من صنع الإنسان. تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها. وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور الوثني، أو التصور الفلسفي –على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية.

وينص المصدر الإلهي الذي جاءنا بهذا التصور –وهو القرآن الكريم- على أنه كله من عند الله. هبة للإنسان من لدنه، ورحمة له من عنده. وأن الفكر البشري –ممثلاً ابتداءً في فكر الرسول –صلى الله عليه وسلم – أو فكر الرسل كلهم – باعتبار أنهم جميعاً أرسلوا بهذا التصور في أصله – لم يشارك في إنشائه. وإنما تلقاه تلقياً، ليهتدي به ويهدي. وأن هذه الهداية عطية من الله كذلك، يشرح لها الصدور. وأن وظيفة الرسول –أي رسول- في شأن هذا التصور، هي مجرد النقل الدقيق، والتبليغ الأمين، وعدم خلط الوحي الذي يوحي إليه من عند الله بأي تفكير بشري – أو كما يسميه الله سبحانه بالهوى! أما هداية القلوب به، وشرح الصدور له، فأمر خارج عن اختصاص الرسول، ومرده إلى الله وحده في النهاية:

"وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور"…(الشورى: 52-53)

وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى.. فهو وحده مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى .. هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات. أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة! وهو كذلك مناط الضمان في انه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه، ويقوم عليه، أقوم منهج للحياة وأشمله.

ولكن إذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا التصور، فإنه ليس منفياً من مجاله، ولا محظوراً عليه العمل فيه. بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة .. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي – كما أشرنا في "كلمة عن المنهج" – هي هذه .. إنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقولاته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور، ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه. كما يتلقى الحقائق الموضوعية في هذا التصور من المصدر الإلهي الذي جاء بها، لا من أي مصدر آخر خارجه. ثم هو الميزان الذي يرجع بكافة ما يعين له، من مشاعر وأفكار، وقيم وتصورات، في مجرى حياته الواقعية كذلك. ليزنها عنده، ويعرف حقها من باطلها، وصحيحها من زائفها:

"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"…(النساء: 59)

وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري – في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوّماته – مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع. دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها .. ويبذل منهج التربية الإسلامي لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل، في كل ميدان هي مهيأة له .. الشيء الكثير( ).

على أن "الفكر" ليس وحده الذي يتلقى هذا التصور. إنما هو يشارك في تلقيه. فميزة هذا التصور – المنبثقة من خاصية الربانية- أنه يلبي الكينونة الإنسانية بجملتها .. ويدخل كذلك في دائرة إدراكها.. والذي لا تدركه منه إدراك ماهية وحقيقة، أو إدراك عليه أو كيفية .. لا يتعذر عليه التسليم به في طمأنينة. لنه داخل في مفهوم منطقها المعقول. منطقها الذي يسلم بالحقيقة البسيطة: حقيقة أن المجال الذي يتناوله هذا التصور – بما فيه من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها، ومن تعلق إرادة الله بالخلق وكيفيته – أكبر وأوسع من الكينونة الإنسانية بجملتها. فهو مجال السرمدية الأزلية الأبدية الكلية المطلقة. والكينونة الإنسانية – ككل ما هو مخلوق حادث – متحيزة في حدود من الزمان والمكان، لا تملك مجاوزتها على الإطلاق، ولا تملك من باب أولى الإحاطة بالكلي المطلق بأي حال:

"يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا. لا تنفذون إلا بسلطان"…(الرحمن: 33)

"لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير"… (الأنعام: 103)

ومن ثم فلا قدرة للكينونة البشرية بجملتها – لا الفكر وحده- على العمل خارج هذه الحدود. إنما وظيفتها أن تتلقى من الذات الإلهية المطلقة المحيطة بالوجود. وأن تتلقى في حدود طبيعة الإنسان، وفي حدود وظيفته.

ونزيد هذه الجملة الأخيرة إيضاحاً.. فالإنسان محكوم أولاً، بطبيعته: طبيعة أنه مخلوق حادث. ليس كلياً ولا مطلقاً. ليس أزلياً ولا أبدياً. ومن ثم فإن إدراكه لابد أن يكون محدوداً بما تحده به طبيعته .. ثم هو محدود بوظيفته. وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبادة لله فيها –كما سيجئ- ومن ثم فقد وهُب من الإدراك ما يناسب هذه الخلافة. بلا نقص ولا زيادة .. وهناك أمور كثيرة لا يحتاج إليها في وظيفته هذه. ومن ثم لم يوهب القدرة على إدراكها –إدراك ماهية أو إدراك كيفية- وإن كان موهوباً أن يدرك إمكانها. وأن يحيل هذا على معرفته بطلاقة المشيئة الإلهية من ناحية، ومن ناحية أخرى على معرفته بأنه هو مخلوق حادث، غير كلي ولا مطلق، فلا يمكن –من ثم- أن يحيط بخصائص الأزلي الأبدي، الذي هو بكل شيء محيط.

والقرآن الكريم يشير إلى بعض هذه الجوانب، التي لم يزوَّد هذه الجوانب، التي لم يزوَّد الإنسان بالقدرة على الإحاطة بها .. بماهيتها أو بكيفيتها .. إما لأنها لا تدخل في حدود طبيعة البشرية المحدودة. وإما لأنها لا تلزم له في النهوض بوظيفته المحددة كذلك .. كما يشير إلى طريقة الفطرة السليمة المؤمنة في تلقي هذه الجوانب، وطريقة الفطرة المنحرفة الزائغة:

من هذه الجوانب مسألة كنه الذات الإلهية. فالكينونة الإنسانية لا تدركها وليس مما تعرفه شيء يماثلها فيمكن أن تقابلها به، وتقيسها عليه:

"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"..(الأنعام: 103)

"ليس كمثله شيء" .. (الشورى: 11)

ويبين الله –سبحانه- كيف ينبغي تلقي هذه وأمثالها، مما هو فوق مدركات الكينونة البشرية:

"هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هن أم الكتاب. وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله – وما يعلم تأويله إلا الله – والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا- وما يذّكر إلا أولوا الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"..(آل عمران: 7-8)

وفيما عدا هذه الجوانب فإن الفكر البشري – أو الإدراك البشري بتعبير أشمل- مدعو للتدبر والتفكر، والنظر والاعتبار، والتكيف والتأثر، والتطبيق، في عالم الضمير وعالم الواقع، لمقتضيات هذا التصور، والإيجابية في العمل والتنفيذ وفق هذا التصور الشامل الكبير.

وما من دين احتفل بالإدراك البشري، وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر، واستجاشته للعمل، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة.! وصيانته في الوقت ذاته من التبديد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل .. ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام..

ومن من دين وجه النظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، وإلى طبيعة هذا الكون وطبيعة هذا الإنسان، وإلى طاقاته المذخورة وخصائصه الإيجابية، وإلى سنن الله في الحياة البشرية معروضة في سجل التاريخ .. ما من دين وسّع على الإدراك في هذا كله ما وسّع الإسلام.

في تربية وتقويمه وتقويم منهج النظر والحكم:

"ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد. كل أولئك كان عنه مسؤولاً".. (الإسراء: 36)

إن التصور الرباني الذي يتلقاه الإنسان من "الله" هبة لدنية خالصة.. قد أعفى البشر الضعاف الجهال من الكد فيها، ووفر عليهم همّ إنشائها، وتبديد طاقتهم في هذا المجال الذي لم يهبهم الله دليله ولا أداته.. وذلك ليفرغوا لتلقي هذه الهبة وإدراكها، والتكيف بها، ، واتخاذها أساساً لمنهج حياتهم، وميزاناً لقيمهم، ودليلاً هادياً يصلون به ومعه.. فإذا فارقوه ضلوا وتاهوا، وخبطوا وخلطوا، وجاءوا بما يضحك ويبكي من التصورات والانحرافات، وشقوا وتعسوا بالمناهج والأنظمة التي يقيمونها على أساس من ذلك الجهل العميق! ومن ذلك الخبط والتخليط!

وفي هذا يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين":

"وقد كان الأنبياء –عليهم السلام- أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله. وعن بداية هذا العالم ومصيره. وما يهجم عليه الإنسان بعد موته. وأتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً بدون تعب. وكفوهم مؤونة البحث والفحص، وفي علوم ليس عندهم مبادئها، ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم، ليتوصلوا إلى مجهول. لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، ولا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدي إليها نظرهم، وليست عندهم معلوماتها الأولية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة، وأعادوا الأمر جذعاً، وبدأوا البحث أُنفاً، وبداوا رحلتهم في مناطق مجهولة، لا يجدون فيها مرشداً ولا خِرّيتاً( ) . وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً، وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً بالفضول .. من رائد لم يقتنع بما أدى إليه العلم الإنساني في الجغرافية، وما حدد وضبط في الخرائط على تعاقب الأجيال، فحاول أن يقيس ارتفاع الجبال وعمق البحار من جديد، ويختبر الصحارى والمسافات والحدود بنفسه .. على قصر عمره، وضعف قوته، وفقدان آلته .. فلم يلبث أن انقطعت به مطيته، وخانته عزيمته، فرجع بمذكرات وإشارات مختلة.. وكذلك الذين خاضوا في الإلهيات، من غير بصيرة، وعلى غير هدىن جاءوا في هذا العلم بآراء فجة، ومعلومات ناقصة، وخواطر سانحة ونظريات مستعجلة.. فضلوا وأضلوا"( ).

على أن أمر الذين حاولوا إنشاء تصورات اعتقادية من عند أنفسهم، أو إنشاء تصورات فلسفية لتفسير الوجود وارتباطاته كانوا أشد ضلالاً من هذا الذي صوره الأستاذ الندوي، وأكثر خطراً على حياة البشرية. أما الأخطر من هذا كله، فكان هو تحريف العقائد السماوية –وبخاصة النصرانية- وقيام كنيسة في أوربا تملك السلطان باسم هذه النصرانية المحرفة، وتفرض تصوراتها الباطلة بالقوة كما تفرض معلوماتها الخاطئة والناقصة عن الكون المادي، وتعارض بوحشية خط البحث العلمي في ميدانه الأصيل، بمقولات تعطيها طابع الدين. والدين منها برئ..

وقد نشأ هذا كله من تدخل الفكر البشري بالإضافة والتأويل والتحريف للأصل الرباني للعقيدة النصرانية وللتصور النصراني. وإلحاق هذا كله بالأصل الرباني والعقيدة السماوية.

فإذا نحن تكرنا أن جميع النزعات الأوربية، التي نشأت معادية للدين وللفكر الديني، كان منشؤها هو هذا الانحراف، وهذه الأوضاع التي قامت على أساس هذا الانحراف.. "من عقلية مثالية" إلى "وضعية حسية" إلى "جدلية مادية" .. إذا تذكرنا هذا أدركنا أن هذا البلاء الذي يعم البشرية كلها اليوم، إنما نشأ من عقابيل تدخل الفكر البشري، في أصل التصور الرباني. وهو بلاء لا يعد له بلاء آخر في تاريخ البشرية الطويل ..

ولعله يحسن – لتكون هذه النقطة واضحة وضوحاً يناسب خطورتها – أن نذكر خلاصة موجزة للخط الذي سار فيه الفكر الأوربي، بوصفه نتيجة طبيعية مباشرة لانحراف التصور الديني. بتدخل الفكر البشري فيه، وبإخضاعه للعوامل السياسية، والخلافات العنصرية والمذهبية.

ولعل هذه الخلاصة أن تكشف لنا عن حكمة الله ورعايته في حفظ أصول التصور الإسلامي بعيدة عن تحريف البشر. وعن خطورة أية محاولة باسم "التجديد الديني" أو "التطور في الفكر الديني" أو غيرهما، لإدخال أي عنصر بشري على التصور الرباني .. فهذا التصور هو الوحيد الباقي من غير أن يعبث به جهل البشر وقصورهم وهو وحده ملاذ البشرية، لتفئ إليه في يوم من الأيام. فنجد عنده الهدى والسكينة والاطمئنان.

وسنكتفي في هذا التلخيص لخط سير الفكر الأوربي – في اتجاه مضاد للكنيسة وتفكيرها الديني – بمقتبسات من الفصل الذي كتبه الدكتور محمد البهي بعنوان: "الدين مخدر!" في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي":

"الصراع بين الدين والعقل والحس في تاريخ الفكر الغربي: أربع مراحل في تاريخ التفكير الأوربي، منذ القرن الرابع عشر إلى الآن. شهدت فيها العقلية الأوربية صراعاً فكرياً، واتجاهات عقلية مختلفة، تدور حول "تبرير" مصدر من مصادر المعرفة، التي عرفتها البشرية في تاريخها حتى الوقت الحاضر. وهي: الدين. والعقل. والحس أو الواقع، وفي كل مرحلة من هذه المراحل ينشأ سؤال عن "قيمة" أي واحد من هذه الثلاثة كمصدر للمعرفة المؤكدة، أو اليقينية. ثم يكون الجواب على هذا السؤال إيجاباً أو سلباً. ومن السؤال وما يدور حوله من جدل، وأخذ ورد، تتكون المذاهب الفلسفية التي تعبر عن قيمة المصدر، الذي وضع للاختبار والتقدير.

"سيادة النص أو الدين" كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين "المسيحية"، وكان يراد من المسيحية "الكثلكة"، وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية". والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" – باسم الله- في يد البابا، وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية، وجعل عقيدة "التثليث" عقيدة أصيلة في المسيحية، كما جعل "الاعتراف بالخطأ" و "صكوك الغفران" من رسوم العبادة وغير ذلك مما يتصل بالكاثوليكية كمذهب وكنظام لاهوتي.

"حتى كان القرن الخامس عشر، وحتى ابتدأت الحروب الصليبية تثمر ثمرتها الإيجابية في العقلية الأوربية. فقام مارتن لوثر (Luther) (1453-1546م) وكافح "تعاليم الشيطان" -كما سماها- وهي تعاليم البابوية والكنيسة الكاثوليكية، فحارب صكوك الغفران، ونظر إليها كوسائل للرق والعبودية. وحارب عقيدة "التثليت"، كما حارب سلطة البابا. وجعل السلطة الوحيدة في المسيحية هي الكتاب المقدس، وكلمة الله: "النص" وطالب بالحرية في بحث الكتاب. ولكن ليست أية حرية على العموم. ومع ذلك جعل الكتاب المقدس نفسه هو مصدر الحقيقة فيما يتصل بالإيمان. ثم جعل الإيمان في الاعتبار، سابقاً على أي شيء آخر عداه، من العقل أو الطبيعة.

" وجاء بعد لوثر –في طريقه- كالفن (Calvin) (1509-1564م) واقر لوثر على أن الإنجيل وحده هو المصدر "للحقيقة المسيحية" وأن عقيدة التثليث لا تقبلها المسيحية الصحيحة.

" و بحركه لوثر وكالفن الإصلاحية تعرضت المسيحية للجدل الفكري، وأصبحت موضوعاً للنقاش العقلي، والمذاهب الفلسفية.. والمسيحية التي تعرضت لذلك هي المسيحية التي تناولها لوثر بإصلاحه. أي الكاثوليكية البابوية. ومن أنكر من الفلاسفة على الدين أن تكون له "سلطة" أنكر سلطة البابوية. ومن وضع العلاقة بين الدين والعقل كشيئين متقابلين أو متناقضين، حدد العلاقة بين الكثلكة – وما فيها من عقيدة التثليث ومراسم صكوك الغفران – وبين العقل الإنساني العام. ومن دافع عن المسيحية من الفلاسفة، كهجيل، دافع عن "التعاليم النقية للمسيحية" التي احتضنها لوثر، في مقابل تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.

"وهكذا كان "الدين" الذي جعل موضوعاً للصراع العقلي الأوربي، نوعاً خاصاً من الدين، والذي قبل منه باسم الفلسفة، كان جملة خاصة من تعاليمه، والذي رفض منه باسم الفلسفة أيضاً، كان كذلك جملة خاصة من تعاليمه.

"سيادة العقل": استمر اعتبار الوحي، كمرجع أخير للمعرفة، على خلاف في تحديد تعاليمه، حتى كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو عصر "التنوير" في تاريخ الفلسفة الأوربية. وعصر التنوير له طابعه المشترك في الفكر الألماني والإنجليزي والفرنسي، في الفترة الزمنية التي تحدده، وله فلاسفة في دوائر الفكر الثلاث كونوا الطابع الفكري الذي عرف به..

"وطابعه الفكري:

(‌أ) تزايد شعور العقل وإحساسه بنفسه، وبقدرته على أن يأخذ مصير مستقبل الإنسانية في يده، بعد أن يزيل كل عبوديه ورثها هو، حتى لا تحجبه عن التخطيط الواضح لهذا المصير( ).

(‌ب) الشجاعة والجرأة التي لا تتأرجح في إخضاع كل حدث تاريخي لامتحان العقل. وكذلك في تكوين الدولة والجماعة، والاقتصاد، والقانون، والدين، والتربية، تكويناً جديداً، على الأسس السليمة المصفاة، التي لكل واحد منها!

(‌ج) الإيمان بتعاون جميع المصالح والمنافع، وبالأخوة في الإنسانية، على أساس من هذه الثقافة العقلية، المستمرة في التطور..

"ومعنى ذلك كله: سيادة "العقل" – كمصدر للمعرفة- على غيره. وغيره الذي ينازعه "السيادة" هو الدين. أي المسيحية الكاثوليكية أولاً. وقد تكون معها البروتستانتية، كمذهب عرف للإصلاح الديني هناك.

"فللعقل الحق في الإشراف على كل اتجاهات الحياة، وما فيها من سياسة، وقانون، ودين، و "الإنسانية" هي هدف الحياة للجميع.

"وكما يسمى هذا العصر بـ "عصر التنوير" يسمى أيضاً بـ "العصر الإنساني"، وكذا بعصر الـ Deism أي عصر الإيمان الفلسفي بإله، ليس له وحي، وغير خالق للعالم. إذ كل مسميات هذه الأسماء تعتبر من خواصه. فالتنوير لا يقصد به إلا إبعاد الدين عن مجال التوجيه، وإحلال العقل فيه محله. والإنسانية التي يبشر بها هذا العصر ليست إلا عوضاً عن "القربى من الله" كهدف للإنسان في سلوكه في الحياة. والإله، الذي ليس له وحي ولا خلق، يتفق مع تحكيم العقل وحده، وطلب سيادته على أحداث الحياة واتجاهاتها.

"وإذن في عصر التنوير كانت الخصومة الفكرية بين الدين والعقل. واتجه التفكير فيه إلى إخضاع الدين للعقل. ولذلك عد زمن هذا العصر فترة سيادة العقل. كما عد العصر السابق عليه فترة سيادة الدين ..

"ومن هذا يتضح أن صراع العقل مع الدين، هو صراع الفكر الإنساني مع مسيحية الكنيسة. وأن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية. سواء في مجال التوجيه والبحث، أو في مجال السياسة، أو نطاق العقيدة والإيمان…

"سيادة الحس": انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر تقريباً، وابتدأ عصر آخر من عصور الفكر الأوربي، وبظهور فجر القرن التاسع عشر. وموضوع الصراع واحد لم يختلف عن ذي قبل، هو: الدين، والعقل، والطبيعة. ولكن تميز القرن التاسع عشر بفلسفة معينة. لأن اتجاه الفكر فيه مال إلى "سيادة الطبيعة" على الدين والعقل، وإلى استقلال "الواقع" كمصدر للمعرفة اليقينية إزاء الدين والعقل. تميز القرن التاسع عشر بأنه عصر "الوضعية" (Positivism). والوضعية نظرية فلسفية نشأت في دائرة "المعرفة". وقامت في جو معين، وعلى أساس خاص، أما جوها المعين فهو أولاً وبالذات سيطرة الرغبة على بعض العلماء والفلاسفة في معارضة الكنيسة. والكنيسة تملك نوعاً خاصاً من المعرفة، وتستغله في خصومة المعارضين لنفوذها من العلماء والباحثين. وقد تسود به على هؤلاء المعارضين فترة من الزمن. وهذا النوع هو "المعرفة المسيحية الكاثوليكية" بوجه خاص –كما سبق أن ذكر- أو هو المعرفة الدينية، أو المعرفة الميتافزيقية بوجه عام. يضاف إلى هذه الرغبة القوية في معارضة الكنيسة، ومعارضة ما تملك من معرفة خاصة، أن فلسفة عصر "التنوير" وهي الفلسفة "العقلية" أو "المثالثة" قد أفلست – في نظر فلاسفة "الوضعية" – فيما أرادت أن تصل إليه: وهو إبعاد التوجيه الكنسي كلية عن توجيه الإنسان، وتنظيم الجماعة الإنسانية. فقد مالت هذه الفلسفة على عهد "هيجل" إلى تأييد الوحي والدين من جديد !!!

"فالغاية الأولى للمذهب الوضعي، من منطقة، هي معارضة الكنيسة، أو معارضة معرفتها. ومن باب التغطية باسم "العلم"! هي معارضة الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والمثالية العقلية. وإلا فالمذهب الوضعي في الوقت الذي ينكر فيه دين الكنيسة يضع ديناً جديداً بدله، هو دين "الإنسانية الكبرى"، ويقوم على "عبادة" و "طقوس" – كما تقوم المسيحية – وله قداسة واحترام على نحو ما للكثلكة!

"وأما الأساس الخاص الذي قامت عليه الوضعية فهو تقدير "الطبيعة" والطبيعة، والحقيقة، والواقع، والحس.. كلها سواء في نظر الوضعيين. وتقدير الطبيعة – لا كمصدر مستقل فحسب للمعرفة – بل كمصدر فريد للمعرفة اليقينية أو المعرفة الحقة. ومعنى تقدير الطبيعة على هذا النحو: أن الطبيعة هي التي تنقش الحقيقة في عقل الإنسان، وهي التي توحي بها، وترسم معالمها الواضحة. وهي التي تكوّن عقل الإنسان. والإنسان –لهذا- لا يملي عليه من خارج الطبيعة، مما وراءها، كما لا يملي عليه من ذاته. إذ ما يأتي من "ما وراء الطبيعة" خداع للحقيقة، وليس حقيقة! وما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة، وليس حقيقة أيضاً! وبناء على ذلك: الدين وهو وحي "ما بعد الطبيعة" – خداع. هو وحي ذلك الموجود، الذي لا يحدده ولا مثله كائن من كائنات الطبيعة. هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية.. وكذلك "المثالية العقلية" وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي. إذ هي تصورات الإنسان عن نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة، التي يعيش فيها، وتدور حوله.

"وإذن ما يتحدث به الإنسان، ككائن شخصي، عن الإنسان، كموضوع للوصف. أو ما يتحدث به الإنسان عن الطبيعة التي يعيش فيها، كموضوع للحكم عليها – مستمداً حديثه عن هذه أو ذاك من معارف الدين، أو المثالية – هو حديث بشيء غير حقيقي، عن شيء حقيقي. هو حديث غير صادق، خضع فيه الإنسان المتحدث إلى خداع الدين بحكم التقاليد، أو إلى "الوهم" بحكم غرور الإنسان بنفسه!

"إن عقل الإنسان –أي ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة، التي تتمثل في: الوراثة، والبيئة، والحياة الاقتصادية، والاجتماعية.. إنه مخلوق. ولكن خالقه الوجود الحسي .. إنه يفكر. ولكن عن تفاعل مع الوجود المحيط به. . إنه مقيد مجبر. وصانع القيد والجبر هو حياته المادية… ليس هناك عقل سابق، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان. عقل الإنسان ومعرفته بوجدان تبعاً لوجود الإنسان. هما انطباع لحياته الحسية المادية.

"الطبيعة تنطق عن نفسها. ويجب على الإنسان أن يعتمد منطقها. إذا أراد أن يعيش فيها. ومنطقها وحده – لا منطق المؤهلين، ولا منطق العقليين، ولا منطق أصحاب النظرية السيكولوجية في معرفة الإنسان – هو الذي يخط الطريق المستقيم في حياة الإنسان فيها. وهو الذي يحدد أهدافه فيها!

"وطريق الإنسان في حياته الطبيعية يبتدئ من الفرد، وينتهي بالجماعة، وإذن: الفرد نفسه ليس غاية. وحياته التي يعيشها ليست هدفاً لسعيه. إنما غايته الأخيرة التي يجب أن يسعى إليها، ويذهب فيها – كما يذهب العابد الصوفي، صاحب عقيدة "الاتحاد" فيما يؤهله ويعبده – هي "الجماعة" وطالما كانت الجماعة هي غاية الفرد الأخيرة، فهي معبوده، وتذهب حريته، لتبقى لها الحرية! وتفنى حياته لتبقى لها الحياة!( )".

"الماركسية": -الجدلية المادية- ولماركس نظرية مادية، تأثر فيها بكومت (من فلاسفة الوضعية). وهو لا ينكر وجود "العقل" كما ينكره المذهب المادي الميكانيكي. ولكنه لا يدعي فحسب أن المادة توجد قبل العقل، بل أيضاً المادة أكثر أهمية واعتباراً من العقل متوقف على المادة في وجوده، ولا يمكن أن يوجد منفصلاً عنها. ونتيجة ذلك: ان ماركس لا يرفض فقط أن يبقى العقل (أو الروح) بعد الجسم – كما يذكر الدين- بل يرفض الفكرة الأساسية في الدين. وهي الإيمان بالله. كموجود أزلي مستقل تماماً ومتجرد تماماً على المادة.. وكحقيقة واضحة: كل دين بالنسبة لماركس – من حيث المبدأ- لعنة. وهو يحدثنا أن "كل دين مخدر للشعب"!

"وتبعية العقل للمادة، يصورها ماركس في صورة: أن العقل انعكاس للمادة، وليس كما يصرح "هيجل" بأن المادة انعكاس للعقل. وهذا يعني أن العقل نوع من المرآة العاكسة للعالم المادي. وهذا التصور الماركسي للحقيقة المادية، على أنها الأصل، يشمل عموم منطق الماركسية كل الأحداث الطبيعية وما يحيط بها من وجهة نظر متعددة، هي القوة المادية الرئيسية أيضاً. أما الأحداث السياسية والاجتماعية، والأخلاقية، فهي انعكاس للأحداث الاقتصادية الراهنة. وماركس وإنجلز، عن وجدا مغزى التاريخ في أحداث الحياة الاجتماعية بصفة عامة، لكنهما ينظران إلى الجانب الاقتصادي بالذات، من بين أحداث هذه الحياة. والأحوال الاقتصادية تبعاً لذلكن هي العوامل المحددة في كل الحالات الاجتماعية، وهي التي تكوّن البواعث الأخيرة، لكل الأعمال الإنسانية في تاريخ الجماعة البشرية.

"وتغير الأحوال الاقتصادية وتطورها يؤثر لذلك – وحده – على حياة الدولة، وعلى سياستها، وكذلك على العلم، والدين. وهكذا كل الإنتاج الثقافي والذهني فرع عن الحياة الاقتصادية. وكل التاريخ لهذا يجب أن يكون تاريخ اقتصاد"( ).

وهكذا انتهت محاولة الهروب من الكنيسة، وتصوراتها الدينية لا المحرفة المشوبة بالأفكار البشرية، وسوء استغلالها لسلطانها باسم الدين .. انتهت أولاً إلى الفلسفة العقلية المثالية – على اختلاف اتجاهاتها ما بين معارضة الدين وإعلان سيطرة العقل في رأي فيشته .. وبين تأييد الدين باعتبار أن الله –سبحانه- عقل! في رأي هيجل – ثم انتهت ثانياً إلى الفلسفة الحسية الوضعية على يد كومت واشتين تال. ثم إلى الجدلية المادية على يد كارل ماركس وزميله إنجلز.

وكان هذا الخط الطويل من الانحراف في الفكر الأوربي نتيجة مباشرة لتشويه التصور الديني بمقولات وتصورات بشرية، من صنع الكنائس والمجامع المتوالية. هذه المقولات التي استغلتها الكنيسة ذلك الاستغلال المنفر البغيض.

وإلا فإن نظرة إلى هذا التخبط في خطواته المتعثرة تكشف للباحث المتثبت أن الهاربين من "الله" – لكي يهربوا من قبضة الكنيسة – لم يصلوا إلى أية حقيقة "مضبوطة" يصح أن تكون عذراً أو حجة لمن يريد أن يقول: إنه يلجأ إلى هذا هروباً من معميات ما وراء الطبيعة!

وإلا فأي شيء "مضبوط" وصلت إليه الفلسفة العقلية المثالية مثلاً؟ ما هو هذا "العقل" الذي وكلت إليه أمر المعرفة بعيداً عن الله وعن الطبيعة؟ ماذا تعرف عن ماهية العقل أو عن خصائصه؟ وماذا تعرف عن طريقة عمله وتأثراته وتأثيراته؟ أين يقع هذا العقل؟ أين يوجد؟ ما طبيعته؟ ما قانونه؟ .. كلها أسئلة لا جواب عليها حتى في القرن العشرين!

ثم هذه المقولات التي ابتدعتها هذه الفلسفة، وجعلتها حتمية، وبنت عليها كل قضاياها؟

"مبدأ النقيض" الذي قام عليه المذهب – والذي اعتمد عليه كارل ماركس فيما بعد – ما هو ؟ ما قيمته الواقعية؟ إنه ليس سوى مقولة عقلية مجردة، لا تتعامل مع الواقع في شيء:

استخدم "فيشته" مبدأ النقيض على النحو التالي.

"تصور الإنسان لنفسه –وحده- هو بداية الطريق. وأشبه بالمقدمات التي تستلزم نتائجها، على النحو الذي حدد به غاية فلسفته. فإذا تصور الإنسان نفسه، أي إذا "أنا" تصورت "أنا" نشا عنه أن "أنا" هو "أنا" و "ما ليس أنا" هو "غير أنا" فهنا "أنا" وهنا أيضاً "ليس أنا". ولكن وجود "ليس أنا" منطو في وجود "أنا الحقيقي" وإذن "أنا" باعتبار أنه يطوى في ذاته وجود "ليس أنا" هو "أنا وليس أنا" .. وتصور الإنسان لنفسه أنتج إذن خطوات ثلاثاً في الفكر – أو ثلاثية!

"وبما أنه ليس هناك في الأصل، عندما تصور الإنسان نفسه، إلا "أنا" فالأشياء الخارجة عن أنفسنا – أي الأشياء التي هي "ليس أنا" – نتصورها فقط عن طريق أن "أنا" يطوى في نفسه حقيقة أخرى، وهي: "ليس أنا". وهذه الأشياء الخارجة عن أنفسنا ليست منطوية فقط في "أنا" بل هي عمل لـ "أنا" ومن إنتاجه"( )!

والآن .. ما الذي يحتم –من الواقع- أن يكون "أنا" هو وحده الموجود. وأن يكون "ليس أنا" لا وجود له ابتداء، إنما هو من عمل "أنا" ومنطو في "أنا"؟ ومن إنتاجه؟

ماذا يحتم هذه المقولة من الواقع؟ لا شيء! وإنما هو مجرد تحكم عقلي من "فيشته" لبناء مذهب! ومن هنا يكون هذا الأساس العقلي "المثالي" لا يتعامل مع الواقع في شيء. وليس له رصيد في حياة البشر! وكان من حق المدرسة الوضعية أن تسخر من هذه "المثالية" التي لا مدلول لها في دنيا الواقع، ولا فاعلية ما في حياة الناس! لولا أنها لم تسخر منها لتأتي بما هو خير. بل بما هو أشد إحالة وأبعد عن الصواب!

إن فيشته يتخذ من المبدأ السابق، الذي لا رصيد له من الواقع كما رأينا، قاعدة يثبت بها أن العقل هو الموجود الحقيقي الذي لا يتوقف وجوده على غيره.

"ومنطق هذا المبدأ – على هذا النحو الذي استخدمه فيشته – أن العقل مستقل تماماً عن غيره. وموجود من أجل نفسه. ووجوده هو وجوده هو، لا وجود غيره. وماهية العقل تتضح إذن من العقل نفسه. وليست مما هو خارج عنه. إذ لو توقف العقل على غيره الخارجي عنه، لكان معنى ذلك أن "ليس أنا" هو نقطة البداية. وفي ذلك إلغاء للعقل نفسه، قبل أن يصل إلى غيره. لأنه لا معنى لوجود "ليس أنا" إلا نفي وجود "أنا" أي نفي العقل"( )!

فما الذي يحتم –من الواقع- أن يكون معنى وجود "ليس أنا" هو نفي وجود "أنا"؟ ولماذا هذا التحتيم؟ إنه مجرد تحكم ينقضه العقل ذاته، حين يتخلص من إسار المذهب!

فإنه ليس هناك ما يمنع –عقلاً- أن يكون "أنا" موجوداً و "ليس أنا" موجوداً كذلك، و يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر !!

ولكن المسألة كلها كانت هي إقامة إله آخر، غير إله الكنيسة! إله ليس له كهنة ولا كرادلة ولا بابا ولا كنيسة! ومن ثم أقيم هذا "العقل" إلها، لا سدنة له ولا كهنة! وهذا هو الهدف النهائي المقصود !!!

كذلك استخدم هيجل مبدأ النقيض، مع استخدام مصطلحات جديدة غير مصطلحات فيشته:

"وإذا كان فيشته قد استخدم مبدأ "النقيض" في دعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة، مقابل الدين أو الطبيعة –على نحو ما رأينا- فـ "هيدل" استخدم نفس المبدأ لتأكيد قيمة العقل. ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد "الوحي" كمصدر أخير "للحقيقة" على اعتبار أن الله عقل. وبدل المصطلحات الثلاثة التي تعرف لـ "فيشته" في استخدامه مبدأ النقيض، والتي تعبر عن الخطوات الثلاث للفكر عند تطبيقه – يعبر هيجل عن ذلك بعبارات خاصة به، هي: الدعوى. ومقابل الدعوى. وجامع الدعوى ومقابلها.

… "فقد تصور – في مجال "الفكرة" – أن هناك فكرة مطلقة أسماها "العقل المطلق" ولهذا العقل المطلق وجود ذاتي أزلي قبل خلق الطبيعة وقبل خلق العقل المنتهي. هذا العقل المطلق هو الله. وقد انبثقت منه "الطبيعة" وهي تغيره. إذ أنها بعيدة متفرقة بينما العقل المطلق واحد وحدة مطلقة من كل قيد. وبوجود الطبيعة ظهرت أو انتقلت "الفكرة" في العقل المطلق غير المحدد، فيما وجوده مقيد محدد. فالطبيعة هي خروج "الفكرة" من دائرتها الأولى. ومن أجل ذلك هي ضرورة وصدفة. وليس فيها حرية واختيار. وتعتبر بذلك مقابلاً ونقيضاً للفكرة في العقل المطلق. وإذا كان العقل المطلق "دعوى" فالطبيعة عندئذ "مقابل الدعوى". و "الفكرة" بذلك انتقلت من المطلق إلى المقيد، أو من النقيض إلى نقيضه. فالفكرة من حيث هي فكرة، انطوت على نقيضها، حتى الآن، ولكن "الفكرة" في الطبيعة، تسعى من جديد لتكسب الوحدة، بعد أن افتقدتها في تفرق الكائنات فيها، وتسعى لتحصيلها وتحقيقها. وتحصيلها هو "العقل المجرد". والعقل المجرد هو نهاية الطبيعة وغايتها. وهو عندئذ جامع الدعوى ومقابل الدعوى!" ( ).

وهذا نموذج كذلك من "المثالية" التي ضاقت بها "الوضعية" في أوربا. وحق لها أن تضيق! وهي هكذا تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، ومع مصطلحات لا رصيد لها من الواقع ولا علاقة لها بالإنسان الواقعي ولا بالحياة الواقعية!

ولكن السادة الوضعيين حين كفروا بغله الكنيسة، ثم كفروا بإله "العقل"، لم إلى ما هو أهدى. لقد أقاموا من الطبيعة إلها .. ولكن ما هي هذه الطبيعة؟ ما هي هذه الطبيعة التي "خلقت" العقل، والتي كما يقولون: "تنقش الحقيقة في العقل"؟ أهي كائن محدد؟ أهي ذات كلية؟ أم هي هذه "الأشياء" المتفرقة من أجرام وأشكال وحركات وهيئات؟ أهي شيء له حقيقة مستقلة عن تصور العقل الإنساني لها؟ أم هي الصورة التي تنطبع في العقل عن المحسوسات التي يدركها؟ أم هي شيء له حقيقة في ذاته، وما ينطبع منها في العقل قد يطابق حقيقتها وقد لا يطابقها؟

وإذا كانت هذه الطبيعة هي التي "خلقت" العقل البشري، فهل هي "خالق" له إيجابية "الخلق" من العدم؟ ولماذا إذن خلقت العقل في الإنسان ولم تخلقه في الحيوان؟ أو في النبات؟ أهي ذات إرادة مميزة مختارة؟ تختار كائناً بعينه من الكائنات لتمنحه هذه المنحة الفريدة؟

أما إذا كانت حقيقتها لا تتجلى إلا في الفكر البشري. أفلا يكون ظهور هذه الحقيقة إذن متوقفاً على وجود العقل البشري؟ فكيف تكون هذه الطبيعة "خالقة" له، بينما هي لا تظهر إلا فيه؟!

ثم إن هؤلاء السادة يحيلوننا على معمى لا ضابط له ولا حدود .. وهم يشيرون إلى الطبيعة !!!

فما الطبيعة؟ أهي مادة هذا الكون؟ وما هي ماهية هذه المادة؟ إن ما كانوا يسمونه "المادة" ويحسبونه شيئاً ثابتاً قد تبين لهم هم أنفسهم أنهم لا يستطيعون تحديد ماهيته. إن المادة تنحل فإذا هي إشعاع. فهل الإشعاع هو الطبيعة. وهو المادة؟ أم إن المادة –والطبيعة كذلك- هي الصورة التي يتجسم فيها هذا الإشعاع؟ إنه لا يثبت على حال هذا الإله! فبينما هو متجسم إذا هو منطلق. وبينما هو منطلق إذا هو متجسم! ففي أي حالة من حالاته يا ترى تكون له القوة الخالقة للعقل البشري؟ وهل هو الذي يخلق كذلك صورة نفسه المتوالية المتحركة أبداً؟ من إشعاع إلى ذرات. ومن ذرات إلى كتل.. ومن كتل إلى ذرات. ومن ذرات إلى إشعاع! – ودع عنك الحياة والخلية الحية والحياة المترقية!- متى يكون لهذا الإله قوة الخلق؟ في أي حالاته؟ ومن الذي خلق الإنسان الذي تخلق الطبيعة عقله؟ أهي خلقته ابتداء؟ أم اكتفت بأن تخلق عقله بعد وجوده؟!

وإذا كانت الطبيعة هي التي "تنقش الحقيقة في العقل الإنساني" .. فلماذا العقل الإنساني بالذات؟ أليست تنطق وتسمعها كل الكائنات الحية؟ فهل يا ترى تنقش هذه الحقيقة كذلك في عقول البغال والحمير والببغاوات والقرود أم لا تنقشها؟ وهل الحقيقة التي نقشتها في عقل الببغاء أو عقل القرد هي ذاتها التي نقشتها في عقل "أوجست كومت" أو عقل كارل ماركس؟!

وإذا كانت الطبيعة هي التي تنقش الحقيقة في العقل الإنساني فما هي الحقيقة الصحيحة؟ هل كانت هذه الحقيقة والعقل يجزم بأن الأرض مركز الكون؟ أم وهو يجزم بأنها ليست سوى تابع صغير من توابع الشمس؟ هل كانت والعقل يجزم بأن المادة هي هذه الأشياء الصلبة المحسة؟ أم وهو يجزم بأن المادة ليست سوى طاقة متجمعة، في صور متحولة؟ هل كانت والعقل يجزم بأن الطبيعة ليست شيئاً سوى "عمل العقل"؟ أم هو يجزم بأن العقل ليس شيئاً سوى انطباع المادة؟

أيّ هذه المقررات العقلية كانت هي الحقيقة التي نقشتها الطبيعة في العقل البشري؟ تراها تخطئ في النقش؟ أم أن العقل نفسه هوا لذي يشوه النقش؟ وهل له إذن فاعلية ذاتية وشخصية مستقلة؟ في حين يقول السادة الوضعيون: إنه ليس شيئاً آخر سوى ما تنقشه هذه الطبيعة؟!

وندع الحياة ونشأتها وأسرارها –كما قلنا- إلى موضع مناقشة هذا السر في التصور الإسلامي والتصورات الأخرى.. ندع الحياة وأسرارها فلا نناقشها هنا ونسأل: أي إله هذا الذي يقدمه لنا السادة الماديون؟ إننا لا نجد بين أيدينا ولا في عقولنا ولا في واقعنا منه شيئاً "مضبوطاً" فلماذا يا ترى نختاره ونلوذ به. وهو هباء لا يثبت على اللمس، ولا يثبت على الرؤية، ولا يثبت على النظر العقلي أيضاً؟ نحن – والحمد لله – لسنا هاربين من الكنيسة؟!!

أما هذا المسخ الذي يثير الاشمئزاز في تصور كارل ماركس وانجلز للحياة البشرية ودوافعها ومجالها الذي تتحرك فيه، وحصرها في حجر "الاقتصاد" فإن الشعور بالاشمئزاز منه يزداد، عندما يقف الإنسان أمام عظمة الكون المادي نفسه. وما فيه من موافقات عظيمة عجيبة، يبدو فيها كلها كأنما هي تمهيد للحياة البشرية بوجه خاص: فلا يتمالك نفسه من الاحتقار والاشمئزاز لمثل هذا التفكير الصغير، ولمثل هذا الشعور الذي لا تروعه عظمة هذا الكون ذاته، ولا تروعه الموافقات الكامنة فيه لاستقبال الحياة البشرية.. فإذا به يدير ظهره لكل هذه العظمة، ولكل هذه الروعة، ليخنس في حجر الاقتصاد، والآلة والإنتاج- لا بوصفها غاية للإنسان ومحركاً فحسب – ولكن بوصفها كذلك العلة الأولى، والإله الخالق، والرب المتصرف، المصرّف لهذه الحياة!

ولكنا نعود بعد ذلك كله فنذكر أن هذا البلاء كله – من مبدئه إلى نهايته- إنما جاء ثمرة طبيعية لانحراف الكنيسة والمجامع بالتصور الرباني. ومحاولة الفكر الأوربي أن يأبق من وجه الكنيسة وإلهها الذي تستطيل به! فنحمد الله أن ظل التصور الإسلامي "الرباني" محفوظاً! وإن لم تقم عليه كنيسة! وإن لم يقع بينه وبين العقل البشري والعلم البشري ذلك الصدام، الذي قادم الفكر الأوروبي إلى هذا التيه وهذا الركام!

ونذكر أن التصور الإسلامي يدع العقل البشري وللعلم البشري ميدانه واسعاً كاملاً – فيما وراء أصل التصور ومقوّماته – ولا يقف دون العقل يصده عن البحث في الكون. بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعاً. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني. بل هو يكل أمر الخلافة كله –في حدود التصور الرباني- للعقل البشري وللعلم البشري.. وندرك مقدار نعمة الله ومقدار رحمته في تفضله علينا بهذا التصور الرباني، وفي إبقائه وحفظه على أصله الرباني..

==================

الثّبات

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم

من الخاصية الأساسية للتصور الإسلامي – خاصية الربانية- تنبثق سائر الخصائص الأخرى. وبما أنه "رباني" صادر من الله، وظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة. وبما أنه ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة من الزمن خاصة، ولا عوامل أرضية على وجه العموم .. إنما هو ذلك الهدى الموهوب للإنسان هبة لدنية خالصة من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان..

بما أنه كذلك. فمن الخاصية فيه تنشأ خاصية أخرى.. خاصية: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت".

هناك "ثبات" في "مقومات" هذا التصور الأساسية، و "قيمه" الذاتية. فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير "ظواهر" الحياة الواقعية، و "أشكال" الأوضاع العملية .. فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكوماً بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور..

ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة. ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت..

وهذه السمة – سمة الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت- هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله – فيما يبدو لنا- لا في التصور الإسلامي وحده.

"مادة" هذا الكون – سواء كانت هي الذرة أو الإشعاع البسيط المنطلق عند تحطيمها، أو أية صورة أخرى – ثابتة الماهية. ولكنها تتحركن فتتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحور والتطور.

والذرة ذات نواة ثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت.

وكل كوكب وكل نجم له مداره، يتحرك فيه حول محوره، حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص.

و "إنسانية" هذا الإنسان، المستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة عن سائر طبائع المخلوقات حوله.. إنسانية هذا الإنسان ثابتة( ). ولكن هذا "الإنسان" يمر بأطوار جنينية شتى من النطفة إلى الشيخوخة! ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من مصدر إنسانيته. ولكن هذه الأطوار وتلك لا تخرجه من حقيقة "إنسانيته" الثابتة. ونوازعها وطاقاتها واستعداداتها المنبثقة من حقيقة إنسانيته.

ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأراضي وتطويره .. حقيقة ثابتة كذلك .. منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته .. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور( ).

وهكذا تبدو سمة: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" سمة عميقة في الصنعة الإلهية كلها. ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي.

ونحن نسبق السياق هنا، فنستعرض نماذج من المقومات والقيم الثابتة في هذا التصور (سيجئ تفصيل الكلام عنها في موضعه في القسم الثاني من هذا البحث) وهي التي تمثل "المحور الثابت" الذي يدور عليه المنهج الإسلامي في إطاره الثابت.

إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية – وهي قاعدة التصور الإسلامي- ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضاً. وغير قابل للتغيير ولا للتطوير:

حقيقة وجود الله، وسرمديته، ووحدانيته –بكل إشعاعاتها- وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته .. إلى آخر صفات الله الفاعلة في الكون والحياة والناس..

وحقيقة أن الكون كله –أشياءه وأحياءه- من خلق الله وإبداعه. أراده الله –سبحانه- فكان. وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون، أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة. ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال..

وحقيقة العبودية لله .. عبودية الأشياء والأحياء .. وعموم هذه العبودية للناس جميعاً. بما فيهم الرسل –عليهم الصلاة والسلام- عبودية مطلقة، لا تتلبس بها أثارة من خصائص الألوهية. مع تساويهم في هذه العبودية..

وحقيقة أن الإيمان بالله – بصفته التي وصف بها نفسه – وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.. شرط لصحة الأعمال وقبولها. وإلا فهي باطلة من الأساس، غير قابلة للتصحيح، ومردودة غير محتسبة وغير مقبولة ..

وحقيقة أن الله لا يقبل من الناس ديناً سواه. وأن الإسلام معناه إفراد الله –سبحانه- بالألوهية وكل خصائصها. والاستسلام لمشيئته، والرضى بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته. وأن هذا هو دينه الذي ارتضاه. لا أي دين سواه.

وحقيقة أن "الإنسان" – بجنسه- مخلوق مكرم على سائر الخلائق في الأرض مستخلف من الله فيها. مسخر له كل ما فيها. ومن ثم فليست هناك قيمة مادية في هذه الأرض تعلو قيمة هذا الإنسان، أو تهدر نم أجلها قيمته..

وحقيقة أن الناس من أصل واحد. ومن ثم فهم –من هذه الناحية- متساوون. وأن القيمة الوحيدة التي يتفاضلون بها – فيما بينهم- هي التقوى والعمل الصالح. لا أية قيمة اخرى، من نسب، أو مال، أو مركز، أو طبقة، أو جنس .. إلى آخر القيم الأرضية.

وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة لله .. بمعنى العبودية المطلقة لله وحده. بكل مقتضيات العبودية، وأولها الائتمار بأمره –وحده- في كل أمور الحياة صغيرها وكبيرا والتوجه إليه –وحده- بكل نية وكل حركة، وكل خالجة وكل عمل. والخلافة في الأرض وفق منهجه- أو بتعبير القرآن وفق دينه – إذ هما تعبيران مترادفان عن حقيقة واحدة..

وحقيقة أن رابطة التجمع الإنساني هي العقيدة، وهي هذا المنهج الإلهي .. لا الجنس، ولا القوم، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة، ولا المصالح الاقتصادية أو السياسية، ولا أي اعتبار آخر من الاعتبارات الأرضية ..

وحقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وأن الإنسان مبتلى وممتحن في كل حركة، وفي كل عملن وفي كل خير يناله أو شر، وفي كل نعمة وفي كل ضر .. وأن مرد الأمور كلها إلى الله..

… هذه وأمثالها من المقومات والقيم – التي سنعرض لها بالتفصيل في مواضعها في القسم الثاني من هذا البحث –كلها ثابتة، غير قابلة للتغير ولا للتطور .. ثابتة لتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها. ولتراعي مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفراداً وجماعات، في جميع الأحوال والأطوار.

وقد تتسع المساحة التي تتجلى فيها مدلولات هذه المقومات والقيم، كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية، وكلما اتسع مجال العلم الإنساني، وكلما تعددت المفاهيم التي تتجلى فيها هذه المقومات والقيم. ولكن أصلها يظل ثابتاً. وتتحرك في إطاره تلك المدلولات والمفاهيم.

حقيقة أن الإنسان مستخلف في هذه الأرض –مثلاً- تتجلى في صور شتى .. تتجلى في صورته وهو يزرع الأرض. لأن أوضاع حياته ومدى تجاربه تجعل الزراعة هي التي تفي في ذلك الطور باحتياجاته الضرورية، وبها تتحقق الخلافة.. وتتجلى كذلك في صورته وهو يفجر الذرة، ويرسل الأقمار الصناعية لتكشف له طبيعة الغلاف الجوي للأرض، أو طبيعة الكواكب والتوابع من حوله .. هذه وتلك – وما بينهما وما بعدهما- صور من صور الخلافة في الأرض، قابلة دائماً للزيادة والاتساع. ولكن حقيقة الخلافة في الأرض ثابتة على كل حال. يقتضي مفهومها الثابت ألا يحال بين الإنسان ومزاولة حقه في الخلافة وفق منهج الله المرسوم. وألا يعلوا شيء في هذه الأرض على "الإنسان". وألا تهدر قيمته "الإنسانية" لينشئ قمراً صناعياً، أو ليضاعف الإنتاج المادي ! فهو سيد الأقمار الصناعية، وسيد الإنتاج المادي!

وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة –مثلاً- تتمثل في كل نشاط يتجه به الإنسان إلى الله. وألوان النشاط غير محدودة. فهي تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. وتتمثل في عبوديته لله وحده، بالتحاكم إلى منهجه وحده، في كل شؤون الحياة. وهذه الشؤون غير محدودة. فهي كذلك تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. ولكن حقيقة الغاية ثابتة لا تتغير. فإذا لم يتجه إلى الله بكل نشاط. وإذا لم يتحاكم إلى منهج الله في كل شأن، فقد أخل بهذه الحقيقة الثابتة، وخرج على غاية وجوده الإنساني. واعتبر عمله باطلاً غير قابل للتصحيح المستأنف، ولا بالقبول من المؤمنين.

وهكذا – على هذا النحو- تتسع مساحة مدلولات هذه المقومات، وتتنوع الصور التي تتجلى فيها .. ولكنها هي ثابتة في التصور الإسلامي، لا يتناولها التغير ولا التطور على كل حال.

وقيمة وجود تصور ثابت للمقومات والقيم على هذا النحو، هي ضبط الحركة البشرية، والتطورات الحيوية. فلا تمضي شاردة على غير هدى – كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة – فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع واللألاء الكاذب، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس.

وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه "الإنسان" بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات. فيزنها بهذا الميزان الثابت. ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب.. ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق!

وقيمته هي وجود "مقوّم" للفكر الإنساني مقوّم منضبط بذاته. يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني. فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هذا المقوم الضابط ثابتاً. فكيف ينضبط به شيء إطلاقاً! إذا دار مع الفكر البشري –كيفما دار- ودار مع الواقع البشري –كيفما دار- فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة. وهي لا ترجع إلى ضابط ثابت. يمسك بهذا الفكر الدوّار؟ أو بهذا الواقع الدوّار؟!

إنها ضرورة من ضرورات صيانة النفس البشرية، والحياة البشرية، أن تتحرك داخل إطار ثابت، وان تدور على محور لا يدور! إنها على هذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تختلف في جرم من الأجرام!

إنها ضرورة لا تظهر كما تظهر اليوم. وقد تركت البشرية هذا الأصل الثابت، وأفلت زمامها من كل ما يشدها إلى محور. وأصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور عليه في هذا المدار. ويوشك أن يصدكم فيدمر نفسه ويصيب الكون كله بالدمار.

"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ..".(المؤمنون: 71)

والعاقل "الواعي" الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم. حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطاً منكراً شنيعاً .. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس! وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس .. يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، وفق أهواء بيوت الأزياء! .. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لاشيء! وتجري وراء أخيله! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من أحجار وأوضار!

لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير!

إنها تقتل "الإنسان" وتحوله إلى آلة .. لتضاعف الإنتاج!

إنها تقضي على مقوماته "الإنسانية" وعلى إحساسه بالجمال والخلق والمعاني السامية لتحقيق الربح لعدد قليل من المرابين وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية وبيوت الأزياء.

وتنظر إلى وجوه الناس، ونظراتهم، وحركاتهم، وأزيائهم، وأفكارهم، وآرائهم، ودعواتهم. فيخيل إليك أنهم هاربون! مطاردون! لا يلوون على شيء، ولا يتثبتون من شيء! ولا يتريثون ليروا شيئاً ما رؤية واضحة صحيحة .. وهم هاربون فعلاً! هاربون من نفوسهم التي بين جنوبهم! هاربون من نفوسهم الجائعة القلقة الحائرة، التي لا تستقر على شيء "ثابت" ولا تدور على محور ثابت، ولا تتحرك في إطار ثابت.. والنفس البشرية لا تستطيع أن تعيش وحدها شاذة عن نظام الكون كله. ولا تملك أن تسعد وهي هكذا شاردة تائهة، لا تطمئن إلى دليل هاد، ولا تستقر على قرار مربح!

وحول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل.. زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحفيين، والكتاب.. يهتفون لها بالمزيد من الصرع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت، وحاولت أن تعود!

زمرة تهتف لها .. التطور .. الانطلاق .. التجديد .. بلا ضوابط ولا حدود .. وتدفعها بكلتا يديها إلى المتاهة كلما قاربت من المثابة .. باسم التطور .. وباسم الانطلاق .. وباسم التجديد..

إنها الجريمة. الجريمة المنكرة في حق البشرية كلها. وفي حق هذا الجيل المنكود)!

وفكرة "التطور" المطلق، لكل الأوضاع، ولكل القيم، ولأصل التصور الذي ترجع إليه القيم. فكرة تناقض –كما قلنا- الأصل الواضح في بناء الكون، وفي بناء الفطرة. ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه .. إنها تمنح حق الوجود، ومبرر الوجود، لكل تصور، ولكل قيمة، ولكل وضع، ولكل نظام. ما دام تالياً في الوجود الزمني! وهو مبرر تافه، عرضي، لا ينبغي أن يكون له وزن في الحكم على تصور أو وضع أو قيمة أو نظام. إنما ينبغي أن يكون الوزن لمقومات ذاتية في ذات الوضع أو ذات النظام.

إن "الثبات" في مقومات التصور الإسلامي وقيمه – فضلاً على أنه امتداد للنظام الكوني- هو الذي يضمن للحياة الإسلامية خاصية "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" فيضمن للفكر الإسلامي وللحياة الإسلامية مزية التناسق مع النظام الكوني العام، ويقيه شر الفساد الذي يصيب الكون كله لو اتبع أهواء البشر، بلا ضابط من قاعدة ثابتة لا تتأرجح مع الأهواء.

وهو الذي يقي الفكر الإسلامي ويقي المجتمع الإسلامي مثل تلك اللوثة في الفكر الماركسي وفي الجماعة الشيوعية. وهي اللوثة ذاتها التي أصابت الفكر الغربي والمجتمعات الغربية بصفة عامة – حتى وهي تعارض الماركسية من الناحية المذهبية والسياسية – وذلك منذ أفلتت من نطاق العقيدة، في ظل تلك الملابسات النكدة..

وهو الذي يبث الطمأنينة في الضمير المسلم، وفي المجتمع المسلم .. الطمأنينة إلى ثبات الإطار الذي تتحرك فيه حياته، وثبات المحور الذي تدور حياته حوله. فيشعر أن حركته إلى الأمام، ثابتة الخطو، موصولة الخيط، ممتدة من الأمس إلى اليوم إلى الغد. نامية مطردة النمو. صاعدة في المرتقى المرسوم، بالتقدير الإلهي القويم.

ثم هو –في النهاية- الذي يضمن للمسلم في المجتمع الإسلامي مبادئ ثابتة يتحاكم إليها هو وحكامه على السواء. فلا يطلق هؤلاء أيديهم في مقوماته وحرياته وحقوقه، في مقابل أن يطلقوا هم حرية الشهوات والنزوات الحيوانية للجماهير المكبوتة في قماقم الاستبداد!

وبعد فإن التصور الإسلامي – من ثم- يقوم على أساس أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية. ولا علاقة للزمان أو للمكان في تقدير قيمة هاتين الحالتين. إنما القيمة لذات كل حالة. ولوزنها في ميزان الله الثابت، الذي لا يتأثر بالزمان والمكان..

حالتان اثنتان تتعاوران الحياة البشرية على مدى الزمان واختلاف المكان: حالة الهدى وحالة الضلال – مهما تنوعت ألوان الضلال – حالة الحق وحالة الباطل – مهما تنوعت ألوان الباطل – حالة النور وحالة الظلام- مهما تنوعت ألوان الظلام- حالة الشريعة وحالة الهوى مهما تنوعت ألوان الهوى – حالة الإسلام وحالة الإسلام وحالة الجاهلية – مهما تنوعت ألوان الجاهلية- حالة الإيمان وحالة الكفر – مهما تنوعت ألوان الكفر – وإما يلتزم الناس الإسلام ديناً (أي منهجاً للحياة ونظاماً) وإلا فهو الكفر والجاهلية والهوى والظلام والباطل والضلال.

"إن الدين عند الله الإسلام" …(آل عمران: 19)

"ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" …(آل عمران: 85)

"فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ …(يونس: 32)

"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" …(الجاثية: 18)

فإذا ثبت هذا الإطار استطاعت الحياة – فكرة وتصوراً وواقعاً ونظاماً – أن تتحرك في داخله بحرية ومرونة، واستجابة لكل تطور فطري صحيح، مستمد من التصور الكلي الثابت القويم.

والقيمة الكبرى لهذه الخاصية، هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره، فتقوم عليه الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في استقرار وثبات. مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي الأنظمة والأوضاع. فلا تتجمد في قالب حديدي ميت – كالذي أرادته الكنيسة في العصور الوسطى – ولا تنفلت كذلك من كل ضابط انفلات النجم الهالك من مداره وفلكه! وانفلات القطيع الشارد في المهلكة المقطوعة! كما صنعت أوربا في تاريخها الحديث، حتى انتهت إلى ذلك التفكير الشائه!

ولعل هذه الخاصية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى ألف عام. على الرغم من جميع الهزات، ومن جميع الضربات، ومن جميع الهجمات الوحشية عليه من أعدائه المحيطين به في كل مكان .. ولم يبدأ تفككه وضعفه إلا منذ أن تخلى عن هذه الخاصية في تصوره، وإلا منذ أن أفلح أعداؤه في تنحية التوجيه الإسلامي، وإحلال التوجيهات الغربية مكانه في العالم الإسلامي( ).

ومما لا شك فيه أن المجتمع الذي يجري دائماً وراء تصورات متقلبة أبداً، لا تستند إلى أصل ثابت إطلاقاً، تنبع من الفكر البشري المحدود المعرفة، الظنى المعرفة كذلك، الذي يبني علمه –مهما علم- على الظن والحدس والخرص، والفروض المتقلبة أبداً .. ثم يجعل من هذا العلم الظني إلهاً، او يجعل من الهوى المتقلب إلهاً، يتلقى منه التصورات والقيم والموازين.

مما لا شك فيه أن مجتمعاً كهذا معرض دائماً للهزات العنيفة، والأرجحة المستمرة، التي تنشئ في عقله الحيرة، وفي ضميره البلبلة، وفي أعصابه التعب، وفي حياته الشرود، وفي كيانه الفساد.

وهذا هو الذي حدث في المجتمعات الأوروبية المفلتة من كل أصل ثابت. وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم. وهي تخبط في التيه، وراء المجتمعات الأوروبية الشاردة( )!

لابد من تصور ثابت المقومات والقيم، يجئ من مصدر ثابت العلم والإرادة! مصدر يرى المجال كله، والخط كله، فلا تخفى عليه منحنيات الدرب، ولا يقدر اليوم تقديراً يظهر في غد خطؤه ونقصه، ولا تتلبس به شهوة أو هوى يؤثر في موازينه وتقديراته .. ولا ضير بعد هذا من الحركة، والتغير، والتطور، والنمو والترقي.. بل تصبح كلها مطلوبة، وتصبح كلها مأمونه، وتصبح كلها تلبية للفطرة: القائمة على الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت. ولكنها حركة راشدة واعية، مدركة للغاية الثابتة التي تتجه إليها، في خطو متزن، مستقيم راسخ.. وهذا هو ضمان الحياة الطويلة المدى، المتناسقة التصميم.

ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي، ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي – خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت – فخاطر التجمد لا يرد على مثل هذا التصور، ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره. فالحركة كما قلنا هي القاعدة فيه، كما أنها هي القاعدة في التصميم الكوني. والكون لا يتجمد ولا يأسن ولا يفسد ولا يركد. فهو في حركة دائمة، وفي تغير دائم، وفي تطور دائم، وفي تشكل مستمر في كل لحظة. ولكنه يتحرك مع استبقاء حقيقته الأصيلة كما قلنا في مطلع هذه الفقرة.

ونحن نقول، إن الخسارة لن ترجع علينا – نحن المسلمين وحدنا- ولكنها سترجع على البشرية كلها .. سترجع على البشرية كلها بتشويه وتحريف المصدر الوحيد الباقي لها من هداية الله. وتكدير – أو تسميم – المورد الوحيد، الذي يمكن أن تستقي منه الهدى الرباني الخالص .. وسترجع البشرية كلها بحرمانها هذه المثابة الثابتة المستقرة، في الأرض المرجرجة التي تمور بالأهواء. والتي ظهر فيها الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولم تعد لها منجاة إلا في هذه المثابة الآمنة المستقرة، الموصولة بالله..

والذين يحاولون زعزعة هذه المثابة .. سواء باسم التجديد والإصلاح والتطور، أو باسم التخلص من مخلفات القرون الوسطى! أو تحت أي شعار آخر، هم: أعداؤنا الحقيقيون. هم أعداء الجنس البشري. وهم الذين ينبغي أن نطاردهم، وأن نطلب إلى الجنس البشري مطاردتهم كذلك!

إنهم يتحدثون باسم "التقدمية" ضد "الرجعية" في حين أنهم لا يزالون يقتاتون على نتاج القرن التاسع عشر، أو القرن الثامن عشر – نتاج أوربا لا نتاجهم! – ولم يصلوا بعد إلى نتاج القرن العشرين" إنهم متخلفون في تفكيرهم نصف قرن على الأقل. لم يعلموا بعد أن التفكير المضاد للماركسية، وللحيوانية، قد أخذ يبدو كظاهرة عامة في الفكر الأوربي نفسه، بينما هم يتعبدون لمادية وجدلية الفكر الماركسي ومشتقاته! ولنشوء وارتقاء دارون ومشتقاته! إنهم "رجعيون" يزعمون أنهم "تقدميون"! بينما "التقدمية" الحقيقية اليوم تجد نفسها مضطرة أن تعود إلى الدين. تتطلب عنده الطمأنينة والراحة واليقين. بعد الحيرة والقلق والشرود خلال ثلاثة قرون!

ونحن الذين وقانا الله شر تلك الملابسات التاريخية التي شردت الفكر الغربي في مجاهل التيه.. نكون أحمق الحمقى إذا نحن شردنا في التيه مختارين بدون عذر ولا سبب ولا ملابسة من ملابسات التاريخ!

ولا نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب، بل نكون مضيعين للبشرية كلها، حين نُفقدها المثابة الثابتة، التي يمكن أن تفئ إليها ذات يوم. فنجد عندها الأمن والطمأنينة والاستقرار، بعد طول الشرود والقلق والعثار.

فلنقدر تبعتنا الخطيرة تجاه أنفسنا وتجاه البشرية كلها في هذا الأمر الخطير.

===================

الشُّمُول

قال تعالى :" {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (12) سورة يــس "

والخاصية الثالثة من خصائص التصور الإسلامي هي .. الشمول .. وهي كذلك ناشئة من طبيعة الخاصية الأولى: خاصية أنه رباني، من صنع الله لا من صنع الإنسان.. والشمول طابع الصنعة الإلهية الأصيل!

فالإنسان لأنه أولاً محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان .. إذ هو حادث زمن، يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث. ومتحيز في مكان، سواء كان فرداً أو كان جيلاً أو كان جنساً، لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان – كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان – ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك .. يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدود كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك –كما أسلفنا- ولأنه فوق أنه محدود الكينونة – بهذه الاعتبارات كلها- محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته – فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله…

الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجئ تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها .. يجئ تفكيره جزئياً .. يصلح لزمان ولا يصلح لآخر. ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر. ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر .. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه .. لأنه هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه .. وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان!

وكذلك لا يمكن أن تجئ فكرة بشرية، ولا أن تجئ منهج من صنع البشرية يتمثل فيه "الشمول" أبداً .. إنما هو تفكير جزئي. وتفكير وقتي. ومن جزئيته يقع النقص، ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يختم التغيير، ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام "التناقض" أو دوام "الجدل" المتمثل في التاريخ الأوربي!

فأما حين يتولى الله –سبحانه- ذلك كله .. فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق فيه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت .. وهكذا كان "الشمول" خاصية من خواص "التصور الإسلامي".

وتتمثل خاصية الشمول التي يتسم بها هذا التصور في صور شتى:

إحدى هذه الصور وأكبرها: رد هذا الوجود كله .. بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل انبثاقة فيه، وكل تحور وكل تغير وكل تطور. والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه .. إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة .. هذه الذات. المريدة، القادرة، المطلقة المشيئة، المبدعة لهذا الكون، ولكل شيء فيه ولكل حي، ولكل حركة، وكل انبثاقة، وكل تحور، وكل تغير، وكل تطور. بقدر خاص .. وكل انبثاق وليد ..

وهذه هي حقيقة "التوحيد" الكبيرة، التي هي المقوّم الأول للتصور الإسلامي .. وتقرير هذه الحقيقة يشغل مساحة واسعة من القرآن الكريم. لا نملك أن نستعرضها هنا. فسيجئ بعضها عند ذكر خاصية "الإيجابية" في هذا القسم. كما سيجئ بعضها الآخر عند ذكر خاصية التوحيد في نهاية هذا القسم من البحث. ثم يجئ التفصيل الكامل بوصفها المقوّم الأول من مقوّمات التصور الإسلامي، في القسم الثاني من هذا البحث الخاص بالمقومات. فنكتفي هنا بتقدير قيمة هذه الخاصية:

إن هذا التصور – عن طريق خاصية الشمول في صورتها هذه – يملك أن يعطينا تفسيراً مفهوماً. لوجود هذا الكون ابتداء. ثم لكل حركة فيه بعد ذلك وكل انبثاقة … ويعطينا -على الأخص- تفسيراً مفهوماً لانبثاق ظاهرة "الحياة" في المادة الصماء. وهي بدون شك شيء آخر غير المادة الصماء. شئ هائل. وشئ عجيب. وشئ مقصود. وبين خصائصه المادة الصماء من الأبعاد، ما يلي مباشرة ما بين العدم والوجود من الأبعاد.

إن هذا الكون يواجه الكينونة الإنسانية ابتداء بوجوده! ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا الوجود. ثم يواجهها بتناسقه وتوازنه وموافقاته العجيبة – التي يستحيل أن تأتي بها المصادفة- فللمصادفة كذلك قانون يستحيل معه أن تتجمع هذه الموافقات كلها مصادفة( ). ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا التناسق والتوازن والموافقات العجيبة!…

والحياة – كذلك تواجه الكينونة الإنسانية بعلامات استفهام كثيرة، لا تقل –إن لم تزد عمقاً- عن علامات الاستفهام التي يثيرها الكون بوجوده وبتناسقه:

هذه الحياة كيف انبثقت في المادة الميتة؟ وكيف سارت –وتسير- سيرتها هذه العجيبة المحوطة بآلاف الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق؟

إن التصور الإسلامي هو –وحده- الذي يملك أن يقدم لنا التفسير المفهوم لكل هذه الموافقات في "تصميم الكون". هو الذي يملك أن يقدم لنا تفسيراً نواجه به كل علامة استفهام عن وجود هذا الكون ابتداء، وعن كل انبثاقة تقع فيه. كما أنه هو الذي يملك أن يفسر لنا سر انبثاق الحياة في المادة الميتة، وسر سيرتها هذه السيرة العجيبة. دون أن نضطر إلى الهروب من سؤال واحد، أو إلى المماحكة والمماحلة والإحلالة إلى جهات غير محددة المفهوم – كالإحالة إلى الطبيعة!

إن المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري. فكيف وجد هذا العالم؟ كيف وجدت هذه "الطبيعة" إن كانوا يعنون بها الوجود المادي؟ كيف يعبر العقل البشري هذه المسافة الهائلة إلا بالإحالة على الإرادة المبدعة، التي تقول للشيء: كن فيكون؟ إنه إذا لم يعترف بهذه الإرادة المبدعة عجز تماماً عن التعليل والتفسير. أو تخبط تخبط الفلاسفة في شتى العصور!

والمسافة بين المادة الجامدة والخلية الحية تلي المسافة التي بين الوجود والعدم. إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدعة، التي تنشئ ما تريد إنشاء، وتبدعه إبداعاً. إرادة الله "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".

والعقل البشري، والكينونة البشرية كلها تجد في هذا الجواب ما يريح. لأنه مفر من أن تجئ الحياة إلى المادة الميتة من مصدر آخر غير المادة الميتة الفاقدة للحياة. ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا يمكن القول بأن الحياة خاصية من خواص المادة الكامنة فيها .. وإلا فكيف ظلت كامنة فيها ما لا يحصى من السنين، لتظهر في وقت معلوم، دون مدبر وراءها ودون قصد مرسوم؟!

وحسبنا هذه العجالة عن الكون والحياة في هذا الموضع، فسيجئ الكلام المفصل عنها في موضعه في القسم الثاني. ولنعد إلى خاصية الشمول التي نتحدث عنها، والتي تتجلى في رد كل شيء في هذا الكون إلى الله. وشمول إرادته وتدبيره وهيمنته وسلطانه لكل شيء.. فنورد بعض النصوص القرآنية التي ترسم هذه الخاصية:

"إنا كل شيء خلقناه بقدر" (القمر: 49)

"خلق كل شيء فقدره تقديراً" (الفرقان: 2)

وحسبنا أن نقول: إن التصور الإسلامي – عن طريق هذه الخاصية في صورتها هذه- يمنح القلب والعقل راحة وطمأنينة، واتصالاً بحقيقة المؤثرات الفاعلة في هذا الوجود – كما هي في عالم الحقيقة والواقع – ويعفى الفكر البشري من الضرب في التيه بلا دليل، ومن الإحالة على أسباب غير مضبوطة – وأحياناً غير موجودة- كالإحالة على "الطبيعة"! أو الإحالة على "العقل"! أو الإحالة على كائنات أسطورية كالتي تصورتها الوثنيات، وتلبست بها الفلسفات، على مدار التاريخ.

وذلك كله فضلاً على العنصر الأخلاقي الذي ينشئه هذا التصور ويثبته، في القلب البشري وفي الحياة البشرية. وهو يرد خيوط الكون والحياة كلها إلى يد الله، ورقابته، وهيمنته، وسلطانه (مما سنفصل الحديث عنه في خاصية الإيجابية).

وصورة أخرى من صور خاصية الشمول في التصور الإسلامي .. فهو كما يتحدث عن حقيقة الألوهية وخصائصها وآثارها وصفاتها، باعتبارها الحقيقة الأولى، والحقيقة الكبرى، والحقيقة الأساسية في هذا التصور.. كذلك يتحدث عن حقيقة العبودية وخصائصها وصفاتها. يتحدث عن هذه الحقيقة ممثلة في الكون، والحياة، والإنسان. فيتحدث عن حقيقة الكون، وعن حقيقة الحياة، وعن حقيقة الإنسان، ويتناول – في هذا الحديث- طبيعتها ونشأتها وصفاتها وأحوالها، وعلاقاتها فيما بينها، ثم علاقتها بالحقيقة الإلهية الكبرى.

ويربط بين مجموع تلك الحقائق، من جميع جوانبها، في تصور واحد منطقي فطري، يتعامل مع بديهة الإنسان وفكره ووجدانه، ومع مجموع الكينونة البشرية في يسر وسهولة.

وهكذا تتكون من مجموعة الحقائق التي يتناولها هذا التصور في شمول وسعة ودقة وتفصيل، وصورة كاملة شاملة، وتفسير جامع مفصل، لا يحتاج إلى إضافة من مصدر آخر. بل لا يقبل إضافة من مصدر آخر. لأنه أوسع وأشمل، وأدق وأعمق، وأكثر تناسقاً وتكاملاً من كل مصدر آخر..

ولقد وقع الفساد في التصور الإسلامي، ووقع التعقيد والتخليط، حينما شاء جماعة ممن عرفوا في التاريخ باسم "فلاسفة الإسلام" أن يستعيروا بعض التصورات الفلسفية الإغريقية، وبعض المصطلحات – وبخاصة من أرسطو وأفلوطين وبعض اللاهوتيين المسيحيين – ويدخلوها في جسم "التصور الإسلامي"!

إن هذا التصور من الشمول والسعة، ومن الدقة والعمق، ومن الأصالة والتناسق بحيث يرفض كل عنصر غريب عليه، ولو كان هذا العنصر "إصطلاحاً" تعبيرياً من الاصطلاحات التي تقتضيها أزياء التفكير الأجنبية. فكل اصطلاح له تاريخ معين، وله إيحاءات معينة مستمدة من ذلك التاريخ، ولا يمكن تجريده من هذه الملابسات، والزج به في مجال جديد، منقطع عن تاريخه.. وللتصور الإسلامي اصطلاحاته الخاصة المتفقة في طبيعة اشتقاقها اللغوي، وفي ملابساتها التاريخية والموضوعية، مع طبيعته وإيحاءاته .. وهذه ظاهرة دقيقة، تحتاج إلى حس لطيف، يدرك مقتضيات هذا التصور في الشعور، ومقتضياته كذلك في التعبير.

إن هذا التصور يقوم ابتداء على تعريف الناس بربهم تعريفاً دقيقاً كاملاً شاملاً يعرّفهم بذاته سبحانه، ويعرفهم بصفاته، ويعرفهم بخصائص الألوهية المتفردة، التي تَفْرِقها تماماً من خصائص العبودية. كما يعرفهم بأثر هذه الألوهية في الكون، وفي الناس، وفي جميع العوالم والأمم الحية. ويتم هذا التعريف على نطاق واسع جداً في القرآن الكريم، يصبح معه الوجود الإلهي في النفس البشرية، وجوداً أكيداً واضحاً، موحياً، مؤثراً، يأخذ النفس من أقطارها جميعاً، وتعيش معه النفس مشدودة إليه، لا تملك التفلت منه، ولا نسيانه، ولا إغفاله، لأنه من القوة والوضوح والفاعلية، بحيث يواجه النفس دائماً، ويتراءى لها دائماً، ويؤثر فيها دائماً:

"الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين".(الفاتحة: 2-4)

"الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم. له ما في السموات وما في الأرض. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وسع كرسيه السماوات والأرض. ولا يؤوده حفظهما. وهو العلي العظيم". (البقرة: 255)

وصورة ثالثة من صور الشمول في التصور الإسلامي. فهو إذ يرد أمر الكون كله. وأمر الحياة والأحياء، وأمر الإنسان والأشياء.. إلى إرادة واحدة شاملة.. وإذا يتناول الحقائق الكلية كلها: حقيقة الألوهية – الحقيقة الأولى والكبرى والأساسية- وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، بمثل ذلك الشمول الذي أشرنا إليه

هذا التصور إذا يتناول الأمور على هذا النحو الشامل –بكل معاني الشمول- يخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وكل اتجاهاتها. ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها. جهة واحدة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبغي رضاها. جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء..

كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها. وتجد إجابة على كل سؤال يجيش فيها، وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام..

عندئذ تتجمع هذه الكينونة .. تتجمع شعوراً وسلوكاً، وتصوراً واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقاً، ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق، ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!

والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها، لأنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق -سبحانه- والوحدة هي حقيقة هذا الكون –على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال- والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء- على تنوع الأجناس والأنواع –والوحدة هي حقيقة الإنسان على تنوع الأفراد والاستعدادات- والوحدة هي غاية الوجود الإنساني –وهي العبادة- على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها- وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود ..

وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة" في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية، وفي أوج تناسقها –كذلك- مع "حقيقة" هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه، ومع "حقيقة" كل شيء في هذا الوجود، مما تؤثر فيه وتتأثر به .. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار.

وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدواراً، عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كتاب التاريخ الإنساني..

وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى – وهي لابد كائنة بإذن الله- سيصنع الله بها الكثير. مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم: لأنها من صميم قوة هذا الكون، وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضاً..

ومن مظاهر ذلك التجمع في الكينونة الإنسانية، أن يصبح النشاط الإنساني كله حركة واحدة، متجهة إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني .. العبادة .. العبادة التي تتمثل فيها عبودية الإنسان لله وحده في كل ما ينهض به من شؤون الخلافة..

وهذا التجمع النفسي والحركي هو ميزة الإسلام الكبرى. بما أنه يتناول بالتفسير كل الحقائق التي تواجه النفس البشرية في الكون كله، ويتناول بالتوجيه كل جوانب النشاط الإنساني. ففي الإسلام – وحده- يملك الإنسان أن يعيش لدنياه وهو يعيش لآخرته، وأن يعمل لله وهو يعمل لمعاشه، وأن يحقق كماله الإنساني الذي يطلبه الدين، في مزاولة نشاطه اليومي في خلافة الأرض، وفي تدبير أمر الرزق. ولا يتطلب منه هذا إلا أمراً واحداً: أن يخلص العبودية لله في الشعائر التعبدية وفي خالجة، وكل عمل وكل نية، وكل نشاط وكل اتجاه. مع التأكد من أنه لا يتجاوز دائرة الحلال الواسعة، التي تشمل كل طيبات الحياة.. فالله خلق الإنسان بكل طاقاته لتنشط كلها، وتعمل كلها، وتؤدي دورها.. ومن خلال عمل هذه الطاقات مجتمعة، يحقق الإنسان غاية وجوده، في راحة ويسر، وفي طمأنينة وسلام، وفي حرية كاملة منشئوها العبودية لله وحده.

وبهذه الخاصية صلح الإسلام أن يكون منهج حياة شاملاً متكاملاً. منهجاً يشمل الاعتقاد في الضمير، والتنظيم في الحياة – لا بدون تعارض بينهما- بل في ترابط وتداخل يعز فصله، لأنه حزمة واحدة في طبيعة هذا الدين، ولأن فصله هو تمزيق وإفساد لهذا الدين.

إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و "معاملات" مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة "الفقه". ومع انه كان المقصود به –في أول الأمر- مجرد التقسيم "الفني"، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه –مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثار سيئة في التصور، تبعته – بعد فترة – آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات". بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات"! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لاشك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.

ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة. أو يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً.

وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية وتشريعات الأسرة.. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج…

ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان .. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية – التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني – إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني، فيتم بذلك إفراد الله –سبحانه- بالألوهية، والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة. لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!

وأنواع النشاط التي أطلق عليها "الفقهاء" اسم "العبادات" وخصوصاً بهذه الصفة – على غير مفهوم التصور الإسلامي – حين تراجع مواضعها في القرآن تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملات" .. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني. وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله – سبحانه- بالألوهية.

إن ذلك التقسيم –مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" –وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزالون كل نشاط "المعاملات" وفق منهج آخر. لا يتلقونه من الله. ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة، ما لم يأذن به الله!

وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين – على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة. أو بتعبير آخر يخرج من هذا الدين..

وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني.

إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني – وإن كل هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة، يقوم عليها بناء الحياة كله – بل إن أهميتها تتجلى كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها –صغر أم كبر- جزءاً من هذه العبادة، أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامل فيه، وهو إفراد الله – سبحانه- بالألوهية، والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي تلقى الوحي من الله. وحالة الإسراء والمعراج أيضاً:"تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً". (سورة الفرقان:1)

وبعد فإن هذا الشمول –بكل صوره- فوق أنه مريح للفطرة البشرية، لأنه يواجهها بمثل طبيعتها الموحدة، ولا يكلفها عنتاً، ولا يفرقها مزقاً.. هو في الوقت ذاته يعصمها من الاتجاه لغير الله في أي شأن وفي أية لحظة، أو قبول أية سيطرة تستعلي عليها بغير سلطان الله، وفي حدود منهج الله وشريعته. في أي جانب من جوانب الحياة. فليس الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده في أمر "العبادات" الفردية، ولا في أمر الآخرة –وحدهما – بل الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده، في الدنيا والآخرة. في السماوات والأرض. في عالم الغيب وعالم الشهادة. في العمل والصلاة.. وفي كل نَفَس، وكل حركة، وكل خالجة، وكل خطوة، وكل اتجاه:

==================

التوازن

قال تعالى :{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (3) سورة الملك

والخاصية الرابعة في هذا التصور هي .. التوازن .. التوازن في مقوماته، والتوازن في إيحاءاته. وهي تتصل بخاصية "الشمول" التي سبق الحديث عنها. فهو تصور شامل. وهو شمول متوازن.

وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك. هذه الآفات التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سوءا التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية، بما أضافته إليها، أو نقصته منها، أو أوّلته تأويلاً خاطئاً، وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة‍

وتتمثل هذه الخاصية في عدة موازنات، نذكر منها أبرزها:

هناك التوازن بين الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه وتسلم به، وينتهي عملها فيه عند التسليم، والجانب الذي تتلقاه لتدركه، وتبحث حججه وبراهينه، وتحاول معرفة علله وغاياته وتفكر في مقتضياته العملية، وتطبقها في حياتها الواقعية.

والفطرة البشرية تستريح لهذا ولهذا، لأن كليهما يلبي فيها جانباً أصيلاً، مودعاً فيها وهي تخرج من يد بارئها. وقد علم الله أن الإدراك البشري لن يتسع لكل أسرار هذا الوجود، ولن يقوى على إدراكها كلها، فأودع فطرته الارتياح للمجهول، والارتياح للمعلوم، والتوازن بين هذا وذاك في كيانها، كالتوازن بين هذا وذاك في صميم الوجود.

إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة .. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة‍! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي. والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئاً مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه.. والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك، وتتوازن بها الفطرة، وهي تجد في العقيدة كفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق.

فإذا كانت ماهية الذات الإلهية. وكيفية تعلق إرادة الله بالخلق وحقيقة الروح .. من الحقائق التي لا سبيل إلى الإحاطة بها –كما أسلفنا-( )فهناك خصائص الذات الإلهية: من وجود، ووحدانية، وقدرة، وإرادة، وخلق، وتدبير … وكلها مما يعمل الفكر البشري في إدراكه، ومما يستطيع أن يدرك ضرورته ومقتضياته في الوجود. والإسلام يعرض هذه الخصائص ببراهينها المقنعة.. وهناك "الكون" وحقيقته، ومصدر وجوده، وعلاقته بخالقه، وعبوديته له، واستعداده لاستقبال الحياة، وعلاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به.. وهناك "الحياة" بشتى أنواعها وأجناسها وأشكالها ودرجاتها، ومصدرها، وعلاقتها بطبيعة الكون، وعلاقتها بمبدعه ومبدعها.. وهناك "الإنسان" وحقيقته، وخصائصه ومصدره، وغاية وجوده، ومنهج حياته.. وكلها ترد في منطق مفهوم واضح، مريح للعقل والقلب. مدعم بالبراهين التي تتلقاها الفطرة بالقبول والتسليم:

"أم خُلِقُوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون؟ أم خَلقُوا السماوات والأرض؟ بل لا يوقنون". (الطور: 35-36)

"أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟ لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون! لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون".(الأنبياء: 21-24)

"أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون". (يس: 81، 82)

"وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه. قال: من يحي العظام وهي رميم؟ قل: يحيها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم". (يس: 78، 79)

وهكذا تجد الفطرة البشرية في التصور الإسلامي ما يلبي أشواقها كلها: من معلوم ومجهول، ومن غيب لا تحيط به الأفهام ولا تراه الأبصار، ومكشوف تجول فيه العقول وتتدبره القلوب. ومن مجال أوسع من إدراكها تستشعر إزاءه جلال الخالق الكبير، ومجال يعمل فيه إدراكها وتستشعر إزاءه قيمة الإنسان في الكون وكرامته على الله.

وتتوازن الكينونة الإنسانية بهذا وذلك، وهي تؤمن بالمجهول الكبير، وهي تتدبر المعلوم الكبير..

والتوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية.. فالمشيئة الإلهية طليقة، لا يرد عليها قيد ما، مما يخطر على الفكر البشري جملة. وهي تبدع كل شيء بمجرد توجهها إلى إبداعه. وليست هنالك قاعدة ملزمة، ولا قالب مفروض تلتزمه المشيئة الإلهية، حين تريد أن تفعل ما تريد:"إنما قولنا لشيء –إذا أردناه- أن نقول له: كن. فيكون".(النحل: 40)

وفي الوقت ذاته شاءت الإرادة الإلهية المدبرة، أن تتبدى للناس – عادة – في صورة نواميس مطردة، وسنن جارية، يملكون أن يرقبوها، ويدركوها، ويكيفوا حياتهم وفقها، ويتعاملوا مع الكون على أساسها.. على أن يبقى في تصورهم ومشاعرهم أن مشيئة الله – مع هذا- طليقة، تبدع ما تشاء، وأن الله يفعل ما يريد، ولو لم يكن جارياً على ما اعتادوا هم أن يروا المشيئة متجلية فيه، من السنن المقررة والنواميس المطردة. فسنّة كذلك –وراء السنن كلها- أن هذه المشيئة مطلقة، مهما تجلت في نواميس مطردة وسنن جارية – ومن ثم يوجه الله الأبصار والبصائر إلى تدبر سننه في الكون، والتعامل معها، والنظر في مآلاتها – بقدر ما يملك الإدراك البشري- والانتفاع بهذا النظر في الحياة الواقعة:

"قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق. فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر".(البقرة: 258)

"لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار". (يس: 40)

وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، يقف الضمير البشري على ارض ثابتة مستقرة، يعمل فيها، وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها منهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئاً، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبداً. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله –سبحانه- محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور!

والمسلم يأخذ بالأسباب، لأنه مأمور بالأخذ بها، ويعمل وفق السنة، لأنه مأمور بمراعاتها. لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج. فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب .. طاعة لأمر الله.

وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته. فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال. موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان.

والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة.. وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية "القضاء والقدر" أو الجبر والاختيار.

والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة –كما أسلفنا- ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها، ولا معها – كما بينّا ذلك في خاصية الشمول وكما سيجئ في خاصية الإيجابية – وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية، الإيجابية – كما سنفصل ذلك في خاصية "الإيجابية" – ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزاً ممتازاً في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير. ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة. وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة. وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه (على نحو ما سنفصل في خاصية "الإيجابية").

ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم:"ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير". (الحديد: 22)

إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصّرف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله.. كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر .. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثون فيها من تغييرات.

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11)

وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج.

ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض، حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا، عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى، وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية، في مجال الذي لا دليل لنا فيه، غير ما يطلعنا الله عليه منه ..

فهو قال: "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً" .. وهو قال: "وما يشاءون إلا أن يشاء الله" ..

وهو قال: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره" .. وهو قال: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء".(الأنعام: 125)

إن الإسلام يقول: إن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وإن الآخرة دار حساب وجزاء. والحياة في هذه الأرض مرحلة محدودة في الرحلة الطويلة. وما يقع للإنسان في هذه الأرض ليس خاتمة الحساب ولا نهاية المطاف. إنما هو مقدمة لها ما بعدها. واختبار تقدر له درجته هناك في دار الحساب.

بهذا يحل الإسلام الجانب الشعوري من هذه المشكلة في الضمير البشري، ويكسب فيه الطمأنينة والاستقرار. فالألم الذي يلقاه الخيّر في هذه الأرض من جراء وجود الشر والنقص فيها، ليس هو كل نصيبه، فهناك النصيب الذي يعادل بين كفتي الميزان في شطري الرحلة، والشطران موصولان. تسيطر عليهما إرادة واحدة. ويحكم فيهما حكم واحد لا يند عن علمه شيء ولا يختل في ميزانه شيء!

ثم هو يخاطب الحقيقة الشعورية التي يجدها الإنسان في أعمال ضميره … وهي أن شعور المؤمن الخيّر الذي يحقق منهج الله في حياته، ويجاهد لتحقيقه في حياة البشر، يجد – وهو يعاني الألم من جانب الشر والأشرار – شعوراً مكافئاً من الرضى والسعادة في هذه الدنيا، قبل أن يجد جزاءه المدخر له في الآخرة. شعوراً ناشئاً عن إحساسه بأنه يرضى الله فيما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخيّر … وهي شهادة من ذات البنية الحية، ومن طبيعة الفطرة البشرية، على أن الله جعل التكوين الفطري للإنسان، يجد جزاءه الحاضر في كفاح الشر والباطل، ونصرة الخير والحق، وأن له من التذاذة الكفاح في هذا الطريق، جزاء ذاتياً من كيانه الداخلي، في ذات اللحظة التي يتحمل فيها الألم، وهو يواجه الشر والباطل، ويكافحهما ما استطاع. وأن العوض كامن في ذات الفطرة وفي الاطمئنان إلى حسن الجزاء في الدنيا والآخرة. ولهذا الاطمئنان أثره حتى قبل يوم الحساب الختامي في دار الحساب.

"الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب".(الرعد: 28)

"أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه؟ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين"(الزمر: 22)

أما وجود الشر في ذاته، وما ينشأ عنه من الألم في كل صورة. ولماذا يوجد، والله قادر على ألا يوجده ابتداء، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لخلق الناس كلهم مهتدين ابتداء ؟؟؟ أما هذا السؤال فلا موضع له البتة في التصور الإسلامي!

إن الله قادر طبعاً على تبديل فطرة الإنسان – عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه – أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم والإدراك – ولا إمكان العلم والإدراك –للنظام الكلي للكون. ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.

والله وحده هو الذي يعلم، لنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه، وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه:

"فتبارك الله أحسن الخالقين".(المؤمنون: 14)

"الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".(طه: 50)

"ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". (المائدة: 48)

وبهذا يقطع التعطيل والإرجاء والسلبية، والإحالة على مشيئة الله في المعصية، أو الشلل والجمود والسلب.. وقد علم أن الله لا يرضى لعباده الكفر. وأنه لا يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولا يرضى أن يترك المنكر بلا جهاد، ولا أن يترك الحق بلا نصرة، ولا أن تترك الأرض بلا خلافة. وقد علم أن الإنسان في هذه الدنيا للابتلاء بالخير والشر، وللامتحان في كل حركة وكل حالة. وأنه مجزي على الحسنة وعلى السيئة في دار الحساب والجزاء.. وأنه كذلك مستخلف في هذه الأرض، وأن له مكانه في هذا الكون، وله دوره في ما يقع في هذه الأرض من تغيير وتطوير. وأنه إما ناهض بهذه الخلافة – وفق منهج الله- فمثاب. وإما ناكل التبعة فمعاقب. ولو كان النكول خوفاً من التبعة، وفراراً من الابتلاء!

والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون.. وقد سلم التصور الإسلامي في هذا الصدد من كل الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات .. ما بين تأليه الإنسان في صوره الكثيرة. وتحقير الإنسان إلى حد الزراية والمهانة.

إن الإسلام يبدأ فيفصل فصلاً تاماً كاملاً بين حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية. وبين مقام الألوهية ومقام العبودية. وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية. بحيث لا تقوم شبهة أو غبش حول هذا الفصل الحاسم الجازم:

الله" ليس كمثله شيء"… فلا يشاركه أحد في ماهية أو حقيقة.

والله "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" فلا يشاركه أحد في وجود.

و "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" .. فلا يشاركه أحد في بقاء.

والله "لا يسال عما يفعل وهم يسألون" .. فلا يشاركه أحد في سلطان.

و "خالق كل شيء" .. فلا يشاركه أحد في خلق.

و "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" .. فلا يشاركه أحد في رزق.

و "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" .. فلا يشاركه أحد في علم.

"ولم يكن له كفواً أحد" .. فلا يشاركه أحد في مقام.

"أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ " .. فلا يشاركه أحد في التشريع للناس … وهكذا في كل خاصية من خصائص الألوهية.

والإنسان عبد لله ككل مخلوق في هذا الوجود.

وهو مستخلف في هذه الأرض، مسلط على كل ما فيها، مسخر له الأرض وما فيها ومحسوب حسابه في تصميم هذا الكون قبل أن يكون:

"وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وعلّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم: إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟". (البقرة: 30-33)

والإنسان –كما أسلفنا- يكون في أرفع مقاماته، وفي خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله. إذ أنه –في هذه الحالة- يكون في أقوم حالات فطرته، وأحسن حالات كماله، وأصدق حالات وجوده.

ومقام العبودية لله هو الذي وصف به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مقام الوحي ومقام الإسراء والمعراج –كما ذكرنا من قبل- وهو الذي جعله الله غاية الوجود الإنساني وهو يقول: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".

كما أن قيام الناس في هذا المقام، هو الذي يعصمهم جميعاً من عبودية العبيد للعبيد، وهو الذي يحفظ لهم كراماتهم جميعاً، على اختلاف مراكزهم الدنيوية، وهو الذي يرفع جباههم فلا تنحني إلا لله، وهو الذي يكفيهم –في الوقت ذاته- عن الاستكبار في الأرض بغير الحق، والعلو فيها والفساد، ويستجيش في قلوبهم التقوى للمولى الواحد، الذي يتساوى أمامه العبيد. ويرفض أن يدعى أحد العبيد لنفسه خصائص الألوهية، فيشرع للناس في شؤون حياتهم بغير سلطان من الله، ويجعل ذاته مصدر السلطان، وإرادته شريعة لبني الإنسان!

ومن ثم فإنه لا تعارض –في التصور الإسلامي- بين رفعة الإنسان وعظمته وكرامته وفاعليته، وبين عبوديته لله –سبحانه- وتفرد الله بالألوهية وبخصائصها جميعاً.

ولا حاجة إذن – عندما يراد رفع الإنسان وتكريمه – أن تخلع عنه عبوديته لله، أو تضاف إلى ناسوتيته لاهوتية ليست له، كما احتاج رؤساء الكنيسة والمجامع المقدسة أن يفعلوا، ليعظموا عيسى –عليه السلام- ويكبِّروه!

"ولقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة. ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقه، كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات، ثم انظر أنى يؤفكون".(المائدة: 72-75)

وهكذا تتوازن هذه المصادر .. كل بحسبه .. وتتناسق في إمداد الكائن الإنساني بالمعرفة. ويتوازن التصور الإسلامي، فلا يشط ولا يضطرب ولا يتأرجح بين هذه المصادر، ولا يؤلّه ما ليس منها بإله!

ومما يلاحظ بوضوح في منهج التربية القرآني كثرة توجيه الإدراك البشري إلى ما في الكون، وما في الأنفس، من أمارات وآيات، وتوجيه هذا الإدراك إلى مصاحبة صنعة الله في الأنفس والآفاق. ذلك أن هذه المصاحبة –فوق أنها تنبه الإدراك البشري إلى معرفة الصانع من صنعته، وإجلاله بإدراك عظمته من عظمة صنعه، وحبه بإدراك عظمة أنعمه – فهي في الوقت ذاته تطبع الإدراك الإنساني بخصائص تلك الصنعة: من دقة وتناسق وانتظام، لا خلل فيه ولا تصادم ولا تفاوت. كما تطبعه بموحياتها كذلك من سنن وحقائق ومقررات .. وليس بالقليل مثلاً ان ينطبع في حس الإنسان وشعوره من متابعة التغير المستمر في أحوال هذا الكون، وفي أحوال البشر، وفي أحوال النفس، أن الدوام لله وحده، الذي يغير ولا يتغير. وأن كل شيء حائل أو زائل، إلا الحي الذي لا يموت. الصمد الثابت المقصود.. وليس بالقليل مثلاً أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من ملاحظة ثبات السنن التي تحكم ذلك التغير، وثبات الناموس الذي يتم به التبدل والتحور، أن الأمور لا تمضي جزافاً، وأن الحياة لم توجد سدى، وأن الإنسان غير متروك لقى. وإنما هو التدبير والتقدير، والابتلاء والجزاء، والعدل الصارم الدقيق في تقدير المصير..

وهكذا .. وهكذا .. مما سنذكر منه الكثير.

ومن ثم يكثر التوجيه إلى هذه المصادر، والظاهرة في الكون والمكنونة في النفس، لتلقي المعرفة من كتاب الله المفتوح، كتلقي المعرفة من كتاب الله المقروء. في تناسق وتوازن، يجمع ين مصادر المعرفة كلها، في غير تصادم ولا تعارض، وفي غير تأليه ولا تحقير، وفي غير خصومات صغيرة، كتلك الخصومات التي رأينا أمثلة منها في تاريخ الفكر الغربي الصغير!

ومن ثم لا يقتضي قيام الوحي – كمصدر أساسي للمعرفة – إلغاء الإدراك البشري، كما لا يقتضي وجود الكون إلغاء هذا العقل، أو إلغاء الله – جل وعلا وتنزه عن التصورات المطموسة البائسة، التي يتعبد لها الغربيون! وعبيد الغربيين!

والتوازن بين فاعلية "الإنسان" وفاعلية الكون. وبين مقام الإنسان ومقام الكون. وقد سلم التصور الإسلامي في هذه النقطة من جميع الأرجحات، وجميع التقلبات التي صاحبت الفكر البشري، كلما انحرف عن منهج الله.

وتتضح استقامة التصور الإسلامي تجاه الكون والإنسان، حين يراجع ركام الفلسفات والتصورات والمعتقدات المختلفة.

وتكريم الوجود الإنساني – مع عدم احتقار الوجود الكوني- يكفل لهذا الإنسان مقامه وكرامته، ويجعل حياته ومقوّماته أكرم من أن تمسّ في سبيل توفير أية قيمة مادية أخرى. وذلك مع عدم الإخلال بالقيم المادية وبالإبداع في عالم المادة.

وهناك ألوان شتى من هذا التوازن في التصور الإسلامي، لا نملك تتبعها وعرضها هنا بالتفصيل – ولا حتى مجرد الإشارة – إنما نحن نثبت هذه النماذج، لتكون هي الإشارة التي يتبعها الناظر في هذا المنهج، إلى نهاية الطريق( )…

===================

الإيجابيـــة

قال تعالى :{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة

والخاصية الخامسة البارزة في التصور الإسلامي هي .. الإيجابية .. الإيجابية الفاعلة في علاقة الله –سبحانه- بالكون والحياة والإنسان. والإيجابية الفاعلة كذلك من ناحية الإنسان ذاته. في حدود المجال الإنساني .. كما أشرنا إلى ذلك من قبل إشارات مجملة..

إن الصفات الإلهية في التصور الإسلامي ليست صفات سلبية. والكمال الإلهي ليس في الصورة السلبية التي جالت في تصور أرسطو. وليست مقصورة على بعض جوانب الخلق والتدبير كما تصور الفرس في صفات "هرمز" إله النور والخير واختصاصاته وصفات "أهرمان" إله الظلام والشر واختصاصاته. وليست محدودة بدرجة من درجات الخلق كتصور أفلوطين. وليست محدودة بحدود شعب كتصورات بني إسرائيل. وليست مختلطة أو متلبسة بإرادة كينونة أخرى، كبعض تصورات الفرق المسيحية. وليست معدومة على الإطلاق، كما تقول المذاهب المادية، التي تنفي وجود الإله الحي المريد … إلى آخر هذا الركام..

ولعله يحسن قبل أن نعرض التصور الإسلامي الواضح الصريح المريح، أن نثبت مجملاً سريعاً لهذه التصورات التي أشرنا إليها. أو لهذا الركام، الذي أشرنا إلى شيء منه في أوائل هذا الكتاب وفي ثناياه:

"مذهب أرسطو في الإله أنه كائن أزلي أبدي، مطلق الكمال، لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة! مذ كان العمل طلباً لشيء. والله غني عن كل طلب. وقد كانت الإرادة اختياراً بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول. وليس مما يناسب الإله –في رأي أرسطو- أن يبتدئ العمل في زمان، لأنه أيدي سرمدي، لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر، ولا جديد ولا قديم. وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه، التي لا بغية وراءها، ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه!

"فالإله الكامل المطلق الكمال، لا يعنيه أن يخلق العالم، أو يخلق مادته الأولى –وهي الهيولي- ولكن هذه "الهيولي" قابلة للوجود، يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود، الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل، بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله، إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار"( ).

والفرس كانوا يعتقدون بالثنوية، ويجعلون للخير إلهاً هو "هرمز". قدرته واختصاصه مقصوران على عالم النور والخير. ويجعلون للشر إلهاً هو "أهرمان" قدرته واختصاصه مقصوران على عالم الظلام والشر. وهما أخوان مولودان لإله قديم اسمه "زروان"!

"وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة. وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق. فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه، راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق على نفسه من العاقبة. وعلم أن النور وشيك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذاً يعتصم بهن ويضمن فيه البقاء. فثار، وثارت معه خلائق الظلام – وهي شياطين الشر والفساد- فأحبطت سعي هرمز! وملأت الكون بالخبائث والأرزاء( ).. الخ" 0واحتدمت المعركة وما تزال).

أما "أفلوطين" الذي عاش في السنوات الأولى من القرن الثالث للميلاد .. فإنه يغلو فيما يراه تنزيها لإلهه الأحد، حتى يتجاوز كل معقول. فإذا كان أرسطو يرى أن من كمال إلهه ألا يشعر بغير ذاته، وألا يفكر إلا في ذاته لا يفكر إلا في أشرف الموجودات. وذاته هي أشرف الموجودات. وأنه لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها.. إذا كان تنزيه أرسطو لإلهه وقف به عند هذا الحد، فإن أفلوطين راح يزعم أن من كمال إلهه الأحد أنه لا يشعر بذاته كذلك! لأنه يتنزه عن ذلك الشعور!

"وبديه أن المذهب يقتضي وسائط متعددة لربط الصلة بين هذا الإله "الأحد" المطلق الصفاء، وبن المخلوقات العلوية، وهذه المخلوقات السفلية. ولا سيما خلائق الحيوان المركب في الأجساد.

"وهكذا لزم أفلوطين أن يقول: إن الواحد خلق العقل. وإن العقل خلق الروح. وإن الروح خلقت مادونها من الموجودات. على الترتيب الذي ينحدر طوراً دون طور، إلى عالم الهيولي، أو علم المادة والفساد!" ( ).

ومن ثم ينحصر اختصاص الإله – عند أفلوطين- في خلق العقل.. ثم تنتهي مهمته عند ذاك!

أما إله بني إسرائيل "يهوا" – كما ترسمه تصوراتهم المنحرفة – فهو إله إسرائيل الخاص! الذي يغار من عبادة شعب إسرائيل للآلهة الغريبة، فيثور ويغضب ويحطم وينتقم. حتى إذا عاد الشعب إليه رضى واستراح. وكف عن النقمة والتدمير. وندم على ما فعل بشعبه المختار!

والتصورات الكنسية عن طبيعة المسيح وإرادته، وتلبسهما باللاهوتية، سبق أن أشرنا إليها في فصل "تيه وركام"، وهي تجعل إرادة الله متلبسة أو متجسمة في إرادة المسيح .. إلى أخر هذا الركام( )!

وكذلك أشرنا إلى تصورات الوضعيين الماديين المختلفة بما فيه الكفاية. فيرجع إليها هناك( ).

والآن ننتقل من هذا الركام المتناثر إلى التصور الإسلامي المستقيم الواضح المريح:

إن الإنسان – في التصور الإسلامي- يتعامل مع إله موجود. خالق. مريد. مدبر. مهيمن. قادر. فعال لما يريد.. كامل الإيجابية والفاعلية.. إليه يرجع الأمر كله. وإلى إرادته يرجع خلق هذا الكون ابتداء، وكل انبثاقة فيه بعد ذلك، وكل حركة. وكل تغير وكل تطور. ولا يتم في هذا الكون شيء إلا بإرادته وعلمه وتقديره وتدبيره. وهو –سبحانه- مباشر بإرادته وعلمه وتدبيره لكل عبد من عباده، في كل حال من أحواله ولكل حي ولكل شيء وفي هذا الوجود كذلك.

ويحفل القرآن الكريم بتقرير هذه الحقيقة الأساسية الكبيرة في التصور الإسلامي، بكل صورها وأشكالها، ويهتم بعرض مظاهرها في كل جانب من جوانب الكون، وفي كل صورة من صورها المتجددة التي لا تحصى:

"إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يُغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين".(الأعراف: 54)

إن هذه الإيجابية في علاقة الله –سبحانه- بخلائقه كلها، هي مفرق الطريق بين العقيدة الجدية المؤثرة، والعقيدة الصورية السلبية. وشمول هذه الإيجابية وتوحدها، هو مفرق الطريق كذلك، بين التجمع في الكينونة الإنسانية والنشاط الإنساني، والتمزق في هذه الكينونة ونشاطها الحيوي.

وتصور الإنسان لإلهه، وتعلق صفاته بالحياة الإنسانية، هو الذي يحدد قيمة هذا الإله في نفسه، كما يحدد نوع استجابته لهذا الإله!

وفرق كبير بين الإنسان الذي يتصور أن إلهه لا يحفل به، ولا يحس بوجوده – أو لا يعلم بوجوده أصلاً كما يقول بعض الفلاسفة! – والإنسان الذي يحس ويعلم أن الله هو خالقه ورازقه، ومالك أمره كله في الدنيا والآخرة..

وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع إلهين متنازعين – كما يقول الفرس- أو مع آلهة متفرقة كما تقول الوثنيات الأخرى، والذي يتعامل مع إله واحد. له إرادة واحدة، ومنهج واحد. يعلم عباده على وجه الضبط والتحديد ما يريده منهم فيرضى، وما يكرهه منهم فيسخط!

وفرق كذلك بين الذي يتعامل مع إله شهواني. متعجرف. ظالم. متهور. متقلب الأهواء كإله الإغريق –بزعمهم-: "زيوس" أو "جوبيتير" الذي كانوا يصورونه "حقوداً. لدوداً. مشغولاً بشهوات الطعام والغرام. لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات ما يعينه على حفظ سلطانه، والتمادي في طغيانه. وكان يغضب على "اسقولاب" إله الطب –بزعمهم- لأنه يداوي المرضى، فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية! وكان يغضب على "برومثيوس" إله المعرفة والصناعة –بزعمهم- لأنه يعلّم "الإنسان" ان يستخدما لنار في الصناعة، وأن يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب. وقد حكم عليه بالعقاب الدائم، فلم يقنع بموته، ولا بإقصائه عن حظيرة الآلهة، بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له. فقيده إلى جبل سحيق، وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار، حتى إذا جن الليل عادت سليمة في بدنه، لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع الشمس ولا يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة مرفوض الدعاء"( ) … " وأنه كان يخادع زوجته "هيرة" ويرسل إله الغمام –بزعمهم- لمدارة الشمس في مطلعها، حذراً من هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار، ومفاجأته بين عشيقاته على عرش "الأوليمب"( )..

فرق بين الذي يتعامل مع إله كهذا ويستمد منه أخلاقهن والذي يتعامل مع "الله" العادل، الكريم، الرحيم الذي يكره الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وينهى عن السوء. ويحب التوابين ويحب المتطهرين..

وأخيراً .. فهناك فارق هائل بين الإنسان الذي يظن أن إلهه هو "الطبيعة" الخرساء الصماء، التي لا تطالبه بعقيدة ولا شعيرة، ولا منهج ولا نظام حياة، ولا خلق ولا أدب، ولا ضمير ولا سلوك. ولا تحس بوجوده أصلاً. وليس لها هي إدراك ابتداء. ومن ثم فهي لا تحس ولا تعي، ولا تدري بخير أو شر. ولا تحاسب –من ثم- على خير أو شر .. والإنسان الذي يعرف أن إلهه "الله" الحي الذي لا يموت. الصمد المقصود في الحاجات. الرقيب الذي لا يغفل. الحسيب الذي لا ينسى. العادل الذي لا يظلم. الرحيم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.. إلى آخر صفات الله وأسمائه الحسنى..

إن الأمر مختلف جداً .. ومن ثم هذه القيمة الكبرى لهذه الخاصية في التصور الإسلامي .. ولقد عنى الإسلام عناية بالغة بتقرير هذه الحقيقة في تصور المسلمين وتوكيدها. وتقرير "وجود" الله سبحانه في حياتهم وتوسيعه وتعميقه .. وكانت حياة الجماعة المسلمة الأولى في ظلال الوحي المتلاحق، المتعلق بواقع حياتهم، وبما يهجس كذلك في ضمائرهم، مثلاً حياً، وترجمة عملية، لهذه الحقيقة.. فقد رأينا يد الله –سبحانه- تتدخل جهرة، وعينه تلحظ، وسمعه يرعى، أحوالهم اليومية، وأعمالهم الشخصية، وحياتهم الفردية والجماعية.

لقد شهدنا العناية الإلهية تتدخل علانية في شأن أسرة صغيرة فقيرة مغمورة لتقرر حكم الله في قضية بين امرأة وزوجها. حين لم يجد الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيها رأياً:

"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. والله يسمع تحاوركما. إن الله سميع بصير… الخ". (المجادلة: 1)

والقرآن كله معرض هذه "الإيجابية" وهي أساس التصور الإسلامي –بعد التوحيد- وهي التي تتجلى فيها حقيقة التوحيد. فالتوحيد الإسلامي يمتاز بأنه توحيد الفاعلية والتأثير وليس مجرد التوحيد السلبي الذي يصفه أرسطو، أو يصفه أفلوطين!

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير الجماعة المسلمة الأولى هو الذي أنشأ هذه المجموعة الفريدة الممتازة في تاريخ البشرية كله على الإطلاق، وبدون استثناء. فقد عاشوا هذه الحقيقة. عاشوها حية في نفوسهم. عاشوها ليل نهار، وصباح مساء. عاشوها كما يعيشون حياتهم اليومية الواقعة. عاشوا مع الله. يحسون وجوده في نفوسهم وفي حياتهم أعمق من حس اللمس والرؤية. عاشوا في كنفه وفي رعايته. وعاشوا تحت عينه وفي رقابته. والتمسوا يده –سبحانه- تتدخل تدخلاً مباشراً في الصغير والكبير من أمورهم، وتنقّل خطاهم، وترقبها، وترشدهم، وتعقّب عليهم في الصغيرة وفي الكبيرة.. ومن ثم كانوا هذا الذي كانوا: من الحساسية والطمأنينة معاً. ومن اليقظة والراحة معاً. ومن التوكل والفاعلية معاً. ومن الخوف والطمع معاً. ومن التواضع والعزة معاً –التواضع لله والعزة بالله- ومن الخضوع والاستعلاء معاً – الخضوع لله والاستعلاء على أعداء الله – ومن ثم صنع الله بهم في هذه الأرض ما صنع من الصلاح والعمار، ومن الرفعة والطهارة، مما لم يسبق ولم يلحق في تاريخ بني الإنسان …

والصفحة الأخرى للإيجابية في التصور الإسلامي .. هي إيجابية الإنسان في الكون. وإيجابية المؤمن بهذه العقيدة في واقع الحياة على وجه خاص.

إن هذا التصور ما يكاد يستقر في الضمير، حتى يتحرك ليحقق مدلوله في صورة عملية، وليترجم ذاته، في حالة واقعية. والمؤمن بهذا الدين ما يكاد الإيمان يستقر في ضميره حتى يحس أنه قوة فاعلة مؤثرة. فاعلة في ذات نفسه، وفي الكون من حوله.

إن التصور الإسلامي ليس تصوراً سلبياً يعيش في عالم الضمير. قانعاً بوجوده هناك في صورة مثالية نظرية! أو تصوفية روحانية! إنما هو "تصميم" لواقع مطلوب إنشاؤه، وفق هذا التصميم. وطالما هذا الواقع لم يوجد فلا قيمة لذلك التصميم في ذاته، إلا باعتباره حافزاً لا يهدأ لتحقق ذاته.

هذا ما يثيره التصور الإسلامي في شعور المسلم… ومن ثم يجد دائماً هاتفاً ملحاً في أعماقه، يهب به إلى تحقيق هذا التصور في دنيا الواقع، ويؤرقه، حتى يهب للعمل، ويفرغ طاقته الإيمانية كلها في هذا العمل الإيجابي البناء. وفي إنشاء واقع تتمثل فيه هذه العقيدة في حياة الناس.

وحيثما ذكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون، ذكر العمل، الذي هو الترجمة الواقعية للإيمان، فليس الأمر مجرد مشاعر. إنما هو مشاعر تُفرَّغ في حركة، لإنشاء واقع، وفق "التصميم" الإسلامي للحياة، أو وفق التصور الإسلامي للحياة ..

"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله – ثم لم يرتابوا- وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اله. أولئك هم الصادقون".(الحجرات: 15)

وهو يؤدي هذه الشهادة .. أولاً .. في ذات نفسه: بأن يطابق بين واقع حياته الشخصية، في كل جزئية من جزئيات نشاطه، وبين مقتضيات التصور الذي يقوم عليه اعتقاده. فليست هنالك حركة واحدة من حركات حياته، إلا وهو مطالب بأن يشهد فيها لهذا الدين. شهادة عملية. لا شهادة اللسان وحده، ولا شهادة القلب معه كذلك. ولكن شهادة العمل المصدق للإيمان، المجسّم للعيان، المنشئ لآثاره في عالم الواقع وفي دنيا الناس.

وهو يؤديها –ثانية- في دعوة الآخرين إلى هذا المنهج، وبيانه لهم. مسوقاً في هذه الدعوة وهذا البيان بدوافع كثيرة أولها: دافع أداء الشهادة لينجو من الله، وليؤدي حق نعمته عليه بهدايته إلى الإسلام.. وثانيها: حب الخير للناس، وهدايتهم إلى هذا الخير الذي هُدِيَ هو إليه، والذي لا يحتجنه لنفسه، ولا لأسرته، ولا لعشيرته، ولا لقومه، ولا لجنسه. لأنه يتعلم من هذا التصور ذاته أن البشر كلهم إخوة.. وثالثها: شعوره بأن تبعة ضلال الناس – إذا ضلوا- إنما تقع على عاتقه هو، ما لم يبين لهم –بعد ما عرف وتبين- وهي تبعة ثقيلة تنوء بضميره، وتنوء بكاهله، وقد علم أنها تبعة الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم- وأنه هو مستخلف فيها عن الرسل، ومسؤول عنها بعدهم.

"رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" .. (النساء: 165)

وفي طبيعة التصور الإسلامي ذاته ما يحفز الإنسان لمحاولة الحركة الإيجابية، لتحقيق هذا المنهج في صورة واقعية. فالمسلم يعرف – من تصوره الإسلامي- أن "الإنسان" قوة إيجابية فاعلة في هذه الأرض، وأنه ليس عاملاً سلبياً في نظامها فهو مخلوق ابتداء ليستخلف فيها. وهو مستخلف فيها ليحقق منهج الله في صورته الواقعية: لينشئ ويعمر، وليغيّر ويطوّر، وليصلح، وينمّي. وهو معانٌ على هذه الخلافة: معانٌ من الله سبحانه بجعل النواميس الكونية وطبيعة الكون الذي يعيش فيه معاونة له.

بهذا كله يستشعر المسلم أن وجوده على الأرض ليس فلتة عابرة، إنما هو قدر مقدور، مرسوم له طريقه ووجهته وغاية وجوده … وأن وجوده على الأرض يقتضيه حركة وعملاً إيجابياً، في ذات نفسه. وفي الآخرين من حوله. وفي هذه الأرض التي هو مستخلف فيها، وفي هذا الكون المحسوب حسابه في تصميمه … وأنه لا يبلغ شكر نعمة الله عليه بالوجود، ونعمة الله عليه بالإيمان، ولا يطمع في النجاة من حساب الله وعذابه، إلا بأن يؤدي دوره الإيجابي في خلافة الأرض، وفق شرط الله ومنهجه، وتطبيق هذا المنهج في حياته وفي حياة غيره، والجهاد لدفع الفساد عن هذه الأرض التي هو قيم عليها والفساد في الأرض إنما ينشأ عن عدم تطبيق منهج الله في عالم الواقع، ودنيا الناس، حياة الجماعات – وأن وزر هذا الفساد –حين يقع- واقع على عاتقه هو، ما لم يؤد الشهادة لله في نفسهن وفي غيره، وفي الأرض كلها من حوله.

وتصوّر المسلم للأمر على هذا النحو، لا جرم يرفع من قيمته في نظر نفسه، كما يرفع من اهتماماته. بقدر ما يشعره بضخامة التبعة الملقاة على عاتقه، وبثقل العبء الذي يحمله، ويكدح فيه حتى يلاقي الله ربه، وقد أدى الأمانة، وأدى الشهادة، ووفى بحق النعمة – فيما يملك من الطاقة- وطمع في النجاة من عذاب الله، وزحزح عن النار…

===================

الواقعيــــة

قال تعالى :" وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) [الإسراء/90-93] "

والخاصية السادسة من خواص التصور الإسلامي هي .. الواقعية( ) .. فهو تصور يتعامل مع الحقائق الموضوعية، ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا مع تصورات عقلية مجردة، ولا مع "مثاليات" لا مقابل لها في عالم الواقع، أو لا وجود لها في عالم الواقع.

ثم إن "التصميم" الذي يضعه للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية كذلك، لأنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية…

ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه..

وسنحاول هنا شرح هذين المدلولين من مدلولات الواقعية، في التصور الإسلامي:

إنه يتعامل مع الحقائق الموضوعية. ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي..

يتعامل مع الحقيقة الإلهية، متمثلة في آثارها الإيجابية، وفاعليتها الواقعية … ويتعامل مع الحقيقة الكونية، متمثلة في مشاهدها المحسوسة، المؤثرة. أو المتأثرة

ويتعامل مع الحقيقة الإنسانية، متمثلة في الأناسّي كما هم في عالم الواقع.. الإله الذي يتعامل معه هذا التصور هو "الله" المتفرد بالألوهية، وبكل خصائص الألوهية. ولكن هذه الخصائص كلها من عالم الواقع، ذات أثر في عالم الواقع، يمكن إدراك آثارها الواقعية، ولا يضرب العقل البشري في التيه ليتمثلها على هواه، في سلسلة من القضايا المنطقية المجردة – على طريقة "الميتا فيزيقا" بصفة عامة –ولكنها تتمثل في آثاره –سبحانه- في هذا الكون.. فالألوهية وخصائصها واقعية الأثر في هذا الكون. والإدراك البشري يحال إلى هذه الآثار الواقعية، ليرى فيها خصائص الألوهية، ممثلة في الصنعة الإلهية:

"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تُظهرون. يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون. ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون. ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً، وينزل من السماء ماء، فيحيي به الأرض بعد موتها، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. ومن آياته أن تقوم السماوات والأرض كل له قانتون. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده – وهو أهون عليه- وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم".

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع إله "موجود"، يدل خلقه على وجوده، "مريد". "فعال لما يريد" تدل حركة هذا الكون وما يجري فيه على إرادته وقدرته.

ومن ثم يفترق تصور الإله في الإسلام افتراقاً رئيسياً عنه في تصورات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. حيث تتعامل تصوراتهم مع إله "مثالي" يفرضون هم عليه "مثالية" من صنع عقولهم، ومن تصورات أحلامهم. وهو إله لا إرادة له ولا عمل. لأن هذا من مقتضى كماله أو مثاليته! ثم يضطرهم هذا الافتراض إلى افتراض وسائط شتى بين الإله والخلائق، وإلى تصورات وثنية وأسطورية كالتي كانت سائدة في الوثنية الإغريقية:

بمثل هذه الواقعية يواجه التصور الإسلامي الكون.. فهو يتعامل مع هذا الكون الواقعي الممثل في أجرام وأبعاد. وأشكال وأوضاع، وحركات وآثار وقوى وطاقات. لا مع الكون الذي هو "فكرة" مجردة عن الشكل والقالب. أو الكون الذي هو "إرادة" ممثلة في شكل وقالب. ولا مع الكون الذي هو "هيولي" ومادة أولية غير مشكلة، أو الكون الذي هو "صورة" أو "مثال" في العقل المطلق! أو الكون الذي هو "الطبيعة" الخالقة! التي تطبع الحقائق في العقل البشري! ولا مع الكون الذي هو عدم أو شبيه بالعدم.. إلى آخر هذه الأسماء، التي ليس لها مدلول "واقعي" يتعامل معه "الإنسان".

الكون هو هذا الخلق ذو الوجود الخارجي الذي يدركه الإنسان، ويوجه إليه قلبه وعقله في القرآن. هو هذه السماوات والأرض. هذه النجوم والكواكب.. هذه الكائنات الميتة والحية. والظواهر الكونية هي هذه الحياة وهذا الموت. وهذا الليل وهذا النهار. وهذا النور وهذا الظلام. وهذا المطر والبرق والرعد.. وهذا الظل وهذا الحرور. وهذه الأحوال والأطوار ذات الوجود الحقيقي، وذات الآثار الحقيقية.

وحين يوجه الإسلام الإدراك الإنساني إلى هذا الكون .. كدليل على وجود خالقه ووحدانيته، وقدرته وإرادته، وهيمنته وتدبيره، وعلمه وتقديره… فإنه يوجهه إلى هذا الكون ذي الكينونة الواقعية، والآثار الواقعية .. ولا يوجهه إلى كون هو "فكرة" مضمرة، أو "إرادة" منفّذة، ولا يوجهه إلى كون هو صورة في عقل الإله، أو "هيولي" تعارض تلك الصورة، أو تشوهها عندما تتلبس بها! ولا يوجهه إلى كون هو من صنع العقل، أو إلى كون هو صانع العقل.. إلى آخر هذه التصورات البحتة التي تتعامل مع نفسها، ولا تتعامل مع الواقع الكوني إطلاقاً!

الكون في التصور الإسلامي هو هذه الخلائق التي أبدعها الله، وقال لها: كوني فكانت، والتي نسقها الله بحيث لا تتعارض ولا تتصادم، والتي هي خاضعة لله، عابدة له، مسخرة لأمره، مؤدية لما أراده منها، ولما سخرها له، على أحسن وجه من الأداء:

"الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور. ثم الذين كفروا بربهم يعدلون".(الأنعام: 1)

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع كون له وجود واقعي. يختلف بطبيعة الحال عن "وجود الله" سبحانه. ولكنه وجود له خصائص مدركه من واقع هذا العالم، وليست منتزعة من تصورات ذهنية مجردة، ولا من دعاوى يمليها الهوى من غير دليل!

وتتضح واقعية هذا الكون في التصور الإسلامي، حين نستعرض –على سبيل المثال- تصور "البراهمية". واعتبارها أن الوجود الواحد هو وجود "براهما" – الإله الأعظم – أما هذا الكون المادي فهو "عدم محض يقابل ذلك "الوجود" .. غير أن "الوجود" حلّ في "العدم" ومن ثم وجد الشر في العالم. لأن الوجود خير محض وكما محض. أما العدم، فهو شر محض أو نقص محض. وخطة الإنسان للتخلص من الشر –وهو كل ما له جسم- تنحصر من هذا الجسم، لكي يعود "الوجود" الذي فيه إلى وصفه المطلق. وينطلق من إسار هذا "العدم" الناقص الشرير الذي حل فيه!.

كذلك تتضح واقعية الكون في التصور الإسلامي، حين نراجع تصور أفلاطون لهذا الوجود المادي. وأنه مجرد ظل لعالم المثل. فالشجرة التي تراها هي ظل لمثال الشجرة المكنون في العقل المطلق! وهو ناقص لا يمثل كمال المثال الذي هو في عقل الإله و "النفس الكلية" – التي هي من عالم المثل- هي الصلة بين الأشياء "المثالية" كما هي في العقل المطلق، والأشياء الصورية ظلال المثل –غير الحقيقية- التي هي في عالم المادة، الذي نلمسه ونراه!

وأفلوطين – كما تقدم- يرى أن هناك "الأحد" وهو الإله. وقد صدر عنه "العقل" وعن العقل صدرت الروح أو "النفس الكلية" وهذه أوجدت العالم المحسوس نيابة عن العقل! – وهذا العالم المحسوس أصله المادة. وهي أحط الموجودات. وهي "ظلام" ! وهي شر وفساد!

… الخ … الخ.

وحين توازن هذه التصورات المنتزعة من لا شيء! إلا من خيالات العقل البشري وتأويلاته، دون تلبس بواقعيات هذا الكون وحقائقه الموضوعية .. حين توازن هذه التصورات بالتصور الإسلامي، كما تمثله تلك النصوص القرآنية التي سردناها –وراءها في القرآن كثير- يتبين معنى "الواقعية" الذي نعنيه في التصور الإسلامي.

كذلك يتعامل التصور الإسلامي مع الإنسان .. مع هذا الإنسان الواقعي، الممثل في هؤلاء البشر كما هم، بحقيقتهم الموجودة!. مع هذا الإنسان ذي التركيب الخاص، والكينونة الخاصة. الإنسان من لحم ودم وأعصاب. وعقل ونفس وروح، الإنسان ذي النوازع والأشواق، والرغائب والضرورات. الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ويحيا ويموت. ويبدأ وينتهي. ويؤثر ويتأثر. ويحب ويكره. ويرجو ويخاف. ويطمع ويياس. ويعلو وينحط. ويؤمن ويكفر. ويهتدي ويضل. ويعمر الأرض أو يفسد فيها ويقتل الحرث والنسل. إلى أخر سمات الإنسان الواقعي، وصفاته المميزة:

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيباً".(النساء: 1)

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع "الإنسان" الذي هو كائن واقعين له خصائصه، وله مشخصاته وله فاعليته وله انفعاله، وله تأثره وله تأثيراته.. لا مع معنى مجرد، أو فرض من الفروض لا رصيد له من الواقع.

إنه لا يتعامل مع "الإنسانية" كمعنى مجرد، ولا يتخذها إلهاً يتوجه إليه بالعبادة( ) بينما هذا المعنى المجرد لا وجود له، أو لا ضابط لهن في عالم الواقع.. ولا يتعامل مع "العقل المطلق"( ). ككائن مشخص، لأن العقل المطلق ليست له كينونة واقعية. إنما هناك العقل المفرد، في كل فرد على حدة. ومن ثم فليس هو الذي يخلق الكون أو يخلق الروح( ).

إنه يختلف عن "المثالية العقلية" التي تتعامل مع مقولات عقلية بحتة، لا صلة لها بالموجودات المؤثرة والمتأثرة في الكون والحياة.

وفي الوقت نفسه يفترق عن "الوضعية الحسية" التي تتخذ من الطبيعة إلهاً يخلق العقل! ويخلق المدركات العقلية! فالله –في التصور الإسلامي- هو خالق "الطبيعة" وخالق "الإنسان"! والعقل الإنساني يدرك نواميس الطبيعة، ويتعلم قوانينها، ويتعرف إلى طاقاتها ومدخراتها، ويؤثر فيها تأثيراً إيجابياً، ويتأثر بها تأثراً حسياً وعقلياً .. في توازن واعتدال.

وكأنما كان الإسلام –بل هو كان- ينظر من وراء القرون إلى هذه اللوثات التي ستصيب البشرية، على أيدي "الفلاسفة" و "المفكرين" المحدثين .. من "مثالية عقلية" إلى "وضعية حسية" إلى "مادية جدلية" … فصاغ تصوره في هذا التوازن العجيب. الشامل المتكامل. ليستقر منه الضمير البشري على قرار ثابت. وليعود إليه الإدراك الفصل. ويجد عنده الهدى والنور في متاهات العقول والأهواء؟

فأما المدلول الثاني للواقعية في التصور الإسلامي، فيتعلق بطبيعة المنهج الذي يقدمه للحياة البشرية. وواقعية هذا المنهج، مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته في الكون، ومدى طاقاته الواقعية الحقيقية:

إن "الإنسان" –في التصور الإسلامي- هو هذا "الإنسان" الذي نعهده. هذا الإنسان بقوته وضعفه. بنوازعه وأشواقه. بلحمه ودمه وأعصابه، بجسمه وعقله وروحه … إنه ليس الإنسان كما يريده خيال جامح، أو كما يتمناه حلم سابح مع قضايا ذهنية من قضايا المنطق الشكلي! كما أنه ليس الإنسان الذي يضعه المنطق الوضعي في أسفل سافلين، ويجعله مخلوقاً من مخلوقات هذه "المادة" الصماء! أو من مخلوقات "الاقتصاد"!

إنه الإنسان الذي خلقه الله ليستخلفه في هذه الأرض، فيقوم فيها بالخلافة الحركية الإيجابية، التي تنشئ وتبدع في عالم المادة ما يتم به قدر الله في الأرض والأحياء والناس.

إنه الإنسان "الواقعي" كما أسلفنا. ومن ثم فإن المنهج الذي يرسمه له الإسلام منهج واقعي كذلك. منهج حركي. تنطبق حدوده على حدود طاقات الإنسان، وتكوينه وواقعية لحمه ودمه وأعصابه، وجسمه وعقله وروحه. الممتزجة في ذلك الكيان.

والمنهج الإسلامي للحياة –على كل رفعته ونظافته وربانيته ومثاليته- هو في الوقت ذاته منهج لهذا الإنسان- في حدود طاقاته الواقعية- ونظام لحياة هذا الكائن البشري الذي يعيش على هذه الأرض. ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج ويتناسل ويحب ويكره، ويرجو ويخاف، ويزاول كل خصائص الإنسان الواقعي كما خلقه الله.

وهو يأخذ في اعتباره فطرة هذا الإنسان، وطاقاته واستعداداته، وفضائله ورذائله وقوته وضعفه .. فلا يسوء ظنه بهذا الكائن، ولا يحتقر دوره في الأرض، ولا يهدر قيمته في صورة ما من صور حياته. كما أنه لا يرفع هذا الإنسان إلى مقام الألوهية، ولا يخلع عليه شيئاً من خصائصها. كذلك لا يتصوره ملكاً نورانياً شفيفاً لا يتلبس بمقتضيات التكوين المادي، ومن ثم لا يستقذر دوافع فطرته ومقتضيات هذا التكوين الفطري.

ومع اعتبار المنهج الإسلامي لإنسانية الإنسان من جميع الوجوه فهو وحده الذي يملك أن يصل به إلى أرفع مستوى، وأكمل وضع، يبلغ إليه الإنسان، في أي زمان وفي أي مكان.

وليس هنا مكان تفصيل هذه الحقيقة. فسيجئ موضعها في القسم الثاني من هذا البحث عند الكلام عن حقيقة الإنسان.. فنكتفي هنا بهذا القدر. لنخلص منه إلى بعض النصوص، التي تصور واقعية المنهج الإسلامي، وانطباقها على واقعية الكائن الإنساني، مع الهتاف له دائماً بالرفعة والطهارة، وبلوغ أقصى كماله المقدر له في حدود فطرته.

"وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً! أو يلقى إليه كنز! أو تكون له جنة يأكل منها؟ وقال الظالمون: إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً. انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا، فلا يستطيعون سبيلا. تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك: جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل لك قصوراً". (الفرقان: 7-10)

"وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب. فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً. أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف. أو ترقى في السماء. ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه! قل: سبحان ربي! هل كنت إلا بشراً رسولاً؟". (الإسراء: 90-93)

إن الإسلام دين للواقع. دين للحياة. دين للحركة. دين للعمل والنتاج والنماء دين تطابق تكاليفه للإنسان فطرة هذا الإنسان. بحيث تعمل جميع الطاقات الإنسانية عملها الذي خلقت من أجله. وفي الوقت ذاته يبلغ الإنسان أقصى كماله الإنساني المقدر له، عن طريق العمل والحركة، وتلبية الطاقات والأشواق، لا كبتها أو كفها عن العمل، ولا إهدار قيمتها واستقذار دوافعها..

ومن ثم تتحقق صفة "الواقعية" للمنهج الإسلامي الموضوع للحياة البشرية، تحققها للتصور الإسلامي ذاته عن الله والكون والحياة والإنسان. ويتطابق التصور الاعتقادي والنهج العملي في هذا الدين تطابقاً لا تفاوت فيه.

ومن ثم ينطلق الإنسان بكل طاقاته، يعمّر في هذه الأرض ويغيرن وينمي في موجوداتها ويطوّر، ويبدع في عالم المادة ما شاء الله له أن يبدع. لا يقف في وجه حاجز من التصور الاعتقادين ولا من المنهج العملي. فكلاهما "واقعي" مطابق لواقعية الكينونة الإنسانية وللظروف الحقيقية المحيطة بها في هذا الكون من حولها. وكلاهما صادر من الجهة التي صدر عنها الإنسان، والتي زودته بطاقاته واستعداداته.

ومن ثم يتسنى للإنسان، المؤمن بهذه العقيدة، المدرك لحقيقة التصور الإسلامي، وللمنهج الإسلامي المنبثق منه، أن ينشئ من الآثار الواقعية في هذه الأرض، وأن يحقق من الإبداع المادي فيها، وفاق ما ينشئه من الصلاح الأخلاقي، وكفاء ما يحققه من الرفعة والتطهر. في تناسق وتوازن وشمول وإيجابية وواقعية:

"فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون". (الروم: 30)

======================

التوحيـــد

قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء

التوحيد هو المقوّم الأول للتصور الإسلامي، بما أنه هو الحقيقة الأساسية في العقيدة الإسلامية، ولكنه كذلك هو إحدى خصائص هذا التصور، بما أن التصور الإسلامي يتفرد بهذه الصور الخالصة من التوحيد، من بين سائر التصورات الاعتقادية والفلسفية السائدة في الأرض جميعاً.. وبهذا الاعتبار نتحدث هنا عن "التوحيد" ضمن "خصائص التصور الإسلامي" كما سنتحدث عنه في القسم الثاني من هذا البحث، ضمن "مقومات التصور الإسلامي"..

نتحدث عنه هنا ضمن الخصائص، لنبين نوع تفرد التصور الإسلامي بهذه الخاصية، من بين سائر التصورات الاعتقادية والفلسفية السائدة في جنبات الأرض.

ونبادر فنقرر أن "التوحيد" كان هو "الخاصية" البارزة في كل دين جاء به من عند الله رسول. كما أنه كان "المقوّم الأول" في دين الله كله .. وأن "الإسلام" – على إطلاقه- كان هو الدين الذي جاء به كل رسول. بما أن الدين هو إسلام الوجه لله وحده، واتباع منهج الله -وحده- في كل شؤون الحياة، والتلقي من الله –وحده- في هذا الشؤون كلها، والعبودية لله وحده بطاعة منهجه وشريعته ونظامه، والعبادة لله وحده سواء في الشعائر التعبدية أو في نظام الحياة الواقعية .. ولكن التحريفات والانحرافات التي وقعت في تصورات أتباع الرسل، إلى جانب طغيان الجاهليات على الديانات، لم تبق في الأرض كلها من تصور ديني صحيح، إلا التصور الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- وحفظ الله أصوله، فلم تمتد إليها يد التحريف، ولم تطمسها كذلك الجاهليات التي طغت على حياة الناس .. ومن ثم أصبح "التوحيد" خاصية من خصائص هذا الدين.

هنالك اعتبار آخر يجعل من حقنا أن نقرر هذه الحقيقة .. حقيقة أن التوحيد خاصية لهذا التصور. وهو المساحة التي تشملها حقيقة التوحيد في العقيدة الإسلامية، والجوانب التي تمتد إليها في هذا التصور، وفيما يقوم على هذا التصور من مشاعر وأخلاق وسلوك وتنظيم لجوانب الحياة الواقعية .. فقد امتدت هذه الحقيقة إلى تصور المسلم للكون كله، وتصوره لحقيقة القوة الفاعلة فيه، وتصوره لحقيقة القوة الفاعلة على حياته هو بحذافيرها. كما أمتدت إلى تنظيم جوانب الحياة الإنسانية كلها: خافيها وظاهرها. صغيرها وكبيرها. حقيرها وجليلها. شعائرها وشرائعها. اعتقاديها وعمليها. فرديها وجماعيها. دنيويها وأخرويها .. بحيث لا تفلت ذرة واحدة منها من عقيدة التوحيد الشاملة.. كما سبق أن بينا في خاصية "الشمول" .. وكما سنبين بالتفصيل في القسم الثاني من هذا البحث عند الكلام عن "حقيقة الألوهية".

يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية وعبودية .. ألوهية يتفرد بها الله سبحانه. وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه.. وكما يتفرد الله – سبحانه- بالألوهية، كذلك "يتفرد" –تبعاً لهذا- بكل خصائص الألوهية .. وكما يشترك كل حي وكل شيء- بعد ذلك – في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية.. فهناك إذن وجودان متميزان. وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله. والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق، والإله بالعبيد..

هذه هي القاعدة الأولى في التصور الإسلامي .. ومنها تنبثق وعليها تقوم سائر القواعد الأخرى .. وقيام التصور الإسلامي على هذه القاعدة الأساسية هو الذي يجعلها إحدى خصائصه كما أسلفنا.

ولقد سبق القول بأن "التوحيد" كان هو قاعد كل ديانة جاء بها من عند الله رسول. والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة، ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول، كما يقررها إجمالاً على وجه القطع واليقين:

"لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم". (الأعراف: 59)

ونكتفي بهذا القدر من مجالات التوحيد في التصور الإسلامي، حيث يتبين منها إفراد الله-سبحانه- بالألوهية، وتقرير عبودية كل من عدا الله وكل ما عداه لألوهيته. وقيام العلاقات بين الخلق والخالق على أساس العبودية وحدها. لا على أساس نسب ولا صهر. ولا مشاركة ولا مشابهة، في ذات ولا في صفة ولا في اختصاص… وهذا القدر يكفي في بيان أن التوحيد خاصية من خصائص التصور الإسلامي. وهي الحقيقة التي نريد تقريرها في هذا القسم الأول من البحث. أما تفصيل هذه الحقيقة فموضعه في القسم الثاني عند الكلام عن "حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية".

غير أن الحديث عن خاصية التوحيد لا يتم حتى نشير كذلك –بمثل هذا الاختصار- إلى مقتضيات هذا التوحيد المطلق الكامل الشامل الحاسم الدقيق، في الحياة الإنسانية … وهذه المقتضيات تمثل كذلك كيف أن التوحيد خاصية من خصائص التصور الإسلامي:

إن من مقتضيات توحيد الألوهية –في التصور الإسلامي- إفراد الله –سبحانه- بخصائص الألوهية في تصريف حياة البشر، كإفراده –سبحانه- بخصائص الألوهية في اعتقادهم وتصورهم، وفي ضمائرهم وشعائرهم على السواء.

وكما أن المسلم يعتقد أن لا إله إلا الله، وأن لا معبود إلا الله، وأن لا خالق إلا الله، وأن لا رازق إلا الله، وأن لا نافع أو ضار إلا الله، وأن لا متصرف في شأنه –وفي شأن الكون كله- إلا الله… فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله وحده بالطلب والرجاء، ويتوجه لله وحده بالخشية والتقوى ..

كذلك يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله، وأن لا منظم لحياة البشر وعلاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الإنسان من جنسه إلا الله .. فيتلقى من الله وحده التوجيه والتشريع، ومنهج الحياة، ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات، وميزان القيم والاعتبارات .. سواء..

فالتوجه إلى الله وحده بالشعائر التعبدية، والطلب والرجاء والخشية والتقوى، كالتلقي من الله وحده في التشريع والتوجيه، ومنهج الحياة ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات وميزان القيم والاعتبارات .. كلاهما من مقتضيات التوحيد – كما هو في التصور الإسلامي- وكلاهما يصور المساحة التي تشملها حقيقة التوحيد في ضمير المسلم وفي حياته على السواء..

والقرآن الكريم يربط بين عقيدة التوحيد وبين مقتضياتها في الضمير وفي الحياة ربطاً وثيقاً، ويرتب على وحدانية الألوهية والربوبية ووحدانية الفاعلية والسلطان في هذا الوجود، كل ما يكلفه المسلم، سواء ما يكلفه من شعور في الضمير، أو ما يكلفه من شعائر في العبادة، أو ما يكلفه من التزام في الشريعة.. وفي السياق الواحد يرد ذكر التوحيد، وآثار الفاعلية والسلطان، في الكون وفي الحياة الدنيا والآخرة، ويكرر معها الأمر باتباع شريعة الله، باعتباره مقتضى توحيد الألوهية والسلطان:

إن هذا التصور ينشئ في العقل والقلب آثاراً متفردة، لا ينشئها تصور آخر، كما أنه ينشئ في الحياة الإنسانية مثل هذه الآثار كذلك.

إنه ينشئ في القلب والعقل حالة من "الانضباط" لا تتأرجح معها الصور، ولا تهتز معها القيم، ولا يتميع فيها التصور ولا السلوك.

فالذي يتصور الألوهية على هذا النحو، ويدرك حدود العبودية كذلك، يتحدد اتجاهه، كما يتحدد سلوكه، ويعرف على وجه الضبط والدقة: من هو؟ وما غاية وجوده؟ وما حدود سلطاته؟ كما يدرك حقيقة كل شيء في هذا الكون، وحقيقة القوة الفاعلة فيه. ومن ثم يتصور الأشياء ويتعامل معها في حدود مضبوطة، لا تميع فيها ولا تأرجح. وانضباط التصور ينشئ انضباطاً في طبيعة العقل وموازينه، وانضباطاً في طبيعة القلب وقيمه. والتعامل مع سنن الله بعد ذلك والتلقي عنها يزيد هذا الانضباط ويحكمه ويقويه.

ندرك هذا حين نوازن بين المسلم الذي يتعامل مع ربه الواحد الخالق الرازق القادر القاهر المدبر المتصرف، وبين غيره من أصحاب التصورات التي أشرنا إليها. سواء من يتعامل مع إلهين متضادين: إله للخير وإله للشر! ومن يتعامل مع إله موجود ولكنه حالٌّ في العدم! ومن يتعامل مع إله لا يعنيه من أمره ولا من أمر هذا الكون شيء! ومن يتعامل مع إله (المادة) الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يثبت على حال! إلى آخر الركام الذي لا يستقر العقل أو القلب منه على قرار.

وإن هذا التصور لينشئ في القلب والعقل "الاستقامة" … فالإنسان الذي يدرك من حقيقة ربه ومن صفاته ومن علاقته به ذلك القدر "المضبوط" لا شك يستقيم في التعامل معه بقلبه وعقلهن ولا يضطرب ولا يطيش!

والمسلم يعرف من تصوره لربه، وعلاقته به، ما يحب ربه وما يكره منه، ويستيقنه أن لا سبيل له إلى رضاه إلا الإيمان به، ومعرفته بصفاته، والاستقامة على منهجه وطريقه. فهو لا يمت إليه –سبحانه- ببنوة ولا قرابة، ولا يتقرب إليه بتعويذة ولا شفاعة، ولا يعبده إلا بامتثال أمره ونهيه. واتباع شرعه وحكمه.

ومن شأن هذه المعرفة أن تنشئ الاستقامة في قلبه وعقله. الاستقامة باستقامة التصور. والاستقامة باستقامة السلوك.

ذلك إلى الوضوح والبساطة واليسر في التصور في السلوك.. يدرك هذا كله من يوازن بين التصور الإسلامي القائم على التوحيد –بمعناه هذا ومجاله- وبين التصور الكنسي للأقانيم الثلاثة للإله الواحد. والبنوة التي لا سبيل للنجاة إلا بالاتحاد بها. والخطيئة الموروثة التي لا يغفرها إلا الاتحاد بالابن الذي هو المسيح عليه السلام! … إلى آخر هذه المعميات في هذه الدروب!

مثل هذا يقال عمن يتعامل مع "الطبيعة!" التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تنهى ولا تأمرن ولا تطالب عبادها بفضيلة ولا عملن ولا تنهاهم عن رذيلة ولا خلق! فأنى يستقيم هؤلاء العباد على منهج أو طريق؟ وأنى يستقيم لهم عقل أو قلب، وهم لا يعلمون من حقيقة إلههم ذاك شيئاً مستقيناً على الإطلاق، وهم كل يوم على موعد لكشف شيء عنه جديد، ولمعرفة صفة أو طبع لم يكونوا يعرفونه. ولا يعرفونه إلا بالمصادفة أو بالتجريب!

وعلى هذا النحو نستطيع أن نمضي في استعراض الحال مع سائر التصورات التي سبق لنا عرضها في فصل، "تيه وركام" في أول هذا البحث، وفي الفصول المتفرقة بعد ذلك. وكلها لا يمكن أن توحي لأصحابها بضبط ولا استقامة في تصور أو في سلوك. كما أنها جميعاً تتسم بالغموض والتعقيد والتخليط.

ومن ثم كان أول ما يستشعره القلب والعقل أمام العقيدة الإسلامية، هو الاستقامة والبساطة والوضوح.. وهذه هي السمة التي تجتذب الأفراد الذين يدخلون في هذا الدين من الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين، فيتحدثون عنها، بوصفها أول ما طرق حسهم من هذا الدين. وهي ذاتها السمة التي تجتذب البدائيين في أفريقيا وآسيا في القديم والحديث.. لأنها سمة الفطرة التي يشترك فيها الناس أجمعين متحضرين وبدائيين.

وإن هذا التصور ليكفل تجمع الشخصية والطاقة في كيان المسلم الفرد والجماعة، وينفي التمزق والانفصام والتبدد، التي تسببها العقائد والتصورات الأخرى..

فالكينونة الإنسانية – التي هي وحدة أصل خلقتها- تواجه ألوهية واحدة تتعامل معها في كل نشاط لها. تتعامل مع هذه الألوهية اعتقاداً وشعوراً. وتتعامل معها عبادة واتجاهاً. وتتعامل معها تشريعاً ونظاماً.. وتتعامل معها في الدنيا والآخرة أيضاً..

إنها لا تتوزع في الاعتقاد بآلهة مختلفة. أو بعناصر مختلفة في الألوهية الواحدة! أو بقوى مختلفة بعضها داخل في حوزة الإله وبعضها خارج عليه مضاد له! أو بعوامل مختلفة فيها ما يقهر الإله ذاته، وليس لها هي قانون يعرف فيتفاهم معه! أو بقوى "الطبيعة" التي ليس لها كيان محدد ولا ناموس مفهوم!

وهي لا تتوزع في التوجه بالاعتقاد والشعور والعبادة إلى جهة. والتلقي في نظام الحياة الواقعية من جهة أخرى. إنما هي تتلقى من مصدر واحد في هذا وذلك، وتتبع ناموساً واحداً يحكم الضمير والشعور، كما يحكم الحركة والعمل..وهو ناموس لا يحكم الكينونة الإنسانية وحدها، إنما يحكم الكون كله كذلك.. فالكينونة الإنسانية حينما تعامل مع هذا الكون تتعامل معه في ظل هذا الناموس الواحد، بلا توزع ولا تمزق كذلك في هذا المجال.

وهذا التجمع ينشئ طاقة هائلة، لا يقف في وجهها شيء. وهذا بعض أسرار الخوارق التي أنشأتها العقيدة الإسلامية في الحياة والتاريخ البشري. فمن هذا التصور انبثقت تلك الطاقة الموحدة. التي صنعت هذه الخوارق .. الطاقة المتجمعة في ذاتها، المتجمعة كذلك مع الطاقات الكونية المتصالحة معها، لأنها تتجمع وإياها في الناموس الواحد، المتجه إلى الألوهية الواحدة. كما بينا قبل في الحديث عن خاصية الشمول.

ثم نجئ إلى الأثر المتفرد الذي ينشئه التصور الإسلامي في ضمير المسلم وفي حياته، وفي كيانه المجتمع المسلم وفي نشاطه بخاصية التوحيد التي يتضمنها ويقوم عليها ..

إنه .. تحرير الإنسان .. أو هو بتعبير آخر .. ميلاد الإنسان ..

إنه توحد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا الله ومن عداه في العبودية وتجردهم من خصائص الألوهية .. إن هذا معناه ومقتضاه: ألا يتلقى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر إلا لله. توحيداً للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية. والذي لا ينازع الله فيه مؤمن، ولا يجترئ عليه إلا كافر..

والنصوص القرآنية تؤكد هذا المعنى وتحدده وتجرده. بما لا يدع مجالاً لشك فيه أو جدال:

"إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه. ذلك الدين القيم".(يوسف: 40)

والإسلام –وحده- يرد أمر التشريع والحاكمية لله وحده- هو الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

إن الناس في جميع الأنظمة التي يتولى التشريع والحاكمية فيها البشر-في صورة من الصور- يقعون في عبودية العباد .. وفي الإسلام –وحده- يتحررون من هذه العبودية للعباد بعبوديتهم لله وحده.

وهذا هو "تحرير الإنسان" في حقيقته الكبيرة .. وهذا –من ثم- هو "ميلاد الإنسان".. فقبل ذلك لا يكون للإنسان وجوده "الإنساني" الكامل، بمعناه الكبير، الوحيد ..

.. وهذه هي الهدية الربانية التي يهديها للناس في الأرض بعقيدة التوحيد … وهذه هي النعمة الإلهية التي يمن الله بها على عباده وهو يقول لهم: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً"..

وهذه هي الهدية التي يملك أصحاب عقيدة التوحيد أنه يهدوها –بدورهم- للبشرية كلها. وهذه هي النعمة التي يملكون أن يفيضوا منها على الناس، بعد أن يفيضوها على أنفسهم، ويرضوا منها ما رضيه الله لهم.

وهذا هو الجديد الذي يملك أصحاب عقيدة التوحيد أن يتقدموا به للبشرية اليوم، كما تقدم به أسلافهم بالأمس فتلقته البشرية يومها كما تتلقى الجديد. ولم تستطع أن تقاوم جاذبيته لأنه يمنحها ما لا تملك، فهو شيء آخر غير كل ما لديها من تصورات وعقائد، وأفكار وفلسفات، وأنظمة وأوضاع .. بكل تأكيد ..

لقد قال ربعي بن عامر رسول جيش المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله ما الذي جاء بكم؟ كلمات قلائل تصور طبيعة هذه العقيدة، وطبيعة الحركة الإسلامية التي انبثقت منها، كما تصور طبيعة تصور أهلها لها، وإدراكهم لحقيقة دورهم بها ..

قال له: "الله ابتعثنا، لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

وفي هذه الكلمات القلائل تتركز قاعدة هذه العقيدة، وتتجلى طبيعة الحركة الإسلامية التي انبثقت منها، وانطلقت بها ..

إنها إخراج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده … ورد أمرهم إلى الله –وحده- في المحيا والممات، في الدنيا والآخرة. وإفراد الله سبحانه بالألوهية وبخصائص الألوهية –والسلطان والحاكمية والتشريع، هي أولى هذه الخصائص التي لا نازع الله فيها مؤمن، ولا يجرؤ على منازعته إياها إلا كافر –ولا توجد حرية للإنسان، بل لا يوجد "الإنسان" ذاته، إلا بخلوصها لله.

وأصحاب عقيدة التوحيد – حين يفيئون اليوم إليها، وحين يرفعون رايتها وحدها- يملكون أن يقولوا للبشرية كلها ما قاله ربعي بن عامر. فالبشرة –من هذه الناحية- اليوم كما كانت يوم قال ربعي بن عامر كلمته.. إنها كلها غارقة في عبادة العباد. والتوحيد –بمعناه الشامل- هو الذي يخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك وحده "يتحرر الإنسان" بل "يولد الإنسان".

وأصحاب عقيدة التوحيد –حين يفيئون إلى منهج الله الذي من به عليهم وينادون به- يملكون أن يتقدموا للبشرية بالشيء الذي تفقده جميع المناهج والمذاهب والأنظمة والأوضاع في الأرض كلها لا استثناء. ومن ثم يكون لهم اليوم وغداً دور جديد، ودور عالمي إنساني كبير. ودور قيادي أصيل في التيارات العالمية الإنسانية. ودور يمنحهم سبباً وجيهاً للوجود العالمي الإنساني –كالدور الذي منح العرب الأميين في الجزيرة العربية، سبباً وجيهاً للوجود العالمي الإنساني، وللقيادة العالمية الإنسانية.

إنهم لا يملكون أن يقدموا للبشرية اليوم أمجاداً علمية، ولا فتوحات حضارية، يبلغ من ضخامتها أن تتفوق تفوقاً ساحاً على كل ما لدى البشرية منها .. ولكنهم يملكون أن يقدموا لها شيئاً آخر. شيئاً أعظم من كل الأمجاد العلمية، والفتوحات الحضارية. إنهم يقدمون "تحرير الإنسان" بل "ميلاد الإنسان"…

وهم حين يقدمون للبشرية هذه الهدية يقدمون معها منهجاً كاملاً للحياة منهجاً يقوم على تكريم الإنسان، وعلى إطلاق يده وعقله وضميره وروحه من كل عبودية إطلاقه بكل طاقاته لينهض بالخلافة وهو حر كريم، يملك إذن أن يقدّم وأن يقوم الأمجاد العلمية، والفتوحات الحضارية، وهو في أوج حريتهن وفي أوج كرامتهن فلا يكون عبداً للآلة، ولا عبداً للبشر .. على السواء.

ألهمنا الله السداد.والحمد لله رب العالمين. ( مختصر من خصائص التصور الإسلامي للسيد قطب رحمه الله )

!!!!!!!!!!!!!!!!!!

الباب الأول

الحضارة الإسلامية وأسسها

أنواع الحضارة الإسلامية

مفهوم الحضارة:

الحضارة هي الجهد الذي يُقدَّم لخدمة الإنسان في كل نواحي حياته، أو هي التقدم في المدنية والثقافة معًا، فالثقافة هي التقدم في الأفكار النظرية مثل القانون والسياسة والاجتماع والأخلاق وغيرها، وبالتالى يستطيع الإنسان أن يفكر تفكيرًا سليمًا، أما المدنية فهي التقدم والرقى في العلوم التي تقوم على التجربة والملاحظة مثل الطب والهندسة والزراعة، وغيرها.. وقد سميت بالمدنيَّة؛ لأنها ترتبط بالمدينة، وتحقق استقرار الناس فيها عن طريق امتلاك وسائل هذا الاستقرار، فالمدنية تهدف إلى سيطرة الإنسان على الكون من حوله، وإخضاع ظروف البيئة للإنسان.

ولابد للإنسان من الثقافة والمدنية معًا؛ لكي يستقيم فكر الأفراد وسلوكياتهم، وتتحسن حياتهم، لذلك فإن الدولة التي تهتم بالتقدم المادي على حساب التقدم في مجال القيم والأخلاق، دولة مدنيَّة، وليست متحضرة؛ ومن هنا فإن تقدم الدول الغربية في العصر الحديث يعد مدنية وليس حضارة؛ لأن الغرب اهتم بالتقدم المادي على حساب القيم والمبادئ والأخلاق، أما الإسلام الذي كرَّم الإنسان وأعلى من شأنه، فقد جاء بحضارة سامية، تسهم في تيسير حياة الإنسان.

مفهوم الحضارة الإسلامية:

الحضارة الإسلامية هي ما قدمه الإسلام للمجتمع البشرى من قيم ومبادئ، وقواعد ترفع من شأنه، وتمكنه من التقدم في الجانب المادي وتيسِّر الحياة للإنسان.

أهمية الحضارة الإسلامية:

الفرد هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وإذا صلح صلح المجتمع كله، وأصبح قادرًا على أن يحمل مشعل الحضارة، ويبلغها للعالمين، ومن أجل ذلك جاء الإسلام بتعاليم ومبادئ تُصْلِح هذا الفرد، وتجعل حياته هادئة مستقرة، وأعطاه من المبادئ ما يصلح كيانه وروحه وعقله وجسده.

وبعد إصلاح الفرد يتوجه الإسلام بالخطاب إلى المجتمع الذي يتكون من الأفراد، ويحثهم على الترابط والتعاون والبر والتقوى، وعلى كل خير؛ لتعمير هذه الأرض، واستخراج ما بها من خيرات، وتسخيرها لخدمة الإنسان وسعادته، وقد كان آباؤنا على قدر المسئولية، فحملوا هذه الحضارة، وانطلقوا بها يعلِّمون العالم كله ويوجهونه.

أنواع الحضارة الإسلامية:

وللحضارة الإسلامية، ثلاثة أنواع:

1- حضارة التاريخ (حضارة الدول):

وهي الحضارة التي قدمتها دولة من الدول الإسلامية لرفع شأن الإنسان وخدمته، وعند الحديث عن حضارة الدول ينبغى أن نتحدث عن تاريخ الدولة التي قدمت هذه الحضارة، وعن ميادين حضارتها، مثل: الزراعة، والصناعة، والتعليم، وعلاقة هذه الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وما قدمته من إنجازات في هذا الميدان.

2-الحضارة الإسلامية الأصيلة:

وهي الحضارة التي جاء بها الإسلام لخدمة البشرية كلها، وتشمل ما جاء به الإسلام من تعاليم في مجال: العقيدة، والسياسة، والاقتصاد، والقضاء، والتربية، وغير ذلك من أمور الحياة التي تسعد الإنسان وتيسر أموره.

3- الحضارة المقتبسة:

وتسمى حضارة البعث والإحياء، وهذه الحضارة كانت خدمة من المسلمين للبشرية كلها، فقد كانت هناك حضارات وعلوم ماتت، فأحياها المسلمون وطوروها، وصبغوها بالجانب الأخلاقي الذي استمدوه من الإسلام، وقد جعل هذا الأمر كُتاب العالم الغربى يقولون: إن الحضارة الإسلامية مقتبسة من الحضارات القديمة، وهما حضارتا اليونان والرومان، وأن العقلية العربية قدْ بدَّلت الصورة الظاهرة لكل هذه الحضارات وركبتها في أسلوب جديد، مما جعلها تظهر بصورة مستقلة.

وهذه فكرة خاطئة لا أساس لها من الصحة، فالحضارة الإسلامية في ذاتها وجوهرها إسلامية خالصة، وهي تختلف عن غيرها من الحضارات اختلافًا كبيرًا، إنها حضارة قائمة بذاتها، لأنها تنبعث من العقيدة الإسلامية، وتستهدف تحقيق الغاية الإسلامية، ألا وهي إعمار الكون بشريعة الله لنيل رضاه، لا مجرد تحقيق التقدم المادي، ولو كان ذلك على حساب الإنسان والدين كما هو الحال في حضارات أخرى، مع الحرص على التقدم المادي؛ لما فيه من مصلحة الأفراد والمجتمع الإنساني كله.

أما ما استفادته من الحضارات الأخرى فقد كان ميزة تحسب لها لا عليها، إذ تعنى تفتح العقل المسلم واستعداده لتقبُّل ما لدى الآخرين، ولكن وضعه فيما يتناسب والنظام الإسلامي الخاص بشكل متكامل، ولا ينقص من الحضارة الإسلامية استفادتها من الحضارات السابقة، فالتقدم والتطور يبدأ بآخر ما وصل إليه الآخرون، ثم تضيف الحضارة الجديدة لتكمل ما بدأته الحضارات الأخرى.

====================

خصائص الحضارة الإسلامية ومظاهرها

خصائص الحضارة الإسلامية للحضارة الإسلامية أسس قامت عليها، وخصائص تميزت بها عن الحضارات الأخرى، أهمها:

1- العقيدة:

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد التي تُفرِد الله سبحانه بالعبادة والطاعة، وحرص على تثبيت تلك العقيدة وتأكيدها، وبهذا نفى كل تحريف سابق لتلك الحقيقة الأزلية، قال الله تعالى: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 1-4].

فأنهي الإسلام بذلك الجدل الدائر حول وحدانية الله تعالى، وناقش افتراءات اليهود والنصارى، وردَّ عليها؛ في مثل قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}

[التوبة: 30-31].

وقطع القرآن الطريق بالحجة والمنطق على كل من جعل مع الله إلهًا آخر، قال الله تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون. لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} [الأنبياء: 21-22].

2- شمولية الإسلام وعالميته:

الإسلام دين شامل، وقد ظهرت هذه الشمولية واضحة جليَّة في عطاء الإسلام الحضاري، فهو يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، كما أن الإسلام يشمل كل متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية، فالحضارة الإسلامية تشمل الأرض ومن عليها إلى يوم القيامة؛ لأنها حضارة القرآن الذي تعهَّد الله بحفظه إلى يوم القيامة، وليست جامدة متحجرة، وترعى كل فكرة

أو وسيلة تساعد على النهوض بالبشر، وتيسر لهم أمور حياتهم، ما دامت تلك الوسيلة لا تخالف قواعد الإسلام وأسسه التي قام عليها، فهي حضارة ذات أسس ثابتة، مع مرونة توافق طبيعة كل عصر، من حيث تنفيذ هذه الأسس بما يحقق النفع للناس.

3- الحث على العلم:

حثت الحضارة الإسلامية على العلم، وشجَّع القرآن الكريم والسنة النبوية على طلب العلم، ففرق الإسلام بين أمة تقدمت علميًّا، وأمة لم تأخذ نصيبها من العلم، فقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]. وبين القرآن فضل العلماء، فقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيِّنًا فضل السعي في طلب العلم: (من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) [البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم : (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [البخاري وأبوداود والترمذي وابن ماجه].

وهناك أشياء من العلم يكون تعلمها فرضًا على كل مسلم ومسلمة، لا يجوز له أن يجهلها، وهي الأمور الأساسية في التشريع الإسلامي؛ كتعلم أمور الوضوء والطهارة والصلاة، التي تجعل المسلم يعبد الله عبادة صحيحة، وهناك أشياء أخرى يكون تعلمها فرضًا على جماعة من الأمة دون غيرهم، مثل بعض العلوم التجريبية كالكيمياء والفيزياء وغيرهما، ومثل بعض علوم الدين التي يتخصص فيها بعض الناس بالدراسة والبحث كأصول الفقه، ومصطلح الحديث وغيرهما.

مظاهر الحضارة الإسلامية:

لم تغفل الحضارة الإسلامية الجانبين الروحي والمادي في حياة الإنسان، لذلك نجد أن الحضارة الإسلامية برزت في مجالات متعددة، بحيث ترقى بالإنسان في كل مستويات حياته، ومظاهر هذه الحضارة هي:

1- الجانب السياسي.

2- الجانب الاقتصادي.

3- الجانب الاجتماعي.

4- الجانب العلمي.

5- العلاقات الدولية.

6- النظام التشريعي.

7- النظام القضائي.

8- الجانب العسكري.

9- الجانب المعماري.

---------------

الجانب السياسي في الحضارة الإسلامية

جاء الإسلام رحمة للعالمين، وجاءت تعاليم الإسلام لتضمن سلامة المجتمع البشري من التفكك والضعف والانحلال، ولتضمن سعادته في الدنيا والآخرة، ولقد تمسك بها الصحابة -رضي الله عنهم- فخضعت لهم الدنيا، وأسسوا للإسلام دولة واسعة الحضارة، قوية البناء، محبة للعلوم، والتاريخ خير شاهد على ذلك. لقد وضع الإسلام نظامًا لم يكن معروفًا في أي مجتمع من المجتمعات، ولم يكن هذا النظام تطورًا طبيعيًّا أو غير طبيعى لأي نظام سابق عليه.

إن نظام الحكم الإسلامي له أسسه وقوانينه الواضحة المستمدة من القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأهمية الحكم في الإسلام فقد اهتم الإسلام ببيان ما على الحاكم والمحكوم، فحذر الحاكم من اتباع الهوى وشهوات النفس، قال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]. وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49].

وحذر الله -سبحانه- المحكوم من العصيان دون سبب مقبول شرعًا، قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].

وحرص الإسلام على أن يسود العدل بين جميع الناس، وحذر من الظلم وعواقبه، حتى مع غير المسلمين، قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا} [النساء: 58]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].

خصائص النظام السياسي في الإسلام:

1- نظام عالمي:

النظام السياسي الإسلامي نظام عالمي، استمد عالميته من عالمية الإسلام ذاته، ومن صلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان، فجعل للعلماء القادرين على الاستنتاج واستخراج الأحكام الحقَّ في الاجتهاد في تفصيل الأحكام وتوضيحها بالشكل الذي يحقق أهداف الإسلام، ويدور في إطار أحكام الإسلام العامة، وقد جاءت أحكام الإسلام في أسلوبين:

الأول: أحكام تفصيلية محددة، تبين حكمها نصوص من القرآن واضحة الدلالة، لا خلاف في معناها، وأحاديث صحيحة من السنة وطرق أدائها، وهذه التعاليم لا

مجال للاجتهاد فيها بالزيادة أو النقصان مثل بعض أحكام الصلاة والزكاة والحج والمواريث وغيرها.

والثانى: أحكام جاءت من خلال الآيات التي يُختلف في تفسيرها، والأحاديث التي لم تثبت صحتها، أو ثبتت صحتها ولم يتفق العلماء فيها على معنى واحد، أو عبارة عن قواعد عامة في مجال المعاملات، وهذه من حق العلماء القادرين على الاجتهاد أن يبدوا الرأي فيها، بما يحقق مصالح المجتمع الإسلامي في زمن معين أو وضع معين، مع المحافظة على روح الشريعة، وتحقيق مقاصدها التي جاءت لمصلحة الناس.

2- المشاركة بين الفرد والمجتمع:

العلاقة بين الفرد والمجتمع في النظام الإسلامي علاقة مشاركة، فالإسلام لا يعترف بالفلسفات والمذاهب التي تجعل الفرد والمجتمع في صراع، وبعض هذه المذاهب يفضل جانب الفرد على المجتمع مثل الرأسمالية، وبعضها الآخر يفضل جانب المجتمع على جانب الفرد كما صنعت الشيوعية، أما الإسلام فهو يوازن بين الفرد والمجتمع، فهو يعترف بالمسئولية الفردية، أي مسئولية كل فرد عن أفعاله، قال تعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخري. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 38-39]، ويشجعه على أن يتفاعل مع المجتمع، ويؤدي ما عليه تجاهه، من خير يحمله إليه، وشر يدفعه عنه، فالفرد عليه تبعات تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه، ملزم بأدائها.

وينظم الإسلام ذلك من خلال مبدأ المسئولية الاجتماعية، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لتوضيح هذه المسئولية الجماعية من خلال المثل الذي ضربه في حديثه: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا) [البخاري].

وعلاقة الفرد بالحكومة، علاقة تعاون، فقد أعطى الإسلام الفرد حقوقه الأساسية، وألزم الحكومة باتباع القانون الرباني، وحمى الفرد من تدخل الحكومة في شئونه دون مبرر، قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26].

وربط الإسلام الفرد المسلم بضوابط أخلاقية، وفرض عليه طاعة الحكومة المسلمة التي تطبق شرع الله، وطلب منه التعاون معها والتضحية بالنفس والمال في سبيل حمايتها، قال صلى الله عليه وسلم : (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي) [البخاري].

3- الحكومة الإسلامية نابعة من المجتمع الإسلامي:

فالإسلام لا يعترف بهيئة من خارج المجتمع الإسلامي تحكم الأمة عن طريق الاستيلاء على السلطة بالقوة وحكم الشعوب بالتسلط والقهر، قال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].

فقوله تعالى: (منكم) يحدد نوعية الحاكم والحكومة، وهي أنها حكومة إسلامية منا، وليست من غير المسلمين، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء: 141].

4 - التأثير المتبادل بين التعاليم والمبادئ:

نظم الحضارة الإسلامية، الخلقي منها والاقتصادي والسياسي، كل منها يؤثر في الآخر ويتأثر به، فمثلاً بدون التعاليم والمبادئ الخلقية لا يؤدى النظام الاقتصادي دوره المنشود، ويصعب الوصول إلى ما يدعو إليه من تعاون وتكافل بين الناس، كما يسهل تسرب الفساد إلى الأجهزة السياسية وغيرها.

5 - تميز نظام الحكم الإسلامي عن النظم الغربية:

فالنظم الغربية، تقوم على أساس الخضوع لحكم الأغلبية المطلقة -صالحة كانت أم فاسدة- فهي التي تشرع وتضع القوانين، وهي التي تحكم، أما في النظام الإسلامي، فالحاكم الحقيقي هو الله سبحانه، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40].

وسلطة الشعب المسلم والحكومة الإسلامية محدودة بالعمل تبعًا لأوامر الله، عن رضا واطمئنان وثقة وحب ورغبة.

خصائص الدولة الإسلامية

والدولة الإسلامية تتميز بعدة خصائص منها:

1- السير وفق قانون واضح المعالم:

القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :، هما أساس الدستور الإسلامي، وقد يدخل في هذا الدستور من القواعد العامة أشياء غير منصوص عليها في الكتاب ولا في السنة ومع ذلك يمكن إدخالها تحت قاعدة كلية من الكتاب والسنة.

إن كل مُشَرِّع يضع القوانين التي تحمى مصالحه وتحقق أهدافه، أما في الإسلام فإن سلطة التشريع حق لله وحده، وهو لا يحابي أحدًا ولا يظلم أحدًا، ومن ثم فإن التشريع الإسلامي يتصف بالعدل، ويكره الهوى، ويتسم بالشمول.

وعلى الإنسان أن ينفذ أوامر الله سبحانه، ويحكِّم كتاب الله وسنة رسوله فيما يقع بين الناس من خلاف، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بنهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].

وغاية إقامة الدولة الإسلامية تنفيذ أوامر الله، وتحكيم شرعه بين الناس، ويتضح ذلك من تعريف العلماء لمنصب الخلافة أو الحكم، حيث يقولون: إن الخلافة نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، أي أن الحاكم المسلم أو الخليفة يقوم بمهمته نائبًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ أوامر الله، والعمل بها، وإلزام الناس بالعمل بها، فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا.

2- التقوى هي أساس التفاضل بين المسلمين:

التقوى والعمل الصالح والخلق الحسن أساس التفاضل بين أبناء المجتمع المسلم، وليس السلطان أو الجاه أو المركز الاجتماعي، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. وقال صلى الله عليه وسلم : (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح) [أحمد].

3- الوفاء بالعهود الداخلية والخارجية:

وهذا من الخصائص اللازمة والضرورية للدولة الإسلامية، لإقرار الأمن وتحقيق السلام والاستقرار، قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إنَّ الله يعلم ما تفعلون) [النحل: 91].

وهذا فرض ومنهج حياة لا تجوز مخالفته، قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) [الإسراء: 34]. وذلك لنشر السلام في كل أنحاء الديار الإسلامية، لقوله صلى الله عليه وسلم : (أفشوا السلام بينكم) [مسلم]، ولا فرق في ذلك بين مسلم وذِمِّي من رعايا الدولة الإسلامية، لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل ذمتنا) [البيهقي].

وفي العلاقات الخارجية فالدولة الإسلامية تدعو إلى السلام، ما لم تُنْتهك حرمات الله أو يُعتدى على أرض المسلمين، قال تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وتظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 8-9].

أسس وقواعد الحكم في الحضارة الإسلامية

1- حق الأمة في اختيار الحاكم وتقويمه:

فالأمة صاحبة الحق في اختيار الحاكم ومبايعته، وفي الإشراف على سياسته وتصرفاته، ولها حق تقويمه إذا ابتعد عن طريق الصواب، وكل مسلم بالغ عاقل من حقه أن يشترك في بيعة الحاكم، وما يلزم في اختيار الحاكم هو اختيار أغلبية الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد وهم مجلس الشورى.

وليس من الضرورى أن يكون هناك إجماع على شخص رئيس الدولة الإسلامية، فمن المعروف تاريخيًّا أن المسلمين جميعًا لم يجمعوا على اختيار حاكم، فالذين بايعوا الخلفاء الراشدين هم أهل المدينة، وبعض المسلمين من أهل مكة.

ويُعزل الحاكم إذا ثبت عجزه وفساده، ولكن بعد أن يبذل له المخلصون من أبناء الأمة وعلمائها النصح بكل الطرق والوسائل التي ترده إلى الحق، فإن استجاب ورجع إلى الحق فلا ينبغي عزله، إلا إذا لم يستمع لنصح الناصحين وإخلاص المخلصين، وتعذر تعذرًا شديدًا إصلاح حاله، وظهر استخفافه بمصالح المسلمين، وعدم اهتمامه بما يحفظ على المسلمين حقوقهم وعزتهم وكرامتهم. وذلك بشرط القدرة على عزله دون حدوث فتنة تؤدي إلى ضرر يفوق الضرر من بقائه، فإن تأكد العجز عن عزله دون فتن مهلكة، فالصبر على ظلمه أولى.

2- الشورى:

فالشورى ركن أساسي من أركان الحكم الإسلامي، قال سبحانه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]، وقال أيضًا: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38]،وكان صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه كثيرًا. وكذلك كان الخلفاء

الراشدون -رضي الله عنهم- من بعده يستشيرون أهل العلم والخبرة في كل الأمور، كاختيار القواد، وتسيير الجيوش، وتوزيع الغنائم، كما كانوا يرجعون إلى الفقهاء في المسائل التي لا يجدون لها حكمًا ظاهرًا في الكتاب والسنة.

وقد كون أبوبكر -رضي الله عنه- مجلس شورى يعرض عليه أي مسألة ليس فيها نص قرآني أو نبوي صريح، وكان عمر -رضي الله عنه- يمنع كبار الصحابة من الخروج من المدينة حتى يستشيرهم عند الحاجة.

وهذه الشورى لا تكون في أمر فيه نص صريح الدلالة من كتاب الله أو سنة صحيحة، فهذه الأمور لا دخل للشورى فيها، فرسول الله كان يلتزم الشورى، ولكن في الأمور التي ليس فيها نص من كتاب الله، ولم ينزل الوحي يبين للرسول ( ما يفعله فيما وقع من المسائل، وتتحقق الشورى في مظهرين:

الأول: اختيار الحاكم المسلم القادر على القيام بالمسئولية، ومبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن تمت البيعة كان له السمع والطاعة دون ضغط أو إكراه.

الثانى: عدم استبداد الحاكم بالسلطة، فمن حق كل مسلم أن يبدي رأيه بكل حرية، وبكل قوة في كل أمر من أمور الدولة، ومن واجب الحاكم أن يستمع إليه، ويستضىء برأيه إن كان فيه الصواب، هذا وإن كان لكل فرد أن يعبر عن رأيه فإنه لا يجب استشارة العوام في مهام الأمور، لأنهم لا يستطيعون تقدير الأمور تقديرًا صحيحًا، وإنما يستشار أهل الحل والعقد والحكمة فيمن توفرت فيهم شروط من يستشار، مثل العلم، والتقوى، والورع، وحسن التدبير، والتفكير.

وأهل الحل والعقد: هم جماعة من الأمراء والحكام -والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء في كل المصالح، الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة.

وقد ركز الإسلام على الشورى في نظام الحكم؛ لما لها من آثار طيبة على حياة الفرد والمجتمع، ومن هذه الآثار:

- أنها تتفق مع ما قرره الإسلام من احترام للفرد والاعتراف بشخصيته في إطار مصلحة الجماعة.

- أنها طريق مضمونة للوصول إلى أصح وأصوب الآراء في موضوع ما من الموضوعات التي تدخل في نطاق الشورى، وبالشورى يحترم الحاكم مشاعر المحكومين وحقوقهم؛ فهم شركاء في الحكم.

-تحفظ حقوق الشعب، وتصحح مسار الحكام، وتضمن استقامتهم وحسن تدبيرهم لأمور الدولة.

وبعد، فهذه هي الشورى الإسلامية، وهي الشورى الحقيقية التي تقوم على الحرية في إبداء الرأي، دون خوف أو إكراه.

3- العدل:

أمر الإسلام بالعدل، وجعله غاية الحكم الإسلامي وهدفه، والعدل هو: إعطاء كل ذي حق حقه كاملاً غير منقوص. وهذا العدل مسئولية الحاكم، وواجب من الواجبات المفروضة عليه، والأمة لها الحق في أن تحاسب الحاكم إذا ظلم أحدًا. ويشمل العدل كل الحقوق المتعلقة بالأرواح والأعراض والحريات والأموال، للمسلم وغير المسلم.

وتحدثت كثير من الآيات في القرآن عن العدل، وحذرت من الظلم وعواقبه، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم الله لعلكم تذكرون} [النحل: 90]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].

ومن العدل أن يكون الناس أمام القانون سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا غني وفقير، فالعدل يخضع له الجميع، وبذلك يكون العدل هو أساس استمرار الدول والحفاظ عليها، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.

ومن أجل أن يتحقق العدل فلابد له من قوة تحميه، ولا بد أن يكون حاكمًا لا خاضعًا، ولذلك نجد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحرص على جعل القضاء الذي يقيم العدل مستقلاً عن كل سلطة، حتى عن سلطة الحاكم، وصار ذلك مبدأ من مبادئ الحكم الإسلامي، فعندما تولى عمر الخلافة، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، عين لكل إقليم قاضيًا مستقلاً، ونظم السلطة القضائية وميزها

عن غيرها.

إن العدل يشعر المواطن بالأمن على ماله وعرضه وسائر حقوقه، ففي ظل العدل تختفي الجريمة، وينصرف كل إنسان إلى عمله، ويسهم في بناء مجتمعه وأمته، وبالعدل يجنى الإنسان ثمرة عمله وتعبه، وينطلق في ميادين التنافس الشريف في ميادين

الخير، وبالعدل تتم المساواة، ويتفاضل الناس بحسب قدراتهم وجهدهم. إن الإسلام سبق كل الذين دَعَوْا إلى العدل، وأرسى دعائمه، وقد طبق العدل أروع تطبيق في حياة المسلمين.

4- طاعة الحاكم:

طاعة الحاكم هي إحدى قواعد الحكم الإسلامي، وذلك ما دام الحاكم منفذًا لحدود الله عز وجل، وما لم يأمر بمعصية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].

وعلى المسلم أن يسمع ويطيع للحاكم، فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر الحاكم بمعصية فلا طاعة له، قال صلى الله عليه وسلم : (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [ابن ماجه].

5- الحرية:

لقد احترم الإسلام الحرية الفردية، فلم يكره أحدًا على أن يعتنق فلسفة معينة، ولم يُرغمه على أن يعيش حياته وفق نظرية محددة، بل إن لكل فرد في الدولة الإسلامية حريته الكاملة في أن يفكر وأن يختار أسلوب حياته، وأن يعبر عن رأيه بشرط ألاَّ يَحُدَّ من حرية الآخرين.

وفي مجال العقيدة الدينية، فقد أعطى الإسلام لأفراد الدولة الإسلامية الحرية في اعتناق أية عقيدة، فمن حق أهل الكتاب الخاضعين للدولة الإسلامية أن يمارسوا شعائرهم دون أن يمنعهم من ذلك أحد، قال تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، وقال سبحانه: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]. وهذه هي كلمة عمر الخالدة التي قالها لعمرو بن العاص عندما تسابق ابنه مع أحد المصريين القبط فسبقه المصري، فضربه ابن عمرو بن العاص.

فاشتكى هذا الشاب لأمير المؤمنين عمر، فاستدعى عمرًا وابنه، وأمر هذا الغلام أن يضرب ابن عمرو بن العاص أمام أبيه، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وقد قرر الإسلام حريات أخرى كثيرة، مثل الحرية المدنية؛ وهي حرية الشخص في عقد العقود، وتحمل الالتزامات، وقد أقرها الإسلام لكل إنسان ما عدا الصبى والمجنون، ومن هذه الحريات؛ الحرية السياسية، وحرية التفكير، والحرية في الإسلام مشروطة بعدم التعدي على مبادئ الإسلام وعدم التعدي على حرية الآخرين.

صفات الحاكم المسلم

لقد شهدت الحضارة الإسلامية حكامًا عظامًا، أعظمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وهو القدوة في كل شيء، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} [الأحزاب: 21].

وقد رأت الدنيا أجيالاً متتالية من الحكام المسلمين ممن اتبعوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وتربوا على سنته وما كان لهم في الأرض نظير، ولِمَ لا، وقد تعلموا ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته) [متفق عليه]. وقد اتضح لهم أن مسئولية الحاكم عظيمة القدر؛ لأنها تتعلق بشئون الدين والدنيا، فلابد أن يكون أهلا لها بما يتوفر فيه من صفات تجعله ينهض بأعباء المسئولية على خير وجه.

ومن أهم هذه الصفات:

-اعتقاده أن السلطة تكليف وليست تشريفًا، فقد اختاره الشعب وبايعه بالرئاسة لكفاءته، وبايعه على السمع والطاعة، وجعلوه وكيلاً عنهم في حماية أمور الدين وتدبير شئون الحياة، ومن حق الشعب أن يراقبه ويحاسبه، أو يعزله إذا انحرف من خلال أهل العقد والحل. وعلى الحاكم المسلم أن يعلم أنها أمانة، وهي يوم القيامة خزي وندامة، إذا لم يؤدِّ حقها، فقد قال أبو ذر -رضي الله عنه-: يا رسول الله، ألا تستعملني (تولني إمارة)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا أبا ذر، إنك ضعيف إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها) [مسلم].

-أن يكون ذكيًّا فطنًا عالمًا بأحكام الدين وقواعده العامة، وبذلك يستطيع تمييز الحلال من الحرام، فهو الأمين على مصالح الأمة والراعي لها، كما ينبغى له أن يكون على أعظم معرفة بأمور الدنيا، مثل الحرب والبيع والشراء، وعقد المعاهدات وغير ذلك.

-أن يتصف بالصفات الحسنة، كالأمانة والعفة والكرم، وأن يبتعد عن كبائر الذنوب وصغائرها.

-أن يلتزم مبدأ الشورى في تدبير أمور الأمة في الأشياء التي ليس فيها نص من القرآن أو السنة، فيستشير أهل الرأي والخبرة ليستفيد من عقولهم، وليستنير بحسن تدبيرهم.

-وينبغي أن يكون سليم الحواس والأعضاء من نقص يمنع القيام بأعباء الحكم، فلا يكون له أمراض كالجنون والصمم والخرس، وفَقْد بعض الأعضاء، مثل اليدين والقدمين، وكل هذا مما يؤثر على عمله وقيامه به خير قيام، وهكذا ندرك أن الإسلام أعطى مكانة عظيمة للسياسة والحكم لما لهما من أهمية ونفع في تسيير أمور الحياة.

=====================

الجانب الاقتصادي في الحضارة الإسلامية

المال من أهم مقومات الحياة، جعله الله أداة لتيسير حياة الإنسان ومعيشته واستقراره، وجعله الله زينة من زينة الحياة الدنيا، فالإنسان مفتون به، مشغول بجمعه، قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14].

وهذا الشغف بجمع المال قد يدفع الإنسان إلى عدم تحري الحلال في جمع المال، وبالتالي يصبح هذا الإنسان عبدًا للمال، ذليلاً له، كما أن ضعفه أو عجزه عن مقاومة شهواته وغرائزه قد يدفعه إلى إنفاق المال بصورة قد تضرُّ به وبمجتمعه، فوضع الإسلام ضوابط للكسب والإنفاق، وبين أن الناس مسئولون عن أموالهم وطرق إنفاقها، وحذرهم من انشغالهم بها عن آخرتهم أو افتتانهم بها، فجاء هذا بارزًا في قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تزولُ قدما عَبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ: عن عُمْرِهِ فيمَ أفناه، وعن علمِه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه) [الترمذي].

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9]، وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} [التغابن: 15].

وهناك أمور ينبغي على المسلم أن يعرفها عن المال، وهي:

1- أن هذا المال شأنه كشأن غيره مما في هذا الكون ملك لله.

2- هذا الكون بما فيه من مالٍ وغيره مسخر للإنسان تكريمًا له.

3- المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، فإن أحسن التصرف فيه؛ فله خير الجزاء، وإن أساء التصرف فيه؛ فحسابه على الله.

4- المال هو وسيلة لحياة كريمة عزيزة، لا غاية يسعى الإنسان لتحقيقها، ويضيع عمره من أجلها، فالمسلم الحق لا يدع حب المال يستبد به، بل يجمع المال من حلال، وينفقه فيما يحب الله.

5- المال الذي اكتسبه صاحبه من طريق حلال ملك له ملكية خالصة، يجب أن يحافظ عليه، ولا يجوز لأحد التعدي عليه.

وبناء على هذه المبادئ والأسس السابقة يكون للإنسان الحق في التصرف في ماله كسبًا وإنفاقًا وإدارة، وهي حقوق مترتبة على ملكية الإنسان للمال الذي جاء من طريق شرعي.

الطرق المشروعة في كسب المال

على المسلم أن يتحرى الحق والصواب في طلب المال، ومن هذه الطرق المشروعة:

- العمل الشريف: مثل الزراعة والصناعة والتجارة والوظيفة والحرفة، وغيرها، فممارسة العمل الشريف حماية للإنسان من التعطل وتوجيه لطاقته من أجل البناء والتعمير والتنمية، واستخراج خيرات الأرض، استجابة لأوامر الله.

وقد عمل ( والصحابة من بعده، فهذا أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- يعمل بيده لينفق على نفسه، حتى طلب منه المسلمون التفرغ للخلافة وأمور المسلمين. وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: إني لأرى الرجل ليعجبني قوله؛ فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني.

- الميراث: وذلك بأن تنتقل ملكية المال إلى ورثة المتوفى، طبقًا للقواعد الشرعية المقررة لهذا الميراث.

- الهبة: وهي أن يتنازل الإنسان عن بعض ماله إلى غيره دون مقابل، فتنتقل ملكية هذا المال إلى هذا الغير.

- الوقف: ويكون بحبس المال الحلال على بعض أوجه الإنفاق الشرعية، ولا يتصرف في أصله، والوقف قد يكون على الأهل والأقارب ومن بعدهم الفقراء، وقد يكون الوقف على أبواب الخير، مثل: بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو ما سوى ذلك من المشاريع الخيرية.

- الوصية: وهي أن يهب الإنسان إنسانًا آخر جزءًا من ماله لا يتجاوز الثلث، يأخذه بعد موت الموصي.

- غنائم الحرب: وهي المال الذي يؤخذ من أعداء الإسلام نتيجة الحروب، وقد أحل الله الغنائم للمسلمين.

- الفىء: وهو المال الذي يؤخذ من أعداء الله نتيجة استسلامهم، ولا يبذل المسلمون في ذلك مشقة، ولا يتكلفون فيه قتالاً.

الطرق المحرمة في اكتساب المال

حرم الإسلام بعض الطرق التي يكتسب بها المال، وهي:

الربا: حرم الله الربا بكل صوره، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}

[البقرة: 275]، وقال صلى الله عليه وسلم : (لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديْه وكاتبه) [مسلم وأصحاب السنن].

الاحتكار: وهو حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : (من احتكر فهو خاطئ (آثم)) [مسلم وأبو داود وابن ماجه].

العدوان: فلا يجوز للمسلم أن يعتدي على مال الآخرين ليأخذه، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190].

الرشوة: فالمسلم الذي يحصل على ماله من طريق الرشوة آثم عند الله تعالى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي) [أبو داود والترمذي].

الغش: فاكتساب المال من طريق الغش حرام لا يجوز، قال صلى الله عليه وسلم : (من غَشَّ فليس منا) [مسلم وأبوداود].

وعلى المسلم أن يبتعد عن الشبهات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) [متفق عليه].

استثمار المال

المال له أهمية عظيمة في إنعاش اقتصاد الدولة، وفي رفع مستوى معيشة الأفراد، والتخفيف من المعاناة التي يحس بها الإنسان، وقد كان أصحاب النبى ( يعملون في التجارة وغيرها ويربحون ربحًا حلالا.

وعندما هاجر النبى ( إلى المدينة وهاجر أصحابه- تاركين أموالهم من خلفهم- آخى ( بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين

عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين وسعد بن الربيع من الأنصار، فعرض سعد على عبد الرحمن أن يأخذ نصف ماله، فقال عبد الرحمن لأخيه: بارك الله لك في مالك وأهلك، ولكن دُلَّني على السوق. فدله على سوق بني قينقاع، فذهب إليه، وتاجر حتى كثر ماله وصار من أغنياء المسلمين، فكان ينفق ماله في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم : (نِعْم المال الصالح للرجل الصالح) [أحمد]. ويُستثمر المال في الزراعة والصناعة والبناء، وغير ذلك مما فيه عمارة الأرض وصلاح الإنسان، أما أن يُستثمر المال في تجارة محرمة أو أمر فيه ضرر على الأمة فهذا ما لا يبيحه الإسلام.

الحقوق في المال

جعل الله المال لتيسير الحياة على الناس، وأمرهم بالاستمتاع بالطيبات في اعتدال بلا إسراف ولا تبذير، لأن الله حرَّم ذلك، فقال سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، وحرم الله كنز المال لغير مصلحة، وذم البخل به دون سبب؛ لأن في ذلك تعطيلاً لمصالح المسلمين، وتعسيرًا على الناس، قال تعالى: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا} [النساء: 37].

والزكاة حق معلوم في المال، وهي تُؤخذ من الأغنياء وتُعْطَى للفقراء بقواعد حددها الشرع، وقد حدد الإسلام مصارف هذه الزكاة، والمستحقين لها، فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة : 60].

وقد حدد الشرع الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار ما يجب إخراجه من كل صنف، ومنها: النقدان (الذهب والفضة)، والحيوان (الإبل والبقر والجاموس والغنم والخراف والماعز)، والزروع، وعروض التجارة، وزكاة الرِّكاز (وهي ما يُستخرج من باطن الأرض مثل البترول والمعادن).

والزكاة شعار ورمز لوحدة المسلمين، وهذه الوحدة مطلب أساسي من مطالب الإسلام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى فيه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) [متفق عليه].

والزكاة واحدة من تشريعات كثيرة تعمق المحبة بين المسلمين؛ لأنها تطهير لمال الغني وحفظ له من التلف، وإحساس بالواجب نحو فقراء المسلمين، وهي كذلك تقضي احتياجات الفقراء، وتدفع عنهم أعباء الحياة ومشاقها، كما أنها شكر لله على نعمته.

وإيتاء الزكاة يقضي على الأمراض الاجتماعية الخطيرة، مثل: الحقد، والحسد، والبغضاء، وهي تضر بالمجتمع وبالفرد معًا.

وإذا لم تكفِ الزكاة لسد حاجة الفقراء وكسوتهم، فإنه يؤخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء ويسد رمقهم، ويؤمِّنهم من الخوف، وهذا الحق مقداره أن تُكْفى حاجة الفقراء، قال صلى الله عليه وسلم : (إن في المال حقًّا سوى الزكاة)، ثم تلا هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [الحديث رواه الترمذي].

كما اتفق الفقهاء على أنه عند حدوث الكوارث مثل هجوم عدو على ديار المسلمين، ولم تستطع الدولة رد هذا العدوان لعدم وجود المال، فإنه يجب على الأغنياء أن يُخرجوا من أموالهم ما يكفي لإعداد الجيوش، ولو دفعوا زكاة أموالهم كلٌّ حسب درجة غناه. قال الإمام مالك: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك كل أموالهم.

مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام

لقد عالج الإسلام الفقر من عدة جوانب، منها:

1- الحث على التكسب وطلب الغنى، وبيَّن أن الفقر في أحيان كثيرة خطر على المجتمع، يمنع استقراره، ويجعل للرذيلة والفساد مكانًا فيه، وأوجب إخراج الزكاة، وجعلها حقًّا للفقير لا يحق له أن يترك المطالبة به، ولا يجوز للغني منعه، بل يُعاقب إن فعل ذلك، وأصرَّ عليه كما فعل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة.

2- جاء الإسلام بقاعدة أن المال مال الله، وأن الأغنياء ليسوا ملاكًا للمال حقيقة، وإنما هم مستخلفون فيه، وهو أمانة من الله عندهم، قال الله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7].

3- توفير فرص العمل للقادرين، فالدولة المسلمة عليها مسئولية وواجبات تجاه القادرين على العمل، فهي مسئولة عن توفير فرص العمل لهم، جاء رجل من الأنصار إلى النبى ( يسأله مالاً، فقال له النبى ( : (أما في بيتك شيء؟). قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ نشرب فيه الماء. قال: (ائتنى بهما). فأتاه بهما؛ فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وقال: (من يشترِي هذين؟). فقال رجلٌ: أنا آخذها بدرهم. قال: (من يزيد على درهم، مرتين أو ثلاثًا)، قال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا؛ فائتني به)، ففعل الرجل ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم وأَحضر قدومًا، فشدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال: (اذهب واحتطب وبعْ، ولا أرينَّك خمسة عشر يومًا)، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (شديد)، أو لذي غرم مُفظِع، أو لذي دم موجع)

[أبو داود والترمذي وابن ماجه].

فالإسلام لا يعرف عاطلاً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) [البخاري]. وقد جعل القرآن الكريم العامل الذي يكسب رزقه من عمل شريف، مساويًا للمجاهد في سبيل الله في الفضل، قال تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} [المزمل: 20]. وعلى الدولة المسلمة أن تعين العاجزين عن العمل إن احتاجوا إلى إعانة، وأن تمدهم بالمال إن احتاجوا إليه، وإن عجزت الدولة عن توفير فرص عمل شريف لهم.

4- كفالة العاملين بالدولة: فعلى الدولة المسلمة أن توفر الرعاية الاجتماعية للقادرين على العمل من أبنائها، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من كان من عُمَّاله وليس له زوجة فليتخذ زوجة، ومن ليس له خادم فليتخذ له خادمًا، ولم يكتفِ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، بل بين أنه على العمال أن يطمئنوا على أهليهم، فمن ترك مالا فلورثته، ومن ترك أولادًا صغارًا ضعافًا، فإن على ولي الأمر أن يرعاهم ويتكفلهم.

مبادئ الاقتصاد الإسلامي

للاقتصاد الإسلامي مبادئ تحفظ له صلاحية تطبيقه في المجتمعات على مر العصور، منها:

أولا: لم يجعل الإسلام الغنى حاكمًا أو متسلطًا، كما كان الحال من قبل، وليس معنى هذا أن الإسلام يحرِّم على الغنى أن يكون حاكمًا أو أميرًا أو واليًا، ولكن الغنى ليس المقياس الأوحد للحكم.

ثانيًا: اهتم القرآن بتوجيه المسلمين إلى مصادر الثروة المختلفة، سواء منها ما اتصل بالصناعة أو الزراعة أو الصيد أو استخراج المعادن أو البترول، وما سوى ذلك، قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [الحديد: 25]. وقال: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63 - 64]. وقال: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [النحل: 14].

ثالثًا: عرف الإسلام نظام الملكية العامة والملكية الخاصة، وبين أن هناك أشياء لا يجوز أن يملكها الأفراد، وهي التي لا يستغني عنها فرد من أفراد الدولة الإسلامية، وهذه الأشياء تختلف حسب البيئات والظروف، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة منها وهي: الماء والكلأ والنار، لأنها هي التي كانت منتشرة في البيئة الصحراوية التي كانت في مهد الإسلام.

وهذه الأشياء الثلاثة يمكن أن يقاس عليها غيرها مما يشبهها، فقد جعل

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الأرض المفتوحة بالعراق ملكًا عامًّا للدولة، واسترد الإمام علي والخليفة عمر بن عبد العزيز ما منحه الخلفاء قبلهما كهبات لبعض الناس وتم إعادتها للملكية العامة، حتى يكون النفع بها أعم للناس جميعًا، وليس مقصورًا على آحاد الناس.

وقد أقر الإسلام الملكية الفردية، وشجع عليها، وحرسها للمالك، واتفق بذلك مع فطرة الإنسان وغريزته التي جُبِلت على حب التملك، ولم يقيدها إلا بأن تكون من مصادر مشروعة، وأن تؤدي ما فيها من حقوق كالزكاة وغيرها، ويهدف الإسلام من وراء ذلك إلى جعلها ملكية مقيدة وليست مطلقة، وجعلها وظيفة اجتماعية يعود نفعها على المجتمع، وإلا تمَّ أخذها من ذلك الذي أساء التصرف فيها، وأسندها

إلى من يديرها إدارة تناسب مصلحة المجتمع حتى يعود ذلك المسىء إلى الحق والصواب.

رابعًا: يرفض الإسلام أن تكون الملكيات الكبيرة في أيدي فئة قليلة، إذا لم يخرجوا منها حق الله؛ وذلك حتى لا تتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، قال تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7].

خامسًا: أجاز الإسلام التفاوت بين الناس في الملكية على أساس التفاوت بينهم في الجهد والعمل والمواهب. قال تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل: 71].

سادسًا: جعل الإسلام في مال الغني حقوقًا للفقير، قال تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات: 19].

سابعًا: أوجب الإسلام على الحكومة المسلمة أن تدافع عن الفقراء إذا حدث لهم أي ظلم من جانب الأغنياء، وقد قاتل أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- مانعي الزكاة لما في ذلك من مخالفة لحكم الإسلام وظلم للفقراء وهدم لحقوقهم.

=================

الجانب الاجتماعي في الحضارة الإسلامية

كانت البشرية قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم تعيش في ظلمات كثيرة، وتتخبط في الجهل، وكثُرتْ الوثنية، ووصل عدد الآلهة التي تُعبد من دون الله إلى عدد لم تعهده البشرية من قبل، وانتشرت المفاسد والشرور والمساوئ الأخلاقية، وشمل الفساد كل بقاع الأرض، ثم شاء الله أن يرسل نورًا يزيل به ما على الأرض من ظُلمة، فأشرقت شمس الإسلام، وتغيرت الموازين، ودبت الحياة في العالم.

وأقام الإسلام مجتمعًا متكاملاً، فبنى الفرد المسلم الصالح، فكان أساسًا لبناء المجتمع المسلم الصالح المترابط الذي يسير على منهج الله سبحانه، وكان لابد من تكوين مجتمع مسلم؛ ليحمل عبء هذه الدعوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والدفاع عنها بعد موته، ونشرها في كل أرجاء الدنيا.

وقد انشغل الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة في مكة بتربية الفرد المسلم؛ كأساس لبناء المجتمع المسلم، وقد تمثلت جوانب هذه التربية في عدة أمور، هي:

أولاً: تصحيح العقيدة:

أخرج الإسلام الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، وإلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأخرجهم من عبادة المادة إلى عبادة الله، وأراد تحريرهم من التخلف العقلي والعقائدي، وترقيق مشاعرهم وأحاسيسهم، والسمو بها إلى أعلى منزلة، فوصل هذا الإيمان إلى أعماق قلوبهم، وحوَّل هذا الإنسان من الدفاع عن قبيلته وعشيرته إلى التفاني في سبيل الدفاع عن دينه وعقيدته، والعمل على نصر هذا الدين، والحرص على نشره، وتبليغه للناس ابتغاء مرضاة الله.

فهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يدخل على رستم -قائد الفرس- فلا يهتم بالزخرفة والزينة التي تحيط به، فيقول له رستم: ما جاء بكم ؟! فيرد عليه ربعي قائلاً: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء مِنْ عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام.

ثانيًا: السمو الخلقي، والتخلق بأخلاق القرآن:

كان كثير من العرب يفعلون الفواحش والمعاصي، وعندما جاء الإسلام ألبسهم ثوب العفة والطهر، فغضوا أبصارهم، واستقبحوا الفواحش والمعاصي، وذلك بفضل الضمير الحي الذي يراقب الله ويخشاه، والذي رباه القرآن في المسلم، فإذا غلبه الشيطان والهوى ووقع في معصية، عاتبه ضميره، وسرعان ما يتوب، ويطلب أن يقام عليه الحد إن كانت المعصية مما يوجب إقامة الحد.

وكان العربي يحمل السيف ويعتدي على غيره بسبب وبغير سبب، وكانت الحروب تستمر بين العرب وبعضهم لفترات طويلة، فجاء الإسلام فحرَّم البغي والعدوان، ونشر الأمن والسلام، فصار الناس رحماء بعد أن كانوا معتدين.

ثالثًا: التحاكم إلى الله ورسوله:

كان العرب يتحاكمون فيما بينهم إلى شرائع توارثوها عن آبائهم، واحتكموا إليها بأهوائهم، فجاء الإسلام فأنهى تلك الفوضى، ورد الحكم إلى الله سبحانه، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء: 65].

رابعًا: المسئولية الشخصية والولاء للدين:

أكد الإسلام على المسئولية الشخصية، واعتبرها أساس المسئولية في الإسلام، وقد كان العربي -قبل الإسلام- يناصر قبيلته سواء كانت ظالمة أو مظلومة، فلا يهمه هل هي على حق أم على باطل، فجاء الإسلام فعلَّم المسلم أن أساس الحساب أمام الله هو المسئولية الشخصية، وعلَّم الإسلام الإنسان أن يكون ولاؤه لدينه فقط، قال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [المائدة: 55 ـ 56] .

خامسًا: تكريم المرأة:

اعتنى الإسلام بالمرأة عناية كبيرة، ورفع مكانتها، وأعلى منزلتها، قال

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: والله لقد كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل.

مظاهر عناية الإسلام بالمرأة:

1- قضى الإسلام على صور الزواج التي كانت عندهم، ما عدا الصورة الصحيحة التي عليها زواج الناس حتى الآن، لما في ذلك من تكريم للمرأة، وأنها ليست متاعًا لكل من أراده.

2- حفظ الإسلام للمرأة مكانتها، فقد كانت تورث كما يورث المتاع، فكان الابن الأكبر يرث نساء أبيه، كما يرث أنواع الميراث الأخرى، فجاء الإسلام فحرَّم ذلك.

3- لم يكن للمرأة عندهم ميراث، فلا ترث البنت من أبيها ولا الزوجة من زوجها، ولا الأم من ابنها، ففرض الله للمرأة ميراثًا، قال الله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبا مفروضا) [النساء: 7].

4- نهى الإسلام عن وأد البنات، (أي قتلهن أحياءً)؛ خوفًا من أن يأتين بالفقر أو بالعار.

5- منح الإسلام المرأة حق التعليم، فقد كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهبن إليه، ليسألنه في أمور الدين، وكن يسألن أمهات المؤمنين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب العيد للرجال، ثم يذهب إلى النساء يخطب فيهن. وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب العلم واجبًا في حق كل مسلم رجلاً كان أو امرأة. قال صلى الله عليه وسلم : (طلب العلم فريضة على كل مسلم)

[البخاري].

6- أجاز الإسلام للمرأة أن تعمل إذا فقدت من يعولها ويعول أولادها، أو مرض هذا العائل، ولها ذرية ضعاف، لتنفق على نفسها وعلى أولادها، فإن لم تستطع الخروج، كان على الدولة أن تتكفل بها وبعيالها، وتعمل كذلك إذا احتاج المجتمع الإسلامي إلى عملها، إذ يصبح خروجها للعمل في هذه الحالة فرض عين عليها لا يحل لها التخلف عنه.

7- وجعل الإسلام رضا المرأة شرطًا لصحة الزواج، فلا يستطيع أحد أن يجبر المرأة على أن تتزوج بمن لا ترضاه. قال صلى الله عليه وسلم : (لا تُنكح الأيِّم (الثيب) حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن) [البخاري].

8- ولم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة على أساس النوع، إنما التفاضل بينهما فيما فضل الله به بعضهم على بعض، أما فيما دون ذلك، فالرجل والمرأة سواء لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].

مكانة المرأة في الحضارات الأخرى:

ولكي تظهر مكانة المرأة في الإسلام، فلننظر نظرة سريعة إلى مكانتها في الحضارات الأخرى. كانت مصر هي البلد الوحيد الذي نالت فيه المرأة بعض حقوقها قديمًا، إذ كان للمرأة أن تملك، وأن ترث، وأن تقوم على شئون الأسرة في غيبة الزوج، ومع ذلك فقد كان الزوج هو السيد عليها، وكان ينظر إلى المرأة على أنها وسيلة للتمتع الجسدي تفوق ما سواها من إمكانات بنَّاءة خلقها الله في المرأة.

وكانت المرأة عند الصينيين لا قيمة لها، ويسمونها (بالمياه المؤلمة)، وهي شَرٌّ في بيت الرجل يتخلص منه متى شاء، وإذا مات زوجها حبست في بيته للخدمة كالحيوان. وكانت المرأة في الحضارة الإغريقية لا قيمة لها، لذلك حبسوها في البيت خادمة للرجل، واعتبروها قاصرًا لا يحق لها التمتع بأي حق، ونظروا إليها على أنها رجس من عمل الشيطان، وكانت تقدم قربانًا للآلهة عند نزول المصائب بهم.

وكان الهنود القدماء ينظرون إلى المرأة على أنها مخلوق نجس، إذا مات عنها زوجها حُرقت مع جثته بالنار، وكانت أحيانًا تدفن وهي حية، وإذا كانت زوجة فللزوج أن يفعل بها ما يشاء من سَبٍّ وضرب وشتم وغير ذلك.

وكان حال المرأة عند الرومان كحالها عند اليونان، بل أقبح حالاً، فهي أداة للإغواء، وهي تُباع وتُشترى، ولزوجها عليها السيادة المطلقة، وللزوج أن يتزوج من النساء ما يشاء، وتتعرض لشتى أنواع التعذيب، وتكلَّف ما لا تطيق.

وفي بلاد الفرس، كانوا يذلون المرأة ويُعدونها سبب انتشار الفساد، ولذا كانت تعيش تحت أنواع كثيرة من ظلم الناس، وتقع تحت سلطة الزوج المطلقة، فله أن يحكم بقتلها، وأن يتزوج من النساء غيرها ما يشاء دون قيد أو شرط.

وكان اليهود يحمِّلون المرأة إثم إغواء آدم وإخراجه من الجنة، وهي عندهم في المحيض نجسة، وكل ما تلمسه نجس، ولهم الحق في بيعها وحرمانها من الميراث.

وكانت المرأة عند النصارى وسيلة الشيطان، ويجردونها من العقل، وهي منكر، وكانت كنيسة روما تنفي وجود الروح في المرأة، وهي عندهم نجسة، وترتب على ذلك التحذير من الزواج بها، فلجأت النساء للأديرة وحياة الرهبنة، وكان هذا الوضع في العالم المسيحي حتى جاء عصر النهضة الحديثة.

وكانت المرأة عند العرب قبل الإسلام جزءًا من متاع الرجل وثروته، وتورث كما يورث المتاع، والابن الأكبر يرث نساء أبيه، وليس لها ميراث، وفي حيضها تعزل عن كل شيء؛ لأنها تعد نجسة، وإذا مات عنها زوجها تدخل في مكان منعزل من البيت وتظل فيه عامًا كاملاً، لا تلبس إلا قديم الملابس، وكانت قمة امتهانها تتمثل في البغاء ونكاح المتعة وغيرها، ومن أقبح العادات عند العرب قديمًا قتل البنات وهن أحياء.

سادسًا: المساواة بين الناس:

كان العربي يؤمن بنظام الطبقات، وكانت نظرته للإنسان على أنه إما سيد وإما عبد، وكان يؤمن بالدم والنسب أساسًا للتفاضل بين الناس، فجاء الإسلام، وألغى نظام الطبقات، وجعل أساس التفاضل التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أو أنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يأيها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [أحمد].

سابعًا: العالمية:

كان العربي يعيش في الجزيرة العربية ضعيفًا يخاف قوة الفرس والروم، ويقبل راضيًا مختارًا أو كارها أن يعيش في منطقة خاضعة للفرس أو الروم، فكان العربي ينظر إليهم نظرة رهبة، وقد عَبَّر عن ذلك عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قائلا: إنها الروم وبنو الأصفر حدُّ حديد، وركنٌ شديد.

وقد كانت نظرة الفرس والروم للعرب نظرة احتقار وازدراء، وهذا ما عبر عنه أحد ملوك الفرس في الرسالة التي وجهها إلى جيش المثنى بن حارثة، قائد جيش المسلمين لغزو الفرس، قال فيها: إني قد بعثت إليكم جندًا من أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.

فجاءه رد المثنى بن حارثة: إنما أنت أحد رجلين، إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير، فانزعج الفرس من كتابه هذا انزعاجًا شديدًا. إن الإسلام جعل العرب ينطلقون شرقًا وغربًا، يفتحون البلاد لنشر الإسلام وتكوين الدولة الإسلامية العالمية.

التكافل الاجتماعي في الحضارة الإسلامية

لقد وضع الإسلام نظامًا دقيقًا يحقق العدالة الاجتماعية بين المسلمين، ويشيع بينهم جوًّا من المحبة والمودة والرحمة والتعاون والإيثار. والمال من الأشياء الهامة التي لها دور رئيسي في تحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، والإسلام لا يحارب الغنى، ولا ينتقص من ثروة الأغنياء، ما دامت هذه الثروة قد جاءت بطريق مشروع وأُدي حق الله فيها.

وهناك كثير من التشريعات المرتبطة بإنفاق المال، وكلها تعمل على توثيق التعاون والترابط والمودة والمحبة بين المسلمين، ومن هذه التشريعات: الزكاة، والصدقات، فالزكاة والصدقات يخرجها الرجل طهارة لماله، وإحساسًا بأخيه المسلم الفقير، ومعاونة له على مشاق الحياة وإدخال السرور على قلبه، فتتحقق المودة بين الفقير والغني، وتختفي الأمراض القلبية من المجتمع من حقد وحسد، ومنها الكفارات، فهناك كفارات مالية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وغيرهما.

ومن الكفارات الإطعام الذي يوثق الحب والإخاء بين المسلم وأخيه، ومنها الولائم والهدايا والهبات والوصايا، وكلها أمور تقضي على الأنانية بين الناس، وتزيل الكراهية من النفوس، وتساعد على التعاون على البر والتقوى.

ومنها كفالة اليتيم ورعاية الأرامل، فهذا اليتيم ليس له أحد يرعاه بعد فقد والديه إلا المجتمع المسلم والحاكم المسلم، فإذا نشأ هذا اليتيم في أحضان هذا المجتمع، ووجد من يرعاه ويتولاه حتى يقوى على رعاية نفسه؛ نشأ على حب هذا المجتمع، والتفاني من أجله، مستعدًّا للموت في سبيل الدفاع عنه والأرملة إذا وجدت من يرعاها ويتكفلها؛ أحبت مجتمعها، وشكرت الأيدي التي امتدت لها، وكان ذلك صيانة لها من الانحراف.

وهناك أمور أخرى كثيرة، مثل الوقف والقرض والعارية، تحقق التكافل بين أفراد المجتمع المسلم، فالرجل الذي يوقف ماله لبناء مسجد أو مستشفي أو مدرسة، أو يوقفه لمساعدة أقربائه، إنما يحب مجتمعه ويضحي من أجله، ويحبه الناس ويذكرونه بالخير، وهذا المقرِضُ الذي يُقْرِض أخاه المحتاج ويعينه، ويساعده إنما يفرج عنه كُربة من كُرب الدنيا، وهذا الذي يُعير أخاه ما يحتاجه، ثم يسترده بعد الانتفاع به، إنما يشيع بينه وبين إخوانه المحبة والتعاون والإيثار.

حرص الشريعة على سلامة المجتمع وطهارته

أكد الإسلام حرصه على سلامة المجتمع وطهارته ورقيه، وقد ظهر ذلك واضحًا من خلال بعض التشريعات الاجتماعية والأخلاقية، مثل:

- المعاملات:

أحلَّ الإسلام البيع، وفصَّل أحكامه وشروطه وأركانه، والحلال منه والحرام، فأحل منه ما كان المجتمع محتاجًا إليه وفيه نفعهم، وحرَّم ما كان ظلمًا وأكلاً لأموال الناس بالباطل، كما حرَّم الإسلام الربا لما فيه من أخطار ومضار كثيرة، فهو يسبب العداوة بين الناس، ويقضي على التعاون فيما بينهم، ويؤدي إلى وجود طبقة لا عمل لها إلا أن يتزايد مالها على حساب الآخرين.

ومجَّد الإسلام العمل وحث عليه؛ لأنه وسيلة لإعمار الكون ورخاء الأمة، كما حث على القرض الحسن لمن احتاج إلى المال، وعمل على حفظ الدَّين بكتابته والإشهاد عليه، وحث المقترض على رد دينه، وأمر بضرورة الوفاء بالعهد واحترام العقود، كما أوجب الإسلام ضرورة إبداء شهادة الحق وعدم كتمانها، وحرم قول الزور، وحرَّم الغش في الكيل والميزان، وأمر بالعدل، وحث عليه، وجعله أساسًا من أسس الحكم في الإسلام، لما له من أثر في راحة الناس واطمئنانهم على حقوقهم.

- الحدود والقصاص:

لقد حرَّم الإسلام الإفساد في الأرض كسفك الدماء، وسرقة المال وغصبه، وانتهاك الأعراض، وقذف المحصنات، وقطع الطريق، وغيرها كثير، فجاءت الحدود الإسلامية لتكون مانعًا من ارتكاب هذا الفساد، وصونًا للمجتمع، فكان للسرقة حد هو قطع اليد، وللزنا حد هو الجلد مائة جلدة وتغريب عام من البلد إن كان غير متزوج، وإن كان متزوجًا فالرجم حتى الموت، وحد القتل العمد هو القصاص وهو قتل القاتل، إلا أن يرضى أهل القتيل بالدية فيأخذونها ويعفى عن القاتل، أو ما اصطلحوا عليه.

ولا تقام الحدود إلا بالبينة والتثبت، والأصل أن تلغى الحدود بالشبهات، ومن الأمور المقررة أن القاضي إن أخطأ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة، كما أن إقامة الحدود من مسئولية الحاكم المسلم، وليس للأفراد إقامة الحدود إلا من ينيبه الحاكم منهم في إقامة الحد، فإن أقام الحد أحد الناس من تلقاء نفسه؛ عُزِّر لتعديه على حق من حقوق الحاكم، وحتى لا تعم الفوضى في البلاد، وتعزيره موكول للحاكم في حدود التعزير الذي قرره الشرع.

كما أن الحدود تقام في ميدان عام يراها الناس، حتى يرتدع من يفكر فيما يوجب عليه حدًّا، ولنا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم العبرة والعظة، فلم تقم الحدود في عهده إلا ست مرات، نظرًا لتشبع القلوب والنفوس بقيم الإسلام وتعاليمه.

- الآداب الاجتماعية:

جاء الإسلام بآداب كثيرة ومتنوعة تحقق سلامة بنيان المجتمع المسلم، وتسهم في ترابطه وتعاونه مثل: إفشاء السلام، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والأخوَّة، والتزاور، والإصلاح بين الناس، والتواضع، والنصح للمسلمين.

وحرَّم الإسلام أشياء لما لها من أثر سيئ في تفكك المجتمع وتنافره وانحلاله، مثل: الغيبة والنميمة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والاعتداء على الآخرين، والغش، والكذب، والخيانة، وشهادة الزور، والظلم، إلى آخر هذه الأمور المنهي عنها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

أسس بناء الدولة الإسلامية الأولى في المدينة

إن أول مجتمع إسلامي تكوَّن وتربى على الإسلام هو ذلك المجتمع الذي رباه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :، وهو المجتمع المثالي لأي مجتمع، وقد أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم على عدة أسس، هي:

بناء المسجد:

لقد كان أول شيء قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد، وقد كان للمسجد أثره الكبير في إقامة المجتمع الإسلامي على آداب الإسلام وتعاليمه، فلم يكن المسجد مكانًا لأداء الصلاة فقط، وإنما كان مكانًا للتربية وللعلم وللقيادة وللحكم وللمناسبات الإسلامية. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين في المسجد أحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه.

وكان صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس في المسجد، وكانت تُعقد فيه ألوية الحرب وتوجيه الرسل إلى الملوك، وإدارة شئون الدولة الإسلامية، وكان المسجد مكانًا لعلاج المرضى وإسعافهم سواء في وقت السلم أو الحرب، وهكذا يظهر دور المسجد في بناء الدولة الإسلامية وحضارتها.

المؤاخاة بين المسلمين:

لقد كان الأساس الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع الإسلامي في المدينة، بعد بناء المسجد هو المؤاخاة بين المسلمين، وهو عمل بدأه بين مسلمي مكة قبل الهجرة.

ولم يكن المهاجرون يملكون شيئًا بعد أن هاجروا إلى المدينة، فقد تركوا أموالهم وأولادهم في مكة، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقامت المؤاخاة على أسس مادية كالمشاركة في المال والثروة والتوارث فيها، بالإضافة للأسس المعنوية كالولاء والمناصرة، وظل هذا التوارث بسبب المؤاخاة قائمًا حتى غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، عندما نزل قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال: 75] فأصبح التوارث بسبب القرابة والرحم.

وقد أحب الأنصار المهاجرين حبًّا شديدًا، وآثروهم على أنفسهم، فأثنى الله عليهم، قال تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 6]. وهذه المحبة التي قامت بين المسلمين كانت نعمة من الله عليهم، فقد جعلت المسلمين أسرة واحدة، ومجتمعًا واحدًا.

المعاهدة بين المسلمين وغيرهم:

أصبح سكان المدينة بعد المؤاخاة بين المسلمين جماعتين فقط: جماعة المسلمين، وجماعة غير المسلمين وأغلبهم من اليهود، فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم دستورًا وميثاقًا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، وكانت هذه المعاهدة من أعظم المظاهر الحضارية في الحياة السياسية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام لبيان الحقوق والواجبات التي على المسلمين وعلى غيرهم بصورة لم تعهدها شبه الجزيرة من قبل.

الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة:

كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قائد المجتمع المسلم، وهو الحاكم القدوة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في كثير من الأمور، وكان يلتزم الشورى في كل أمر لم ينزل فيه وحي من عند الله، حتى قال أبوهريرة -رضي الله عنه-: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم :) [الترمذي].

وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويداعبهم ويخالطهم، ويجيب دعوة الحر والعبد، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويساعد أهل بيته،.... إلى آخر صفاته الكريمة (.

وقد نزل القرآن آمرًا الصحابة بالاقتداء ب الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} [الأحزاب: 21].

ومن هنا اقتدى الصحابة ب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تربى المجتمع الإسلامي الجديد على القيم والأخلاق، وبهذه الأسس الراسخة، وتلك القواعد الثابتة والقيم السامية والأخلاق الرفيعة، جاءت حضارة الإسلام، فأخرجت للعالم خير أمة أخرجت للناس.

الأسرة في الحضارة الإسلامية

الأسرة هي الدرع الحصينة التي تحمي صاحبها، ولا يكون الإنسان قويًّا عزيزًا إلا إذا كان في أسرة تحصنه. والأسرة التي ينشدها الشرع هي الأسرة الملتزمة بأوامر الله، والتي تكون نواة للمجتمع الملتزم بمنهج الله وشرعه.

الزواج أساس تكوين الأسرة المسلمة:

الزواج هو الطريق الشرعي الصحيح لتكوين الأسرة المسلمة، وقد حث الإسلام على الزواج وشجع عليه، قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}

[الروم: 21].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [متفق عليه].

وللزواج فوائد كثيرة أهمها:

- أنه وسيلة مشروعة للمحافظة على بقاء النسل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

- المحافظة على الأنساب من الاختلاط، بسبب ما يترتب على النسب من حقوق وقواعد كالميراث، ومعرفة المحارم وغير ذلك.

- المحافظة على المجتمع من شيوع البغاء والزنى واللواط.. تلك الأمراض التي تهدم المجتمع.

- الزواج مسايرة للفطرة وعدم الانحراف عنها.

وسوف يؤدي الزواج ثماره المرجوة إذا توافرت فيه النية الصادقة، والقدرة على نفقات الزواج. فالمسلم يبغي من زواجه أن يعف نفسه، ويحصن فرجه، ويكثر أعداد المسلمين، فعلى المسلم أن يصحح نيته في ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن في بضع أحدكم صدقة)، قالوا: يا رسول الله، أيقضي أحدنا شهوته، ويكون له بها أجر؟). قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟). قالوا: نعم. قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) [مسلم وأبوداود].

ولقد وضع الإسلام كثيرًا من الضوابط، حتى يحقق الزواج ثمرته المرجوة، وهذه الضوابط هي:

الخطبة قبل الزواج:

والخطبة مجرد وعد بالتزويج، وقد أباح الشرع الحنيف لمن يريد الزواج من امرأة أن ينظر إليها، حتى يكون على بصيرة من أمره، إن كان ينظر إليها بقصد الخطبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)

[الترمذي والنسائي وابن ماجه]. إلا أن الخطبة لا تحل حرامًا كان قبلها، فما يزال كلا الخاطبين أجنبيًّا، فلا يجوز للرجل أن يخلو بمخطوبته، أو يخرج معها دون محرم، ولا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه.

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب) [الجماعة]. أما إذا تقدم الرجل لخطبة امرأة، ولم يرد أهلها عليه، وتقدم غيره بدون علم؛ فقبلوا الثاني، فلا حرمة في ذلك. ويستحب إخفاء الخطبة، وذلك خشية إفساد المفسدين، أو ربما لا يوفق الله بينهما، ويترك كل منهما الآخر، فيسبب ذلك حرجًا للمخطوبة، بخلاف العقد، فإنه يجب فيه الإشهار والإشهاد.

اختيار الزوجة:

حثَّ الإسلام الشاب على أن يختار زوجته ممن تتوفر فيها عدة شروط، وهي:

الدين: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على اختيار ذات الدين الملتزمة بتعاليم الإسلام وآدابه، قال صلى الله عليه وسلم : (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين) [الجماعة].

حسن الخلق: وذلك لأنه لا يخفى على الإنسان أن بعض الصفات تنتقل إلى الأبناء بالوراثة، وكذلك بالتربية، فالبيت الملتزم يربي أبناءه على الالتزام والقيم الأخلاقية والطاعة.

البكر: فقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (تزوجت يا جابر؟). فقلت: نعم. قال: (أبكرًا أم ثيبًا ؟). قلت: بل ثيبًا. قال: (فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك). فقلت له: إن عبد الله صلى الله عليه وسلم :والد جابر) هلك وترك تسع بنات، وإني كرهتُ أن أجيئهن بمثلهن، فأحببتُ أن أجيء بامرأة تقوم عليهن، وتصلحهنَّ). فقال صلى الله عليه وسلم : (بارك الله لك) [متفق عليه]. وإن كان الإسلام قد دعا إلى الزواج من البكر، فإنه لم يوجب ذلك، وقد تُفَضَّل المرأة الثيب على البكر أحيانًا كما ورد في حديث جابر السابق.

الولود: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) [أبو داود والنسائي]. ومن عظمة الإسلام ورحمته، أنه إذا كان قد أمر بالزواج بالودود الولود، فإنه أمر بالإحسان من سواها، إذ لا ذنب لها في قَدَر قدَّره الله عليها، وربما كان لها من الخلق والقدرات والمواهب ما يفوق ما حرمت منه.

اختيار الزوج:

وكما وضع الإسلام للرجل أسسًا يختار على أساسها الزوجة، فإنه وضع أيضًا للمرأة أسسًا تختار على أساسها زوجها، فلابد أن يتوفر في الرجل جميع ما يجب توفره في المرأة، دون تفرقة بينهما، فينبغي أن تتوفر فيه الصفات التالية:

- أن يكون رجلاً ذا دين.

- أن يكون أمينًا ذا خلق.

- أن يكون قادرًا على تحمل المسئولية.

وهذه الصفات معلومة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد) [الترمذي].

ويستحب أن يكون الزوج متقاربًا في السن مع الزوجة، فقد خطب أبو بكر وعمر، -رضي الله عنهما- فاطمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إنها صغيرة)، فخطبها علي، فزوجها له. [النسائي].

حقوق الزوج على زوجته:

ولكي تدوم المودة بين الزوجين، ومن أجل الحفاظ على الأسرة المسلمة، جعل الشرع الحنيف لكل من الزوجين حقوقًا على الآخر يؤديها إليه في رضا وسعادة، وحقوق الزوج على زوجته هي:

- الطاعة: فيجب على المرأة المسلمة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به سرًّا وعلانية، ما لم يأمرها بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم (أي النساء أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر) [أحمد].

- إجابة دعوة الزوج لها إلى الفراش في أي وقت، فإذا دعا الزوج زوجته إلى فراشه فلم تجبه، غضب الله عليها.

- ألاَّ تصوم صوم تطوع إلا بإذنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [البخاري].

- المحافظة على مال زوجها وعدم الإسراف فيه: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا) [مسلم].

- تربية الأولاد تربية إسلامية وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، قال صلى الله عليه وسلم : (كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) [البخاري].

- التزين والتجمل: فمن حق الزوج على زوجته أن تتزين وتتجمل له.

وهناك، حقوق كثيرة، منها الوفاء للزوج، واحترام مشاعره، وشكر جميله، وحسن معاشرة أهله، والحداد عليه بعد وفاته، وإعانته على فعل الخيرات والطاعات من صيام وقيام وبر والديه، قال صلى الله عليه وسلم : (رحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ وأيقظتْ زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) [أبو داود]. وغير ذلك.

حقوق الزوجة على زوجها:

وكما أن للرجل حقوقًا على زوجته، فإن لها -أيضًا- حقوقًا على زوجها، وهذه الحقوق منها حقوق مالية وحقوق غير مالية، ومن هذه الحقوق ما يلي:

- المهر: وهو حق خالص للزوجة، وهذا المهر لا حد لكثرته أو قلته إلا أنه تكره المغالاة في المهور، قال صلى الله عليه وسلم : (إن أعظم النكاح بركة، أيسره مئونة) [أحمد].

- النفقة: والمقصود بها أن يوفر الزوج لزوجته من الطعام والمسكن والدواء، وإن كانت غنية.

- حسن معاشرتها، فإن أول ما يجب على الزوج لزوجته أن يعاشرها معاشرة حسنة، وأن يكرمها على قدر ما يستطيع، وأن يقدم إليها ما يؤلف قلبها ويقوي رابطة المحبة بينهما.

ومن مظاهر كمال أخلاق المسلم أن يكون رفيقًا مع أهله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا) [الترمذي].

ومن إكرام المرأة تحمُّل ما يصدر منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلِقنَ من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا) [البخاري]. ومن حسن معاشرتها إدخال السرور عليها؛ لأن ذلك يولد الحب، ويشيع في الأسرة المسلمة جوًّا من المودة والرحمة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداعب أهله، ويسابق السيدة عائشة -رضي الله عنها-.

- صيانتها والحفاظ عليها من كل ما يخدش كرامتها، وينبغي أن يكون الرجل معتدلاً في غيرته على أهله؛ حتى لا تفسد الحياة الزوجية وتتحول إلى عذاب، وتضيع الثقة بين الزوج وزوجته وتستحيل الحياة بينهما.

- تعليمها أحكام دينها، وتحذيرها من المعصية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6].

- ألاَّ يفشي سرها،، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها) [مسلم].

- عدم الإضرار بها في أي أمر من الأمور.

- ألا يدخل الرجل على أهله ليلا إذا أطال الغيبة، كأن يكون في سفر، إلا إذا أعلمها، وهذا من أسمى الآداب الإسلامية في معاملة الرجل لزوجته، وهو أدعى لاحترام مشاعر الزوجة، والثقة المتبادلة، وأدعى لدوام الحب والعلاقة الحسنة بينهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أطال أحدكم غيبته، فلا يطرق أهله ليلاً) [البخاري].

- العدل بين الزوجات إن كان الزوج متزوجًا بأكثر من واحدة، قال صلى الله عليه وسلم : (إذا كان عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما؛ جاء يوم القيامة وشقه ساقط) [الترمذي].

الحقوق المشتركة بين الزوج وزوجته :

-حق العشرة الزوجية واستمتاع كل من الزوجين بالآخر، فيحل للرجل من زوجته ما يحل لها منه.

- حرمة المصاهرة؛ أي أن الزوجة تحرُم على أب الزوج وأجداده وأبنائه، وفروع أبنائه وبناته، كما يحرم الزوج على أمها وبناتها، كما يحرم عليه عمتها وخالتها ما دامت في عصمته.

- ثبوت حق التوارث بينهما بمجرد إتمام العقد، فإذا مات أحدهما بعد إتمام العقد ورثه الآخر، وإن لم يكن قد دخل بها.

- ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش.

تعدد الزوجات:

تعدد الزوجات ليس ظلمًا للمرأة، بل هو عدل ومراعاة لعادات وطباع كثير من الناس، فقد كان معروفًا في اليونان، وكانوا يبيحون تعدد الزوجات بلا حساب، وأباحه بعض البابوات لبعض ملوك النصارى بعد الإسلام، (مثل شارلمان) ملك فرنسا الذي كان معاصرًا للخليفتين المهدي والرشيد. وقد اختلفت عادات الناس في تعدد الزوجات، ولم يشذ عن إباحة التعدد إلا الأوربيون، واستبدلوا بتعدد الزوجات الشرعية، السفاح واتخاذ الأخدان.

يقول الفيلسوف الإنجليزي (سبنسر): إن الزوجات كانت تباع في إنجلترا فيما بين القرنين الخامس والحادي عشر، وإنه حدث أخيرًا في القرن الحادي عشر أن المحاكم الكنسية سنَّت قانونًا ينص على أن للزوج أن ينقل أو يعير زوجته إلى رجل آخر لمدة محدودة حسبما يشاء الرجل المنقولة إليه، وشر من ذلك ما كان للشريف الحاكم من الحق في الاستمتاع بزوجة الفلاح عند عقده عليها أربعة وعشرين ساعة. هذا إلى غير ما كان في هذه الفترة من أحكام وقرارات جائرة ظالمة للمرأة وكرامتها، فأين هذا من تكريم الإسلام وحضارته السامية للمرأة، واحترامه لها ولكرامتها وحيائها وآدميتها!!

أما بالنسبة لتعدد الزوجات في الإسلام، فإنه لم يترك هذا الأمر هكذا، بل قيده بعدد محدد وهو أربع زوجات، وبالقدرة على القيام بحقهن، وقيده بقيد أهم، وهو العدل بين الزوجات، فإن لم يستطع الرجل أن يعدل فواحدة، والإسلام لم يوجب التعدد، وإنما أباحه لأمور كثيرة منها:

- استحالة العشرة بين الزوجين، فيتزوج الرجل وترضى زوجته بأن تعيش مع ضرتها، ولا ترضى بالطلاق.

- عقم الزوجة، فيضطر الزوج إلى الزواج بأخرى رغبة في الولد.

- في حالات الحرب حيث يكثر النساء، فيتزوج الرجل بأكثر من زوجة، حتى لا تكثر العوانس في المجتمع، ويؤدي ذلك إلى الرذيلة.

- قد يكون الرجل ممن لا يصبرون عن النساء، والمرأة في حالة حيضها ونفاسها ومرضها لا يحل للرجل أن يأتيها مما قد يعرضه للوقوع في الفاحشة، فكان الأحسن والأليق بحاله أن يباح له الزواج بأخرى دفعًا للمضرة، والإسلام حينما أباح التعدد إنما أباحه لهذه الضرورات وغيرها مما يرفع عن المسلمين الحرج. والخلاصة أن الإسلام أتى في هذه المسألة بالكمال الذي لابد أن يعترف به دعاة المدنية الغربية وغيرهم مهما طال عنادهم.

تربية الأبناء في الحضارة الإسلامية

الأبناء نعمة من الله تعالى تستحق الشكر، وشكر نعمة الله في الأولاد يكون بتربيتهم تربية إسلامية صحيحة على المبادئ والأخلاق والقيم، قال صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) [البخاري].

حقوق الأبناء على الآباء:

اهتم الإسلام بتربية الأبناء اهتمامًا كبيرًا، وجعل على الآباء لأبنائهم حقوقًا، كما جعل للآباء على أبنائهم حقوقًا، وهذه الحقوق هي:

- اختيار الأم الصالحة: فينبغي أن يختار الأب لأبنائه أمًّا صالحة تقوم على تربية أبنائه تربية صحيحة، بحيث يكون هؤلاء الأبناء قادرين عل حمل أمانة الإسلام، والوصول بها إلى غايتها، والدفاع عنها.

- دفع الضرر عنه، وله صور منها: التأذين في أذن المولود اليمنى وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى. فعن أبي رافع عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم :، أذَّن في أذن الحسن بن علي -حين ولدته فاطمة- بالصلاة) [أبو داود والترمذي]. هذا سوى ما يجب على الوالد من الدفاع عن ولده وحمايته من أي خطر قد يتعرض له في دينه أو دنياه.

- تسميته اسمًا حسنًا حين ولادته، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحسن الأسماء عبد الله، وعبد الرحمن، حيث قال: (إن أحسن أسمائكم إلى الله

عبد الله، وعبد الرحمن) [مسلم].

وحذر الإنسان من أن يختار لابنه اسمًا قبيحًا، فالإنسان يتضرر بالاسم القبيح ويتأذى به، كما أنه يستبشر بالاسم الحسن؛ ولما في ذلك من اقتداء بالأنبياء والصالحين.

- شرع الإسلام العقيقة عن الولد يوم السابع من ولادته إن تيسر ذلك، ويُذبح عن الولد شاتان، وشاة عن البنت، ويدعي إليها الفقراء والمساكين والأقارب والصالحون والأصدقاء، وذلك لزيادة الترابط بين المسلمين، وزيادة المحبة والأخوة، ودفعًا للأذى عن هذا الطفل، ويُسَنُّ حلق شعره قبل العقيقة.

- ختان المولود: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب) [البخاري]. ويختن الطفل قبل بلوغه السابعة.

- النفقة والواجبات المالية: النفقة واجبة على الأب لأبنائه ذكورًا كانوا أو إناثًا ما داموا في كفالته، وذلك حتى لا يتركهم يتعرضون للضياع والانحراف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول) [أبوداود].

- العدل بين الأولاد، فتفضيل بعض الأبناء على بعض يؤدي إلى إثارة الحقد والحسد والبغض؛ مما يضر بالترابط الأسري، الذي صانه الإسلام، وحافظ عليه بكل السبل.

- حق التربية والتعليم، فتربية الأبناء تربية سليمة أمانة في عنق الوالدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع) [الترمذي].

حقوق الآباء على الأبناء:

فرض الإسلام على الأبناء طاعة الوالدين، والإحسان إليهما، وحسن صحبتهما، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا} [الإسراء: 23-24]. وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين، فقال: ألا تقوم إلى خدمتهما وأنت كسلان. وقيل: ألا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما شزرًا (باحتقار)، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا.

ونهى الإسلام عن عقوق الوالدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) [الترمذي].

ومن تكريم الإسلام للأم، واعترافًا بمكانتها ودورها أن جعل حقها في البر أكبر من حق الأب، فقد جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: يا رسول الله: من أَبِرُّ ؟ قال: (أمك)، قال: ثم من ؟ قال: (أمك)قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال (أباك، ثم الأقرب فالأقرب) [الترمذي].

الترويح في الأسرة المسلمة

الأسرة المسلمة تروح عن نفسها باللعب واللهو المباح، فقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة فسبقته، فسابقها مرة أخرى فسبقها، وقال لها: (هذه بتلك) [أبو داود].

وكان صلى الله عليه وسلم يداعبها، ويقول لها: (إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية، وإذا كنت عليَّ غضْبى؟). قالت: وكيف يا رسول الله؟ قال: (إذا كنت عليَّ راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت على غضبى قلت: لا ورب إبراهيم). قالت: أجل والله، ما أهجر إلا اسمك. [متفق عليه].

وقدم وفد الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقاموا يلعبون في المسجد، وروت ذلك السيدة عائشة، فقالت: (فرأيت رسول الله يسترني بردائه، وأنا أنظر حتى أكون أنا التي أسأم) [البخاري] .

وكانت جاريتان تلعبان في المسجد، وعائشة -رضي الله عنها- تنظر من فوق كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال صلى الله عليه وسلم : (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني بعثت بحنيفية سمحة) [البخاري].

ويقول حنظلة بن الربيع-رضي الله عنه- كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فوعظنا فذكر النار، ثم قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت

المرأة. فخرجت فلقيت أبا بكر؛ فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم :. فقلت: يا رسول الله، نافق حنظلة، فقال: (مه (أي: اسكتْ))، فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: (يا حنظلة، ساعة وساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق) [مسلم]. ومن اللهو المباح أيضًا في الأسرة المسلمة ما يحدث في حفلة العرس من ضرب بالدف، وإنشاد الأناشيد الإسلامية التي تحث على مكارم الأخلاق، كما في ذلك من إدخال السرور على الزوجين.

رعاية الإسلام لأقارب الزوجين

إن حرص الإسلام على الأسرة لم يقصره على الزوجين والأبناء، بل جعله عامًّا لكل ذي رحم. وأقارب الزوجين أهل للأسرة الناشئة، فأم الزوج في مقام أم الزوجة، وأم الزوجة في مقام أم الزوج، لذلك حث الإسلام الزوج على البر بأهل الزوجة، وحث الزوجة على البر بأهل زوجها، وذلك التواد والتراحم ينمي قوة الترابط والتماسك الأسري. هذه هي بعض أسس الحضارة الإسلامية في مجال الأسرة المسلمة، التي تميزت به عن غيرها من الحضارات.

وإذا نظرنا إلى الأسرة في مدنيَّة الغرب المعاصرة نظرة سريعة، وجدنا هذه المدنية لا تحافظ على قدسية الأسرة وسلامتها كما حافظ عليها الإسلام، وحاطها بسياج من العفة والطهارة، فتشيع عندهم الفاحشة، ويكثر أولاد البغاء والزنى.

ومما يُحزن القلب أن المسلمين في ظل ضعفهم الحضاري تلقوا تعاليم الغربيين، ونظرياتهم في كثير من الأمور والأنظمة، فتعرض نظام الأسرة في المجتمعات الإسلامية لخطر التفكك والانحلال الذي ظهرت عواقبه السيئة، في سلوك كثير من الشباب، وتنكر كثير منهم لتعاليم دينهم، وظهرت في حياة كثير من أسر المسلمين سلوكيات لا تتفق مع قيم الإسلام، وتناقض ما جاءت به الحضارة الإسلامية من مبادئ سامية في مجال الأسرة المسلمة، في الوقت الذي بدأ فيه الغربيون وأعداء الإسلام يأخذون بنظم الإسلام في مجال الأسرة لما رأوا فيه من الخير لبناء المجتمع وتماسكه.

===============

الجانب العلمي في الحضارة الإسلامية

أنزل الله -عز وجل- أول آية من كتاب الله تعالى تحث المسلمين وتحضهم على العلم والتعلم، قال تعالى: {أقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5]. وقد رفع الله -عز وجل- قدر العلماء حيث قال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 17]. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا أهمية العلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [مسلم وابن ماجه].

وعندما أُسر المشركون في بدر، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم فداء كل واحدٍ منهم أن يعلم عشرة من الصحابة، وقد نشط المسلمون في جميع العصور في طلب العلم والمعرفة حتى تركوا لنا ميراثًا حضاريًّا رائعًا، يعبر عن تفوقهم في كل مجالات الحضارة. وهناك وسائل عني بها الإسلام لاكتساب العلوم منها:

المساجد:

فهي أهم المنارات التي أضاءت للمسلمين طريق العلم والمعرفة، فكان أول شيء قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بناء المسجد، مما يدل على أهميته في حياة المسلمين، وليعلموا أن المسجد هو أول خطوة في بناء الحضارة وتحقيق الازدهار والتقدم، فكان المسجد مكانًا لاجتماع المسلمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه ويجيبهم، ويتناقشون في أمور دينهم ودنياهم، وتقام فيه حلقات الذكر، ويجلس المسلمون صغارًا وكبارًا ليتعلموا القرآن وأمور الإسلام.

ومن أهم المساجد التي أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية: المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد عمرو بن العاص، والجامع الأزهر في مصر، ومسجد القيروان في تونس، ومساجد أخرى كثيرة خرَّجت لنا أجيالاً مسلمة واعية استخدمت العلم في خدمة الإسلام ورفع شأن حضارة المسلمين، ومن هنا ارتبطت نهضة الحضارة الإسلامية، بقيام المساجد بدورها على الوجه الأكمل.

الكتاتيب:

والكُتَّاب عبارة عن مكتب تعليمي، يتعلم فيه أطفال المسلمين القراءة والكتابة وأحكام تلاوة القرآن الكريم، ويقوم بتعليمهم أساتذة متخصصون في علوم القرآن، ويعد الكُتَّاب خطوة جديدة نحو تطوير المنشآت التعليمية بعد أن ضاقت المساجد عن استيعاب أعداد المتعلمين صغارًا وكبارًا، فانتشرت هذه الكتاتيب في كل بلاد المسلمين، وهذه مرحلة متطورة تدل على ازدهار العلم وارتفاع شأن العلماء والمتعلمين.

المكتبات:

وقد قام الحكام المسلمون بإنشاء المكتبات المملوءة بالكتب النافعة في مجالات العلوم، واشتهرت بغداد ودمشق والقاهرة بمكتباتها الزاخرة بأمهات الكتب في كل فروع المعرفة الإسلامية، ومن بين المكتبات التي نالت شهرة واسعة دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 395 هـ، ووضع فيها الكثير من الكتب، وقسمها إلى حجرات متعددة، بعضها للاطلاع وبعضها الآخر لحلقات الدراسة، وزينها بمفروشات جميلة، وجعل بها عمالاً لخدمة طلاب العلم، وكانت بها فهارس تسهل للطلاب الحصول على الكتب، وكان بها نظام الاستعارة.

المدارس:

وتعددت المدارس، وتنوعت ما بين خاصة بالخلفاء والحكام وأبنائهم، حيث المعاملة والخدمة المتميزة التي تؤهلهم لتولى المناصب القيادية في الدولة الإسلامية، وعامة لرعاية أبناء المسلمين في مختلف فروع المعرفة.

وقد برع الوزير السلجوقي (نظام الملك) في إنشاء العديد من المدارس، وكانت على درجة عالية من النظام والفخامة، وقد انتشرت هذه المدارس في بغداد وأصفهان والبصرة والموصل وغيرها، ومن أشهر هذه المدارس: مدرسة نور الدين محمود زنكي، وتعرف بالمدرسة النورية الكبرى بدمشق، وأنشأها سنة 563 هـ على مساحة واسعة، وجعل فيها قاعات للمحاضرات، ومسجدًا للصلاة، وحجرتين للمعلمين، ومسكنًا لخادم المدرسة، ومراحيض ليستخدمها الطلاب، وقد تميزت بروعة البناء ودقة وجمال تصميمها، وارتفاع مستوى التعليم فيها.

وكانت هذه المدارس منارات لتخريج العلماء، وقد وُضعَتْ بها نُظُمٌ عالية لاختبار قدرات الطلاب، وتوجيههم حسب كفاءاتهم ومواهبهم ومصاحبة الطلاب لأساتذتهم في مكان واحد، وتمتع الطلاب وخاصة المتفوقين بكافة الميزات والمكافآت؛ تشجيعًا لهم، إلى جانب العناية بالترفيه عنهم، وإقامة الرحلات المفيدة لهم، والاهتمام بتنمية أجسامهم وعقولهم. هذا بالإضافة إلى العناية بتعليم الفتيات، فقد اهتموا بهن اهتمامًا لا يقل عن الفتيان.

مجالات العلوم

ومن أهم مجالات العلوم التي اهتم المسلمون بتعليمها: العلوم الأصيلة، والعلوم المقتبسة.

أولاً: العلوم الأصيلة:

هي العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأصول الدين وما يخص الأمة من آداب وتاريخ، وقد أبدعها المسلمون أنفسهم، ولم يقتبسوها من غيرهم، ومن أبرز هذه العلوم:

- علم القراءات القرآنية:

وُجدت القراءات مع وجود القرآن الكريم، فقد كان جبريل -عليه السلام- يُقرئ النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من طريقة؛ تيسيرًا على الناس؛ لاختلاف لهجاتهم، واهتم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن وتدوينه وتعليمه، واشتهر من بينهم بحفظ القرآن علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى حذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وغيرهم رضي الله عنهم.

وقد أخذ عنهم عدد كبير من الصحابة -أيضًا- والتابعين في الأمصار، فراح الناس يقرءون على طريقتهم في القراءة إلى أن جاء القرَّاء السبعة المشهورون:

أبو عمرو بن العلاء في البصرة، ونافع في المدينة، وعاصم في البصرة، وحمزة، والكسائي في الكوفة، وعبد الله بن عامر في الشام، وابن كثير في مكة المكرمة، فاعتنوا بضبط القراءة وإسنادها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ووضعوا القواعد من أجل ذلك.

ومن هنا نشأ علم القراءات، والقراءات جمع قراءة، وهي مذهب من مذاهب النطق في القرآن قرأ به إمام من أئمة القراءات، يختلف عن المذهب الذي قرأ به غيره في الأداء والحروف، وقد اهتم المسلمون بتدوين هذه القراءات وضبطها وبيان قواعدها، وبيان أئمتها ورواتها وسندها والفروق بينها، كما اهتموا ببيان أنواعها، ومن الكتب المدونة في هذا الموضوع:

1ـ التيسير في القراءات السبع لابن الصيرفي (ت 444 هـ).

2ـ جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني.

3 ـ النشر في القراءات العشر لابن الجزري (ت 833 هـ).

4ـ في القراءات العشر لابن مهران الأصبهاني (ت 381 هـ).

وقد أسهم هذا العلم وعلم التجويد في الحفاظ على قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة، والحفاظ عليه من التحريف والتبديل، كما أسهم علم التجويد في نشأة علم أصوات اللغة العربية، والتي وضع لها علماء المسلمين القواعد فيما بعد، واستفاد منها علماء اللغة في العصر الحديث.

- علم التفسير:

هو العلم الذي يبحث في أوجه معاني كلام الله تعالى، ومعرفة المراد منه، ومعرفة أحكامه وحِكَمه، وما اشتمل من عقائد وأسرار. قال ابن عباس: التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها (الذي يفهم من لغة العرب)، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته (وهو الذي يأتي إلى الذهن من معرفة معناه من النصوص)، وتفسير تعلَّمه العلماء (بالاجتهاد والاستنباط)، وتفسير لا يعلمه إلا الله صلى الله عليه وسلم :وهو ما يتعلق بالأمور الغيبية).

وطرق تفسير القرآن هي:

- تفسير القرآن بالقرآن.

- تفسير القرآن بالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- التفسير بقول الصحابي.

- التفسير بقول التابعي.

- التفسير بمطلق اللغة، فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين.

- التأويل.

ويفسر القرآن تبعًا للترتيب السابق، ولا ننتقل من طريقة في التفسير إلى أخرى إلا إذا لم يوجد فيها تفسير للآية المطلوبة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الآيات للصحابة، ولكن ليس لدينا ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر جميع القرآن كله، لذا فنحن نكتفي من تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سنته بما وصلنا صحيحًا ثابتًا عنه.

وفي عهد التابعين ومن بعدهم انفصل علم التفسير عن علم الحديث، واستقل بكتب خاصة به، فظهرت تفاسير عديدة على مر الزمن، ويمكن تقسيمها حسب المنهج العلمي الذي اتبعه العلماء، إلى قسمين:

- التفسير بالمأثور: ويعتمد على النقل والرواية والأخبار، ويشمل تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة، وبأقوال الصحابة أو التابعين، ومن أمثلة كتب التفسير بالمأثور:

1- جامع البيان في تفسير القرآن. لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ).

2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت 774 هـ).

3- الدر المنثور في التفسير المأثور لجلال الدين السيوطي (ت911 هـ).

- التفسير بالرأي: وهو تفسير القرآن بالاجتهاد والاستنباط، بالاعتماد على اللغة العربية ومعاني الألفاظ، والتفسيرات المأثورة، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وفيه يجتهد العالم بعد أن يحيط بالعلوم اللازمة لتفسير كتاب الله، وهي العلوم السابقة. ومن أهم نماذج كتب التفسير بالرأي:

1- مفاتيح الغيب للفخر الرازي (ت 606هـ) وهو تفسير يغلب عليه ثقافة مؤلفه في علوم الكون والطبيعة وأقوال الحكماء والفلاسفة، وقد ربط فيه مؤلفه بين معظم العلوم التي اشتهرت في عصره، وبين القرآن الكريم.

2- البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ).

3- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود محمد بن محمد العمادي (ت982 هـ).

4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لشهاب الدين محمد الألوسي البغدادي (ت 1270هـ).

وقد اهتم المسلمون في العصر الحديث بتفسير القرآن الكريم، ومن أمثلة هذه التفسيرات:

1- تفسير المنار لمحمد رشيد رضا.

2- التفسير القرآني للقرآن لعبد الكريم الخطيب.

3- في ظلال القرآن لسيد قطب.

4- تفسير القرآن للشيخ المراغي.

كما اهتم المسلمون في العصر الحديث أيضًا بالتفسير العلمي للقرآن، ومن أمثلة هذا التفسير:

- تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري.

كما اهتم المعاصرون بجمع تفاسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم من خلال الرسائل الجامعية وغيرها، وإحياء ما هو مخطوط من ذلك، وقد قدم تفسير القرآن للحضارة الإسلامية خدمات جليلة، منها: أنه ساعد على استنباط الأحكام من كتاب الله، ومعرفة قواعد وأصول الحضارة الإسلامية في كل مجالات الحياة، كما ساعد على فهم مقاصد كتاب الله.

علم الحديث:

لقد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماع أحاديثه، وبلغ حرصهم على تتبع سماع هذه الأحاديث أن كان بعضهم يتبادلون ملازمة مجلسه ( يومًا بعد يوم، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوصى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحضُّ المسلمين على تبليغ ما يسمعون، فقال: (نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع) [الترمذي]. وكان أبو هريرة وابن عباس أكثر الصحابة حفظًا لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم يدون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته إلا القليل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر قد نهى الصحابة نهيًا عامًّا عن كتابة الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم، مما دفع الصحابة للاجتهاد في حفظه ومدارسته، ثم سمح فيما بعد لبعض الصحابة أن يكتبوا، إلا أن الصحابة انصرفوا إلى الاهتمام بحفظ القرآن.

واستمرت الحال هكذا حتى بدأت الصراعات والفتن تقع في الدولة الإسلامية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ظهرت جماعة من الوضاعين الذين يضعون الأحاديث، ثم ينسبونها زورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :،وكان صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بهذه الظاهرة حيث قال: (من كذب عليَّ عامدًا متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار) [البخاري].

وفي عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، أمر بجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكلف بذلك أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن شهاب الزهري، فبذلا جهدًا كبيرًا في جمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه المرحلة الجمع بدون تنقيح.

ثم جاءت بعد ذلك مرحلة أخرى أكثر عمقًا بظهور جماعة من علماء الحديث نظروا فيما جمعه محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب الزهري، وجمعوا الصحيح منها، وتركوا الضعيف والموضوع، وهي المرحلة المعروفة بمرحلة تدوين السنة، ولعل أقدم كتاب جمع الصحيح واهتم بالتنظيم والتبويب هو موطأ الإمام مالك -رضي الله عنه- (ت 179هـ).

ونشط العلماء في جمع وتدوين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن الثالث الهجري، ويعد هذا القرن هو القرن الذهبي لتدوين الحديث، فقد ظهر في هذا القرن أصحاب الكتب الستة: ومنها: صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، وصحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري

(ت 261هـ)، وقد اتبع هذان العالمان الدقة والأمانة في جمع الأحاديث النبوية، فنالا ثقة المسلمين جميعًا، وأصبح كتاباهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى.

كما ظهر ما يعرف بكتب السنن، كسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، كما ظهرت المسانيد، كمسند أحمد بن حنبل، ومسند أبي عوانة، والمستخرجات والمستدركات كمستدرك الحاكم على الصحيحين. كما ظهر علم مصطلح الحديث، وهذا العلم يهتم بمعرفة الحديث الصحيح والحسن من الضعيف والموضوع، كما ظهرت كتب خاصة بالضعيف، وأخرى خاصة بالموضوع.

وظهر أيضًا علم الجرح والتعديل أو علم الرجال، والذي يهتم بدراسة شخصيات الرواة من حيث الثقة والأمانة والكذب والتدليس، وبالجملة من حيث قبول حديث الراوي أو عدم قبوله، وهل هو متروك أم يؤخذ عنه الحديث، وممن كتبوا في هذا العلم الإمام البخاري، فكتب كتاب التاريخ، وكان شيخه على بن محمد المديني قد سبقه في كتاب (علل الرواة)، و(الضعفاء) و(الكبير) للإمام العقيلي، و(تهذيب الكمال) للحافظ المزي، و(ميزان الاعتدال) للذهبي، و(لسان الميزان)، و(تهذيب التهذيب)، و(تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، وغير ذلك.

وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة الشرح والاختصار لتلك الكتب، فألف العلماء شروحًا لموطأ الإمام مالك كشرح الزرقاني على الموطأ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، وشرح النووي لصحيح مسلم للنووي، وباقي الكتب الستة، وشرحوا غيرها من كتب الأحاديث الصحيحة، وكان ذلك على يد علماء أفاضل عكفوا على دراسته وكتابته وشرحه.

وقد اهتم العلماء في كل العصور بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا الحالي. والسنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، الذي تُستمد منه أسس وقواعد الحضارة الإسلامية في كل المجالات.

- علم الفقه:

وهو كما عرفه بعض العلماء الطريق لمعرفة الأحكام الشرعية العملية من خلال الأدلة التفصيلية؛ كمعرفة ما يجب ويحرم، وما يسن وما يندب، وما يكره، من خلال الكتاب والسنة، وما يستنبط منهما.

ولقد حمل الصحابة -رضي الله عنهم- لواء الفقه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، كل واحدٍ منهم في مجاله وفي تخصصه الذي تفوق فيه، فنبغ عبد الله بن عمر في الفقه، وكان معاذ بن جبل أعلم الصحابة بالمواريث، وأسس كل منهم ما يسمى بالمدرسة الفقهية.

وفي المدينة اشتهر عدد من الصحابة المقيمين بها بالإفتاء مثل أبي بكر وعمر

وعثمان بن عفان وعلي وزيد بن ثابت، ومن النساء عائشة وأم سلمة، وأخذ عن هؤلاء الصحابة عدد من التابعين عُرفوا في المدينة بالفقهاء السبعة، وهم:

عروة بن الزبير (ت 94 هـ) الذي أخذ الفقه عن خالته عائشة زوج النبي صلى

الله عليه وسلم، وسعيد بن المسيِّب (ت 94 هـ) وكان زوج ابنة أبي هريرة، وكان يحفظ فتاوى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (ت 98هـ) وكان ثقة فقيهًا، كثير الحديث والعلم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (ت 94 هـ) وكان فقيهًا كثير العبادة، وسليمان بن يسار (ت 107 هـ).

وكان خادم ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، والقاسم بن

محمد بن أبي بكر (ت 108 هـ) وكانت عمته السيدة عائشة، وكان من الفقهاء الكبار الصالحين الأتقياء، وخارجة بن زيد بن ثابت، وهو ابن الصحابي الجليل

زيد بن ثابت الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

وفي مكة كان زعيم مدرسة الفقه والفتوى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، ومن تلاميذ هذه المدرسة مجاهد وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء وطاووس وغيرهم.

وفي الكوفة برز من الصحابة عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وغيرهم -رضي الله عنهم-، ومن تلاميذ هؤلاء الصحابة:

علقمة بن قيس النخعي (ت 62 هـ )، والأسود بن يزيد النخعي (ت 75 هـ)، وشريح بن الحارث القاضي (ت 82 هـ).

وفي البصرة، عاش الصحابي أنس بن مالك مدة من الزمن، وتتلمذ فيها على يده عدد من التابعين مثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك وغيرهما. وفي الشام، كان أبو إدريس الخولاني (ت80 هـ)، ومن تلاميذه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وغيرهما.

وأما مصر، فتمتعت بوجود صحابيين جليلين هما عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وعلى أيديهما تخرج يزيد بن حبيب (ت 128 هـ)، وهو أول من تكلم عن الحلال والحرام في مصر بصورة علمية، كذلك ظهر في مصر الفقيه الجليل الليث بن سعد، الذي قيل عنه: كان الليث أفقه من مالك لولا أن أصحابه ضيعوه. يعنى لم يحفظوا فقهه وينشروه كما فعل تلاميذ الأئمة الآخرين.

المذاهب الفقهية الأربعة:

المذهب الحنفي: وهذا المذهب، يعد امتدادًا لمدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود في الكوفة، وإمام ذلك المذهب الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80 -150 هـ).

ومن أشهر تلاميذ أبي حنيفة: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) الذي دَوَّن فقه أستاذه أبي حنيفة في كتب مثل: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والكبير.

المذهب المالكي: وهو امتداد لمدرسة المدينة، وينسب إلى الفقيه المدني مالك بن أنس (ت 179 هـ)، وللإمام مالك كتاب الموطأ وهو كتاب حديث مرتب على أبواب الفقه. ومن أشهر تلاميذ المذهب المالكي: عبد الرحمن بن القاسم المصري،

وأسد بن الفرات الذي نشأ في أفريقية، ثم رحل إلى المدينة، وسمع موطأ مالك، وتفقَّه على يد عبد الرحمن بن القاسم في مصر، ونقل مسائل مالك وسجلها في كتاب باسم الأسدية.

المذهب الشافعي: ومؤسسه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150ـ 204هـ) أحد أئمة الفقه الأعلام، ورحل إلى العراق، وكوَّن هناك مذهبه القديم، وألف في ذلك كتاب الحجة، وأتى الشافعي إلى مصر مرتين، وفي المرة الثانية سنة (199هـ) استقر في مصر، وظل بها حتى مات، وعدَّل في مذهبه تعديلات كثيرة، فأنشأ لنفسه مذهبه الجديد، وكان يقول: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي.

وألف الإمام الشافعي في مصر كتبًا رائعة في الفقه وغيره، منها كتاب الأم، وهو موسوعة فقهيَّة قيمة، ووضع أصول علم جديد، هو علم أصول الفقه، وألف فيه كتاب الرسالة، ومن أشهر تلاميذه: أبو ثور الربيع المرادي (ت 270 هـ)، ويوسف بن يحيى البويطي (ت 231 هـ)، وإسماعيل بن يحيى المُزَني (ت 264 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).

المذهب الحنبلي: وينسب هذا المذهب إلى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني

(164 ـ 241 هـ)، وهو مذهب قائم على الحديث النبوي الشريف، وأفعال الصحابة حيث يقدم الحديث، ويأخذ به وإن كان ضعيفًا يفضله على الأخذ بالرأي (الاجتهاد)، ويأخذ بأقوال الصحابة والتابعين.

ولم يترك الإمام أحمد مؤلفات تعبر عن فقهه لكن تلاميذه نقلوا آراءه الفقهية، فحُفظ بذلك مذهبه من الضياع، ومن تلامذته: صالح بن أحمد بن حنبل (ت 266 هـ) وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، ونقل معظم فقه أبيه، وعبد الله بن أحمد بن حنبل

(ت 290 هـ) وهو الذي روى مسند أبيه في الحديث، وأبو داود (ت 257 هـ) صاحب كتاب سنن أبي داود، وإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285 هـ).

وهكذا لعب الفقهاء دورًا هامًّا في ازدهار الحضارة الإسلامية ورقيها، بما قدموا لها من اجتهادات واستنباطات وأحكام للحوادث التي وقعت في عصرهم والتي لم تقع، وتوقعوا إمكان حدوثها في المستقبل، وخاصة في المذهب الحنفي، وهذا من عظمة الفقه الإسلامي.

اللغة والأدب:

ولقد اهتم علماؤنا اهتمامًا عظيمًا باللغة العربية، لأن باقي العلوم الإسلامية تحتاج إلى فهم اللغة العربية فهمًا جيدًا، فاهتم العلماء بدراسة حروف اللغة وخصائص كل حرف، وكيفية النطق به، وأخرجوا علمًا يسمى علم الأصوات، وهو يختص بدراسة حروف اللغة من جميع الجوانب، وتفوق في هذا المجال الخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن جني، وغيرهما، ونظروا في الكلمة، من حيث هي اسم أم فعل أم حرف، وتحديد الحروف الزائدة والأصلية في الاسم والفعل، ... إلخ، وتكون من ذلك علم الصرف، وممن كتبوا في علم الصرف العالم اللغوي الشهير سيبويه.

كما نظروا في الكلمات عندما تنضم إلى بعضها، واهتموا بعلاقاتها ببعضها، ومواقعها الإعرابية، وضبط أواخر الكلمات في الجمل بناءً على فهم معنى الجملة، ودرسوا الجمل التي لها محل إعرابي، والتي ليس لها محل إعرابي، فأخرجوا علم النحو، ومن أوائل من ألَّفوا فيه سيبويه، وذلك في كتابه الذي سماه (الكتاب). وابتكر علماؤنا أيضًا علميْ المعجم والدلالة، حيث يهتم علم المعجم بمعنى الكلمة المفردة، ويهتم علم الدلالة بالأسلوب والجملة، وذلك حسب سياق الكلام.

وهكذا أحاط علماؤنا باللغة من جميع جوانبها، مما رفع شأن اللغة والناطقين بها، وظهر عدد من الأدباء والفصحاء من الشعراء والخطباء فأبدعوا لنا شعرًا رائعًا ونثرًا أمتع العقول والمشاعر والعواطف. واشتهر بعض العلماء في اللغة وآدابها في عدد من بلاد الدولة الإسلامية، ففي مصر؛ أحمد بن جعفر الدينوري المتوفى سنة (289 هـ) والذي ألف كتاب (إصلاح المنطق)، وأبو جعفر النحاس (ت 338 هـ) الذي ألف كتاب (إعراب القرآن)، و(معاني القرآن)، وشرح أبيات سيبويه.

وفي العراق، أبو الفتح عثمان بن جني تلميذ أبي علي الفارسي، وقد درس ابن جني الكتاب لسيبويه، وغيره، ولابن جني مؤلفات عديدة، منها: سر صناعة الإعراب، والخصائص، وقد توفي سنة (392 هـ).

وأبو عبيد القاسم بن سلام الخزاعي (ت 225 هـ)، وله كتب كثيرة منها: غريب المصنف، وفي معاني الشعر، وغيرهما. وأبو عبدالله الحسين بن خالَوَيْه (ت 370 هـ)، وله كتب كثيرة منها: إعراب ثلاثين سورة، وليس من كلام العرب، والمقصور والممدود. وقد كانت اللغة العربية لغة الحضارة الإسلامية، تعلمها سكان البلاد التي فتحها المسلمون الأوائل، وصارت لغة العلم في كافة الأقطار الإسلامية.

التاريخ:

التاريخ هو ذاكرة الزمن، يحفظ للبشرية حركتها في مختلف العصور، ويحفظ العلوم ويدونها، وقد كان لمؤرخي العلوم فضل في تدوين تاريخ علم التفسير، وعلم الحديث، وعلوم اللغة، وتاريخ علم القراءات وغير ذلك من العلوم.

لقد اهتم المؤرخون المسلمون بتدوين تاريخ الإسلام، وأخذوا هذا العلم من مصادره الأصلية، وقد اهتموا اهتمامًا خاصًّا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فظهر منهم قديمًا بالحجاز أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 هـ)، وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 141 هـ) الذي كتب بعض أجزاء من تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين، وكتب أيضًا عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم .

وأيضا محمد بن عمر الواقدي (130 ـ 207 هـ) الذي ألف كتاب (المغازي)، وكتاب (الفتوح) الذي تحدث فيه عن تاريخ الفتوحات الإسلامية في مصر والشام وغيرها.

وفي الشام، نجد العلامة الأوزاعي (ت 157هـ) وما كتبه في السيرة النبوية، وأبو إسحاق الفزاري (ت 188 هـ) وله كتاب السير.

وفي اليمن، نجد عددًا من المؤرخين الأوائل مثل: وهب بن منبه (ت 110 هـ)، ومعمر بن راشد (ت 154 هـ)، ونلاحظ أن مؤرخي مدرسة اليمن قد اهتموا بتاريخ ما قبل الإسلام، وفي مؤلفاتهم قدر كبير من الخرافات والأساطير عن هذه الأمم السابقة على الإسلام.

وفي مصر ظهر كثير من المؤرخين الذين اهتموا اهتمامًا كبيرًا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص، ويزيد بن حبيب والليث بن سعد وغيرهم.

وقد ظهر في القرن الثالث الهجري أشهر مؤرخي مصر وأكثرهم تأثيرًا في كل ما كتب من تاريخها بعد ذلك، وهو عبدالرحمن بن عبدالله بن عوانة بن الحكم الذي ألف كتاب (فتوح مصر وأخبارها) وفيه سجل باختصار تاريخ مصر قبل الإسلام وذكر فيه أحداث الفتوحات، وتاريخ المغرب والأندلس في فترته الأولى، وجغرافية مصر، وأخبار قضاة مصر حتى سنة (246 هـ).

وقد كثُر المؤرخون الذين ألَّفوا في تاريخ مصر بعد ذلك مثل: البلوي وابن الداية اللذيْن كتبا تاريخ الدولة الطولونية في مصر، والكندي في كتابه عن الولاة والقضاة، وابن زولاق وكتابه عن تاريخ الدولة الإخشيدية ثم بداية الدولة الفاطمية.

ونجد من بين مؤرخي مصر من كتب الموسوعات العامة مثل: القلقشندي الذي كتب صبح الأعشى في صناعة الإنشا.

ومنهم من كتب تاريخ مصر خاصة مثل: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لابن تغري بردي (ت 874 هـ)، وبدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس (ت 930 هـ).

وهناك من كَتَب تاريخ العالم من المؤرخين المسلمين أمثال محمد بن جرير الطبري الذي كتب تاريخ العالم منذ بدء الخلق حتى عام (303 هـ) في كتابه تاريخ الرسل والملوك، وقد رتب الجزء الخاص بالإسلام على السنين، أي يذكر أحداث كل سنة منفردة. وهو ما يسمى بالترتيب الحولي، وقد توفي الطبري عام (310 هـ). وهناك ابن الأثير صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) وقد كتب تاريخ العالم حتى عصره، وقد رتبه على السنين مثل الطبري، وتوفي عام (630 هـ).

وهناك عشرات بل مئات من الكتب التي تحدثت عن حياة العلماء والولاة والقضاة والأطباء والفقهاء والمفسرين وغيرهم، وهي تشهد بعظمة هؤلاء الرجال والجهد الرائع الذي بذلوه من أجل الحفاظ على تراثهم وتاريخهم، وهذه الكتب تسمى كتب التراجم والطبقات، ومنها:

أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير. والطبقات الكبرى لابن سعد. وكتاب الطبقات الكبير للواقدي. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي. وسير أعلام النبلاء للذهبي، وغير ذلك.

ثانيًا: العلوم المقتبسة:

العلوم المقتبسة هي العلوم التجريبية التي تقوم على التجربة والاستنباط، وتهدف إلى إسعاد الناس وتسهيل حياتهم وخدمتهم، وهذه العلوم مثل الفلك والهندسة والحساب والجبر والكيمياء والفيزياء والتاريخ الطبيعي والطب، وغير ذلك من العلوم التطبيقية.

وقد أسهم المسلمون الأوائل بدور كبير في هذه العلوم، لأن ديننا الحنيف يحث دائمًا على البحث والتحري ودقة النظر، والتأمل في معالم هذا الكون، واستنتاج قدرة الله عز وجل، ولقد تعددت إنجازات المسلمين في العلوم المقتبسة، ومنها:

علم الفلك:

وهو العلم الذي نعرف به أحوال الكواكب والنجوم في السماء وحركاتها وأبعادها، وقد اتجه المسلمون لدراسة هذا العلم دراسة دقيقة نابعة من توجيهات القرآن الكريم وإشاراته إلى هذه الموضوعات، فانطلق المسلمون استجابة لتوجيهات القرآن ينظرون ويدرسون هذا الفضاء الفسيح؛ فبدءوا بترجمة الكتب التي تتحدث عن الفلك عند اليونان والفرس والهنود، واستوعبوا هذه المعارف وفهموها، ثم نقدوها وعلَّقوا عليها، وأضافوا عليها، وابتكروا أشياء جديدة نافعة في حياة المسلمين.

ومن أهم علماء الفلك الذين نبغوا في ظل الحضارة الإسلامية:

البتَّاني أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان (ت 317 هـ)، وهو من أحفاد المترجم المشهور ثابت بن قُرَّة الحراني، وقد أنشأ البتَّاني مرصدًا فلكيَّا عُرِف باسمه، ووصف الآلات الفلكية وصفًا دقيقًا، وشرح طريقة استخدامها، وهو ما يعرف بالأَسْطُرلاب.

وقد كان لأعماله جانب نظري يتمثل في قراءة مؤلفات الفلكي اليوناني بطليموس وانتقائها بطريقة علمية، وَوَضع كتابًا في حركة النجوم وعددها، ظل يدرَّس في أوربا حتى عصر النهضة العلمية في أوربا، والجانب الآخر أبحاث تجريبية عملية بلغت منتهى الدقة والارتقاء والتقدم العلمي من واقع مشاهداته الفلكية، وحدد أبعد نقطة بين الشمس والأرض، وحسب مواعيد كسوف الشمس وخسوف القمر، واتبع في ذلك منهجًا شبيهًا بالمنهج العلمي الحديث، مما جعل الأوربيين يعدُّونه من أعظم علماء الفلك في التاريخ.

وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش الزُّرْقَالي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وولد في قرطبة، وعمل في طليطلة بالأندلس، وقد أنشأ مراصد فلكية عديدة، واخترع جهاز الأسطرلاب الفلكي لقياس اتجاهات الرياح وسرعتها وتحديد الليل والنهار، مما أدهش علماء أوربا، وقد استفاد من مؤلفاته العالم الأوربي الفلكي كوبرنيكس الذي حرص على الاستشهاد بآراء أبي إسحاق في جميع مؤلفاته. والفرغالي الذي ألف كتابًا ظل مرجعًا اعتمدت عليه أوربا وغربي آسيا سبعمائة عام.

وغير هؤلاء كثيرون ممن برزوا في علم الفلك.

علوم الرياضيات:

علوم الرياضيات تشمل الحساب والجبر والهندسة وغيرها، ويعد العلامة محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232 هـ) صاحب الفضل الأكبر في معرفة خانات الآحاد والعشرات والمئات، وفي معرفة الزوجي من الفردي في الأعداد، وفي معرفة عمليات الكسور العشرية، واستخدامها في تحديد النسبة بين محيط الدائرة، وقطرها مما لم تعرفه أوربا قبله.

ولم يكن الخوارزمي وحده هو البارز في هذا المجال، بل كان هناك علماء كثيرون وضعوا مؤلفات في الحساب والجبر وغيرهما مثل: أبي كامل شجاع بن أسلم المصري، ووسنان بن الفتح الحرَّاني، والكندي، ومحمد بن الحسن الكرخي صاحب كتاب الكافي في الحساب، ويحتوي على مبادئ الحساب الشائعة في زمنه وبعض العمليات الحسابية المبتكرة.

وعلم الجبر من العلوم التي أنشأها المسلمون، برغم أن لها أصولا في بابل والهند وعند الإغريق، لكن المسلمين طوَّروها، وأضافوا إليها الكثير على يد علماء بارعين، حتى تكاد تظهر بصمات اليد العربية عليه، وما زال يحتفظ باسمه العربي في لغات العالم المختلفة.

ويعد الجبر أفضل فروع الرياضيات عند الخوارزمي، الذي يعد أول من ألف فيه بطريقة علمية، وله كتاب في الجبر يسمى (الجبر والمقابلة)، كما نجح في استخدام الجذور واستخدم الرموز في الرياضيات لأول مرة، مما جعل هذا العلم متطورًا بدرجة عالية؛ فسبق الخوارزمي بذلك ديكارت وغيره من علماء الرياضيات الأوربيين. ويرجع السبق إلى المسلمين في اختراع الرقم صفر، فلم يكن معروفًا قبل ذلك.

وممن أبدعوا في علم الجبر أبو الحسن القصاوي (ت 891 هـ). وأبو حنيفة الدينوري (ت 282 هـ)، وشجاع بن أسلم المصري، وأبو الوفاء البوزجاني (ت 388 هـ)، الذي وضع زيادات على مؤلفات الخوارزمي، وضَّحت العلاقة بين الجبر والهندسة فمهدت الطريق لأوربا حتى تكتشف الهندسة التحليلية، ثم التفاضل والتكامل. وترجم المسلمون كتب حساب المثلثات والهندسة.

كما أن المسلمين أخذوا حساب المثلثات والهندسة عن الأمم السابقة، وكان أهم ما ترجموه كتاب هندسة إقليدس ونقدوا نظريات السابقين، وأضافوا إليها الكثير، فابتكروا نظريات هندسية جديدة، فجددوا وأضافوا في المساحات والأحجام، وتحليل المسائل الهندسية، وتقسيم الزوايا، ومحيط الدائرة وكيفية إيجاد نسبة محيط الدائرة إلى قطرها مما سهل لهم أمورًا كثيرة في فنون العمارة والزخارف الإسلامية، وقد كان في مقدمة علماء المسلمين في الهندسة الحسن بن الهيثم وأبو جعفر الخازن، بالإضافة إلى أبناء موسى الثلاثة شاكر وأحمد والحسن الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري، واشتركوا في تأليف الكتب في الهندسة والفلك، وعلم الميكانيكا.

علم الجغرافيا وعلاقته بالفلك والرحلات:

كان المسلمون الأوائل يعيشون في بيئة صحراوية، ارتبطوا بها، ولمسوا تغيرات الجو، وعرفوا تطوراته، وكانت تضاريس الصحراء، وما بها من جبال وتلال وهضاب وسهول ووديان، وأماكن المياه، كان ذلك دافعًا لمعرفة المسلمين بعلم الجغرافية وبراعتهم فيه.

لقد استفاد المسلمون من معارف الأمم السابقة في الجغرافية، وأضافوا إليها معلومات جغرافية كثيرة، فقد برعوا في مجال الجغرافيا الوصفية، وهي ما عرف بعلم المسالك والممالك، وقاموا في ذلك بعدة رحلات برية وبحرية كثيرة وصفوا خلالها الطرق والمسافات والمدن والأقطار وصفًا دقيقًا رائعًا، كما برع المسلمون في مجال التأليف الجغرافي ومحاولة التفسير العلمي لبعض الظواهر الجغرافية، ونجحوا نجاحًا باهرًا في فن رسم الخرائط، مما يدل على الدقة وسعة الثقافة التي وصل إليها الجغرافيون المسلمون في معرفة البلاد ورسم مواقعها.

وكان أشهر رسَّامي الخرائط الإدريسي الذي رسم خريطة للأرض، كما كانت تعرف في عصره بناء على طلب ملك صقلية، وقد رسمها على كرة من الفضة الخالصة، ووضع عليها خطوط الطول والعرض، ومن أهم الجغرافيين والرحالة المسلمين:

محمد بن موسى الخوارزمي وابنه أحمد، ويعد كتاب محمد بن موسى (صورة الأرض) الأساس الأول لعلم الجغرافية العربي، وقد استفاد منه الجغرافيون الأوربيون ومدحوه، واعتبروه تطورًا مفاجئًا في الوقت الذي وجد فيه.

واليعقوبي (ت 266 هـ) وهو أبو الجغرافية العربية، ألف كتاب البلدان، واهتم فيه بالجغرافية الطبيعية، والنواحي البشرية لبلاد كثيرة، فوصف فيه بعض البلاد وصفًا مفصَّلا، وينفرد الكتاب بوجود دراسة مفصلة كاملة عن الطرق الرئيسية في فارس.

وياقوت الحموي (ت 626 هـ)، وهو من مشاهير الجغرافيين المسلمين، وقد ألف كتاب معجم البلدان، وهو معجم جغرافي هام، وقد رتب فيه البلاد على حسب حروف المعجم، ووصف فيه ما استطاع وصفه من المدن والبلدان مع ذكر الأحداث التاريخية المهمة التي تتصل بهذه البلدان بشيء من التركيز والاختصار.

ويضاف إلى هؤلاء جغرافيون آخرون أثَّروا تأثيرًا بالغًا في تطوير علم الجغرافية، نذكر منهم:

الإصطخري، وقد عاش في القرن الرابع الهجري، وهو أول من رسم خريطة العالم الإسلامي عن طريق رحلاته ومشاهداته الشخصية، واعتمد من جاء بعده من العلماء على هذه الخريطة، وعلى رأسهم الإدريسي.

والبلخي (ت 322 هـ) وهو من أوائل من ألفوا في الجغرافية الوصفية من العرب، كما أنه رسم خرائط للأقاليم الإسلامية قدر ما تيسر له.

والمسعودي (ت 346 هـ)؛ وهو عالم ذو ثقافة واسعة وجغرافي فذ، ومؤرخ بارز، وقد لقبه المستشرقون هيرودوت العرب أو بطليموس المسلمين، وله خريطة للعالم تعد من أدق الخرائط العربية، ومنها يتضح أن المسعودي من أعظم الخرائطيين المسلمين، وأحسنهم تصورًا لصورة الأرض.

علم الفيزياء:

درس المسلمون ظواهر عديدة في البحر، كالمد والجزر، والبراكين، وظواهر جوية كالضغط الجوي والرياح والأعاصير، والمطر والسحاب والبرق والرعد وظواهر الصوت والضوء وغيرها. وظهر الحسن بن الهيثم، صاحب النظريات المعروفة في علم البصريات.

وقد اهتم المسلمون بالأوزان، واستخدموا موازين غاية في الدقة، كما تفوقوا في تقدير الأوزان النوعية (النسبة بين وزن المادة ووزن حجم مساوٍ لحجمها من الماء).

ولقد اخترع البيروني آلة مخروطية، يتجه مصبها إلى أسفل، صنعها بنفسه ورسمها، لاستخراج الوزن النوعي، وذلك عن طريق ملء هذه الآلة بالماء حتى المصب (النهاية)، ثم يوضع فيها المادة التي يريد معرفة وزنها النوعي، فيخرج من حولها قدر من الماء من خلال المصب، ويسقط في الكفة، فيكون الوزن النوعي لها هو النسبة بين وزنها ووزن الماء المزاح، ونجح البيروني عن طريق تلك الآلة في تحديد وزن ثمانية عشر معدنًا كالذهب والزئبق والنحاس والحديد والياقوت وغيرها، وتوصل إلى نتائج قريبة من نتائج العصر الحديث.

كما درس علماؤنا الأرض وقالوا بكرويتها، وعرفوا جاذبية الأرض للأجسام، ودوران الأرض حول نفسها كما ذكر البيروني، وقد سبق علماؤنا نيوتن، ومهدوا له الطريق لوضع قانون الجاذبية، وقد تفنن المسلمون في صناعة الآلات الدقيقة مثل الساعة التي أهداها هارون الرشيد سنة (191هـ) إلى أحد ملوك أوربا، وكانت مصنوعة من النحاس الأصفر بمهارة فنية عالية.

ودرس المسلمون الصوت والضوء، وعرفوا كيفية تمييز الأصوات من خلال دراسة الأوتار الصوتية، واهتزازاتها، وعرفوا المرايا بأنواعها. وهذا قليل من كثير عن علم الفيزياء عند المسلمين، وعطائهم الحضاري في ميدان الفيزياء، ولولا هذا العطاء ما تقدم الغرب هذا التقدم السريع في علوم الفيزياء.

علوم الحياة:

وهي العلوم التي تدرس النبات والحيوان. وقد اشتغل المسلمون بعلمي النبات والحيوان، واهتموا بهما اهتمامًا عظيمًا، وكانت تعاليم القرآن والإشارات العلمية الواردة فيه خير دافع للمسلمين للبحث في جميع فروع المعرفة، ومنها علوم الحياة.

وقد ألف أبو حنيفة الدينوري الملقب بشيخ علماء النبات كتاب (النبات)، وألف الإدريسي كتاب (الجامع لصفات أشتات النبات).

وقد اهتم المسلمون بالزراعة، وأصبحت على أيديهم علمًا له أصوله وقواعده قبل باقي العلوم الأخرى، وقد اعترف الأوربيون بفضل العلماء المسلمين ودورهم في نقل كثير من النباتات إلى مصر والأندلس وصقلية، والتي استفاد منها الغربيون في زراعاتهم ومنها القطن، والبطيخ، وقصب السكر، والليمون، واهتموا بشق الترع والقنوات، وقد ذكر ابن حوقل في كتابه (المسالك والممالك) أخبارًا كثيرة عن هذه الترع والقنوات والأنهار.

كما اهتموا ببناء الخزانات وبناء السدود الضخمة على بعض الأنهار، وكذلك شق المجارى المائية تحت سطح الأرض. ومن أهم كتب الزراعة، كتاب الفلاحة الأندلسية لأبي زكريا محمد بن العوام الأشبيلي، وقد تحدث فيه عن أنواع التربة وأجودها، وما يصلح منها للبقول وغيرها وما لا يصلح لها.

واهتم المسلمون بالحيوان، فدرسوه بالتفصيل في كتبهم، ومن أبرز من كتبوا في هذا المجال: الجاحظ في كتابه الحيوان، والدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى، كما وجدت كتب عن البيطرة مثل: علاج الحيوانات، ومنها كتب للرمَّاح

(ت 711 هـ).

علم الكيمياء:

لقد عرف المسلمون علم الكيمياء في وقت مبكر، وذلك على يد خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85 هـ)، الذي ترك حقه في الخلافة؛ لأنه كان يحب العلم ويفضله على أي شيء آخر، فقام بترجمة كتب النجوم والطب والكيمياء.

وبرع في هذا الجانب جابر بن حيان (120 هـ-210 هـ) الذي أكد على أن التجربة هي أهم مراحل البحث العلمي، وبذلك وضع أسس المنهج التجريبي الحديث، وهو المنهج الذي يقوم على التجربة والملاحظة والاستنتاج، كما عرف

ابن حيان كثيرًا من العمليات الكيميائية، ووصفها بدقة مثل: التبخير، والترشيح، والتقطير، والإذابة، وقد أجرى بعض التفاعلات الكيميائية، وحصل من خلالها على محلول نترات الفضة. هذا وقد بلغت كتبه أكثر من مائة كتاب مثل: الخواص الكبير، والموازين، والإيضاح، وقد عرف الغربيون له قدره فترجموا مؤلفاته إلى اللاتينية من شدة إعجابهم بها.

ومن الكيمائيين المسلمين الذين برعوا في هذا المجال، محمد ابن زكريا الرازي، صاحب كتاب الأسرار في الكيمياء، الذي استخدم علم الكيمياء في الطب وعلاج كثير من الأمراض داخل جسم الإنسان.

وكان من هؤلاء: الكندي الذي ألف عدة رسائل في الكيمياء منها: رسالة في تلويح الزجاج، ورسالة في أنواع السيوف والحديد.

ولقد كثرت منجزات المسلمين في علم الكيمياء، فحصلوا على مركبات وعناصر كيميائية كثيرة مثل: مركبات البوتاسيوم والصوديوم، واستخدموا ثاني أكسيد الكربون في صناعة الزجاج، وساهموا في صناعة الصابون والروائح.

علم الطب:

لقد اشتغل العرب بالطب في القديم، وتقدموا فيه مع تقدم الأيام، وظهر منهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الحارث بن كَلَدة الثقفي طبيب العرب، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ببلاغته في الطب، بالإضافة إلى بعض النساء اللاتي اشتغلن ومارسن هذا العمل، خاصة خلال غزوات الرسول من أمثال

رفيدة بنت سعد الأسلمية والشفاء بنت عبد الله، وأم عطية الأنصارية -رضي الله عنهن-.

وقد اهتم المسلمون بالطب لما ورد في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، من إشارات طبية، وأمر بالتداوي، وقد احتوت كتب أئمة الحديث على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالأمراض وبعلاجها، وكتب بعض علماء الحديث كتبًا خاصة في ذلك، مثل: الإمام النووي في كتابه الطب النبوي، والإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وابن حجر في شرحه لصحيح الإمام البخاري وغيرهم.

وقد كثُر الأطباء من سكان الدولة الإسلامية، وترجمت كتب الطب التي كتبها أبقراط وجالينوس، وغيرهما، وتمت الاستفادة منها على أحسن وجه، واشتهر من العلماء الرازي الذي كان له دور كبير في التفريق بين الأعراض المتشابهة لبعض الأمراض، مثل: ألم القولون، وألم الكلى، والتفريق بين الجدري والحصبة.

وفرَّق ابن سينا بين شلل الوجه الناتج عن سبب أساسي في مراكز المخ، والآخر الناتج عن عامل خارجي. ونجح ابن النفيس في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى في القرن السابع الهجري قبل معرفة أوربا لها بثلاثة قرون. وتنبه الطبيب والمؤرخ الأندلسي لسان الدين بن الخطيب إلى خطورة العدوى، ووجودها أثناء انتشار مرض الطاعون في الأندلس، فحذر الناس من خطورتها وبين كيفية الوقاية منها.

وقد عرف المسلمون الأوائل التخصص، فلم يسمحوا لأحد بممارسة الطب إلا بعد نجاحه في امتحان في كتب التخصص المعروفة، للتأكد من سعة ثقافة الطلاب النظرية والعملية، وللوثوق من مهارتهم ومقدرتهم على التشخيص والعلاج، قبل أداء اليمين، وحصولهم على شهادة مكتوبة تحدد لهم الأمراض التي يمكنهم مواجهتها وعلاجها. وكان الأطباء يخضعون لرقابة الدولة.

ومن التخصصات التي عرفها المسلمون:

الأمراض الباطنية: لقد عرف المسلمون تركيب جسم الإنسان وأجهزته، وطبيعة المعدة وأمراضها، وديدان الأمعاء، والبواسير وغيرها من الأمراض.

الجراحة: وكان كتاب الحاوي للرازي يشتمل على معلومات عن جراحات الأعضاء التناسلية والدماغ والخُرَّاجات الموجودة داخل الأذن وجراحة البطن وغيرها. ويرجع الفضل في تقدم المسلمين في الجراحة إلى الطبيب الأندلسي المسلم أبي القاسم الزهراوي (ت 403هـ) رائد هذا التخصص، والذي استفادت أوربا من كتبه لمدة خمسة قرون، حيث تُرجمت مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية.

وقد ظهرت براعة أبي القاسم الزهراوي في إجراء العمليات بشكل لا يترك أثرًا ظاهرًا، واستئصاله لأورام الثدي والفخذ، وعلاج دوالي الساقين، واستخراج حصوات المثانة، وتفتيتها، واخترع أكثر من مائتي آلة جراحة تستخدم في العمليات، وأخذها عنه الذين جاءوا من بعده، وكان يحرص على استخدام ممرضات من النساء عند إجراء عمليات جراحية للنساء لتوفير الأمن والطمأنينة لهن.

طب العيون: لقد اهتم الأطباء المسلمون بأمراض العيون التي انتشرت في بعض البلاد الحارة، مثل: مصر والشام والعراق، ونجحوا في تشريح عيون الحيوانات، فعرفوا أجزاء كثيرة من عين الإنسان التي لا تختلف كثيرًا عن عين الحيوان، وعرفوا أمراضها المختلفة، ووصفوا لها علاجها، ومن الأطباء الذين برعوا في هذا التخصص

عمار بن علي الموصلي (ت 400 هـ) صاحب كتاب المنتخب في علاج أمراض العين، وأيضًا العالم الطبيب علي بن عيسى الكحَّال صاحب كتاب تذكرة الكحالين، وغيرهما.

طب العظام: وقد نجح الأطباء المسلمون في علاج جميع الكسور في الأنف والفك والرقبة، والضلوع والركبة، والساقين، والذراع وغير ذلك، وكانوا يشرِّحون جثث الموتى لمعرفة شكل العظام والمفصل وكيفية اتصالها.

طب الأسنان: وفي كتاب الطبيب المسلم الزهراوي الذي سماه التصريف: باب وضح فيه كيف يمكن خلع الأسنان بجذورها، ووصف الآلات المستخدمة في ذلك، وعلاج ورم اللثة وتسكين الآلام، ووضع أسنان بديلة عن المخلوعة من عظم البقر المشدود بخيوط من الذهب أو الفضة، وعرفوا الوقاية من التسوس باستعمال السِّواك وبعض المحاليل والمساحيق التي تشبه معجون الأسنان اليوم.

طب النساء: اشتهر في هذا الفرع من فروع الطب الطبيب المسلم أبو بكر الرازي والزهراوي وابن سينا، ووجدت طبيبات مسلمات للقيام بهذا العمل مثل: أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها، وهناك مؤلفات إسلامية طبية مثيرة تحتوي على معلومات واسعة عن أمراض النساء وعلاجها، مثل: عمليات التوليد، وتوسعة باب الرحم أثناء الولادة، والنفاس وآثاره، وعالجوا احتباس الدورة الشهرية وغيرها من أمراض النساء، وحاولوا التعرف على نوع الجنين في بطن أمه عن طريق الملاحظة والتدقيق.

طب الأطفال: ولقد احتل طب الأطفال مكانة عالية عند المسلمين، ونال الأطفال عناية كبيرة من اهتمام علماء الطب المسلمين، فقد تكلموا عن الرضاع والفطام، ومواقيته، كما عالجوا أمراض الأطفال مثل السعال والإسهال والقيء، وحاولوا علاج شلل الأطفال، والتبول اللاإرادي في الفراش، وغيرها من الأمراض. ومن كتب طب الأطفال: رسالة في أوجاع الأطفال لأبي على بن أحمد بن مندويه الأصفهاني (ت410 هـ).

الطب النفسي والعقلي: وقد مارسه من أطباء المسلمين الرازي وغيره من الأطباء، واستخدموا فيه الصدمات والمفاجأة لعلاج الأعضاء المصابة بالشلل، وإعادة الحياة إليها، أما الأمراض العقلية فكانت هناك مستشفيات خاصة بهذه الأمراض في جو مليء بالخضرة والزهور والورد، وسماع بعض الآيات القرآنية.

علم الصيدلة: وبرع المسلمون الأوائل في علم الصيدلة، وقاموا بترجمة الكتب التي تتحدث عن العقاقير والأدوية، ثم طوروا وأبدعوا في مجالات الأدوية والأقراص والأشربة والمرهم، كما ورد في كتاب (فردوس الحكمة) لعلي بن سهل الطبري، وكتاب (الحاوي) في الطب لأبي بكر الرازي، وكتاب (القانون) لابن سينا.

وقد نجح المسلمون في تحضير الأدوية من الأعشاب، وكانت هذه الأدوية تباع في دكاكين العطارين المنتشرة في أسواق المدن الإسلامية بالإضافة إلى دكاكين الصيادلة.

وكان من أهم إنجازات العلماء المسلمين في مجال الصيدلة:

- اكتشاف العديد من العقاقير التي لا تزال تحتفظ بأسمائها العربية في اللغات الأجنبية مثل الحناء، والحنظل، والكافور، والكركم، والكمون.

- تحضير أدوية من مواد نباتية وحيوانية ومعدنية، وابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية، ويعد الرازي أول من جعل الكيمياء في خدمة الطب، فاستحضر كثيرًا من المركبات.

- تغليف الأدوية المرة بغلاف من السكر أو عصير الفاكهة لكي يستسيغها المريض.

مكان العلاج:

وقد عرف المسلمون البيمارستان (المستشفى)، منذ زمن بعيد، وأول مستشفى أنشئت في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك عام (88هـ) قرب دمشق، وكانت تعالج مرض الجذام، ثم كثرت بعد ذلك المستشفيات، وجهزت بجميع الأدوات التي تلزم المريض، ومن هذه المستشفيات: مستشفى أحمد بن طولون في مصر، ومستشفى نور الدين محمود زنكي في دمشق الذي أنشئ عام (549 هـ)، ومستشفى صلاح الدين الأيوبي في مصر الذي أنشئ (577 هـ).

علم المعادن: عرف المسلمون الكثير عن الخواص الطبيعية للمعادن، ووصفوها وصفًا علميًّا دقيقًا، مثل: اللون، والبريق، ودرجة الشفافية، والصلابة، والوزن النوعي لها. وقد برع علماء كثيرون في هذا المجال، منهم: عطارد بن محمد الحسيب، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وهو صاحب أول كتاب إسلامي عن الأحجار، وهو كتاب (الجواهر والأحجار الكريمة).

وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي توفي (313 هـ)، وقد ألف في المعادن كتاب (الخواص)، وكتاب (علل المعادن) وتناول فيهما دراسة خواص الأحجار، ومكوناتها الطبيعية.

ويحيى بن ماسويه، صاحب كتاب (الجواهر وصفاتها)، وهو من أهم الكتب الإسلامية في مجال المعادن، حيث يكشف عن بداية اشتغال المسلمين بعلم المعادن وكتابتهم عنه وتصنيفهم فيه، وموقفهم من تجارة الجواهر وطرق الحصول عليها، وأماكن استخراج الحجارة في المشرق القديم وأثمانها وأوزانها المختلفة، والمصطلحات والأسماء التي تتعلق بعلم الأحجار في تلك العصور المتقدمة.

وأبو الريحان محمد بن أحمد البيروني المتوفى (440 هـ)، والذي قال عنه علماء أوربا وغيرها: إنه أعظم عقلية عرفها التاريخ، وقد ترك لنا البيروني أعظم وأوسع كتاب في علم المعادن وهو (كتاب الجَمَاهِر في معرفة الجَوَاهر).

وقد اخترع أول جهاز لقياس الوزن النوعي للمعادن والأحجار الكريمة، وتمكن عن طريقه معرفة الوزن النوعي بدقة لثمانية عشر حجرًا كريمًا، ومعدنًا وفلزًّا، وكان أول من ميَّز بين المعادن والفلزات، حيث استخدم كلمة المعدن لوصف الأحجار الكريمة، وكلمة الفِلِز لوصف الذهب والفضة والحديد والزئبق.

والعالم الموسوعي ابن سينا، وهو يعد المؤسس الحقيقي لعلم الجيولوجيا، ويبدو إسهامه من خلال كتابه الشفاء، في الجزء الخاص بالمعادن والظواهر الجوية .

وشهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي صاحب (كتاب أزهار الأفكار في جواهر الأحجار)، والمتوفى (651 هـ)، ويعد كتابه مع كتاب البيروني قمة ما وصل إليه العلماء المسلمون في علم المعادن.

ومحمد بن إبراهيم بن ساعد البخاري المعروف بابن الأكفاي المتوفى سنة (749 هـ)، صاحب كتاب نخب الذخائر في أحوال الجواهر. ولقد سبق علماء المسلمين علماء الغرب بنحو ستة قرون في مجال علم المعادن، وكان لما تركوه من تراث عظيم، أكبر الأثر في نهضة أوربا وتقدمها في هذا المجال.

علم التنظيم والإدارة: برع المسلمون في كل المجالات، ومنها التنظيم الإداري، فقد اقتضى قيام الدولة الإسلامية أن يكون لها تنظيمها الإداري الخاص بها، الذي يقوم بتنفيذ سياساتها العامة، والقيام بتطبيق وتنفيذ أحكام الشريعة والحفاظ عليها، وقد مرَّ علم الإدارة والنظام الإداري الإسلامي بالعديد من المراحل.

وفي عهد عمر بن الخطاب، اتسعت الدولة الإسلامية، وازدادت الحاجة إلى تطوير النظام الإداري الإسلامي ليلائم الأوضاع الجديدة، فقام عمر -رضي الله عنه- بتطوير الجهاز الإداري في الدولة الإسلامية، فوضع التاريخ الهجري، وأنشأ الدواوين، ومنها ديوان الإنشاء لحفظ الوثائق الرسمية، وديوان العطاء والجند.

وفي عهد الدولة الأموية ظهرت دواوين ووظائف جديدة لمواجهة اتساع نطاق الإدارة، فظهرت دواوين الخاتم، والشرطة، والبريد، والحسبة، والأحباس للنظر في المظالم والضياع.

ومع بداية عهد الدولة العباسية استقر نظام الوزارة لمساعدة الخليفة في إنجاز شئون الدولة. ولكي يتحقق ضمان الدقة في الإدارة، كان هناك مفهوم الرقابة الإدارية في الدولة، وتم وضع أساس مشروعية هذه الرقابة من خلال:

أولاً: الرقابة الذاتية، أو محاسبة النفس، وبمقتضاها يوجب الإسلام على الإنسان المسلم ضرورة مراجعة نفسه ومحاسبتها.

ثانيًا: رقابة الأمة؛ فالأمة رقيبة على كل مسئول في موقعه ومنصبه، لا يحل للأمة أن تتخلى عن تلك المراقبة.

ثالثًا: رقابة الحاكم؛ فالحاكم رقيب على من دونه من وزرائه وأمرائه، وهو مسئول إن قصَّر في ذلك، وهو يقوم بهذه الرقابة من خلال الأجهزة المعاونة له.

وهكذا ساهم الإسلام وحضارته السامية في إرساء أهم الأسس والقواعد في ميدان الإدارة، والنظام الإداري، فسبق بذلك العديد من النظم الإدارية التي وضعها غيرهم من البشر.

===============

العلاقات الدولية في الحضارة الإسلامية

قدم الإسلام للمجتمع البشرى أسسًا للحياة، تَكْفُل السلامة لهذا المجتمع، وإن اختلفت عقائد الدول وأديانها.

فنظم التعاون بين الأمم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما قدَّم النظم المناسبة للتخفيف من ويلات الحروب، وكان ما قدمه الإسلام في مجال العلاقات الدولية هو أول تعليمات سامية في هذا المجال عرفتها البشرية.

الجانب السياسي:

شرع الإسلام نظام المعاهدات، والسفراء، وتأمين الرسل المبعوثين إلى الدول الأخرى، وكتب رسائل الدعوة لهذه الدول.

الجانب الاقتصادي:

أباح الإسلام التعامل بالعملة الفارسية والرومية في بداية الأمر؛ حتى تم إنتاج عملة إسلامية خالصة تدريجيًّا، كما سمح بالتجارة الحرة، فكان التجار غير المسلمين يدخلون بتجارتهم العالم الإسلامي، وعليهم أن يدفعوا بعض المال، وهو ما كان يعرف بالعشور، كما كان التجار المسلمون يدفعون عندما يدخلون أرضًا غير إسلامية بتجارتهم.

الجانب الاجتماعي:

أباح الإسلام للمسلمين أن يأكلوا طعام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من غير ما حرم الله، وأن يقدموا لهم من طعامهم. وأباح للمسلمين أن يتزوجوا من نسائهم، وأن يتعاملوا معهم ببر وصدق وعدالة، وأن يسالموهم ما لم يظهر منهم عدوان أو خيانة، وأن يكونوا منهم على حذر.

الجانب الثقافي:

أحل الإسلام للمسلمين أن يتبادلوا الثقافات مع غير المسلمين، وأن يتعلموا لغاتهم، بشرط أن يكون تبادل الثقافات بما لا يتعارض مع قواعد الشرع الإسلامي الحنيف، ولهذا وجدنا المسلمين الأوائل يتعلمون لغات غير المسلمين، لنشر الإسلام، وليأمنوا مكر أهل هذه اللغات بهم كما ترجموا كتبًا كثيرة بلغات مختلفة إلى اللغة العربية.

الحروب:

وضع الإسلام للحرب والسلم قواعد ونظمًا دقيقة، أنقذت البشرية من أهوال الصراع والدمار، وأتى الإسلام بمبادئ أخلاقية في مجال الحرب لم تعرفها البشرية من قبل.

================

النظام التشريعي في الحضارة الإسلامية

لقد جاء الإسلام بتشريعات وقوانين حفظت للناس حقوقهم، وضمنت لهم الفلاح في الدنيا والآخرة. والمصادر الأساسية للتشريع الإسلامي هي:

القرآن الكريم

القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49].

وشرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولذلك لا يجوز لأحد أن يتركه ويحكم بما سواه، وكل من جاء بتشريع يخالف شرع الله فيحل ما حرَّم الله، أو يحرم ما أحل الله، فهو خارج عن الملة.

ولقد اعتبر الله عز وجل المشرعين آلهةً يُعبدون من دونه، ولقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لعدي بن حاتم عندما دخل عليه (، وهو يقرأ قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].

وكان عدي قد دخل النصرانية في الجاهلية وأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح أخته، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال عدي لما سمع النبي يتلو هذه الآية: إنهم لم يعبدوهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بلى، إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فتلك عبادتهم إياهم) [أحمد والترمذي].

والقرآن الكريم لم يترك شيئًا إلا ذكر حكمه إما نصًّا وإما ضمن القواعد العامة التي جاءت فيه لما يجد من أمور في كل عصر من العصور، قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38].

والقرآن الكريم به نوعان من الأحكام:

- أحكام ثابتة وردت فيها نصوص قرآنية، وهذه لا دخل للعقل فيها إلا الاستنباط من النصوص وتوجيهها.

- قواعد عامة غير ثابتة، للقادرين على الاستنباط حق الاجتهاد فيها، ووضع النظريات والقواعد، بشرط ألا يتعارض ذلك مع القواعد العامة للإسلام.

ومن هذه القواعد العامة غير الثابتة، ما جاء به الإسلام في مجال السياسة والاقتصاد وغير ذلك.

السنة النبوية الصحيحة:

وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] . وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65]. ولذلك يجب علينا أن نحتكم إلى سنة الرسول

( في الأمور التي لا نجد لها حكمًا ظاهرًا في القرآن الكريم، وأن نرضى بها دون شك، ولا تحرج؛ لأن السنة إما أن تبين أحكامًا موجودة في القرآن، أو تفصل أحكامًا عامة مجملة فيه، أو تأتي بأحكام جديدة، فمثلاً ذكر القرآن الصلوات وأمرنا بها، ولكنه لم يذكر عدد ركعاتها، ولا هيئاتها ولا طريقة أدائها، فجاءت السنة ووضحت ذلك بالتفصيل، وغير ذلك كثير في أمور العبادات والمعاملات.

الإجماع

لا خلاف بين العلماء على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والإجماع هو اتفاق المجتهدين من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد وفاته ( على حكم شرعي اجتهدوا فيه ليس فيه نص من الكتاب أو السنة، ولا إجماع عند الفقهاء إلا بسند من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :.

والمجتهدون هم العلماء العارفون بأدلة الفقه من القرآن والسنة وآراء العلماء، وكيفية استخراج واستنباط الأحكام، ولقد استشهد العلماء على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع بعدة أدلة من القرآن والسنة؛ أما أدلة القرآن فمنها قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا} [النساء: 115]. وسبيل المؤمنين الحق هو ما اتفق عليه المجتهدون منهم.

وأما أدلة السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم : (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله تعالى، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم) [ابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم : (يد الله مع الجماعة، ومن شذ؛ شذ في النار) [الترمذي].

القياس

وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع.

وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: (حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قَاضِيَتِهِ؟). قالت: نعم، قال: (فاقضوا الذي لله، فإن دَيْنَ الله أحق بالوفاء) [متفق عليه]. فهذه الحادثة توضح استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم للقياس، فقد قاس أمر الحج على أمر آخر، وهو قضاء الدين، فإن كانت تستطيع أن تقضي الدين عن أمها، فهي تستطيع أن تحج عنها.

فالمجتهد إذا قابلته مسألة ولم يجد لها حلاً أو حكمًا صريحًا في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ولم يكن في هذه المسألة إجماع من الفقهاء، لم يكن أمامه إلا أن يبحث عن مسألة شبيهة بها، وحكمها معروف، وتوجد علة (سبب) تجمع بينهما، فإن حكم المسألة المجهولة يكون حكم المسألة المعلومة الحكم، وهذا هو القياس.

وجمهور الفقهاء مجمعون على أن القياس حجة، ويستدلون على حجيته بالكتاب والسنة وأفعال الصحابة، فأما أدلة القرآن فيقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59]. ورد الأمر إلى الله ورسوله معناه أن يُرجع ما فيه خلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقاس ما ليس فيه حكم على ما فيه حكم، لوجود علة تجمع بينهما.

وأما الأدلة عليه من السنة النبوية المطهرة فكثيرة، منها الحديث الذي ذكرناه في أول الكلام عن القياس، وأما أفعال الصحابة، فمنها أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختاروا أبا بكر -رضي الله عنه- خليفة وبايعوه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لإمامة الصلاة وإمامتهم فيها، فقاس المسلمون الإمامة العامة على إمامة الصلاة، وقالوا: اختاره لأمر ديننا أفلا نختاره لأمر دنيانا؟!

والإجماع والقياس يحتاجان إلى جهد كبير واجتهاد مضنٍ من العلماء في استخراج الأحكام، كما أضاف العلماء مصادر وأدلة أخرى لاستنباط الأحكام، كالمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ما لم يخالف شرعنا، وقول الصحابي إذا كان ملائمًا لروح الشريعة، وهكذا يتضح مدى تميز الجانب التشريعي في الإسلام، وأثره في بناء حضارته.

==============

النظام القضائي في الحضارة الإسلامية

كانت امرأة من بني مخزوم تستعير من الناس أمتعتهم ثم تنكرها، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها تنفيذًا لحد الله، فأراد أهلها أن يستغلوا حُبَّ رسول الله لأسامة بن زيد، فطلبوا من أسامة بن زيد أن يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :؛ لينقذها من إقامة الحد عليها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب غضبًا شديدًا، وقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) [الجماعة].

وهكذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً في تحقيق العدل في المجتمع، فنبذ المحاباة والوساطة ووضع الاعتبار لبعض الناس دون بعض، وقد بلغ من حرص الإسلام على إقامة العدل أن حذر من الظلم وجعله ظلمات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم : (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].

الفرق بين الحكم والقضاء:

الحكم هو ما يقوم به الحاكم لتحقيق العدالة في الناس ويشمل كل نواحي حياة الأمة، أما القضاء فهو الفصل في الخصومات بين الناس بما يأمر به الشرع إلزامًا. ومعنى هذا أن القضاء يتم بعد وجود منازعات، أو ضبط أحد الخارجين على القانون متلبسًا بجريمة، وتقديمه إلى القاضي، ليفصل في الأمر بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وتكون أحكام القاضي واجبة التنفيذ.

الفتوى والقضاء:

الفتوى أعم وأشمل من القضاء، لأن الفتوى لا تحتاج إلى إجراءات معينة، ويكفي أن يرسل السائل إلى العالم، فيجيب عن سؤاله، والقاضي لا يسأل ولا يستفتي في مسائل العبادات، أما المفتي فيجيب عن كافة التساؤلات، وينصح ويرشد، لكنه لا يملك معاقبة المقصرين في أدائها مثل القاضي.

القضاء والنظم القضائية:

تتمتع الدولة المسلمة بمجموعة من المؤسسات، والقضاء جزء هام من هذه المؤسسات، لتحقيق العدالة وإخضاع الجميع لشرائع الإسلام وآدابه، وجاء الإسلام بنظم قضائية فريدة لم يعرفها العالم من قبل من أهمها: القضاء، والشرطة، ونظام الحسبة، ونظام النظر في المظالم.

تاريخ القضاء في الإسلام:

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم الدولة وقاضيها الأول، وقد أمره الله تعالى بذلك قائلاً: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49]. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا}[النساء: 105].

وكان صلى الله عليه وسلم يرسل نوابًا عنه إلى الأماكن البعيدة يتولون القضاء، فقد أرسل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن، وَعتَّاب بن أسيد -رضي الله عنه- إلى مكة، وكان قبل أن يرسل القضاة يتولاهم بالنصيحة والموعظة، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذات مرة، فقال: (يا علي، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تَقْضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) [أحمد وأبوداود والترمذي].

المبادئ العامة للقضاء في الإسلام

كانت المبادئ العامة للقضاء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن تبعه من الخلفاء والأمراء غاية في السمو والارتقاء والعظمة، ومن مظاهر ذلك:

- القاضي يحكم وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.

- التحذير من الظلم في القضاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله مع القاضي ما لم يَجُرْ (يظلم)، فإذا جار تبرأ منه، وألزمه الشيطان) [الحاكم والبيهقي]. وقال صلى الله عليه وسلم : (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جَوْره (ظلمه)، فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار) [أبو داود].

- ابتعاد القاضي عن كل ما قد يؤثر على حكمه بالعدل، فيراعى أن يكون في أحسن حالاته النفسية، بعيدًا عن الجوع والعطش، والضيق والقلق والغضب، حتى لا يؤثر ذلك في عدالته، قال صلى الله عليه وسلم : (لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان) [متفق عليه].

- تحريم تقديم الرشوة للقاضي، أو قبولها، وإذا قدمها المتهم، فللقاضي أن يعاقبه بما يراه، ولذلك فقد كان قضاة الإسلام لا يستضيفون الخصوم أو بعضهم، ولا يقبلون ضيافتهم ولا هداياهم، حتى لا يكون لذلك تأثير على قضاء القاضي، قال صلى الله عليه وسلم : (من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلُول) [أبو داود].

وقال صلى الله عليه وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (أي الذي يعطي الرشوة، والذي يأخذها والوسيط بينهما)) [أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد].

- تحذير المتخاصمين من الكذب في الادعاء، فعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور) [البخاري].

- تحرِّي الصدق في عرض القضية، فقد قال ( لرجلين اختصما أمامه في ميراث طال عليه الزمن، وليس لأحد منهما بيِّنة، فقال صلى الله عليه وسلم : (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض (أبلغ)، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا (الحديدة التي تحرك بها النار) في عنقه يوم القيامة). فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق (اقصدا)، ثم استهما (أي ليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة بعد القسمة)، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه) [أحمد والبخاري ومسلم].

أي أن الناس يتحاكمون إلى القاضي، فيجتهد لهم، وقد لا يصيب الحق، فيقضي لأحدهم بشيء ليس من حقه، فحكم القاضي هنا لا يحل لهذا الشخص أخذ ما ليس من حقه.

- تقديم الصلح على القضاء، وهذا من عظمة القضاء في الإسلام، لأن حكم القضاء يورث الضغائن والأحقاد وما دام الصلح بين المسلمين جائزًا فكان لابد أن يأخذ مكانه لإصلاح ما أفسده الشيطان بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم : (والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالا أو أحلَّ حرامًا) [أصحاب السنن].

ورُوى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء (أحكام القضاء) يورث بينهم الضغائن.

ومن عظمة الإسلام أنه أباح للقاضي أن يشفع عند أحد المتخاصمين للآخر، فقد ورد أن كعب بن مالك طلب دينًا له كان عند أبي حدرَدٍ، وكانا في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، فقال كعب: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك (أي اترك نصف دينك لأخيك). قال كعب: قد فعلت يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي حدرد: (قم فاقضه) [متفق عليه].

طرق إثبات الحق في القضاء الإسلامي:

- شهادة الشهود، فيشهد على الحق شاهدان ممن ترضى شهادتهما، أو شهادة رجل وامرأتين، قال الله عز وجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282]. وهذا في غير القضايا التي تتعلق بالعِرض والشرف، التي يلزم فيها أربعة شهود.

- الوثائق المكتوبة والأدلة الأخرى التي يستخدمها القاضي بذكاء للتوصل للحكم الصحيح.

ضوابط اختيار القضاة:

لا يتولى القضاء في الدولة الإسلامية إلا من توفرت فيه عدة شروط، منها:

- الإسلام والعقل والبلوغ، فلا يتولى قضاء المسلمين كافر أو مجنون أو فاسق أو طفل صغير، كما اشترطوا العلم بالكتاب والسنة، والذكاء الذي يساعده على التمييز بين الحق والباطل.

- العِلْم بآيات الأحكام وأحاديثها وأدلتها، وبأقوال الصحابة، وبالإجماع، وبما اختلف العلماء فيه، وأن يكون عالمًا باللغة العربية، وقادرًا على القياس والاستنباط.

- سلامة الحواس، مثل: السمع والبصر واللسان حتى يستطيع القاضي أن يلاحظ وأن يعبر بها، ولا غنى للقاضي عنها.

- العدالة: وهي أن يكون القاضي متحليًا بمكارم الأخلاق، بعيدًا عن ارتكاب الكبائر، غير مصرّ على فعل الصغائر، فهذه من أفعال الفُساق ولا يتولى القضاء فاسقٌ.

- أن يكون القاضي رجلاً، فلا يجوز أن يتولى القضاء امرأة؛ لأنها مهنة تحتاج إلى الصبر والمعاناة وعدم الانفعال، وطبيعة المرأة بعواطفها الرقيقة، وانفعالها السريع وما يحدث لها من حيض ونفاس وحمل ووضع وإرضاع، كل ذلك يجعلها غير مؤهلة للقضاء، كما أن طبيعة هذا المنصب تتطلب الاحتكاك بجمهور الناس، والشهود والخصوم، والوكلاء وأعوان القضاة وكل ذلك يتطلب المعاناة والانفراد بالأعوان، وهذا لا يليق بالمرأة.

وعندما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس جعلوا حاكمهم ابنة كسرى قال: (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) [البخاري].

سرعة الحكم في القضايا:

لا يجوز للقاضي تأجيل الحكم في قضية إلا في حالات ثلاث:

- للصلح بين المتخاصمين.

- إذا طلب المدعى مهلة ليأتي بمزيد من الأدلة المؤيدة لحقه.

- إذا كان لدى القاضي شك، يتطلب مزيدًا من البحث والتحرى والدقة.

الأجهزة المعاونة للقاضى:

الشرطة: وهي من الوظائف الإسلامية القديمة، وكانت تساعد القاضي في تنفيذ الحكم الذي يصدره ضد المذنبين. ويبدأ تاريخ الشرطة بعهد عمر بن الخطاب الذي كان يتفقد أحوال الناس بنفسه في الليل ويطارد المنحرفين .

جهاز الحسبة: وهم جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتكليف من الحاكم المسلم، فالمحتسب يمنع الغش في الأسواق ويراقب الموازين، ويطوف على الخبازين والصناع ليلاحظ جودة المنتجات، ويراقب الأفراح والمآتم ليمنع ما يحدث فيها من منكرات، ويحارب الربا، ويطالب بسداد الديون، ويأمر الناس بالصلوات الخمس في أوقاتها...إلخ. وإجمالاً فقد كانت وظيفة المحتسب من الوظائف المهمة التي تتغلغل في المجتمع، وتنظم التعاملات بين الناس وتحفظ حقوقهم، بما يرضي الله ورسوله.

جهاز المظالم: وهذا الجهاز من مفاخر القضاء الإسلامي، فقد وضع هذا الجهاز لكل ما يعجز عنه القضاة من قضايا، كأن تكون القضية متصلة بكبار القوم أصحاب السلطة والنفوذ، فلا يستطيع القاضي فرض نفوذه والحكم ضدهم، فيكلف والي المظالم بأخذ الحق منهم لصاحبه، ولذلك فوالي المظالم لابد أن يكون على درجة عظيمة من الهيبة والتقوى، وسعة العلم.

وقد تطور ديوان المظالم بعد إنشائه، فأحيانًا كان الخلفاء أنفسهم يقومون بمهمة والي المظالم، وهذا مشهور عن الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين والعباسيين، ومما يروى في ذلك أن الخليفة العباسي المأمون جلس للمظالم يومًا، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، فدخلت عليه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال لها: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك. فأخبرته أن ابنه قد اغتصب منها أرضها، فحدد لها موعدًا تأتي فيه، ويحضر خصمها أمامها.

فلما كان اليوم المحدد، أحْضرَ الخَصْمَ، فأجلسها وجلس الخصوم، وظلت المرأة تتحدث بصوت عالٍ، فقال لها الفضل (وزير المأمون): على رِسْلِكِ (أي مهلاً)، إنه ابن أمير المؤمنين. فقال له المأمون: دعها فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه. ثم قضى لها بردِّ ضَيْعَتِها، وحبس ابنه. وهكذا كان لجهاز المظالم أثر كبير في رفع الظلم وانتشار العدل، وتطبيق الشريعة على الجميع، مهما كانت منزلتهم.

التشريع والقضاء بين الحاضر والمستقبل:

اجتهد علماء المسلمين على مر العصور في استخراج الأحكام والتشريعات من خلال القرآن والسنة، لكن المسلمين في العصر الحاضر نتيجة لتأخرهم بدءوا يستوردون القوانين الغربية التي ثبت فشلها، فعمَّ الفساد وانتشر الظلم، ونتيجة لهذه القوانين أصبحت مطالبة الناس بحقوقهم ورفع المظالم إلى القضاء أمرًا صعبًا، لأن إجراءات المحاكم والقضاء بطيئة ومعقدة، فليس هناك سرعة للفصل في المنازعات، كما هو شأن القضاء الإسلامي كما عرفنا.

كما أن للمحامين الذين لا يراعون ضمائرهم، ولا يراقبون الله خبرة طويلة في التحايل على القانون وقلب الحقائق باستغلال الثغرات الموجودة في القوانين، إلى جانب أن كثرة تأجيل القضايا يكلف الناس أموالاَ كثيرة، ولا ينال صاحب الحق حقه سريعًا، كما لا ينال المخطئ عقوبته سريعًا. مما يؤدي إلى موت العدالة موتاً بطيئًا وضياعها من حياة المسلمين.

============

الجانب العسكري في الحضارة الإسلامية

مفهوم الجهاد ومكانته في الإسلام

الجهاد هو بذل الجهد في الدفاع عن محارم الإسلام ضد أعدائه، وأعلى الجهاد وأشرفه الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، وهو فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل سليم الجسد، إذا احتاج الجهاد إليه، كأن يُحتل بلد إسلامي، وإلا فهو فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين.

وللجهاد مكانة سامية في الإسلام، فهو ذروة سنام الإسلام، وهو التجارة الرابحة مع الله، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} [الصف: 10-12].

وهذا المعنى فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :؛ فعندما اقترب المشركون من المسلمين في غزوة بدر، قال ( لأصحابه: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض). فقال عمير بن الحِمَام الأنصارى: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم)، قال: بَخٍ بَخٍ (حسنًا حسنًا). فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (وما يحملك على قول بَخٍ بَخٍ ؟). قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أَهْلِهَا). فأخرج عمير تمرات من جرابه، وجعل يأكل منها، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم ألقى التمرات، وقاتلهم حتى قُتل. [مسلم وأحمد].

والجهاد الإسلامي لا مكان فيه للعدوان على حق الآخرين في العقيدة، ولا في الحياة، وليس فيه إهدار لأي حق من حقوق أي إنسان، إنما هو جهاد من أجل الدين، من أجل أن تصل رسالة الله إلى الأرض كلها، وهو جهاد لمن يقف أمام تبليغ كلمة الله إلى الدنيا بأسرها قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة: 193].

وهكذا نرى أن الجهاد في الإسلام للدفاع عن العقيدة سواء كان المسلمون يقاتلون عدوًّا اعتدى على بلادهم ومقدساتهم، أو كانوا يحاربون من عادى دعوة الله تعالى وصدَّ الناس عنها، فوجب قتالهم لتصل الدعوة إلى الناس، وبعدها يبقى الناس أحرارًا في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم الأول فلا إكراه في الدين.

أنواع الجهاد

وقد ذكر العلماء عدة أنواع للجهاد، منها:

جهاد المشركين:

فهم يحاربون دين الله -تعالى-، ولذلك لابد من محاربتهم، حتى تصل تعاليم الإسلام إلى الناس كافة. قال تعالى: {قاتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].

جهاد المرتدين:

لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد كثير من القبائل عن الإسلام، فقام

أبو بكر -رضي الله عنه- بمحاربتهم، فأرسل الجيوش بقيادة خالد ابن الوليد -رضي الله عنه- لقتالهم، فهزمهم في معركة اليمامة، فمن ترك دين الإسلام وكفر به، وجب قتاله وقتله، قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 217]. وقال صلى الله عليه وسلم : (من بدَّل دينه فاقتلوه) [البخاري].

جهاد البغاة:

ويقصد بهم الخارجون من المسلمين على الحاكم المسلم العادل، أو الباغون المعتدون على غيرهم من المسلمين، إذا كانت الجماعتان مسلمتين، وهنا يجب قتال الفئة الباغية؛ منعًا للفساد وعملاً بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجر: 9].

جهاد أهل الكتاب:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى هرقل عظيم الروم، كتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أسلم يُؤْتِكَ الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيَّيْن (عامة الشعب).. يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].

لم يستجب هرقل والروم معه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فكان سقوط إمبراطورية الروم على يد المسلمين تمهيدًا لنشر دعوة الإسلام بعد أن وقفوا حائلاً دون وصولها إلى قومهم، فوجب قتالهم حتى يزول هذا الحائل، فإن زال فلا إكراه في الدين، فيدخل الإسلام من شاء ويظل على دينه من شاء. قال الله -عز وجل-: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. والمسلمون لا يبدءون بالقتال إلا بعد التبليغ والإنذار، فإن دخل أهل الكتاب الإسلام، أو قبلوا دفع الجزية، فلا قتال، وإن أَبَوْا حوربوا.

جهاد المنافقين:

والمنافقون قوم يظهرون الإسلام ويخفون في صدورهم الكفر، وهم موجودون في كل زمان ومكان، وكان منهم جماعة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يعيشون معه في المدينة المنورة، وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة هي سورة المنافقون، وقد أمر الله بجهادهم قائلاً: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة: 73]. إلا أن جهاد المنافقين يختلف عن جهاد غيرهم، فجهادهم باللسان وبالإنكار عليهم ما يفعلون وبإقامة الحدود فيهم.

دوافع الحرب عند المسلمين

رد العدوان:

يقول الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190]. وبعد أن انتصر المسلمون على المشركين في غزوة بدر، وصلت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل قريش أعدوا العدة لقتال المسلمين، والانتقام منهم، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاتهم وقتالهم فأشار عليه الصحابة بالخروج، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم لقتالهم.

فأول دوافع الحرب عند المسلمين هو الاعتداء عليهم، فإذا تعرض المسلمون لأي اعتداء على النفس أو العرض أو المال أو العقيدة، فعليهم أن يقفوا أمام العدوان، قال تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} [البقرة: 191]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) [الترمذي].

الدفاع عن المسلمين المستضعفين:

يروي لنا التاريخ أن امرأة مسلمة ذهبت إلى سوق يهود بني قينقاع، لتبيع بعض ذهبها، وجلست إلى صائغ، فأراد بعضهم أن تكشف النقاب عن وجهها؛ فرفضت.

فأمسك الصائغ بطرف ثوبها في غفلة منها، ووضعه على ظهرها؛ فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت المرأة، فأنقذها رجل مسلم، وقتل الصائغ، فاجتمع عليه اليهود وقتلوه، فاستغاث أهله بالمسلمين، فطرد الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع من المدينة.

ومن هنا وجب على المسلمين أن ينهضوا جميعًا لمناصرة إخوانهم في العقيدة، في أي مكان، إذا تعرضوا لأذى، قال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا} [النساء: 75].

إزالة الاضطهاد عن الدين والدفاع عن حرية التدين:

لما نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، أثاروا القبائل والفتن ضد المسلمين، اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طرد بعضهم من المدينة وقتل بعضهم، جزاء الغدر والخيانة، فإذا نقض أعداء الإسلام ما بيننا وبينهم من عهود ومواثيق، وظهرت منهم بوادر الخيانة وجب علينا قتالهم، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}

[الأنفال: 58]. ولم يذكر لنا التاريخ حادثة واحدة نقض فيها المسلمون عهدًا واحدًا مع غيرهم وبدءوهم بالقتال.

الاستعداد للمعركة في ظل مبادئ الإسلام

أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العباس بن عبد المطلب في غزوة أحد؛ ليراقب تحركات قريش واستعداداتها العسكرية، فكان ينقل تحركاتهم أولاً بأول، ويرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وظلت المدينة في حالة استعداد دائم لا يفارق رجالها السلاح حتى أثناء الصلاة، وتحركت الدوريات حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للهجوم على المسلمين، وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا يستشير فيه الصحابة ويتبادلون فيه الآراء حول المعركة. ومن هنا فإنه يجب على المسلمين أن يكونوا على استعداد دائم للجهاد في سبيل الله، ومن صور الاستعداد للحرب:

إعداد الجندي المسلم:

الجندي المسلم هو العامل الحاسم في المعركة، ولذلك يجب الاهتمام باختياره وإعداده، ويكون ذلك وفق خطوات محددة، هي:

- تقوية إيمانه ويقينه بالله عز وجل، فالإيمان بالله هو السلاح الأقوى والحاسم في المعارك، لذلك ركز القرآن على تثبيت ذلك المعنى في النفوس، قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51].

والجندي المسلم يربى على معرفة نهاية المعركة، وهي: إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، فإن كانت الأولى حمد الله، وإن كانت الأخرى فهو لا يهاب الموت؛ لأنه يعلم فضل الشهادة.

- إعداده وتربيته على أن النصر لا يتوقف على كثرة العدد والعدة وحدهما، ففي غزوة بدر الكبرى كان المسلمون قلة، وكان الكفار كثرة، ولكن المسلمين بقوة الإيمان والثقة بنصر الله انتصروا قال تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].

- أن يربى الجندي على الطاعة، فعندما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر، قام المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، امض لما أراد الله، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (اسم مكان في أقصى الجزيرة العربية) لجالدنا (لحاربنا) معك حتى تبلغه. وقام سعد بن معاذ وقال: امض لما أراك الله فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك.

ولا شك أن طاعة القيادة المؤمنة من طاعة الله ورسوله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) [البخاري]. فعلى الجندي المسلم أن يطيع توجيهات قائده الذي يقوده نحو النصر. وهذه الطاعة للقائد المسلم لا تكون إلا في المعروف، أما إذا أمرهم القائد أو الأمير بمعصية فلا طاعة له عليهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما الطاعة في المعروف) [متفق عليه].

- أن يربى الجندي على الشجاعة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب مع الجنود كأنه فرد منهم، فقد كان له تسعة سيوف يبارز بها، وسبع دروع يحتمي بها من الطعنات، وفي غزوة أحد، عندما هرب الناس وانفضوا عنه (، وقف النبي صلى الله عليه وسلم في شجاعة نادرة يقاتل المشركين. وفي غزوة حنين، عندما فر كثير من المسلمين وقف في ثبات وقوة يقاتل وينادي المسلمين قائلاً:

أنا النبي لا كذبْ أنا ابْنُ عبدِ المطَّلِب

حتى اجتمعت صفوف المسلمين مرة أخرى فكان لهم النصر. [متفق عليه]. فالشجاعة والثبات والصبر في المعركة من أهم صفات الجندي المسلم، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون}

[الأنفال: 45].

- أن يتدرب الجندي على الحيطة والحذر؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحيطة والحذر؛ عملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا} [النساء: 71].

فالجندي المسلم لابد أن يكون حذرًا يقظًا يتابع كل تحركات العدو، ولا ينخدع بالحيل والمكائد التي يتبعها الأعداء، وكذلك يكون أمينًا على الأسرار الحربية، والجندي المسلم لا يتأثر بالشائعات التي تؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية، وتفريق الصفوف.

- أن يتخلق الجندي بالتواضع، ويبتعد عن الغرور، فعندما فتح الله على المسلمين مكة ودخلها الرسول صلى الله عليه وسلم منتصرًا ومعه المسلمون، دخل ( وهو مطأطئ رأسه؛ واضعًا لله، وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التواضع عند النصر وإرجاع الفضل لله تعالى.

ولذلك يجب على الجندي المسلم أن يكون متواضعًا لا يعرف الغرور والكبر، ويدرك أن النصر من عند الله، ويشكره على تلك النعمة العظيمة، والمسلم لا يتباهى بقوته، ولا يتمنى لقاء العدو، وإنما يسأل الله العافية، فإذا اضطر للحرب صبر عند اللقاء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا) [متفق عليه].

- إمداد الجندي المسلم بكل عناصر القوة اللازمة؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بتسليح الجنود، ويشرف عليهم بنفسه، ويوم حنين لم يجد سلاحًا كافيًا، فاستعار سلاحًا من صفوان بن أمية على أن يعيده إليه بعد المعركة حرصًا على قوة الجيش الإسلامي، كما كان يتفقد الصفوف، فإذا وَجَدَ بينهم ضعيفًا أو صبيًّا لا يقوى على حمل السلاح استبعده من الصفوف.

فالجندي المسلم لابد أن يتسلح بأحدث الأسلحة بقدر المستطاع عملاً بقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60].

تنظيمات الجيش الإسلامي:

لقد عرف المسلمون من البداية تنظيم الجيوش، وكان للجيش الإسلامي مقدمة ومؤخرة، وميمنة وميسرة وقلب، وكان القائد يقف في قلب الجيش حتى يشرف عليه ويوجههم في كافة مراحل القتال.

وفي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنشأ ديوانًا خاصّا بالجند، ليسجل أسماءهم، ويصرف مرتباتهم، كما أعفاهم من العمل في المهن مثل الصناعة والتجارة وغيرها حتى يتفرغوا للفتوحات الإسلامية. كما أقام الحصون والمعسكرات الدائمة لراحة الجند، وأمر ببناء المدن الجديدة كالفسطاط بمصر، والكوفة والبصرة بالعراق لنفس الغرض، كما وُجد في عهده نظام المرابطة، وبخاصة في الأماكن الساحلية كالإسكندرية وغيرها؛ ذلك لصد هجمات الأعداء على سواحل المسلمين.

وفي العصر الأموي، عرف المسلمون نظام الصوائف والشواتي، وهو عبارة عن حملات عسكرية ضد الدولة البيزنطية صيفًا وشتاءً لتأديبها ومنعها من التفكير في غزو السواحل الإسلامية في بلاد الشام.

ويطل العصر العباسى بروعته، ويتم تقسيم الجيوش الإسلامية حسب جنسياتهم، فيكون الفرسان المسلمون الذي يرمون بالرماح من العرب، والمشاة من الفرس وبخاصة من خراسان، ومن بداية عصر الخليفة المعتصم (218 ـ 227هـ) انضم الجنود الأتراك للجيش الإسلامي، وازدادت أعدادهم زيادة كبيرة، ولم يهمل المسلمون البحرية العسكرية، وإنما اهتموا بها اهتمامًا كبيرًا، وخاضوا بها معارك عنيفة مثل معركة (ذات الصواري) في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وألحقوا بأسطول الرومان في البحر المتوسط هزيمة ساحقة.

وبلغ اهتمام المسلمين بالبحرية الإسلامية أن أنشئوا في مصر دارًا لصناعة السفن في جزيرة الروضة، منذ سنة (54هـ)، وكان لها دور بارز في تاريخ البحرية الإسلامية.

واهتم المسلمون اهتمامًا خاصًّا باختيار القادة الأكفاء، تبعًا لمواصفات خاصة لا تتوفر إلا في قلة من الناس، كالشجاعة، والذكاء، وقوة الشخصية، والدهاء، وحسن التخطيط، والولاء التام للدين الإسلامي من أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وغيرهم ممن كان لهم فضل كبير في نشر دين الله في كل مكان.

وقائع المعركة في ظل مبادئ الإسلام

سرعة الاستجابة لداعى الجهاد:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم :، يتفقد الشهداء في غزوة أحد، فوجد

حنظلة بن أبي عامر يتقطر الماء من جسده، فبعث بعض الصحابة إلى زوجته فلما عادوا، أخبروه بأنه، كان حديث عهد بالزواج، فلما سمع نداء الجهاد، ترك فراش عروسه وأسرع إلى ميدان القتال، ليدافع عن دينه، فأخذ يشق الصفوف حتى وصل إلى قائد المشركين أبي سفيان بن حرب (قبل أن يسلم) وكاد أن يقتله، ورآه شداد بن الأسود فضربه فقتله.

فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن صاحبكم لتغسله الملائكة) [الحاكم والبيهقي]. وهكذا ينال حنظلة أعلى منزلة عند الله سبحانه لأنه أسرع يلبي نداء الجهاد استجابة لأمر الله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة: 41]، فعلى المسلم أن يلبي نداء الجهاد، وإلا دخل تحت قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير} [التوبة 38 39].

وقد استجابت النساء أيضًا لنداء الجهاد، وكان لهن دور عظيم، فكنَّ يداوين الجرحى، ويجهزن الطعام، والشراب للمجاهدين، بل نجد أكثر من ذلك، فقد كانت نسيبة بنت كعب -رضي الله عنها- ترمي المشركين بالسهام، وتقف وتقاتل مثل الرجال، كل ذلك في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دعوته، فما أروع الجهاد، وما أعظم الجزاء عند الله.

الثبات في المعركة:

تفرق المسلمون في غزوة أحد، فقتل منهم من قتل، وفر منهم من فرَّ، وتكاثر الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، ولكنه ( ظل صامدًا كالجبل هو وبعض أصحابه، ووقف يقاتل بعزيمة لا تلين، وقلب لا يهتز، حتى انصرف المشركون من حوله.

ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في الثبات يوم حنين عندما فَرَّ المسلمون من حوله ( لكنه لم يترك مكانه، وثبت معه عدد قليل من المسلمين،وكان صلى الله عليه وسلم ينادى في المسلمين:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

فتجمع المسلمون حوله مرة ثانية، وثبتوا حتى جاءهم نصر الله. [متفق عليه].

ولا يجوز للمسلم الفرار من المعركة، إلا للانتقال إلى مكان آخر هو أصلح، أو لينضم إلى إخوان له من المجاهدين في مكان آخر، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}

[الأنفال: 15-16].

آداب الحرب في الإسلام

الإسلام دين المبادئ والقيم والأخلاق الفاضلة، ودين العدل والرحمة والسماحة، حتى مع أعدائه، فقد لقى الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأتباعه من كفار مكة أشد ألوان العذاب، وعندما أنعم الله على المسلمين بفتح مكة، ووقع هؤلاء في أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ظنوا أنه سينتقم منهم، ويفتك بهم، لكنه عفا عنهم، وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) [ابن هشام].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواده قائلاً: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا)

[مسلم وأبوداود والترمذي].

فالإسلام لا يعرف الانتقام، والتمثيل بأجساد الموتى، وتمزيق أجسادهم، مثلما فعل كفار مكة بجثة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وغيره من الشهداء في غزوة أحد، فهو دين السماحة والعدل، كذلك حرَّم الإسلام الغدر، وتقطيع الأشجار وإحراقها، وقتل الحيوان، وتخريب البيوت والمزارع، إلا عند الضرورة القصوى، وفي أضيق الحدود وبالشكل الذي يرغم الأعداء على الاستسلام كما حدث في بعض حروب النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود.

والتاريخ خير شاهد على تسامح المسلمين مع أعدائهم وعدم الغدر بهم، فعندما ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى القدس ليتسلم مفاتيح بيت المقدس من نصارى الروم، وجاء عليه وقت صلاة، خرج ليصلي خارج الكنيسة، ورفض أن يصلي داخلها حتى لا يتخذ المسلمون فعله حجة في اتخاذ كنائس النصارى مساجد.

وحتى في العصور الإسلامية المتأخرة كان هذا التسامح سبب إعجاب الجميع، فهذا محمد الفاتح -رحمه الله- بعد فتح القسطنطينية، يترك للنصارى كنائسهم يتعبدون فيها، ويعامل قساوستهم بإكرام واحترام، مما جعل بعض هؤلاء القساوسة يقول: لقد لاقينا من الحفاوة والتكريم، ما لم نلقه من إخواننا من أهل ديننا النصارى.

نتائج المعركة في ظل تعاليم الإسلام

عادة ما ينتج عن الحروب ما يلي:

توقيع عقد أمان:

وقد يكون هذا الأمان على شكل من الأشكال الآتية:

- الأمان المؤقت الخاص: وهو أن يمنح جنديٌ مسلمٌ جنديًّا من جنود الأعداء أمانًا إذا استسلم، أو طلب ذلك، وكذلك إذا استسلمت جماعة من الأعداء لجماعة من جند المسلمين، فإذا رأى المسلمون أن المصلحة تقتضي الاستجابة لهؤلاء؛ كأن لتعريفهم الإسلام إذا رأوا منهم ميلاً إليه أو يحصلوا على أسلحتهم، أو على أسرار عسكرية، جاز منحهم الأمان، والواحد منهم يسمى مستأمنًا، وله أن يقيم مع المسلمين إقامة غير دائمة، حتى يصل إلى المكان الذي يأمن به، وهذا الأمان يمضيه الحاكم المسلم قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [التوبة: 6].

- الأمان المؤقت العام (الهدنة)، وهو الاتفاق على وقف القتال مدة من الزمن، قد تنتهي إلى صلح، ويجب منح الأمان في حالتين: إذا طلبه العدو، فإنه يجاب إلى طلبه، مع وجوب الحذر والاستعداد، قال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [الأنفال: 61-62].

والحالة الثانية في الأشهر الحرم، فإنه لا يحل فيها البدء بالقتال وهي ذو القعدة،

وذو الحجة، ومحرم، ورجب، إلا إذا بدأ العدو بالقتال، فإنه يجب القتال حينئذ، وكذلكٍ إذا كانت الحرب قائمة، ودخلت الأشهر الحرم، ولم يستجب العدو لوقف القتال وقبول الهدنة.

الأسرى:

وقع ثُمامة بن أُثَال أسيرًا في أيدي المسلمين، فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: (أحسِنوا إساره). وقال: (اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه). فكانوا يقدمون إليه لبن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم غُدوًّا ورواحًا، فلما رأى ثمامة حسن المعاملة؛ أعلن إسلامه. فالدين الإسلامي يحرص على حسن معاملة الأسرى، لعل الله يهديهم إلى الإيمان، أو يتم استبدالهم بأسرى مسلمين.

والقرآن الكريم يوضح حكم الأسرى، قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا بضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا والوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} [محمد: 4].

والآية الكريمة ترشدنا إلى ضرورة قتال المشركين حتى نقضي على قوتهم، ثم بعد ذلك نأخذ منهم الأسرى، ولهؤلاء الأسرى أحكام وضحتها الآية الكريمة، وهي:

- المن وهو إطلاق سراحهم دون مقابل لعلهم يهتدون ويدخلون في دين الله.

- القتل وهو جائز في حق بعض الأفراد من كبار أعداء الأمة، ولا يكون حكمًا عامًّا مطلقًا، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر، وقتل أبا عزَّة الجمحي يوم أحد، قال تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الحياة الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} [الأنفال: 67].

- الفداء: وهو إطلاق سراحهم في مقابل ما يدفعونه من مالٍ أو عمل يؤدونه للمسلمين، أو مقابل إطلاق أسرى المسلمين عند العدو، ففي غزوة بدر فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المشركين بالمال، وبمبادلتهم بأسرى المسلمين عندهم.

فقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين، كما فدى بعض المشركين في مقابل أن يعلِّم الواحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.

- الاسترقاق، وهو أن يصبحوا رقيقًا للمسلمين، وهذا في الحرب فقط، ومع ذلك أمر بحسن معاملتهم إذا استُرقوا.

وقد يقع بعض المسلمين أسرى في يد أعدائهم، وهنا يجب على الحاكم المسلم والقادة متابعة أحوالهم وفداؤهم بكل الطرق، مثل عقد الاتفاقيات وتبادل الأسرى وما سوى ذلك.

السبايا:

وهم الأسرى من النساء والصبيان والشيوخ وغيرهم ممن لا علاقة لهم بالحرب، والحاكم مخير في أمرهم يفعل بهم ما يشاء وحكمهم حكم الأسرى، بما فيه الاسترقاق، ويصير النساء منهم ملك يمين لمن يكنَّ من نصيبه، ولا يجوز قتل هؤلاء السبايا.

ولا شك أن هذه الأحكام كانت نقلة حضارية كبيرة جاءت مع الإسلام، حيث لم تكن توجد يوم جاء الإسلام التزامات محددة يلتزم بها العالم تجاه الأسرى الذين كانوا يتعرضون لأسوأ المعاملة، ويجوز قتلهم قتلا مطلقًا، فجاء الإسلام بتشريع واضح ملزم يُجيز لهم إطلاق أسراهم، بل فتح الإسلام أبواب الحرية أو المكاتبة أو العتق.

وهكذا، نجد عظمة الإسلام نابعة من مبادئه السامية، في مجال الحياة العسكرية، وسيظل يحث أتباعه على الجهاد من أجل نشر تعاليمه وإعلاء كلمة الله، مع الحفاظ على مبادئه التي شرعها حالة الجهاد.

================

العمارة في الحضارة الإسلامية

المفهوم العام للبناء في الإسلام

أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها، وحث عليه لحماية الإنسان من حرِّ الشمس وبرد الشتاء وأمطاره، وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته، قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين} [النحل: 80] .

ووضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى آدابًا منها:

- اختيار المكان الجيد؛ فيبني المسلم البيوت وغيرها في السهول أو الجبال حسبما تقتضي حاجته ومكان تواجده وراحته، وهذا ما تحدث به القرآن كثيرًا، قال تعالى: {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين} [الحجر: 82]، وقال تعالى: {تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا} [الأعراف: 74].

- أن تتوفر في الدور والبيوت وسائل السكن والراحة والطمأنينة من تهوية جيدة، وسعة في المكان، ووجود الخضرة والزروع حول البيت، ووجود أماكن خاصة للنساء في البيوت.

وينبغي أن يكون في البيت مرحاض لقضاء الحاجة، وكان العرب قبل الإسلام لا يعرفون بناء المراحيض في البيوت، فلما جاء الإسلام اتخذ المسلمون المراحيض بجوار المسجد لقضاء الحاجة ثم الوضوء، وكان ذلك بعد غزوة خيبر واتخذوها في البيوت بعد ذلك، فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا). قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قِبَلَ القبلة، فننحرف ونستغفر الله تعالى. [البخاري]، ومن هنا اتخذ المسلمون المراحيض للمساجد والبيوت.

ومن أوجب الأمور في تخطيط وإنشاء البيت المسلم اتخاذ مسجد للصلاة في البيت، وهذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (أمر رسول الله أن تتخذ المساجد في الدور وأن تطهَّر وتطيَّب) [ابن ماجه]

وعن أبي هريرة: (أن رجلاً من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعالَ فخط لي مسجدًا في داري أصلي فيه -وذلك بعدما عمي هذا الرجل- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ففعل) [ابن ماجه].

- البساطة، فينبغي أن تكون دار المسلم بسيطة، فلا يسرف في بنائها وتزيينها، فهذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حُجَرًا من جريد مطلي بالطين، وبعضها مبني بالطوب اللبن، وكانت منازل المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين غاية في البساطة. فالهدف من بناء المسلم للبيوت هو أن يبني ما يستره من المطر والحر ويستر عورة أهله.

ومع هذا فالبساطة في البناء على سبيل الاستحباب وليس فرضًا، فالإسلام لم يحرم تحسين بناء البيوت وتزيينها، ولكن ذلك يكون بشرط ألا يبعد هذا البناء المسلم عن هدفه الحقيقي وهو إرضاء الله، والفوز في الآخرة، وهذا هو ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا الضِّيَعَة، فترغبوا في الدنيا (والضيعة هي المنازل الفخمة)) [الترمذي].

- والمسلم لا يبني ما لا يسكن، لأنه لا يتعلق بالدنيا، وليست هي كل أمله؛ فلا يجوز له أن يبني بيتًا ويتركه بدون سكن بحجة أن له أولادًا صغارًا، كما لا يجوز له أن يبني عدة أدوار في بيت واحد إلا لغرض السكن، إما أن يسكنه هو وأهله من أقاربه، أو يسكنه المسلمون إجارة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن العبد ليؤجر في نفقته كلها إلا في التراب -أو قال: في البناء- وذلك فيما لا يسكنه) [ابن ماجه].

- طهارة البيوت وشوارع القرى والمدن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بينما رجل يمشي بطريق، وجَدَ غصن شوك على الطريق، فأخذه فشكر الله له، فغفر له). [البخاري].

- سعة البيوت، وسعة شوارع المدينة والقرية، فعن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق المِيْتَاء (الطريق الواسعة التي يكثر دور الناس بها) بسبعة أذرع. [البخاري]، أي أن سعة الطريق تكون على الأقل إذا تشاجر الناس عليها سبعة أذرع.

- عدم اتخاذ التماثيل في ميادين القرى والمدن، أو في البيوت، لما ورد عن

قيس بن جرير قال: كان بيت في الجاهلية يقال له: ذو الخَلَصَة والكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم (ألا تريحني من ذي الخلصة؟). فنفرتُ في مائة وخمسين راكبًا فكسرناه، وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيت النبي

(، فأخبرته؛ فبارك على خيل أحمس ورجالها. [البخاري]، و ذو الخلصة كان بنيانا باليمن به تماثيل تعبد، وأحمس هو الجد الأكبر للقبيلة التي سار إليها قيس بن جرير الذي قام بهذه المهمة.

- إنشاء المساجد في القرى والمدن بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من بنى مسجدًا لله تعالى؛ بنى الله له في الجنة مثله) [مسلم].

وقد جعل الإسلام لمن يوسع مسجدًا، ويزيد في مساحته أجرًا عظيمًا، فهذا

عثمان -رضي الله عنه- يقول للمسلمين: أنشدكم الله، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟) فاشتريتها من صُلب مالي، فزدتها في المسجد) [النسائي].

- تحصين المدن والقرى وحمايتها من هجمات المعتدين بإقامة الحصون حولها إذا كانت من مدن الثغور أو يظن هجوم العدو عليها، فكان المسلمون يبنون المدن ويقيمون بها الحصون.

- ألا يرفع المسلم بناءه عن بناء أخيه إلا بإذنه، وعن حق الجار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا تستطيل عليه بالبنيان، فتحجبَ عنه الريح؛ إلا أن يأذن) [الطبراني] فالإسلام لم يحرم رفع البنيان وتشييده، ولكنه اشترط ذلك بإذن الجار حتى لا يحجب عنه الريح، وحتى لا يكشف عوراته.

فن العمارة الإسلامية

نشأت العمارة الإسلامية كحرفة بسيطة في البناء في أبسط أشكاله، ثم تطورت حتى كوَّنت مجموعة الفنون المعمارية المختلفة. وفن العمارة من أهم مظاهر الحضارة، لأنها مرآة تعكس آمال الشعوب وأمانيها، وقدراتها العلمية وذوقها وفلسفتها، ومن الحقائق الثابتة أن العمارة كانت دائمًا الصورة الصادقة لحضارة الإنسان وتطورها وانعكاسًا لمبادئه الروحية على حياته المادية، بما يكتب عليها -أي على العمارة- من كتابات وما ينقش عليها من نقوش.

وقد اشتمل الفن المعماري الإسلامي على عدة أنواعٍ منها: فن عمارة المساجد، وهو أرقى فن معماري عند المسلمين، وفن عمارة القصور، وفن عمارة البيوت، وفن عمارة المدارس، وقد برع المسلمون في فنون العمارة بكل أشكالها؛ لأنهم فهموا نماذج العمارة في الحضارات السابقة ثم طوروها بما يتناسب مع عقيدتهم ودينهم، ثم أبدعوا بعد ذلك نموذجًا إسلاميًّا خاصًّا بهم.

وسنأخذ أمثلة لفن العمارة الإسلامية في بعض العصور الإسلامية لنرى مدى محافظة المسلمين على أسس وقواعد البناء الإسلامي.

عصر النبوة والخلفاء الراشدين:

طبق المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين قواعد البناء في الإسلام أروع تطبيق.

المسجد النبوي: فقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي بالمدينة، وكان هذا المسجد بسيطًا، بما يتفق مع روح الدين الإسلامي، ومع قواعد وأسس البناء في الإسلام، وكان المسجد مربعًا، وصحنه الأوسط مكشوفًا، لا سقف عليه، أما جوانبه الأربعة فكانت مسقوفة، وكانت المساحة المسقوفة من الحائط المجاور للقبلة أكبر من غيرها، وجدير بالذكر الإشارة إلى أهمية وجود الصحن المكشوف في وسط المسجد للإضاءة والتهوية.

وقد تم توسيع المسجد بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ففي عهد

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة (17 هـ)، زيد في مساحة المسجد، ونتج عن هذه الزيادة زوال الجدران التي بناها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :، ماعدا الجدار الشرقي التي كانت تلتصق به بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اتبع المسلمون التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لمسجده.

المسجد الأقصى: أقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مسجدًا خشبيًّا عند الصخرة المقدسة التي ذكرت في قصة الإسراء والمعراج، وإلى الجنوب من قبة الصخرة يوجد المسجد الأقصى، حيث أقصى مكان وصل إليه البراق ب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.

البيوت: وكما كانت المساجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بسيطة البناء، كانت بيوتهم كذلك تتسم بالبساطة، وقد كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم مبنية بالطوب اللَّبِن، وهي تسع حجرات، كان منها أربع حجرات من جريد عليها طبقة من الطين، والخمس الباقية مبنية بالطوب اللَّبِن، وكان سقفها في متناول اليد، وكذلك كانت بيوت الصحابة.

المدن: بنى المسلمون في عهد الراشدين المدن، ومنها مثلاً:

مدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في مصر، بأمر الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، واختار لها موقعًا متميزًا على النيل، في الموضع الذي كان يشغله حصن بابليون، وقد كان بناء المدينة في بداية الأمر على غير نظام هندسي دقيق، برز فيه حرص المسلمين على الحفاظ على حرماتهم، بعدم بناء نوافذ كبيرة مطلة على الشوارع، وإنما كانوا يستمدون الضوء من فناء كبير بداخل

المنزل، وكانت البيوت من طابق واحد في بداية إنشائها، ثم بدأت تتكون من أكثر من طابق في أواخر عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبنى عمرو بن العاص

-رضي الله عنه- مسجده بجوار مدينة الفسطاط، وكان بناء المسجد بسيطًا من الطوب اللبن ومغطى بالجريد، وكان في ذلك الوقت يطل على النيل.

عصر الخلافة الأموية:

مع كثرة الفتوحات في عصر الأمويين كثر الاتصال بالحضارات المختلفة والتأثر

بها، ولم يقف المسلمون عند حد التأثر والاقتباس، فابتكروا وطوروا وأبدعوا ودخلوا مجال التنافس مع الحضارات الأخرى.

ومن أهم ما تركه لنا الأمويون:

مسجد قبة الصخرة: وتعد من أهم وأبدع آثار الأمويين، وهي آية في الجمال والبراعة المعمارية، وقد بناها عبد الملك بن مروان سنة (72 هـ)، ويلاحظ عليها المبالغة في الزخرفة، والتأنق في رسم الأشكال الجمالية، مما يوحي بدخول الفن الإسلامي مرحلة جديدة من الاهتمام بالزخرفة، والتفنن في إتقان الزخارف بشتى أنواعها مما يدل على تأثر الفن الإسلامي بالفنون المعمارية السائدة في

هذا الوقت.

المسجد الأموي بدمشق: ويعد هذا المسجد من أهم فنون العمارة الإسلامية، فقد بناه الوليد بن عبد الملك بين عامي (88-96 هـ)، ويعد مرحلة جديدة في دخول عنصر الزخرفة في بناء المساجد، والتي لم تعد تحتفظ ببساطتها المعهودة، ولعل هذا يعد تطورًا طبيعيًّا لتطور فن العمارة عند المسلمين.

قصور الأمويين: استحدث الأمويون نوعًا جديدًا من المباني وهو القصور، ومنها قصر عُميرة، وكان قصرًا صغيرًا على بعد خمسين كيلو مترًا من مدينة عمان عاصمة الأردن، وقد بناه الوليد ابن عبد الملك ليستريح فيه عند خروجه للصيد، ومنها قصر الشمال الذي بناه الخليفة هشام بن عبد الملك، ومنها قصر المشتى، وقد كانت هذه القصور على درجة عالية من البراعة في التصميم وجودة الزخرفة.

وكان عهد الوليد بن عبد الملك عهد دخول العمارة الإسلامية ميدان الزخرفة، والتأنق في البناء، وذلك بعد الاحتكاك بالحضارات الأخرى والتأثر بها، والأخذ بزينة الدنيا، التي لم يحرمها الإسلام، ولكنهم مع أخذهم بزينة الدنيا، لم ينسوا الاهتمام بأمور دينهم والعمل لآخرتهم.

عصر الخلافة العباسية:

وفي عهد العباسيين زاد الاتصال بالحضارات المختلفة، فزاد الاهتمام بالعمارة وزخرفتها، واشتد اهتمامهم ببناء القصور والمدن.

مدينة بغداد: فقد بنى الخليفة المنصور مدينة بغداد لتصير عاصمة العباسيين

الجديدة، وفي بناء هذه المدينة برزت الدراسات الجيدة لاختيار الموقع والتخطيط قبل التنفيذ، فقد طلب الخليفة أبو جعفر المنصور رسم تخطيط لها على الأرض قبل إنشائها، وتخطيط مدينة بغداد دائري، ولها أربعة مداخل رئيسية محورية، واستمر بناء هذه المدينة من عام (145 هـ) حتى عام (147هـ) وكان للمدينة سوران خارجيان؛ الداخلي منهما أسمك وأعلى، وكان يحيط بسور المدينة من الخارج خندق عرضه ستة أمتار.

وكان يقع في قلب المدينة قصر المنصور، وكان يعرف باسم قصر الذهب، وهو قصر فخم لم يشهد المسلمون مثله من قبل، وبجوار القصر يوجد المسجد، وهو ملاصق لحائط القصر الشمالي الشرقي، وحول القصر توجد قصور الأمراء والمباني الحكومية، وفي المساحات التي بين المداخل الأربعة الرئيسية كانت توجد المناطق السكنية، وفي كل قسم شوارع رئيسية يتراوح عددها بين ثمانية واثني عشر شارعًا يتجه نحو وسط المدينة، وكان للمدينة ثمانية أبواب حديدية.

مدينة سامراء: وكانت تسمى (سُرَّ مَنْ رَأَى)، وكان مكانها قبل بنائها دير

(مكان عبادة للنصارى) في الصحراء اشتراه الخليفة المعتصم من أصحابه وبناها مكانه، وكانت هذه الأرض تقع على الضفة اليمنى من نهر دجلة، وعلى بعد مائة وثلاثين كيلو مترًا، وأحضر المعتصم المهندسين فاختاروا له مواقع القصور، وبنى لكل واحد من أصحابه قصرًا، وتم تخطيط شوارع المدينة كأحسن ما تكون الشوارع من ناحية الاتساع والطول، وأحضر من كل بلد من يجيد فن العمارة والزراعة وهندسة البناء والصناعة.

وقد استخدم المهندسون والعمال ما بين أيديهم من المواد الخام، فمن الطين صنعوا اللبن والآجر، وقاموا بتزيين الجدران بالجِصِّ وغيره من موَاد البناء، وتفننوا في زخرفتها، فلهذه المدينة أهمية في فن العمارة الإسلامية، فقد تقدم الفن المعماري فيها خطوات واسعة متلاحقة، وأصبح تشييد المدن وتخطيطها أبعد ما يكون عن الاقتصاد والبساطة، وتجلى الإسراف والترف في بنائها بأوسع معانيه، وهذا ينافي روح الإسلام ومبادئه السامية الداعية إلى البعد عن الإسراف والتحذير منه.

وبنى بهذه المدينة مسجد سامراء الجامع، ويعد هذا المسجد أكبر المساجد القديمة في العالم الإسلامي، فقد بلغت مساحته بدون الزيادات مرة ونصف قدر مساحة المسجد الطولوني بمصر الإسلامية، وقد بدأ الخليفة المعتصم في بنائه وأتم بناءه الخليفة

المتوكل، وهو مبني على مساحة مستطيلة الشكل، بلغ طول ضلعها الأكبر

(260) مترًا والأصغر (180) مترًا فكان يتسع لأكثر من مائة ألف مصلٍّ.

مدينة القطائع: وقد بناها أحمد بن طولون في مصر على نمط مدينة سامراء، وقد اختار لها الفضاء الواسع الذي كان يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة العسكر التي بناها العباسيون بالقرب من مدينة الفسطاط، وينتهي هذا الفضاء الذي بنيت فيه عند هضبة المقطم. وبدأ ابن طولون عام (256 هـ) في بناء قصر رائع له، وجعل أمامه ميدانًا عظيمًا يمارس فيه أنواع الرياضة، وسمح لأصحابه وأتباعه ببناء مساكن

لهم، فاتصلت بمدينة العسكر والفسطاط، ويوجد في وسط القطائع هضبة سميت بجبل يشكر التي بنى عليها ابن طولون جامعه الكبير.

أما من حيث تخطيطها فلم يتبع تخطيط سامراء، بل سار على نمط الفسطاط والعسكر من حيث ضيق الشوارع وتعرجها وعدم نظامها، وكان بالمدينة الأسواق والحمامات والطواحين، وبنى ابن طولون أيضا قناطر للمياه تعرف الآن باسم مجرى الإمام، وذلك كي تمد قصره بالماء، وهذا القصر الذي كان وصفه يفوق الخيال، وقد أنفق عليه

ابن طولون وعلى هذه القناطر أموالاً طائلة. وجاء بعد ابن طولون ابنه خمارويه

فبالغ في الإسراف على هذا القصر مما أفسد ماليَّة الدولة وعرض ملكه للضياع بسرعة.

مسجد ابن طولون: وقد أنشأ ابن طولون هذا المسجد في مدينة القطائع التي بناها فوق هضبة جبل يشكر، وكان المسجد يتصل بالميدان الذي أنشأه أمام قصره ولذلك سمي جامع الميدان، ويتكون المسجد من صحن مربع في الوسط، وهو فناء مكشوف، وتحيط به أربعة أروقة، ويحيط بالمسجد من الخارج زيادات من ثلاث جهات ماعدا حائط القبلة التي كانت تلاصقها دار الإمارة التي أنشأها ابن طولون.

اهتم العباسيون كذلك ببناء القصور الفاخرة، مثل: قصر الخليفة المعتصم في مدينة سامراء، وقصر المأمون،وغير ذلك. وهكذا نجد تأثر العمارة الإسلامية في العصر العباسي بالعمارة في الحضارات الأخرى والاهتمام بالزخرفة والإسراف في بناء القصور وتشييدها، مما يعد تطورًا لا يتمشى مع روح الاعتدال والبعد عن الإسراف الذي نهى عنه الإسلام.

العمارة في الأندلس وبلاد المغرب:

كان للزهاد والصوفيين الذين كانوا مع المرابطين والموحدين بالمغرب آراؤهم في البذخ والترف في البناء، مما أدى إلى الاعتدال في البناء، بعد أن كان قد وصل إلى درجة كبيرة من الإسراف والترف في البناء والزخرفة، وقد بلغ الفن الإسلامي في الأندلس قمة ازدهاره، في قصر الحمراء الذي بني في القرن الثامن الهجري، ثم توقف تطور الفن الإسلامي في الأندلس بعد ذلك، بسبب الاضطرابات التي وقعت فيها قبل

سقوطها.

وكانت أهم المراكز الفنية المعمارية في بلاد المغرب أشبيلية، وغرناطة، ومراكش، وفاس، وقد تركت لنا الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب عدة آثار معمارية

رائعة، نكتفي منها ببعض الأمثلة من بلاد الأندلس وهي:

المسجد الكبير بقرطبة: وقد بناه عبد الرحمن الداخل في قرطبة وقت استقراره،

ثم أدخلت عليه بعد ذلك تعديلات كثيرة، وتضم المساحة الكلية للبناء -بما في ذلك الجدران- شكلاً يكاد يكون رباعيًّا، وينقسم إلى قطاعين من الشمال إلى الجنوب يتساويان فيما بينهما تقريبًا، ويبلغ ارتفاع المسجد تسعة أمتار، يرتكز على أعمدة رفيعة، تحمل أخرى أقل منها حجمًا، يربط بينها عقود متداخلة يعلو بعضها

بعضًا.

وقد بنى الولاة في الأندلس مساجد أخرى كثيرة، غير أنها تهدمت، وتحول بعضها إلى كنائس بعد زوال الحكم الإسلامي من الأندلس، حتى مسجد قرطبة بُنِي في داخله هيكل كنسي، وترك لنا الأندلسيون عدة آثار أخرى كثيرة منها:

مدينة الزهراء: وقد بناها عبدالرحمن الناصر سنة (325 هـ)، وقد جلب لبنائها الرخام من إفريقية وروما والقسطنطينية، وبنى في قصر المؤنس بها حوضًا من الرخام زينه بنقوش مذهبة بها صور آدمية، وجعل عليه تماثيل من الذهب المرصَّع بالدر، وهذا تطور جديد حيث استعملت الصور والتماثيل التي حرَّمها الإسلام.

وجعل سقف قصر الخلافة وجدرانه من الرخام ذي الألوان الصافية، وأنشأ وسطه صهريجًا عظيمًا مملوءًا بالزئبق، وكان للقصر من كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب، وكانت الشمس تدخل تلك الأبواب فيضرب شعاعها جدران القصر، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان في هذه المدينة محلات للوحش، ومسارح للطير، ودور لصناعة آلات الحرب، والحلي وغيرها من الصناعات، وكان بها مسجد صغير مزخرف بالرخام والذهب والفضة.

قصر الحمراء: بناه حكام بني الأحمر في غرناطة بعد زوال سلطان الموحدين من الأندلس، ويعد هذا القصر أعظم الآثار الإسلامية في روعة البناء والزخرفة والهندسة، فقد وضع فيه المهندسون خلاصة فنَّهم وجعلوه قصرًا خياليًّا، تبهر زخارفه وعقوده الأبصار، وتنطق الطبيعة بما حوله من خضرة وماء بأروع صور الجمال والبهاء.

وكان هذا الإسراف المادي في البناء والزخرفة على حساب التقدم الروحي للمسلمين في تلك البلاد؛ مما جعل الناس يركنون للراحة والكسل، مما أطمع أعداءهم، وألان شوكتهم، وأزال دولتهم، وخسرت البشرية خيرًا كثيرًا بزوال خلافة المسلمين في تلك البقاع.

عصر الفاطميين:

لقد تميز فن العمارة الفاطمي بسمات خاصة وطابع جديد، وقد ترك لنا الفاطميون عددًا من الآثار المعمارية الرائعة نذكر لك أمثلة منها:

مدينة القاهرة: بعد استيلاء جوهر الصقلي على الفسطاط عام (358 هـ)، وضع تخطيطًا لمدينة القاهرة، وكان تخطيطها على شكل مربع تقريبًا، يواجه أضلاعه الجهات الأربع الأصلية، ويتجه الجانب الشرقي نحو المقطم، والغربي يسير بمحاذاة النيل، والبحري نحو الفضاء الواقع في الشمال، والقبلي يواجه الفسطاط، وطول كل ضلع من أضلاع المدينة ألف ومائتا متر، ومساحة المدينة ثلاثمائة وأربعون فدانًا، وكان هذا السور مبنيًّا من الطوب اللبن، ويتوسط المدينة قصران هما: القصر الكبير الشرقي، والقصر الصغير الغربي، وبينهما ميدان لاستعراض الجند، وأصبحت القاهرة عاصمة للخلافة الفاطمية التي امتدت من المغرب إلى الشام، وكان بسور القاهرة عدة أبواب لم يَبْقَ منها الآن سوى بابي النصر والفتوح في الشمال، وباب زويلة في الجنوب، وهي تمثل العمارة الحربية في العصر الفاطمي.

الجامع الأزهر: ومساحة المسجد الأزهر الأول الذي بناه القائد الفاطمي جوهر الصقلي بأمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله تقترب من نصف مساحته الحالية، ولقد أضيفت إليه زيادات كثيرة في أزمنة مختلفة حتى وصل إلى تصميمه الحالي، ويتوسطه صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة أكبرها رواق القبلة، وليس بالجامع مئذنة ترجع إلى العصر الفاطمي، فالمآذن الحالية تنسب للسلطان قايتباي والسلطان الغوري، وللأمير عبدالرحمن كتخدا العثماني أحد أمراء القرن الثامن عشر الميلادي.

قصور الفاطميين: وقد شيد الفاطميون عددًا من القصور أهمها: القصر الذي بناه جوهر الصقلي بالقاهرة للخليفة المعز، وكان في الفضاء الذي يقع فيه الآن

خان الخليلي ومسجد الحسين، وقد أطلق عليه القصر الشرقي الكبير، كما أطلق عليه القصر المعزِّي، ويقال إنه كان به أربعة آلاف حجرة، وبه عدة أبواب، وكان في غرب هذا القصر، قصر آخر أصغر منه، هو القصر الغربي الذي بناه العزيز بالله، وموقعه مكان سوق النحاسين، وقبة الملك المنصور وما جاورها، وهكذا غلب طابع الإسراف على فن العمارة في عهد الفاطميين، وأسرفوا في النفقات على مبانيهم الخاصة بهم.

عصر الأيوبيين:

كان عصر الأيوبيين بداية ظهور خط النسخ على العمائر وغيرها من التحف، واستعمل الخط الكوفي في كتابة الآيات القرآنية وغيرها. ومن مميزات فن العمارة الأيوبي تطور بناء المآذن كما ظهر بناء الخوانق، وهي دور كانت تبنى لإقامة الصوفية، كما كثر إنشاء المدارس، وأهم هذه المدارس:

المدرسة الناصرية: وكان إنشاؤها بجوار جامع عمرو، فحين أصبح صلاح الدين سلطانًا بنى المدرسة الصلاحية عام (572 هـ) بجوار قبر الإمام الشافعي.

مدرسة وضريح السلطان نجم الدين أيوب: وتتكون من جزأين رئيسين يفصلهما ممر، وتعلو مدخله مئذنة، وملحق بالمدرسة ضريح، وتعلوه قبة من الطوب وحوائط الضريح من الحجر، وهنا تطور جديد وهو وجود الأضرحة والاهتمام بها، وهذا أمر مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكان أول من أدخل هذه الأضرحة السلاجقة.

عصر المماليك:

ينقسم عصر دولة المماليك إلى عصرين، دولة المماليك البحرية، ودولة المماليك الجراكسة، ومن أهم العمائر الإسلامية في عهد المماليك البحرية: جامع الظاهر بيبرس، ومدرسة وضريح ومستشفى السلطان قلاوون ومسجد المارداني، ومدرسة ومسجد السلطان حسن.

وهذان مثالان لهذه العمارة:

مسجد الناصر قلاوون بالقلعة: وهذا المسجد مربع الشكل، ويتكون من صحن محاط بأربعة أروقة ورواق القبلة، يتكون من أربعة بلاطات، والأروقة الأخرى يتكون كل منها من بلاطتين فقط، أما القبة التي تعلو المحراب فتشغل ثلاث بلاطات مربعة، والواجهة بسيطة يعلوها صف من النوافذ ذات العقود المدببة، وللمسجد مدخلان بارزان عن الواجهة.

مدرسة ومسجد السلطان حسن: ويقع هذا الأثر الرائع بميدان قلعة صلاح الدين، وقد أنشأه السلطان حسن بن محمد بن قلاوون، وهو من أجمل الآثار الإسلامية، فمبانيه تجمع بين قوة البناء وعظمته، ودقة الزخارف وجمالها، والملاحظ في منطقة قلعة صلاح الدين التي يقع فيها هذا الأثر، عند النظر إليها من لوحة مصورة، كثرة المساجد الأثرية القديمة في هذه المنطقة.

أما دولة المماليك الجراكسة، فقد تركت لنا عدة آثار رائعة منها:

مدرسة وضريح السلطان قايتباي بالقرافة الشرقية: ألحق سلاطين المماليك بالمساجد والخوانق الشرقية مدافن لهم، ومن الآثار المعمارية التي أنشئت في هذه المنطقة مجموعة السلطان قايتباي، والتي تعد من أبدع وأجمل المجموعات المعمارية في مصر الإسلامية، ويرجع جماله إلى تنسيقها، فهي تتكون من مسجد ومدرسة وسبيل وكتاب وضريح ومئذنة، وقد أدَّت دقة الصناعة دورًا هامًّا في إبراز جمال هذا الأثر المعماري القيم.

مسجد الغوري ومجموعته المعمارية: وتتكون من وكالة وحمام ومنزل ومقعد وسبيل، وكُتَّاب ومدرسة، وقبة، ثم المسجد ويمتاز شكل مئذنته بقمتها المكونة من رأسين مربعين، وقد برع المماليك في بناء الدور والمنازل والقصور، وبلغوا فيها حدًّا كبيرًا من الدقة والمتانة والجمال.

عصر السلاجقة:

اتسم عصر السلاجقة بسمات فنية معمارية كثيرة، أهمها: الميل إلى استخدام النحت والحفر في الزخرفة، بتأثير العنصر التركي، ومن أبرز ما تركه لنا السلاجقة في عصورهم المختلفة، عدد من المدارس الدينية للعالم الإسلامي، وذلك بتشجيع من ملك شاه ووزيره نظام الملك.

كما أنهم أول من أدخل فكرة بناء الأضرحة كأبنية مقدسة في إيران، ومنها انتشرت في العالم الإسلامي، كما تركوا لنا عدة مساجد أثرية رائعة، ومن أشهرها: مسجد الجمعة في قزوين، ومسجد الجمعة بأصفهان الذي شيده نظام الملك.

عصر المغول في الهند:

اهتم الحكام المغول المسلمون في الهند بالعمارة الإسلامية اهتمامًا بالغًا، وبلغ اهتمامهم ببناء الأضرحة خاصة مبلغًا عظيمًا، ويرجع هذا الاهتمام بالأضرحة ونقشها وزخرفتها إلى قلة الفهم الصحيح للإسلام، واختلاطه لدى بعض الهنود بما ورثوه من الحضارة الهندية القديمة، إلا أنها من الناحية المعمارية تنتمي إلى فن العمارة الإسلامية، فقد بناها مسلمون في حكومات مسلمة.

تاج محل: وهو أهم وأشهر الإنجازات الفنية المعمارية في الهند، وقد بناه الإمبراطور شاه جهان في أجرا لزوجته ممتاز محل التي كان يحبها حبًّا شديدًا، فماتت بين يديه فجأة، فبنى لها هذا الضريح، وقد انتشرت شهرته في العالم كله، ويقع هذا الضريح على نهر اليمنى، على شرفة مرتفعة في نهاية حديقة مستطيلة، تتخللها أحواض الماء، ويبدو خلفها مباشرة نهر جمنا مكتسيًا بالمرمر اللامع، ويمتاز هذا الضريح بمآذن عالية في أركان الشرفة، ومدخلٍ ذي واجهة عالية مرتفعة وخلف الواجهة قبة الضريح العالية، وتحيط بها أربع قباب صغيرة، وقد كسيت جدران الضريح كله بألواح المرمر الناصعة، وزخرفت بزخارف طبيعية، ويعتبر هذا الضريح أحد عجائب

الدنيا السبع.

العمارة الإسلامية في عصر الخلافة العثمانية:

لقد ترك لنا العصر العثماني مجموعة من الآثار المعمارية الهامة منها:

مسجد أياصوفيا في تركيا: وقد كان كنيسة كبيرة، وتحول إلى مسجد بعد أن فتح الأتراك القسطنطينية، وقد حوَّر فيها المهندسون المسلمون حتى جعلوها تناسب الصلاة، وهي طراز معماري جميل.

مسجد بايزيد الثاني في تركيا: وقد بدأ بناءه المعماري المسلم خير الدين، وقد صممه على النمط البيزنطي مع تعديلات كثيرة بما يتلاءم مع أداء المسلمين للصلوات فيه.

جامع محمد علي بالقاهرة: والذي بناه محمد علي في قلعة الجبل عام (1236هـ) على طراز جامع السلطان أحمد بالأستانة في تركيا، وهو يمتاز بدقة البناء، وجمال الزخرفة، وكثرة القباب والمآذن، وقد بنى العثمانيون عددًا من القصور الفخمة، والتي تجلى فيها الإسراف واضحًا.

العوامل المؤثرة في فن العمارة الإسلامية

تأثر فن العمارة الإسلامي بعدد من العوامل مما جعل له إطارًا خاصًّا يتحرك من خلاله، إلا أن له حدودًا لا يمكن أن يتخطاها، وأهم العوامل التي أثرت في فن العمارة الإسلامية ما يلي:

المناخ:

كان للمناخ أثره في العمارة الإسلامية، ففي مصر مثلاً نظرًا لاعتدال الجو وقلة سقوط الأمطار، كانت أسقف البيوت والمساجد والقصور مسطحة، كما روعي في بناء البيوت والقصور وضع الغرف حول فناء مكشوف يتوسطه نافورة مياه، للسماح للهواء بدخول الغرف وتبريد الجو وتلطيفه.

وقد اشتهر عمل المشربيات، وهي نوافذ خشبية بها فتحات مائلة تسمح بدخول الهواء وتسمح لمن بالداخل برؤية من في الخارج دون أن يرى من بالخارج شيئًا، وفي داخل الغرف الكبيرة بنى المهندس المسلم نافورة كبيرة أبدع في تصميمها لتلطيف الجو.

الاقتباس:

وقد استفاد المسلمون من فنون العمارة عند البلاد المتحضرة التي أصبحت تحت حكم المسلمين، مع صبغ ما اقتبسوه بالصبغة الإسلامية، وكان لاستخدام الصناع المهرة من مختلف البلاد تأثير كبير على الفنون المعمارية الإسلامية.

العامل الاقتصادي:

وكان لهذا العامل تأثير كبير في توجيه الفنون في مراحل تطورها، فقد كان للرخاء والفقر أثرهما في حجم الإنتاج الفني وأنواعه وقيمته، ومن ناحية أخرى فإن نظم توزيع الثروة على أبناء الأمة تركت أثرها على فن العمارة.

العامل الاجتماعي:

كان لغيرة المسلمين -النابعة من تعاليم الإسلام- على حرماتهم ونسائهم، أثرها في تصميم واجهات المنازل، حيث كانت نوافذ البيوت قليلة وعالية؛ لتكون بعيدة عن أعين المارة، وابتكرت المشربيات، وكان يُصمم انكسار في مدخل البيت لينحني الداخل، ثم يتجه نحو ممر آخر، ومنه يدخل إلى فناء المنزل، وذلك حتى لا يرى الداخل من يجلس في حوش المنزل.

العامل الديني:

كان لالتزام المسلمين بتعاليم دينهم أثر هام في بناء البيوت، وبخاصة في فصل أماكن تجمع النساء عن أماكن الرجال، وذلك منعًا للاختلاط، وظهر هذا الأثر واضحًا في بناء البيوت من طابقين، العلوي منها للحريم، ويسمى الحرملك، والسفلي منها للرجال، ويسمى السلاملك، وبه قاعات للضيافة، مع الاهتمام بإنشاء مداخل خاصة بالحريم، وكان المهندس المسلم يقوم بإنشاء ما يشبه المحراب داخل البيت متجهًا نحو القبلة للصلاة.

واجبنا نحو العمارة الإسلامية

أبدع المسلمون نموذجًا معماريًّا إسلاميًّا خاصًّا بهم، وظل هذا النموذج منبعًا يأخذ منه الغرب، كما ظل هذا النموذج شامخًا عاليًا على مر العصور، يشهد بعظمة العقلية المسلمة، وعندما جاء العدوان الأوربي في العصر الحديث، واستولى على كل البلاد الإسلامية بدءوا في الكيد لحضارة المسلمين ليقضوا على تراثها، وبالفعل استطاعوا إخفاء معالم كثيرة من معالم هذه الحضارة، وتشويه جزء كبير منها.

وقد قام الغرب في العصر الحديث بدراسة الآثار الإسلامية، واستطاعوا الاستفادة منها. وبعد ذلك بدأ المسلمون يقلِّدون النمط المعماري الأوربي، ومن هنا كان واجبًا علينا -نحن أبناء الحضارة الإسلامية- أن ندرس هذه الآثار، حتى نبتكر لأنفسنا مثالاً إسلاميًّا معاصرًا يتبعه المسلمون في عمارتهم في ضوء الضوابط الإسلامية الصحيحة، وحتى نعرف الأسباب التي جعلت أجدادنا في مقدمة الأمم، فنأخذ بها، ونصبح سادة الدنيا كما كانوا، كما ينبغي تيسير مهمة دراستها للباحثين لاستنباط الحقائق التاريخية والإسهامات الحضارية الإسلامية من خلالها.

==================

الدور الحضاري للمسلم المعاصر

على المسلم أن يضع أمام عينيه عدة حقائق، حتى يكون قد أدى دوره تجاه حضارته الإسلامية، ومن أهمها:

- أن الانتساب للإسلام شرف وعزة، لأن الإسلام هو الدين الذي اختاره الله لخلقه، قال تعالى: (إنَّ الدين عند الله الإسلام) [آل عمران: 19].

- أن العلم وحده ليس أساس الحضارة والتقدم، وإنما لابد من العقيدة الصحيحة والأخلاق القويمة مع الأخذ بأسباب العلم والحضارة، فلا حضارة بلا دين؛ لأن خلق الحضارة الفاسدة قد يكون سببًا في هلاكها وضياعها.

- أن الحكمة ضالة المؤمن إذا وجدها فهو أحق الناس بها، فعليه أن يقتبس من تقدم الغرب أو الشرق الأشياء المفيدة النافعة، التي لا تتعارض مع مبادئ الإسلام

وقواعده.

- أن صلاح هذه الأمة يكون بالالتزام بتعاليم الإسلام، يقول عمر بن الخطاب

-رضي الله عنه-: لقد كنا -نحن العرب- أذلَّ الناس، حتى أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره؛ أذلنا الله.

وبعد أن يعلم المسلم هذه الأمور ويعيها، فإن أسئلة كثيرة تدور في ذهنه عن دوره تجاه حضارته، وتأتي الإجابة واضحة جلية، وهي أن دور المسلم يتحدد من ناحيتين:

الأولى: أن يهتم كل مسلم بحضارته ويتعرف عليها، فيعرف عوامل نجاحها وعوامل ضعفها، فيأخذ بعوامل النجاح، ويبتعد عن عوامل الضعف.

الثانية: أن يكون المسلم نفسه مبدعًا ومخترعًا وصانع حضارة، يساهم بما يستطيع في إعادة بناء هذه الحضارة، فالقرآن الكريم أمر المسلمين كثيرًا بالسير في الكون والتفكر في مخلوقات الله، ومعرفة سنن الله في هذا الكون.

دور المؤسسات الدولية في إحياء الحضارة الإسلامية

أولاً: الإعلام:

ينبغي أن تُستغل وسائل الإعلام استغلالاً يخدم مبادئ الحضارة الإسلامية وأهدافها، سواء المرئي منها أو المسموع أو المكتوب، فيعرض فيها جوانب عظمة هذه الحضارة وأسباب تفوقها، وإبداع المسلمين في كل المجالات، والتعريف بعلماء الحضارة الإسلامية في كل الميادين، ونشر أعمالهم، وأن تقدم البرامج التي تتحدث عن ذلك كله، وكيف أن الحضارة الإسلامية كانت هي المنبع الصافي الذي استقى منه الأوربيون، وتعلموا منه في عصور جهلهم، وكيف انتقلت هذه الحضارة إلى أوربا، فتقدمت هذا التقدم الذي تعيشه هذه الأيام.

كما أنه يجب عليه عرض التطورات العلمية العالمية في كل المجالات، حتى يستفيد من ذلك طلاب العلم، ويكون المسلمون على وعي بما وصل إليه العلم، فينطلقون إلى الإبداع والابتكار.

ثانيًا: التعليم:

ودور التعليم في إحياء وبعث الحضارة الإسلامية دور خطير ومهم، ولذلك ينبغي أن يتعاون الجميع لإصلاح مناهج التعليم؛ لأنه يجب أن يتعلم الطلاب في كافة مراحل التعليم مبادئ دينهم وحضارتهم، فيجب أن ينتهي الطالب مع انتهائه من مراحل التعليم من حفظ كتاب الله، وأن يدرس في كل مرحلة شيئًا مبسطًا عن قواعد الفقه الإسلامي وعلوم القرآن، والحديث النبوي الشريف، وأن تدرس مادة الحضارة الإسلامية في مرحلة التعليم العالي في الجامعات وفي كل الكليات، لتظهر كيف تفوق المسلمون في كل مجالات الحياة، وكيف أن المسلمين لما التزموا بإسلامهم سبقوا الأوربيين في كثير من الاكتشافات العلمية.

ولابد من العناية بتدريس اللغة العربية لغة الحضارة الإسلامية، تدريسًا ييسر فهمها، ويحببها إلى نفوس الطلاب، كما يجب الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية، وتعريب العلوم التي تدرس باللغات الأجنبية، ويجب متابعة التطورات العلمية في كل المجالات، وترجمتها لنكون على صلة بها، وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه الأوربيون في بداية أمرهم، حيث قاموا بترجمة العلوم الإسلامية إلى لغاتهم ودرسوها بلغتهم، وبذلك استطاعوا أن يبدعوا ويبتكروا في كل المجالات.

وقد شهد الأوربيون أنفسهم بفضل علماء الحضارة الإسلامية على أوربا، ومن هؤلاء: الألمانية (سيجريد هونكه) في كتابها الرائع (شمس العرب تَسْطع على الغرب)، حيث قالت في مقدمته: إن هذا الكتاب يرغب في أن يرد للعرب ديْنًا لهم على البشرية استُحِقَّ منذ زمن بعيد، بالإضافة إلى دراسة التاريخ دراسة إسلامية تتفق مع مبادئ الإسلام، وتنقيته من الأخطاء التي علقت به، والاستفادة من عصور القوة التي عاشها المسلمون، ومعرفة أسباب هذه القوة والأخذ بها.

ولا يتحقق كل هذا إلا بالاهتمام بالمعلم الذي يدرِّس العلم لطلابه، فينبغي إعداده إعدادًا علميًّا جيدًا، وتكريمه ماديًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا، وتوفير سبل الراحة له، حتى يقوم بالتعليم والتربية لأبناء المسلمين على مبادئ الإسلام وقيمه على أكمل وجه.

ثالثًا: الاقتصاد:

ينبغي إصلاح المؤسسات الاقتصادية في الدول الإسلامية بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام وتعليمه، فينبغي أن يلغي نظام الربا، ويكون التعامل بنظام المضاربة الشرعية، وأن تستقي قوانين الاقتصاد من مبادئ الحضارة الإسلامية السامية، ومن مؤلفات علمائها في الاقتصاد، وينبغي أن يكوِّن المسلمون فيما بينهم ما يسمى بالسوق الإسلامية المشتركة لمواجهة تحديات السوق العالمية.

رابعًا: السياسة:

الأخذ بالنظم السياسية الإسلامية المختلفة، والاستفادة بما وضعه علماء الإسلام في هذا المجال من قوانين ومبادئ مستقاة من شريعة الإسلام.

خامسًا: الجانب العسكري:

على المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة العسكرية، وأن يسلحوا جيوشهم بأحدث الأسلحة التي توصَّل إليها العلم، وأن يكون تدريب قواتهم المسلحة على أرقى مستوى، ويدرسوا كيفية التخطيط للحروب الإسلامية، وعوامل انتصار الجيوش الإسلامية على غيرها من جيوش الدول الكبرى في ذلك الوقت، وكيف كان يعامل المسلمون أسراهم، وكيف كانوا يخوضون المعارك، والأحكام الخاصة بالحرب، وأن يربَّي في جنود المسلمين روح الجهاد للدفاع عن الإسلام ضد أي عدوان على الأرض أو العِرض، ومعرفة فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله.

كما يجب أن تتحد الجيوش الإسلامية فيما بينها، وتكوِّن قوة عسكرية مشتركة، ويتم تبادل الخبرات في مجال التدريب والتسليح، والتخطيط للحروب، ولابد أن نصنع سلاحنا بأنفسنا ولا نعتمد على غيرنا في استيراد السلاح، ولو تم هذا واتحد المسلمون في مجال الإعداد العسكري بكل جوانبه؛ لأصبح المسلمون مهابين من أعدائهم.

==============

المستقبل في ظل التحولات الشاملة

بقلم: د.باسم عبد الله عالِم

محامِ ومستشار قانوني

E-mail: alim@alimlaw.com

تتسارع الأحداث وتتوالى الأفعال وردات الأفعالِ حتى استحالت الصورة معتمةً لا نستطيع استبيان عناصرها لكثافة الدخان والعتمة الناتجة عنه , وكأن الصورة تستلهم من واقع الحال , وتقتبس منه ذلك الدخان الكثيف الذي تخلفه القنابل والصواريخ , ولكن المتابع لمجريات الأحداث وتطورها عبر السنين يدرك إن ثمة تحول نوعي خطير بدأ يتشكل على عدة أوجه.

فهناك العقلية والحالة النفسية للإنسان العربي المسلم كما أن هناك حالة مستجدة في علاقة بين الشعوب والأنظمة, أما في معسكر العدو فإننا نجد تحولاً نوعياً آخذا في الظهور إلى العلن , والبروز إلى السطح , ويكمن ذلك في طبيعة العلاقة التي تربط هذا العدو بالولايات المتحدة الأمريكية , وليس ما تقدم من قبيل التحليل السياسي المترف , ولكنه إعادة صياغة لعناصر المعادلة , ومراكز القوى في الصراع العربي الإسرائلي , ولست أبالغ إن أضفت إلى ذلك الصراع القائم بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية الخفي منه والجلي.

إن أول ما يجب أن نلحظه هو الفقدان الكامل للمصداقية والثقة بين الشعوب والأنظمة في محيطنا العربي والإسلامي, فلم تعد الشعوب ترجو الأنظمة , ولم تعد الأنظمة قادرة على أن تخدع الشعوب لتجعل منها مرتكزاً ومتكئاً. ..

إن فقدان الثقة على هذا النحو هو المقدمة الضرورية لنتيجة حتمية الصيرورة، وهي انفراط العقد الاجتماعي , وبداية دخول المنطقة في حالة من الفوضى الأشبه بالمخاض الذي يسبق ميلاد واقع جديد.

وبالرغم من العداء السافر الذي أظهره للعدو الأبدي الذي بينه لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وكذا العدو المتمثل بالفكر المسيحي المتهود في الإدارة الأمريكية، فإنني أبرئ أعدائي هؤلاء من أن يكونوا وحدهم العامل الفاعل في خلق هذه الفوضى المشار إليها، فهم اليوم ليسوا سوى سبب طارئ أشعل الفتيل في وضع محتقن أصلاً .

وهذا الاحتقان الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة سيستحيل ـ ولا شك ـ إلى فوضى عارمة سببها علاقة الحاكم بالمحكوم , واختيار سبيل تبعية الأنظمة للقوى العظمى في معرض المداهنة، والتي استغلتها القوى العظمى أبشع الاستغلال , ووجدت في الأنظمة ضالتها المنشودة لتحقق مآربها.

وبنظرة استشرافية، نجد أن المستقبل القريب يحمل في خضم الفوضى المتوقعة بذور عالم جديد يعيد صياغة الإنسان العربي المسلم بما يتوافق وطموحه وإرادته بعد أن كسر الأغلال التي فرضها عليه القريب والبعيد.

أما على صعيد المتغيرات التي يشهدها أعداؤنا فإننا نرى تحولاً حقيقياً لمركز إدارة الصراع, وقد كان هذا المركز من مطلع الخمسينات من القرن المنصرم حتى العقد الأخير منه في الدائرة اليهودية الإسرائلية المتمثلة بدولة العدو.

وبالرغم من التوافق بين هذه الدولة والحكومات الأمريكية المتعاقبة فإن الحكومات الأمريكية ظلت تتعامل مع الصراع من خلال دعمها للعدو اليهودي ومحاولة التفريق بين هذا الدعم المبدئي وكون الولايات المتحدة الأمريكية وسيط محايد في التعامل مع الأحداث ينشد فيها العدالة وتوخي الصدق.

أما اليوم فنجد أن المركز قد انتقل من محيط دولة العدو اليهودي إلى واشنطن وتسلم راية الصراع اليمين المسيحي المحافظ الذي بلغ سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية, ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفسر الموقف الأمريكي تجاه الأحداث , ودفع الشريك اليهودي للمرة الأولى في تاريخه إلى عمليات عدوانية بعد أن كان هذا الشريك هو الملهم والمحرك لهذه العمليات.

ولعل تزامن الحالتين هو أمر رباني يريد الله به أن يهيئ الأمة للامساك بزمام الأمور , والتهيئة لهذه المواجهة على جميع الأصعدة بعد أن تكشفت حقائق الأنظمة من جهة , وحقائق الصراع الحضاري وقيادته من جهة أخرى.

إن بداية الفوضى العارمة تنعكس بوجود أشكال متعددة من التنظيمات الفكرية والعسكرية ذات الولاء العقائدي البعيد عن الولاء للدولة والنظام القائم , وهو ما سوف يضعف مفهوم الدولة أو السلطة المركزية , ويعزز حاجة المجتمع للتمحور حول هذه التنظيمات مع تزايد ضعف السلطة المركزية.

وبأفول نجم السلطة المركزية تخلو الساحة لهذه الكيانات الفتية التي تعتمد في أولوياتها على الفكر العقائدي , ولا تنحصر داخل جغرافيا ما يعرف بالوطن, وهنا بيت القصيد ونقطة التحول, فلن يلبث الحال حتى ينشب صراع حقيقي بين مختلف هذه المحاور الفكرية تنشأ معها التحالفات التي لا تعترف بالحدود , وما أن تضع الحرب أوزارها سوف تتكشف الصورة عن واقع جديد , وحدود جديدة إعيد رسمها لتكون الدولة هي الفكر والفكر هو الدولة.

فإيران ومفهومها الثوري الشيعي سوف تحاول خلق نطاق شيعي مهيمن , كما أن التوجهات السنية سوف تحاول القيام بمشروع مماثل , وكذا الحال للحركات القومية , كالحركة الكردية والحركة الزنجية في جنوب السودان. وهذا غيض من فيض.

والمتأمل لمستقبل الأحداث يدرك تماماً أنه وبالرغم من وجود إستقطابات وطنية وقومية وعنصرية إلا أن المحاور الرئيسية سوف تكون محاور فكرية في المقام الأول على أسس عقائدية وهو ما سيكسر أغلال المواطنة الزائفة بمفهومها الوضعي لينفتح المسلم على رحابة العالم الإسلامي في تحالفاته ومواقفه.

إن ما يحدث اليوم من حيث تدري أمريكا أو لا تدري ليس إلا دفعا ربانياً للأحداث في أتجاه التحرر من هذه الهيمنة المباشرة وغير المباشرة التي عانى منها العالم الإسلامي طوال قرن من الزمان.

والله ومن وراء القصد....

================

شهادة التاريخ

بقلم أ. د. عماد الدين خليل

(1)

ليس من مهمة هذا البحث متابعة المعطيات الفقهية الخصبة والمتميزة بصدد التعامل مع الآخر، وإنما التأشير على بعض الممارسات التاريخية كشواهد فحسب، من بين سيل من الوقائع لا يكاد يحصيها عدّ، تؤكد فيما لا يدع أي مجال للشك في أن النصارى واليهود من أهل الكتاب، وغيرهما من الفرق الدينية الأخرى، عاشوا حياتهم، ومارسوا حقوقهم الدينية والمدنية على مداها في ديار الإسلام، فيما لم تشهده ولن تشهده أية تجربة تاريخية في العالم.

إن التاريخ هو الحكم الفصل في قدرة المذاهب والأديان على التماسّ مع الواقع، وتحويل "الكلمة" إلى فعل منظور.

ابتداءً.. ما الذي أرادت التأسيسات القرآنية أن تقوله فانعكس ـ بالتالي ـ في نسيج الفعل التاريخي بين المسلم وغير المسلم؟

إن التغاير والاختلاف قائمان في صميم العلاقات البشرية، والتوحّد في وجوهه كافة لا ينفي التغاير، كما أن هذا لا ينفي التوحّد، إنهما يتداخلان ويتوازيان ويؤثر أحدهما في الآخر، بل قد يرفده بعناصر القوة والخصب والنماء.

قد تحدث حالات تقاطع تقود أحياناً إلى النفي والتعارض، لكن الخط الأكثر عمقاً وامتداداً هو أن التجربة البشرية من لحظات تشكلها الأولى وحتى يقوم الحساب، إنما هي تجربة تتعدد فيها الانتماءات وتتغير العلاقات وتتنوع القناعات، وأن هذا التغاير في حدوده المعقولة، ومن خلال تعامله مع الثوابت التوحيدية، هو الذي يمنح التاريخ البشري، ليس فقط تفرده وخصوصيته، وإنما قدرته على الفعل والصيرورة.

في المنظور القرآني يبدو التنوع مستقطباً عبر مجراه الطويل بكلمتي الإيمان والكفر، أو الحق والباطل، ترفده جداول وأنهار متشابكة تجيء من هذا الصوب أو ذاك، ومن خلال هذا التغاير تتحرك مياه التاريخ فلا تركد ولا تأسن، وتحفظ بهذا قدرتها على التدفق والنقاء.

إن الإرادة الحرة والاختيار المفتوح اللذين مُنحا للإنسان فرداً وجماعة، للانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك، يقودان بالضرورة إلى عدم توحد البشرية وتحوّلها إلى معسكر واحد.. إن قيمة الحياة الدنيا وصيرورتها المبدعة تكمن في هذا التغاير، وإن حكمة الله سبحانه شاءت ـ حتى بالنسبة للكتلة أو المعسكر الواحد ـ أن تشهد انقساماً وتغايراً وتنوّعاً وصراعاً.

والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا التغاير في أكثر من صورة ووفق أشد الصيغ واقعية ووضوحاً: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" [المائدة : 48] ، " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " [هود: 118ـ 119] ، " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ..."[البقرة: من الآية 253]، "...ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" [البقرة:من الآية 253].

بل إن القرآن انطلاقاً من منظوره الواقعي لحركة التاريخ البشري يبين في أكثر من موضع أن (الأكثريات) البشرية تقف دائماً بمواجهة الحق الذي لا تنتمي إليه إلاّ القلة الطليعية الرائدة، نظراً لما يتطلبه هذا الانتماء من جهد وتضحية وعطاء لا يحتملها الكثيرون: "بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون" [المؤمنون: 70].

وكثيراً ما يكون اختلاف الألسنة والألوان، الذي يعقبه تغاير الثقافات وتعدد الأعراق، أحد العوامل الأساسية التي تكمن وراء التنوع التاريخي الذي هو بحد ذاته صيغة من صيغ الإبداع الإلهي في العالم: " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" [الروم:20].

"ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" [الروم : 22].

أما عن الهدف من وراء هذا التغاير فإن القرآن يجيب: (...ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين" [البقرة: 251] " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" [الحج: 40].

تلك هي الأمور الأساسية، إن هذا التغاير والتدافع المركوز في جبلة بني آدم يقود إلى (تحريك) الحياة نحو الأحسن، وتخطي مواقع السكون والفساد، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الراشدة كي تشد عزائمها قبالة التحديات، وأن تسعى لتحقيق المجتمع المؤمن الذي ينفذ أمر الله وكلمته في العالم.

وثمة آيات أخرى تبين كيف أن هذا التغاير الذي يعقب تدافعاً وصراعاً إنما هو ميدان حيوي للكشف عن مواقف الجماعة البشرية، والتعرف على أصالة المؤمنين , ففي جحيم القتال، وعلى وهجه المضيء يتضح الذهب من التراب، ويتميز الطيب من الخبيث، وتتحول التجربة إلى منخال كبير يسقط، وهو يتحرك يميناً وشمالاً، كل الضعفة والمنافقين والعاجزين والمتردّدين في مواصلة الحركة صوب المصير المرسوم: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم " [محمد: 31] ، "ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون". [الأنفال: 37].

وما أكثر ما يتساءل الإنسان عن الحكمة من التقاتل، وما أكثر ما تخيل الفلاسفة والمفكرون عالماً لا يشهد قتالاً ولا تُسفك في ساحته الدماء، ولكن هيهات ما دامت المسألة مرتبطة في جذورها بالوجود البشري المتغاير المتنوع. ولا يزال الصراع أمراً لا مفر منه إذا ما أريد للحياة الإنسانية أن تتحرك وتتقدم وتتجاوز مواقع السكون والفساد: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون" [البقرة: 216].

إلا أن القرآن ـ وهو يتحدث عن الصراع الناجم عن التغاير البشري في المذاهب والأجناس واللغات والمصالح والبيئات الجغرافية ـ لا يقصر المسألة على التقاتل والتدافع، إنما يمدها إلى ساحة أوسع، ويعطي للتغاير البشري آفاقاً بعيدة المدى، تبدأ بإشهار السلاح، وتمتد لكي تصل إلى الموقف الأكثر إيجابية، والذي يجعل هذا التغاير سبباً لعلاقات إنسانية متبادلة بين الأمم والأقوام والشعوب للتقارب والتعاون والتعارف، مع بقاء كل منها على مذهبه أو جنسه أو لونه أو لغته أو بيئته الجغرافية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، إن الله عليم خبير" [الحجرات: 13].

[ 2 ]

وجاء تاريخنا الإسلامي لكي يمنح مساحة واسعة للتغاير، وقبول الآخر، والتحاور معه.. والوقائع في هذا السياق كثيفة جداً ،ولذا سنكتفي بالتأشير على بعضها.

فمنذ بدايات مبكرة قدم عصر الرسالة إزاء أهل الذمة، يهوداً ونصارى، موقفاً منفتحاً رسمت من خلاله تقاليد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ووُضعت أصولها ونُظّمت صيغها، وعندما مضت حركة التاريخ صوب العصور التالية مضت معها هذه التقاليد والأصول والصيغ تعمل في مجرى العلاقات الاجتماعية، وما حدث بين الحين والحين من خروج عليها , فإنه لم يتجاوز أن يكون شذوذاً على القاعدة ازدادت تأكيداً بمرور الأيام.

ما الذي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله وينفذه إزاء غير المسلمين من أهل الكتاب؟ إن بمقدور القارئ أن يرجع إلى كتب السيرة للعثور على الجواب الشامل بجزئياته وتفاصيله(1)، ولكننا نود أن نشير مجرد إشارة إلى العهد الذي كتبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب غزوة تبوك عام 9 هـ لنصارى نجران، ذلك العهد الذي يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، والذي لم يفرض عليهم فيه سوى جزية عينية متواضعة، وقد جاء فيه: " ولنجران وحاشيتهم جوار الله ... ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين... ولا يُؤاخذ أحد منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي - صلى الله عليه وسلم- أبداً، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم"(2)، وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح(3).

كما نود أن نشير إلى العهود التي كتبها لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة ، بعد غزوة خيبر ( 7 هـ ) والسنين التي تلتها؛ إذ بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة: "أما بعد، فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم وصادت عروككم (مراكبكم) واغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله...". وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا): "... إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء"، كما كتب لبني عريض كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم(4).

وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود: "إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليه من المسلمين"(5).

وبذلك تمكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها.

ولقد ظل اليهود ـ والنصارى بطبيعة الحال ـ كمواطنين وليسوا كتلاً سياسية أو عسكرية ـ يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية لا يمسسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم إلى المدينة، بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام , وفي مغازي الواقدي.

وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنه أوصى عامله معاذ بن جبل: "بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم"، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين؛ إذ لم يُكلّفوا إلا بدفع الجزية، وبقوا متمسكين بدين آبائهم(6).

وجاء الراشدون لكي يشهد المجتمع الإسلامي تنفيذاً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاً عما شهده عصر الرسالة , فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى.

لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم جناحيه على أعداد كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات، ونريد أن نعرف كيف تم التعامل معها عبر عمليات الفتح أولاً، وبعد استقرار الوجود الإسلامي ثانياً، وهل تمكن المسلمون من الاستجابة لتحديات التنوع المذهبي في جتمعهم العالمي الجديد؟

يقول السير (توماس أرنولد) الذي سنعتمد على عدد من شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: (الدعوة إلى الإسلام The Preaching to Islam) الذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.

" ... لما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم"، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا".

ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين-نتيجة لما حدث- أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم , فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليه ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم"، وبذلك رُدّت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم ـ أي على الروم ـ فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا"(7).

" يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية , وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين. وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة ويضطهدونها تارة أخرى؛ إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مرّوا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم، بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين.

ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي.

وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار.

وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي، فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمين؛ إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً.

وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما)، وهو أسقف نسطوري، قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.

" ويُقال: إن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين، قد ذُبحوا في هذا الاضطهاد. وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس، وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين.

ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس.

مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها"(8).

"ومما يدل على أن تحوّل المسيحيين إلى الإسلام ـ في مصر ـ لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، ما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية، وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسُمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلّصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أُعفي الرهبان من دفع الجزية , ومُنحوا امتيازات معينة"(9).

(3)

وما هي إلا لمحات فحسب مما تحدّث عنه توماس أرنولد فأطال الحديث، ولن تغني الشواهد هنا عن متابعة هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ الذي يجيء على يد باحث يحترم العلم بالقدر الذي لم نألفه لدى الغربيين في تعاملهم مع عقيدتنا وتاريخنا إلا نادراً(10).

ما الذي كان يحدث في المجتمعات الأخرى بين أبناء الدين الغالب وبين المنتمين للأديان والمذاهب الأقل انتشاراً؟يقول غوستاف لوبون: "لقد أُكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي.

وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن , وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر، التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام، تحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين"(11).

ويقول الندوي: "ثارت حول الديانة النصرانية , وفي صميمها مجادلات كلامية شغلت فكر الأمة واستهلكت ذكاءها , وتحولت في كثير من الأحيان إلى حروب دامية، وقتل وتدمير وتعذيب ، وإغارة وانتهاب واغتيال، وحوّلت المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات دينية تتنافس، وأقحمت البلاد في حرب أهلية، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية، وبين نصارى مصر، أو بين الملكانية والمنوفيسية بلفظ أصح.

وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع حتى صار كأنه حرب بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء... وشهدت مصر من الفظائع ما تقشعر منه الجلود، فرجال كانوا يُعذّبون ثم يُقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض، ويُوضع السجين في كيس مملوء من الرمال ويُرمى به في البحر، إلى غير ذلك من الفظائع "(12).

وحدث بين اليهود والنصارى ما هو أشد هولاً، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610م) على سبيل المثال، أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده أبنوسوس ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً، قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ورمياً للوحوش الكاسرة.

وحدث ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة , وهذه واحدة من نماذج التعامل بين الطرفين يوردها المؤرخ المصري المقريزي: " في أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى أجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من كل مكان , فنالوا من النصارى كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم , وأسروا بطريك القدس وكثيراً من أصحابه...

وكان هرقل قد ملك الروم، وغلب الفرس، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر , ويجدد ما خربه الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان، فوجد المدينة وكنائسها خراباً، فساءه ذلك، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وأنهم كانوا اشد نكاية لهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا جرم عليه في قتلهم، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء , أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى"(13).

أما ما فعله النصارى بالمسلمين عندما تمكنوا منهم، فيكفي أن نشير إلى ما نفذته السلطة والكنيسة الاسبانيتين عن طريق محاكم التحقيق مع بقايا المسلمين في الأندلس بعد سقوط آخر معاقلهم السياسية: غرناطة، مما قصه علينا بالتفصيل العلمي الموثق محمد عبد الله عنان في كتابه القيم (نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين)(14)، وما فعلته قوى الاستعمار الصليبي في آسيا وإفريقية مع الشعوب الإسلامية عبر القرون الأخيرة، وما تفعله القيادات الإفريقية النصرانية مع المسلمين.

[ 4 ]

في العصر الأموي والعصور العباسية التالية، حين ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، وأخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطراداً، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.

لقد فتح المسلمون ـ قواعد وسلطة ـ صدورهم لغير المسلمين يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله.

لقد ساهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها، دونما أي عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فُتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأُتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنمّوا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط، وملؤوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية في المجال الإداري من نصيبهم كذلك.

إنه مجتمع تكافؤ الفرص والحرية العقديّة والانفتاح , لقد استجاب المسلمون للتحدي الاجتماعي، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم - صلى الله عليه وسلم- بهم، وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن يكونوا رفقاء بأهل الذمة!! .

الوقائع كثيرة، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال، نفذت على مختلف الجبهات ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية، والاجتماعية عموماً.. ونلتقي بشهادة فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول) فهي تحمل دلالتها ولا ريب كشاهد على معطيات هذا التيار الواسع: " تمتع أهل الذمة بقسط من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج.

وارتبطت بالفعل قضاياهم في الأمور المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين، إلا إذا كانت القضية تمسّ المسلمين... ".

" لقد كانت ميسون زوجة معاوية نصرانية، كما كان شاعره نصرانياً، وكذلك كان طبيبه وأمير المال في دولته... "(15).

"وأقام الذميون في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية، وحافظوا على لغاتهم الأصلية؛ فكانت لهم الآرامية والسريانية لغة في سوريا والعراق، والإيرانية في فارس، والقبطية في مصر... وفي المدن تقلد النصارى واليهود مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وتمتعوا في ظل الخلافة بقسط وافر من الحرية، ونالوا كثيراً من التساهل والعطف.

وشهد بلاط العباسيين مناقشات كتلك التي جرت في بلاط معاوية وعبد الملك، وقد ألقى تيموتاوس بطريك النساطرة في سنة (781 م) دفاعاً عن النصرانية أمام المهدي، لا يزال محفوظاً نصه إلى اليوم , كذلك تحدّرت إلينا رسالة للكندي تصرح أنها بيان لمناقشة جرت سنة (819 م) في حضرة المأمون في مقابلة بين محاسن الإسلام والنصرانية...".

وكان للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ترجمات عربية معروفة، وهناك أخبار تذكر أن رجلاً يُدعى (أحمد بن عبد الله بن سلام) كان قد ترجم التوراة إلى العربية منذ ولاية هارون الرشيد. ولدينا ما يثبت أيضاً أقساماً من التوراة كانت قد نُقلت إلى العربية في القسم الأخير من القرن السابع.

" ثم إننا نعرف وزراء نصارى قاموا في الشطر الثاني من القرن التاسع منهم عبدون بن صاعد.. وكان للمتقي وزير نصراني، كما كان لأحد بني بويه وزير آخر.

أما المعتضد فقد جعل في المكتب الحربي لجيش المسلمين رئيساً نصرانياً, وقد نال أمثال هؤلاء النصارى من أصحاب المناصب العالية ما ناله زملاؤهم المسلمون من الإكرام والتبجيل... وكانت أكثرية أطباء الخلفاء أنفسهم من أبناء الكنيسة النسطورية.

وقد نُشر أخيراً براءة منحها المكتفي سنة ( 1138 م ) لحماية النساطرة، وهي توضح مدى العلاقات الودية بين رجال الإسلام الرسميين وبين رجال النصرانية.

" ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظل الخلفاء، أنه كان لها من القوة والنشاط ما دفع بها إلى التوسع فافتتحت لها مراكز تبشيرية في الهند والصين..". " ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى بالرغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم.

والسبب أنهم كانوا قليلي العدد فلم يُخش أذاهم. وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى.

ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد أنه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت فيها مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) ، فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة وعشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين، بصفته سليل بيت داود النبي عليه السلام ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى.

وقد روى إنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة , وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة، وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته: " أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود .."(16).

وما يُقال عن العصرين الأموي والعباسي، يمكن أن يُقال عن العصور التي تلتهما: الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لولا بعض ردود الأفعال الغاضبة التي اعتمد فيها العنف لأول مرة بسبب من مواقف عدائية معلنة اتخذتها هذه الفئة أو تلك من أهل الكتاب، فمالأت خصوم المسلمين، ووضعت أيديها بأيدي الغزاة الذين قدموا لإبادتهم وإفنائهم، وتآمرت سراً وجهراً لتدمير عقيدتهم وإزالة ملكهم من الأرض.

ويمكن أن يذكر المرء ـ ها هنا ـ المواقف العدائية العديدة التي اتخذها نصارى الشام والجزيرة والموصل والعراق عامة، خلال محنة الغزو المغولي؛ إذ رحبت جماعات منهم بالغزاة، وتآمرت معهم ضد مواطنيهم المسلمين، فاحتضنهم الغزاة واستخدموهم في فرض هيمنتهم، واتخذوهم مخالب لتمزيق أجساد المسلمين الذين عاشوا معهم بحرية وإخاء عبر القرون الطوال، ويمكن أن نتذكر كذلك التجارب المرة نفسها التي مارستها جماعات من اليهود والنصارى في العصر العثماني، وردود الأفعال العثمانية إزاءها.. الخ.

لكن هذه الحالات لم تكن في نهاية التحليل، ومن خلال نظرة شمولية لحركة المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، سوى استثناءات أو نقاط سوداء محدودة على صفحة واسعة تشع بياضاً، على العكس تماماً مما شهدته المجتمعات الأخرى؛ حيث كانت حالات الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أصحاب الدين الحاكم ومخالفيه نقاطاً استثنائية بيضاء في صفحة تنفث حقداً ودخاناً.

ومن عجب أن مرحلة الحروب الصليبية نفسها، تلك التي دامت حوالي القرنين من الزمن، وكان الغزاة فيها يحملون الطائفية والكراهية ضد كل ما هو إسلامي، والتي جاءت لكي تدمر على المجتمع الإسلامي أمنه واستقراره، وتفتنه عن دينه لصالح الكنيسة المتعصبة، هذه التجربة المرة لم تسق القيادات والمجتمعات الإسلامية إلى ردود فعل طائفية تقودهم إلى عدم التفرقة، وهم يتحركون بسيوفهم، بين الغزاة وبين النصارى المحليين، رغم أن فئات من هؤلاء تعاونت علناً مع الغزاة , ووضعت أيديها في أيديهم، وتآمرت معهم على إنزال الدمار بالإسلام والمسلمين.

ولحسن الحظ فإن الغزاة الذين انطلقوا أساساً من نقطة التعصب والمذهبية، مارسوا الطائفية نفسها إزاء رفاقهم في العقيدة ممن ينتمون لأجنحة نصرانية أخرى، بدءاً من البيزنطيين الأرثوذكس، وانتهاء بجل الفئات النصرانية المحلية، ممن لم تدن بالمذهب الكاثوليكي الذي انضوى تحت لوائه معظم الغزاة، ولولا ذلك لامتدت مساحة التعاون بين الطرفين، فيما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر وخامة.

المهم إننا لم نشهد عبر مرحلة الحروب الصليبية هذه بثوراً طائفية، في نسيج المجتمع الإسلامي، كرد فعل لغزو وهو في أساسه ديني متعصب.. لم نسمع بمذبحة ارتكبها المسلمون ضد رفاقهم في الأرض، ولا بعمل انتقامي غير منضبط نفذوه ضد مواطنيهم وأهل ذمتهم!!

وما من شك في أن هذا الانفتاح الذي شهده المجتمع الإسلامي إزاء العناصر غير الإسلامية، والفرص المفتوحة التي منحها إياهم، قاد بعض الفئات ـ كما رأينا ـ إلى ما يمكن عدّه استغلالاً للموقف السمح، ومحاولة لطعن المسلمين في ظهورهم، وتنفيذ محاولات تخريبية على مستوى السلطة حيناً، والعقيدة حيناً، والمجتمع نفسه حيناً ثالثاً، وإننا لنتذكر هنا ـ على سبيل المثال كذلك ـ ما فعلته الطوائف اليهودية بدءاً من محاولات السبئية، وانتهاء بمؤامرة الدونمة لإسقاط الخلافة العثمانية، وما فعلته بعض الطوائف المجوسية في العصر العباسي فيما يشكل العمود الفقري للحركة الشعوبية، التي استهدفت العرب والمسلمين على السواء.

لكن هذه الخسائر التي لحقت بالمسلمين من جراء تعاملهم الإنساني مع مخالفيهم في العقيدة، والمخاطر التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، من قبل هؤلاء الخصوم الذين استغلوا الفرصة، وسعوا إلى ممارسة التخريب والتآمر والالتفاف لا تسوّغ البتة اعتماد صيغ في التعامل غير تلك التي اعتمدها المسلمون في تاريخهم الاجتماعي الطويل .. وتقاليد غير تلك التي منحهم إياها، ورباهم عليها كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وتجارب الآباء والأجداد.

إن الخسائر الجزئية ـ مهما كانت فداحتها ـ لأهون بكثير من الخسارة الكبرى ذات البعد الإنساني، وإن الإسلام نفسه - قبل غيره من الأديان- كان سيخسر الكثير لو حاول أن يسعى إلى تحصين نفسه بالحقد والطائفية، والردود المتشنّجة التي تجاوز حدودها المعقولة والمسوّغة.

وإن الإنسان نفسه كان سيغدو الضحية لو أن المجتمع الإسلامي خرج على التقاليد النبيلة المتألقة التي علّمه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنه ـ فيما عدا التاريخ الإسلامي ـ فإنه ليس ثمة في تاريخ البشرية ـ قديماً وحديثاً ـ مرحلة كتاريخ الإسلام احترم فيها فكر المخالفين وصينت عقائدهم، وحُميت حقوقهم، بل كانوا ـ على العكس تماماً ـ هدفاً للاستعباد والهوان والضياع، بل التصفية والإفناء.

لم يكن هدف الفتوحات الإسلامية جميعها، منذ عصر الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم- وحتى سقوط العثمانيين فرض العقيدة الإسلامية بالقوة كما يتعمد البعض أن يصور أو يتصور.

إنما نشر السيادة والمنهج الإسلامي في العالم , إنها محاولة جادة لتسلم القيادة من الأرباب والطواغيت، وتحويلها إلى أناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.

وتحت ظلال هذه القيادة، كان بمقدور الناس، وقد حُرّروا تماماً من أي ضغط أو تأثير مضاد أن ينتموا للعقيدة التي يشاؤون، ولما كانت عقيدة الإسلام هي الأرقى والأجدر والأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان بأي مقياس من المقاييس، كان من الطبيعي أن تنتشر بين الناس، وأن ينتمي إليها الأفراد والجماعات بالسرعة التي تبدو للوهلة الأولى أمراً محيراً، ولكن بالتوغل في الأمر يتبين مدى منطقية هذا الإقبال السريع الذي يختزل الحيثيات، انتماءً إلى الإسلام وتحققاً بعقيدته.. إنه الجذب الفعّال الذي تملكه هذه العقيدة، والاستجابة الحيوية لحاجات الإنسان في أشدها اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً، تلك التي يحققها هذا الدين.

إن سير توماس أرنولد، وهو رجل من الغرب سبق وأن أشرنا إليه، يتفرغ السنين الطوال لمتابعة هذه المسألة، ثم يعلنها في كتابه المعروف (الدعوة إلى الإسلام) بوضوح لا لبس فيه، واستناد علمي على الحقائق وحدها بعيداً عن التأويلات والتحزّبات والميول والأهواء.

ونكتفي هنا ببعض الشهادات التي قدمها هذا الباحث كنماذج تؤكد البعد الإنساني للسلوكية التي اعتمدها الإسلام في الانتشار. يقول الرجل: "يمكننا أن نَحكُم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام , فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم , ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة"(17).

"إن الأخبار الخاصة بزوال المسيحية من بين القبائل العربية النصرانية التي كانت تعيش في بلاد العرب الشمالية، لا تزال بحاجة إلى شيء من التفصيل، والظاهر أنهم قد انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه الاندماج السلمي، والذي تم بطريقة لم يحسسها أحد منهم، ولو

أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت الحكم الإسلامي، لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين"(18) .

"ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"(19) .

"لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: "يا معشر العرب أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا , وأرأف بنا , وأكف عن ظلمنا , وأحسن ولاية علينا , ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا" ، وأغلق أهل حمص مدينتهم دون جيوش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم"(20) .

" أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم، فقد وجدت أنها تتمتع بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة، بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبية والنسطورية، فقد سُمح لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فُرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة.

ويمكن الحكم على مدى هذا التسامح ـ الذي يلفت النظر في تاريخ القرن السابع ـ من هذه العهود التي أعطاها العرب لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم , وإطلاق الحرية الدينية لهم في مقابل الإذعان ودفع الجزية(21) " وقد زار عمر الأماكن المقدسة يصحبه البطريق، وقيل: إنه بينما كانا في كنيسة القيامة- وقد حان وقت الصلاة- طلب البطريق إلى عمر أن يصلي هناك، ولكنه بعد أن فكر اعتذر وهو يقول: إنه إن فعل ذلك فإن أتباعه قد يدعون فيما بعد أنه محل لعبادة المسلمين"(22) " وكان المسيحيون يؤدون الجزية مع سائر أهل الذمة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين"(23) .

" ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعاتهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم حرية التفكير الديني، تمتعوا- وخاصة في المدن- بحالة من الرفاهية والرخاء في الأيام الأولى من الخلافة"(24) ، " زار راهب دومنيكاني من فلورنسا ويدعى (Ricoldos de Monre Crucis) بلاد الشرق حوالي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وتحدث عن روح التسامح التي تمتع بها النساطرة إلى عصره في ظل الحكم الإسلامي فقال: "قرأت في التاريخ القديم وفي مؤلفات للعرب موثوق بها أن النساطرة أنفسهم كانوا أصدقاء لمحمد وحلفاء له، وأن محمداً نفسه قد أوصى خلفاءه أن يحرصوا على صداقتهم مع النساطرة، التي يرعاها العرب أنفسهم حتى ذلك اليوم بشيء من العناية"(25) .

وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق"(26) ، "إننا لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي.

ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة.

وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم بصفتهم طوائف خارجة عن الدين, ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم"(27) ، " جلب الفتح الإسلامي إلى الأقباط في مصر حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان.

وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك؛ من التدخل المستمر الذي عانوا من عبثه الثقيل في ظل الحكم الروماني.. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتداد الأقباط عن دينهم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعاً إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين, بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة"(28).

هذه لمحات عن منطقة محدودة فحسب هي العراق والشام، ومصر إلى حد ما، من العالم الذي امتد إليه الإسلام وتعامل معه، فهنالك بلاد فارس وأواسط آسيا، وإفريقية، وأسبانيا، وجنوبي أوروبا وشرقيها، والهند والصين، وجنوب آسيا، مما تحدث عنه أرنولد فأطال الحديث.

المصدر : الإسلام اليوم

--------------

(1) ينظر : عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ، ط15 ، دار النفائس ، بيروت ـ 1997م ، الفصلان الثامن والتاسع.

(2) محمد بن سعد ( ت 230 هـ ) كتاب الطبقات الكبرى ، تحقيق ادوارد سخاو ورفاقه ، مصور عن طبعة ليدن ، بريل ـ 1325 هـ ( بدون تاريخ ) 1/2/36 ، 84 ـ 85 ، أحمد بن يحيى البلاذري ( ت 279 هـ ) ، فتوح البلدان ، تحقيق صلاح الدين المنجد ، مكتبة النهضة ، القاهرة 1957 م ، 1/76 ـ 78 ، أحمد بن واضح اليعقوبي ( ت 282 هـ ) ، تاريخ اليعقوبي ، تحقيق محمد صالح بحر العلوم ، المكتبة الحيدرية ، النجف ـ 1964 م ، 2 / 71 ـ 72.

(3) البلاذري : فتوح البلدان 1 / 78.

(4) ابن سعد : الطبقات 1/2/28 ـ 30.

(5) المصدر نفسه 1 / 2 / 38.

(6) عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ص 358.

(7) الدعوة إلى الإسلام ، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم حسن ورفاقه ، ط3 مكتبة النهضة ، القاهرة ـ 1971 ، ص 79.

(8) المرجع نفسه : ص 86 ـ 88 .

(9) المرجع نفسه : ص 130.

(10) ينظر المرجع نفسه للإطلاع على المزيد من الشواهد.

(11) حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ، ط3 ، دار إحياء الكتب العلمية ، القاهرة ـ 1956 م ، ص 336.

(12) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط5 ، مكتبة دار العروبة ، القاهرة ـ 1964 م ، ص 29 ـ 30.

(13) المرجع نفسه ، ص 36 ـ 37.

(14) وهو الكتاب الرابع من دولة الإسلام في الأندلس ، ط2 ، مطبعة مصر ، القاهرة ـ 1958 م.

(15) تاريخ العرب المطول ، ط4 ، دار الكشاف ، بيروت ـ 1965 م ، 1/ 301 ـ 302.

(16) المرجع نفسه 2 / 432 ـ 438 وينظر : ول ديورنت : قصة الحضارة ، ترجمة محمد بدران وآخرين ، ط2 ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ـ 1964 ـ 1967 م، 13 / 131 ، وآرثر ستانلي تريتون : أهل الذمة في الإسلام ، ترجمة وتعليق د. حسن حبشي، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1967 م ، ص 170.

(17) الدعوة إلى الإسلام ، ص 65.

(18) المرجع نفسه ، ص 68.(19) المرجع نفسه ، ص 69 ـ 70.

(20) المرجع نفسه ، ص 73.

(21) المرجع نفسه ، ص 74.

(22) المرجع نفسه ، ص 75.

(23) المرجع نفسه ، ص 79.

(24) المرجع نفسه ، ص 81.

(25) المرجع نفسه ، هامش 1 ، ص 81.

(26) المرجع نفسه ، ص 88.

(27) المرجع نفسه ، ص 98 ـ 99.

(28) المرجع نفسه ، ص 123 ـ 124.

================

دور الكتّاب والمساجد عند المسلمين

د/ محمد منير سعد الدين

عندما نفكر في التربية أو نتحدث عنها، فمن الطبيعي أن يتبادر لذهننا أولاً قبل كل شيء المدرسة وما يحدث فيها من مناشط، وحين نقول فلاناً تربى، فنعني بذلك أنه أكمل برنامجاً دراسياً في المدرسة، وعندما ندعو شخصاً متربياً، فإننا نربط بينه وبين المدرسة من الناحية المهنية، وعليه فإنه من المناسب عند دراسة فلسفة التربية أن نتناول المدرسة على أنها المصدر المباشر المحدد الواضح للخبرة التربوية.‏

ولكن عندما نبدأ التفكير في المدرسة نلاحظ وعلى الفور أنه بالإضافة إلى المدرسة هناك وسائل كثيرة تدار من خلالها عملية التربية، من بين هذه الوسائل تحتل المدارس بالتأكيد أهمية أساسية، "ولكن المدارس ليست الأمكنة الوحيدة التي ينمو فيها الأفراد نمواً موجهاً قصدياً، فقبل المدرسة هناك المنزل , وهو من نواح كثيرة له أثر في الشخصية أقوى وأدوم وأعمق , وتقوم التعاليم الدينية أيضاً في العادة بممارسة تأثيرها القوي.

كما أن الاشتراك مع الأصدقاء ومع الزملاء من المواطنين في مناشط تحتل اهتماماً مشتركاً , والاشتراك في العمل والحياة المهنية لها علاقة بتوجيه النمو الإنساني، فالمؤسسات الاجتماعية كدور الكتب والمتاحف , وكذلك المدارس يمكن أن تكون عوامل للنمو العقلي.

وفي النهاية فالفرد نفسه وسيلة تربوية على جانب عظيم من الأهمية، وما يصبح عليه الفرد لا يتحدد في كليته على الإطلاق، نتيجة تأثير العوامل الخارجية، ولكن يتحدد أيضاً على أساس قدرته الداخلية على التوجه الذاتي"(1).‏

أما بالنسبة للمؤسسات التربوية الإسلامية، "فقد عرف الإسلام المؤسسة التربوية منذ اللحظات الأولى لبدء نزول الوحي على قلب محمد ، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول مؤسسة تربوية، فقد كان المعلم الأعظم يجمع القلة القليلة التي آمنت به سراً في هذه الدار، ويستخلص نفوسها، ويعلمها آيات القرآن التي يتنزل بها الروح الأمين على قلبه، ويشكلها (عقائدياً) بما يتفق وتعاليم الإسلام الحنيف"(2).‏

ولم تكن المؤسسة التربوية الإسلامية مقتصرة على المدرسة فقط، بل تعدتها إلى الكتاب، والمسجد، والمكتبة، وبيوت الحكمة، ودور العلم، وحوانيت الوراقين، ومجالس العلم والمناظرة، ومنازل العلماء، ومجالس الفتوى، والبيمارستانات، والمراكز الصوفية، والعتبات المقدسة وغيرها.‏

ولقد كانت هذه المؤسسات التربوية الإسلامية، نتاج بيئة معينة، نابعة من صميم حاجات المجتمع الإسلامي وتطوراته، مصبوغة بالروح الإسلامية، حيث اهتدت بتعاليم وأغراض الإسلام، إنها ليست بالدخيلة، وإنما هي نتاج نمو وتطور في الحياة الإسلامية العامة، نشأت في أمكنة معينة وأزمان معينة، وظروف معينة , وضمن أغراض معينة أملتها حاجات المجتمع الإسلامي النامية المتطورة.‏

وسنتناول في بحثنا المؤسسات التعليمية عند المسلمين، ونبدأ بدراسة الكتَّاب.‏

ظهر الكُتَّاب عند المسلمين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانتشر مع انتشار الإسلام في مختلف البلدان، وأنشئ من خلال عمل إسلامي بحت، وكان المكان الرئيسي في العالم الإسلامي لتعليم الصغار، وقد تمتع بمكانة كبيرة الأهمية في الحياة الإسلامية، وبخاصة وأنه المكان الذي يتعلم فيه الصبيان القرآن، إضافة إلى ما للعلم من مكانة في نظر الإسلام حيث هو فريضة على كل مسلم، وكذلك تلك القدوة التي نأخذ بها من خلال أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حض على ضرورة التعلم , فكلف كل أسير من أسرى الحرب بعد موقعة بدر بتعليم اثني عشر طفلاً من أطفال المسلمين على سبيل الفدية.‏

ولقد قسمت الكتاتيب إلى قسمين:‏

1 ـ كتاتيب أولية :‏ وكان يتعلم الأطفال فيها القراءة والكتابة , ويحفظون القرآن , ومبادئ الدين وأوليات الحساب.‏

2 ـ كتاتيب قانونية :‏ إن صح هذا التعبير –كانت لتعليم الأطفال والشباب علوم اللغة والآداب، وكانوا يتوسعون فيها بعلوم الدين والحديث وسائر صنوف العلوم الأخرى بصورة عامة(3).‏

إلا أن أحد الباحثين يفصل بين الكتاتيب بحيث يرى أنه "كان من الشائع المتعارف عليه أن يقوم غير المسلمين بمهنة تعليم القراءة والكتابة , وكان هذا النوع من التعليم يجري في منازل المعلمين , وربما خصص هؤلاء حجرة في بيوتهم لاستقبال الطلاب، وقد حافظ الكتاب من هذا النوع في الكثير الغالب على استقلاله التام عن الكتاب الآخر الذي كان يجري به تعليم القرآن الكريم , ومبادئ الدين الإسلامي، وكثير من الباحثين لم يفرقوا بين نوعي الكتاب هذين , وقرروا أنه كان هناك نوع واحد من الكتاتيب , تعلم فيها القراءة والكتابة , ويحفظ فيه القرآن , وتدرس به علوم الدين"(4).‏

نستنتج من هذا أنه كان هناك نوعان من الكتاتيب، أحدهما لتعليم القرآن , ومبادئ الدين الإسلامي، وثانيهما لتعليم القراءة والكتابة والحساب، إلا أن هذا لا يمكن تعميمه , حيث كان ثمة كتاتيب تجمع بين تعليم هذه المواد، لكن نستطيع القول إن الكتاتيب القرآنية قد انتشرت بشكل واسع وبارز ؛ نتيجة تحمس الناس الشديد للقرآن الكريم، وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبالتالي اتساع رقعة الدولة.‏

كذلك ظهر نوع من الكتاتيب اختص بالأيتام، وكان الغرض من إنشائها، تعليم الأيتام وأبناء الفقراء ورعايتهم، إلى جانب التقرب إلى الله تعالى.‏

ولم تقتصر هذه الكتاتيب على تعليم الأيتام بل "أضيف إليهم أولاد الفقراء والجند والبطالين، وقد وفر هذا النوع من التعليم الرعاية العلمية والاجتماعية لهذه الفئة غير القادرة , والذين لم يكن في وسع ذويهم إرسالهم إلى المكاتب الخاصة , أو إحضار مؤدبين لهم إلى المنازل"(5).‏

ولقد كثر الاهتمام بكتاتيب الأيتام خلال عهود الزنكيين، والأيوبيين والمماليك، فهذا نور الدين زنكي يبني "في كثير من بلاده مكاتب للأيتام ويجري عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة"(6).‏

واختلفت أحجام الكتاتيب صغراً وكبراً، "فكتاب أبي القاسم البلخي كان يتعلم فيه (3000 تلميذ) وتدل رواية ياقوت على أن هذا الكتاب بجانب استقلاله عن المسجد كان فسيحاً ليتسع لهذا العدد الكبير ,ولهذا كان يحتاج البلخي أن يركب حماراً ليتردد بين هؤلاء وأولئك ؛ وليشرف على جميع تلاميذه"(7).‏

وكان المكان المخصص للكتاب "يختلف باختلاف المعلمين ومشاربهم , فمن مكان متسع طلق الهواء , يساعد الصبية على الإقبال على الدرس , إلى مكان مظلم , لا تدخله الشمس يحدّ من استعداد الصبية للحفظ والإفادة من التعليم"(8).‏

أما أثاث الكتاب فكان يفرش بالحصر غالباً، يجلس عليها الصبيان متربعين حول معلمهم، وكانت أدوات الدراسة تتضمن مصحفاً شريفاً، وعدة ألواح، وعدداً من الدوي والأقلام.‏

وقد يختص المعلم "بسرير أو كرسي مرتفع , وربما عوض الكرسي بمصطبة مبنية (دكانة) ليس عليها من الرياش سوى بساط صغير"(9).‏

أما سن ذهاب الصبي إلى الكتاب فيلاحظ بصفة عامة أن هناك "اتجاهاً نحو التبكير في التعلم بالكتاب، فمنذ السنة الخامسة أو السادسة أو السابعة ينتقل الطفل إلى بيئة جديدة هي الكتاب، حيث يبقى فيها إلى أن يتم حفظ القرآن بأكمله , أو يحفظ جزءاً منه إلى جانب تعلمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية , وشيئاً من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين"(10).

ولعله من الأرجح أن يبقى الصبي في الكتاب حتى سن الثانية عشرة أو ما دون ذلك، ولكن لا يمنع الأمر أن يكون هناك من هم في سن أكبر من الثانية عشر.‏

ولما كان الصبيان يأتون إلى الكتاب صغار السن، لذا كان على الأهل أن يؤمّنوا من يرافقهم في غدوهم ورواحهم إلى الكتاب، وأطلق على هذا المُرافق اسم السائق , واشترط فيه أن يكون "أميناً ثقة متأهلاً، لأنه يتسلم الصبي في الغدو والرواح , وينفرد به في الأماكن الخالية , ويدخل على النسوان , فيلتزم أن يكون كذلك"(11).‏

وتعد مثل هذه الأمور ظاهرة اهتمام واضحة من المسلمين بسلامة أطفالهم، وخاصة من خلال تلك القواعد التي وضعوها , ورعوا فيها الظروف الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع، فوضعوا شروطاً وقيوداً للمحافظة على الأطفال من بعض الأمراض الاجتماعية التي كانت منتشرة، وقد امتد الاهتمام بالأطفال ليشمل أوقات الراحة والذهاب إلى المنزل والعودة منه.‏

أما معلم الكتاب فقد جمع مهاماً متعددة بيده، ومهمته تشبه إلى حد ما مهمة المعلم المنفرد، لكنه يتصرف ضمن لوائح وإرشادات معينة لا يحق له الخروج عنها.‏

"وقد تحرى أجدادنا –رحمهم الله- جهدهم في انتخاب المعلم الذي يتولى تعليم صبيانهم، فلا يختارون لهذه المهمة إلا من تقرر عندهم حسن أخلاقه، وتوفرت فيه خصال رشيدة جمَّة، منها الاشتهار بالاستقامة والعفاف، والعدالة مع الخبرة العامة بالقرآن وعلومه. وقد وضع الفقهاء المسلمون خصالاً ينبغي توفرها في معلم الكتاب، فالقابسي يرى أنه ينبغي أن يكون مهيباً لا في عنف، لا يكون عبوساً مغضباً، ولا مبسطاً، مرفقاً بالصبيان دون لين، وينبغي أن يخلص أدب الصبيان لمنافعهم"(12).‏

ولقد أنيطت مهمة الإشراف على معلم الكتاب بالمحتسب , فاشترط بهذا المعلم أن يكون من "أهل الصلاح والعفة والأمانة، حافظاً للكتاب العزيز، حسن الخط، ويدري الحساب، والأولى أن يكون متزوجاً، ولا يفسح لعازب أن يفتح مكتباً إلا أن يكون شيخاً كبيراً , وقد اشتهر بالدين والخير , ومع ذلك فلا يؤذن للتعليم إلا بتزكية مرضية وثبوت أهلية"(13).‏

أما منهج التعليم ومواده المقررة، فكان يطلب من الصبي أن يحفظ القرآن الكريم كله أو بعضه عن ظهر قلب أو رواية واتقاناً، ويتعلم القراءة والكتابة والخط، ومبادئ الحساب الأولية.‏

وقد اهتم المربون المسلمون بتكوين الشخصية السوية لأطفال الكتاب بتعويدهم الكتابة للناس، وتعليم بعضهم بعضاً , وخاصة من خلال ذلك الصبي المتميز بعلمه , والمعروف بالعريف , وإملاء بعضهم على بعض , وإمامة من بلغ سن الاحتلام وصلح لإمامة غيره في صلاة الجماعة، مع ما في ذلك من اهتمام في التطبيق العملي لما يتعلمونه.‏

وقد يفرغ المعلم من تعليمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، فيعلمهم "مبادئ علوم الدين واللغة، أي أن النشاط التعليمي داخل الكتاب كان يمتد ليشمل تعليم الأطفال بعض الأحاديث النبوية وآداب الدين، ويعلمهم عقائد أهل السنة والجماعة، ومما يتناسب مع السن والفهم، وكذلك قواعد اللغة , وما يستحسن من المراسلات والأشعار , ويدرجه بذلك حتى يألفه طبعاً"(14).‏

أما تنظيم التعليم في الكتاب فقد قام الفقهاء بمحاولات تنظيمه قدر الإمكان، وأخضعوا الكتاتيب لشروط موحدة، بالإضافة إلى ما كانت تقوم به الدولة بالإشراف عليها , وعلى أنظمتها من خلال المحتسب , ومراقبته لها، والذي له الحق أن يمنع من لم تتوفر فيه الشروط اللازمة لممارسة المهنة.‏

وكانت الحياة في الكتاتيب "فطرية في الغالب" وأوقات الدراسة فيها كانت تحدد بعلامات طبيعية, فشروق الشمس كان بدء اليوم الدراسي , يطول ويقصر تبعاً لشروق الشمس، وأذان العصر"(15).‏

وأما بالنسبة للراحة والعطل المدرسية، فقد لوحظ اهتمام المسلمين بإعطاء الصبي قسطاً من الراحة بعد عناء الدراسة، فهذا ابن الحاج العبد ري (ت 737هـ/ 1336م) يقول "إن ذلك مستحب لقوله عليه الصلاة والسلام "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة" فإذا استراحوا يومين في الجمعة نشطوا لباقيها"(16). وهناك تعطيل في أيام الأعياد، وحالات المرض، والرياح والعواصف والبرد والمطر الشديد.‏

أما المعلم فإذا تغيب لشغل طارئ "فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك... كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفراً لا بد منه، قريباً اليوم واليومين، وما أشبههما فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بعد أو خيف بعد القريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك"(17).‏

أما تعليم البنات، فيبدو أن التعليم الابتدائي لم يكن مختصاً بالصبيان الذكور دون الإناث، بل إنه كان شاملاً للجنسين، لا سيما عند الأغنياء، وأصحاب المناصب العالية والعلماء، "فهذا القاضي الورع عيسى بن مسكين المتوفى سنة (275هـ/888م) كان يقرئ بناته وحفيداته. قال عياض: وكان من سيرة عيسى بن مسكين في غير مدة قضائه أنه كان إذا أصبح قرأ حزباً من القرآن، ثم جلس للطلبة إلى العصر. فإذا كان بعد العصر دعا بنتيه وبنات أخيه يعلمهن القرآن والعلم"(18).‏

ويبدو أن بعض الصبيان كانوا يستمرون في الكتاب إلى سن الاحتلام , ولهذا كان يخشى على الإناث من الفساد، ولذلك لم يمنع البنات من التعليم، وإنما منع اختلاطهن بالذكور، انطلاقاً من الغيرة على الأخلاق، وحفظ الدين، وأكبر دليل على انتشار التعليم بين الإناث تلك الأعداد الكبيرة من النساء الفقيهات، والشاعرات، والكاتبات... الخ.‏

أما الحياة الاجتماعية في الكتاب، فلم يسمح المسلمون أن تقوم عزلة وحواجز بين الكتاب والمجتمع، ولذلك فهو يتفاعل مع مجتمعه , ويشارك في حياته اليومية "فإذا مات عالم جليل أفاد العباد بعلومه , أو رئيس نفع البلاد بآرائه وأعماله، أو أمير عادل أنصف في أحكامه، أغلقت الكتاتيب أبوابها، وعطل الأحداث دراستهم يوم دفنه مشاركة في المصاب العمومي، وإظهاراً للتأسي وإجلالاً لخدمة الصالح العام"(19).‏

ويشارك الصبيان في القضايا العامة التي تلم بالمجتمع فيقول ابن سحنون: "إذا أجدب الناس , واستسقى الإمام , فأحب للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس –صلى الله على نبينا وعليه السلام- لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم , فتضرعوا إلى الله بهم"(20).‏

وقد تميز التعليم في الكتاب بالاهتمام بالآداب الاجتماعية حيث "يقوم المعلم بتأديب الأطفال , وتربيتهم التربية الصالحة , وتعويدهم العادات الحسنة، وتعليمهم كيفية احترام الناس , ومراعاة الذوق والأدب طبقاً للعرف الجاري، وأن يلقي السلام على من يدخل عليهم , أو يمر بهم من الناس، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما , وتقبيل أياديهما عند الدخول إليهما، ويضربهم على إساءة الأدب , والفحش من الكلام وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع"(21).‏

والملفت للنظر اهتمام الفقهاء المربين المسلمين بصحة الصبيان في الكتاب، فنصحوا بعزل الصبي المريض عن رفاقه حتى لا ينتشر المرض بينهم، يقول ابن الحاج العبدري: "ينبغي إذا اشتكى أحد من الصبيان وهو بالمكتب بوجع عينيه , أو شيء من بدنه، وعلم صدقه أن يصرفه (المعلم) إلى بيته ولا يتركه يقعد في المكتب"(22). وذلك ليترك لأهله الاهتمام به , والعمل على معالجته ؛ خوفاً من انتشار عدوى المرض بين الصبيان.‏

وطلب إلى معلم الصبيان منعهم من أكل الطعام والحلوى المكشوفة والمعروضة من قبل الباعة الجوالين "فلا يدع المعلم أحداً من البياعين يقف على المكتب ليبيع للصبيان، إذ فيه المفاسد إن اشترى منه"(23)، وبلغ الحرص عندهم لدرجة "ترتيب طبيب يحضر بالمكتب في كل شهر"(24).‏

ووصلت عناية المربين المسلمين بنظافة الصبيان في المكتب بأن أوجبوا عليهم أن يكون لمسح الألواح مكان طاهر نظيف، وأن يستخدموا الخرق الطاهرة لمسح الألواح، ولا يستخدموا البصاق بل الماء الطاهر، لأن البصاق فيه القذارة وعدم الاحترام للمادة المكتوبة على الألواح.‏

أما تمويل التعليم في الكتاب فكان يتم عن طريق ما يقوم به الآباء نحو أبنائهم، وما يدفع لمعلمهم من أجر مشاهرة، أو مسانهة ( أي معاملة بالسنة ) أو مقاطعة ( أي يقطعه مقاطعة مقابل تعليم الطفل ) أو بما يقوم به القادرون مادياً، نحو أقاربهم الفقراء وغير أقاربهم من أبناء المسلمين، مما يدخل في باب التكافل العلمي عند المسلمين.‏

ولقد أبرز التطبيق العملي لمبادئ الإسلام صوراً من التضامن الشعبي في مجال الخدمات التعليمية , مما رفع عن كاهل الدولة الصرف على التعليم وتمويله إلا في أضيق الحدود، ولعل ذلك كان سبباً للانتشار الواسع لمؤسسات التعليم الأولي في العالم الإسلامي.‏

المسجد ورسالته التربوية عند المسلمين:‏

نشأ التعليم ودروسه بنشأة الإسلام، فكان جماعة من الصحابة يعلِّمون في مسجد قباء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستخدمت المساجد للتدريس منذ العهد الأول. "ومسجد قباء هو أول مسجد بني في الإسلام ثم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم "(25) ويعد المسجد النبوي أول مكان علمي أنشئ في الإسلام، وقيامه قيام أمة الإسلام في المدينة، وتاريخ مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض جانباً كبيراً من تاريخ هذه الأمة.‏

وإذا دققنا في خطط القواعد الإسلامية الأولى نرى أن ظاهرة انتشار المساجد لم تكن وليدة الصدفة , بل كانت أثراً من آثار سياسة الدولة الإسلامية المرسومة لعمارة البلدان الإسلامية في البلدان المفتوحة، وترجع هذه السياسة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين كتب إلى ولاته في الأمصار أن يتخذوا مسجداً للجماعة(26).‏

ولقد انتشرت المساجد انتشاراً كبيراً جداً في أنحاء العالم الإسلامي، وقام الخلفاء والأمراء والأثرياء والعلماء والفقهاء ببناء المساجد في كل مدينة وقرية ؛ انطلاقاً من دعوة الآيات القرآنية لتعمير المساجد وبنائها وتكريمها , والاهتمام بها على اعتبار أنها إحدى الصدقات الجارية , ولارتباطها أيضاً بالشعور الديني الحماسي العارم عند المسلمين , وبخاصة في الفترات المتأخرة من العصر.‏

وارتبط تاريخ التربية الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بالمسجد، "ولهذا فالحديث عنه حديث عن المكان الرئيسي لنشر الثقافة الإسلامية، وقد قامت حلقات الدراسة في المسجد منذ نشأ، واستمرت كذلك على مرّ السنين والقرون، وفي مختلف البلاد الإسلامية دون انقطاع، ولعل السبب في جعل المسجد مركزاً ثقافياً هو أن الدراسات في سني الإسلام الأولى كانت دراسات دينية تشرح تعاليم الدين الجديد وتوضح أسسه وأحكامه وأهدافه , وهذه تتصل بالمسجد أوثق اتصال"(27).‏

لقد توسع المسلمون في فهم مهمة المسجد "فكان مصلى ومدرسة وجامعة وداراً للافتاء، ومنطلقاً للثوار والوطنيين في كل العصور، وبذلك لعب المسجد دوراً خطيراً في حياة المسلمين , وما يزال إلى اليوم مركزاً هاماً للوعي الإسلامي... ولم تقف وظيفة المسجد التربوية عند هذا الحد بل كانت أشبه بنواد أدبية , تثار فيها المسائل والمجادلات الأدبية واللغوية المختلفة، كذلك كانت مقصداً للقصّاص يجلسون فيها , فيقصون على الناس القصص التي تجمع بين العبرة والتسلية... وكذلك كانت المساجد مسرحاً للشعر العربي"(28).‏

والظاهرة الأولى من المظاهر التربوية في المسجد خطبة الجمعة التي هي "الدرس التربوي الأسبوعي للمسلمين , والتي تُلقى من على منبر المدرسة الأولى للمجتمع, وتلكم هي المسجد، ولأمر ما اقترن التعليم بالمساجد في نشأة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ؛ تجسيداً للعلم والإيمان وأهميتهما في بناء الفرد الصالح , والمجتمع الفاضل"(29).‏

والمساجد ملك للجماعة الإسلامية استخدمتها معاهد للتعليم "لأن العلم كان دائماً من اختصاص الجماعة، فلم تكن دول الخلافة أو دول السلاطين مسئولة عن التعليم حتى في عصر الراشدين , وإنما كان التعليم من اختصاص الأفراد والجماعة، فكانت الجماعة تتكفل بمعاش المعلمين , سواء كانوا معلمين صغاراً , يعلمون الصبيان القراءة والكتابة , ويحفظونهم القرآن، أو شيوخاً أجلاء يقرؤون علمهم على طلابهم في المسجد في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب , فلم نسمع أن الدولة قررت راتباً لمعلم أو شيخ إلا ابتداء من منتصف القرن الخامس الهجري( الحادي عشر الميلادي )عندما قامت المدارس"(30).‏

ولقد أدى استخدام المسجد كمعهد للعلم إلى تلك الخاصة الهامة التي امتازت بها الحضارة الإسلامية وهي الحرية الفكرية، فقد ارتاد مجالس المساجد العلمية الراغبون في العلم، والعلماء المسلمون من جميع أنحاء الدولة الإسلامية، وكان متاحاً في مجالسها لأي شخص من المستمعين أن يسأل العالم، وفي حال عجزه عن الرد وإقناع السائل، يفقد الثقة، ويضطر إلى ترك حلقته إما لينتقل إلى مسجد آخر، أو ليعد نفسه علمياً من جديد.‏

ولقد ضمنت مثل هذه المواقف "كفاءة العلماء من ناحية , وحرية أهل العلم من ناحية أخرى , فقد أصبحوا –بهذا- في امتحان ومحنة يوماً بعد يوم، ومن المؤكد أنه لو كانت الأمة تركت العلم لرجال الدولة لما ظل العلم في بلاد الإسلام دائماً في ذلك المستوى الرفيع، فقد كان على العلماء أن يواصلوا الدرس ؛ ليحافظوا على مكانتهم أمام الناس الذين يستمعون إلى دروسهم.

ولو تبنت الدولة العلم لفرضت على الناس -إذا شاءت- الأدعياء والدخلاء , وأفسدت العلم بذلك، ولو قعد العلماء للتدريس في دور بنتها لهم الدول , وتقاضوا أرزاقهم فيها لأصبحوا في عداد خدامها وحواشيها... ولكن الجماعة الإسلامية كلها كانت تشرف على القضاء , وتحافظ على تقاليده , وكانت ترعى العلم والعلماء وتحرص على أن تظل مؤسسة العلم –أو نظام العلم وأهله- في مستواها الرفيع من الجد والوقار والتعاون وحسن السمعة والإخلاص للعلم... وكان أكبر ما أعان الجماعة على المحافظة على سلامة مؤسساتها –كالقضاء والعلم- أنها كانت تملك المساجد , فوضعتها تحت تصرف القضاة وأهل العلم"(31).‏

وتبين الدراسة في المساجد أهم خصائص التربية الإسلامية ومبادئها من "البساطة ومساواة الفرص والحرية في التحصيل والارتباط والانسجام بين حاجات الدين وحاجات الدنيا"(32) والحرية المطلقة للمعلمين والمتعلمين في اختيار مناهج الدراسة وطرائقها، وأوقاتها..

وكان للمتعلم الحرية في أن يذهب إلى أية حلقة في المسجد، وإلى أي شيخ يأنس له ولعلمه، وإذا أتم علماً من العلوم عند شيخ من الشيوخ انتقل إلى الآخر، وقد يبدأ بدراسة علم ما , فيجد شيخه من خلال ما لديه من خبرة وحسن فراسة أن هذا المتعلم لا يصلح لهذا العلم , فينصحه أن يتخصص بعلم آخر هو أنسب له، وأكثر تلبية لحاجاته وقدراته.‏

ولقد اشتهرت مساجد وجوامع متعددة في العصر العباسي، وكانت قبلة أنظار العلماء والمتعلمين، ومن هذه المساجد في العراق جامع المنصور في بغداد، ومساجد الكوفة والبصرة، وفي الشام الجامع الأموي، وفي مصر جامع عمرو بن العاص، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وانتشرت في هذه المساجد الحلقات العلمية فلم تقتصر على الحلقات المتخصصة بالدراسات الدينية واللغوية , بل تعدتها إلى سواها من معارف ذلك العصر , كالفلك والحساب والطب وغيرها.‏

يقول عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ/ 1231م) "كانت سيرتي في هذه المدة أنني أقرئ الناس بالجامع الأزهر من أول النهار إلى نحو الساعة الرابعة وسط النهار, يأتي من يقرأ الطب وغيره، وآخر النهار أرجع إلى الجامع الأزهر فيقرأ قوم آخرون"(33).‏

ومن المؤكد أن تعليم الطب الذي يشير إليه البغدادي في الجامع الأزهر والذي مارس تعليمه هو الجانب النظري منه، لأن الجانب العملي التطبيقي ترك ليمارس في المدارس والبيمارستانات.‏

"ولا نزاع في أن الدراسات الدينية كانت أهم ما يجذب الطلاب , ويعنى به العلماء المعلمون في حلقاتهم، والتي كان نشوء نظامها في المساجد هو نشوء نظام في التخصص"(34).‏

أما الحلقات العلمية في المساجد فقد توالى ذكرها في كتب التاريخ والتراجم، بل يكاد لا يخلو تاريخ عالم من العلماء أو شيخ من الشيوخ، من الإشارة إلى (حلقة) له بمسجد من المساجد، وكانت تلك الحلقات منتشرة منذ العصور الأولى في المساجد الجامعة بالحجاز والشام والعراق ومصر والقيروان وقرطبة , وغيرها من المناطق والممالك الإسلامية وعواصمها ومدنها، وسمي الدرس (حلقة) لأن الطلاب كانوا (يتحلقون) أي ينتظمون في شبه عقد أو حلقة حول شيخهم وكانت الحلقة تضيق أو تتسع أو تتضاعف تبعاً لعدد الطلاب"(35).‏

فهذا محمد بن سليمان أبو بكر البغالي (ت 380هـ/ 990م) "كانت حلقته في مسجد عمرو العتيق تدور على سبعة عشر عموداً من كثرة من يحضرها"(36).‏

لقد كان الشيخ يتخذ مكانه في المسجد إلى جانب أسطوانة يستند إليها بظهره إن أمكن "وإذا اقترب أحد من هذه الحلقة سمع النداء: دوروا وجوهكم إلى هذا المجلس، وقد أحصى المقدسي في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة عشر مجلساً من مجالس العلم"(37).‏

وكان المتعلمون يجلسون حول الشيخ "على شكل دائرة إن كان العدد صغيراً بشكل كاف وبحيث يدع المعلم يشرح المادة بطريقة موحية بالألفة والدفء، ومشجعة للنقاش الحيوي بينما الطلاب يسجلون الملاحظات ويوجهون الأسئلة"(38). أما إذا زاد العدد فتتخذ الحلقة شكل نصف دائرة.‏

وقد سمي مجلس الشيخ أحياناً بالطاق أو المحراب، وقد تسمى الحلقة زاوية، فهذا ابن جبير في القرن السادس الهجري يشاهد في الجامع الأموي بدمشق للمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها طلبة المغاربة ولهم أجر معلوم(39).‏

ولقد أصبحت بعض المساجد وحلقاتها مطمحاً ومطلباً لبعض العلماء، ربما لما تعطيه للعالم من مكانة علمية أو اجتماعية، ورغبة في نشر العلم بين أكبر مجموعة من الجماهير المسلمة، فهذا الخطيب البغدادي يذكر أنه "لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله ثلاث حاجات: آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له" فالحاجة الأولى أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي"(40).‏

وبنتيجة للصراعات السياسية والمذهبية، سرعان ما جمعت المساجد بين الصبغتين العلمية والمذهبية، كما كان الحال بالنسبة للجامع الأزهر، والذي اختص في العهد الفاطمي بعلوم آل البيت، وتخصصه بمثل هذا النوع من المعرفة "كان نموذجاً شيعياً لتأسيس (المدرسة) في عالم السنة، فالمعهدان مظهران من مظاهر التنافس المذهبي في العالم الإسلامي، فيهما استخدمت وسائل التربية والتعليم لأغراض موازية متباينة، فالدعوة لمذهب من المذاهب تحت رعاية الدولة أصبح مألوفاً منذ بدء التنافس بين الفاطميين والعباسيين على السيادة في القرن الرابع الهجري"(41).‏

وكان المسجد مركزاً للتعليم العالي، وقد أثر في نمو العلوم وانتشارها لاتصاله بالدين وكونه مكاناً للعبادة، وكذلك فتح أبوابه ليتلقى الجميع العلم فيه، على اعتبار أن بيوت الله ليس لأحد عليها سلطان، ولا يحتاج الدخول إليها إلى استئذان، ويشعر الطالب فيها بالحرية واليسر أكثر مما هو الحال في منازل العلماء والحكماء ومجالسهم الأدبية والخاصة، فالمنازل محجورة على الناس إلا مَنْ أبيح له دخولها، ولها مكانتها واحترامها وأدبها.‏

ولقد عدَّ المسجد بمثابة مدرسة عالية وقسِّم طلبته إلى قسمين:‏

1 ـ طلاب منتظمون في الدراسة لا ينقطعون عن الدرس إلا بعد إتمام المنهج , والحصول على إجازة من الأستاذ المختص، وهؤلاء يتفرغون للعمل سنوات عدة , فيحضرون إلى الجامع من الصباح الباكر ينكبون طيلة النهار على الدرس.‏

2 ـ طلاب مستمعون غير منتظمين وهؤلاء يذهبون لاستماع بعض الدروس , كما نذهب نحن لاستماع بعض المحاضرات العامة دون تقيد بمنهج معين(42).‏

ولقد عمد الخليفة في فترة من فترات العصر العباسي إلى تعيين شيخ الحلقة، وكان بعض أصحاب النفوذ في الدولة يوجهون نظره بعض الأحيان إلى من يختاره، مع الإشارة إلى أن مكانة العالم العلمية والاجتماعية كانت تلعب دورها الكبير في اختياره للتدريس في المسجد.‏

ويعد الفقهاء "أكثر العلماء طلاباً، وكان ذلك طبيعياً لأن الفقهاء يعلمون العلم الذي يؤهل أصحابه لتولي مناصب يعيشون منها"(43). ولأهمية العلوم الدينية في ذلك العصر وبخاصة مادة الفقه. ولكن لو قورن عدد التلاميذ في ذلك العصر بما نراه اليوم لوجدناه صغيراً مما يدل على كثرة العلماء بالنسبة للتلاميذ.‏

ويرى أحد الباحثين "أن الطلاب يكثرون في حلقات المتكلمين لما يجري بينهم من مناظرات وكان الطلاب يختلفون إليها للفرجة والتعليم"(44).‏

ولا شك في أن مثل هذه المجالس تستهوي الناس فهي مثل من أمثلة الإقناع "وصورة بارعة للحركات العقلية المختلفة في الهجوم والدفاع والمداورة واستعمال الحيلة، والجمهور بطبيعته مأخوذ بمشاهدة مثل هذه الخصومات ومتابعة مثل هذه الحركات , متطلع دائماً لمعرفة نتائجها من ظفر هذا وانقطاع ذاك"(45).‏

ومن الوسائل التي كانت تعرف بها أعداد الطلاب "إحصاء محابرهم التي يضعونها أمامهم والتي كانت أهم عتاد الطالب"(46)، وكانوا يمسكون في أيديهم بالأقلام والأوراق للكتابة ويضعون أمامهم المحابر، "ويحضرون كتبهم في شيء يسمى قارورة , ولعلها سميت بهذا الاسم من قبيل الفكاهة"(47).‏

وحين نتوجه إلى تراجم بعض الفقهاء: أمثال أبي حامد الاسفرايني (ت 406هـ/ 1015م)، وأبي المعالي عبد الملك الجويني أمام الحرمين (ت 478هـ/ 1058م) وأبي الطيب الصعلوكي (ت 337هـ/948م)، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310هـ/ 922م)، يلفت نظرنا كثرة أعداد طلاب العلم الذين كانوا يرتادون حلقاتهم، فقد تحكمت شهرة ومكانة هؤلاء العلماء في الوسط العلمي من خلال إقبال متزايد من الطلاب عليهم، وبلغ الأمر ببعضهم أن قامت بينهم وبين طلابهم جسور من المحبة والثقة والصلات الطيبة ؛ لدرجة أنهم عمدوا إلى تقديم الأرزاق والمساعدات لهؤلاء الطلاب.‏

أما مواعيد التدريس في المساجد فقد راعى الفقهاء المربون المسلمون في تحديدها "مصلحة الجماعة في تقديم وقت الحضور وتأخيره إذا لم يكن عليه فيه ضرورة ولا مزيد كلفة"(48). ولم يكن هناك وقت محدد بالضبط لحضور الدرس في المرحلة العالية من التعليم، لأنه غالباً ما كان يرتبط ذلك بوقت المعلم، وربما كان أكثر الأوقات ملاءمة لإلقاء الدرس هو الصباح.‏

لكن هذه الأوقات تنوعت فمنها ما كان "صباحاً ومنها ما كان بعد العصر وقبل صلاة المغرب، وبما أن الطالب يقوم بدراسة أكثر من مادة واحدة في ذات الوقت , ويذهب إلى أكثر من معلم في نفس اليوم، فإن الوقت الدراسي كان من المرونة بحيث تناول اليوم بأكمله، ويحرص الطلبة على الوصول إلى مكان أستاذهم مبكرين"(49).‏

أما المدة الزمنية للدرس فيبدو أنها كانت قصيرة "وعادة تتراوح بين ساعة وساعتين حتى لا يمل الطالب أو يشعر بإرهاق، والدروس يومية ومتوالية، ولا يفصل بينها أي فاصل، ما عدا أيام الجمع والأعياد، وحين يهطل المطر غزيراً، وبعض الإجازات الأخرى المتفرقة"(50).‏

وقد يمتد وقت الدرس إلى المدى الذي "يراه الأستاذ وطلابه مناسباً ويتنوع على نحو شديد يبدأ من الاستشارة التي تعودها بعضهم، وقد لا يستغرق لحظة ويمكن أن يمتد ساعات طوالاً"(51).‏

ولم يكن هناك جدول خاص يعيِّن أوقات الدروس أو نوعها , ولكن في الغالب كانت تخصص ساعات البكور والذهن في حالة تهيؤ ونشاط لدراسة العلوم النقلية التي هي عماد الدين كالتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف وغيرها، أما بعد الظهر فتخصص لدراسة العلوم الأخرى التي تستند إلى العقل، أما المساء فجعلوه للاستذكار والحوار والتأمل.‏

ولكن ذلك لم يمنع أن تلقى دروس الفقه أو غيره من العلوم الأخرى في أي وقت من أوقات النهار، فقد ذكر المقدسي (ت 367هـ/ 1977م) "أن جامع عمرو كان بين العشائين مغتصاً بحلق الفقهاء وأئمة القراء وأهل الأدب والحكمة"(52).‏

وذكر القلقشندي (ت 821هـ/ 1418م) أن الفقهاء في الجامع الأزهر كانوا يتحلقون فيه يوم الجمعة بعد الصلاة إلى أن تصلى صلاة العصر , وكانوا يتكلمون في الفقه، وكان الطالب ينتقل من حلقة إلى أخرى تبعاً لنشاطه , وعدد العلوم التي يرغب في دراستها(53).‏

أما مدة الدراسة في المسجد، والعمر الذي يبدأ فيه المتعلم دراسته، فيرى ترتون TRITTON أنه تُفتقد الإحصاءات المتعلقة بأعمار الطلاب المسلمين في العصور الوسطى، ولم تصل إلينا سوى حالات نادرة، ويعتبر سن السادسة عشرة كبداية لدراسة العلوم في المساجد(54) أي في المرحلة العالية من التعليم.‏

لكن يبدو أن طالب العلم "لم يكن مقيداً بعدد خاص من السنين أو عدد معين من الكتب يتعين عليه قراءتها فكان له أن يترك الدراسة متى شاء، ولكن يغلب على الظن أن الطالب يحتاج إلى اثنتي عشرة سنة كي يتمم منهج الدراسة بالمسجد... بيد أن كثيراً من الطلبة قد شجعهم على طول الإقامة بالمسجد , والانقطاع لطلب العلم ما كان يدر عليهم من العطاء , ويجري عليهم من الأرزاق"(55).‏

أما لغة التدريس التي كان يستخدمها العلماء في المسجد، فلا شك في أن اللغة الأساسية هي اللغة العربية لغة القرآن الكريم، إلا أنه بعد الفتوحات الإسلامية دخل الكثير من الناس في الإسلام، وهم من شعوب مختلفة منهم الفارسي والرومي والزنجي... الخ، مما حتم على الفقيه أو المحدث اتباع شتى الوسائل لإيصال المعارف لأصحابها , وخاصة إذا كانت أداتها اللغة، فهذا "موسى بن سيار الأسواري كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها بالفارسية فلا يدري بأي لسان هو أبين"(56).‏

ولقد اهتم المربون المسلمون بمجالس الدرس في المساجد فوضعوا لها آداباً وأخلاقيات، وأصولاً ينبغي أن يتبعها العالم والمتعلم، مما يخلق أجواء نقية نظيفة تسودها العلاقات الإنسانية، والقائمة على بناء جسور الثقة والمحبة بين قطبي العملية التعليمية والتعلمية.‏

أما مصادر النفقات على المساجد والجوامع فقد تعددت، فالأوقاف قامت بدور كبير من أجل تدعيمها , وتمكينها من أداء رسالتها، ويمكن القول أن "قوة الشعور الديني أدت إلى ازدهار الأوقاف وانتشارها، كما أن ازدهار هذه الأوقاف أدى بدوره إلى تقوية الشعور الديني، واستمرار تدفق المشاعر الدينية عن طريق المؤسسات الدينية، ولقد تعددت الأمور الموقوفة من بلدان وضياع وأملاك وحوانيت، وتعدد المنتفعون من أئمة وخطباء وفقهاء ومدرسين وعلماء وطلبة ومؤدبين وقوام وفقراء"(57).‏

ولعبت الصدقات العامة والخاصة دورها إن كان لجهة ما يقدمه الخلفاء أو ما كان يعطى في مختلف المناسبات والمواسم، أو ما يعطى من فروض الزكاة.‏

أما الشيعة الأمامية "فقد تمتعوا بحرية نسبية في تعليم علومهم بمساجد عرفت بالعتبات الشريفة والمشاهد الخاصة بهم ؛ لأن فيها مراقد أئمتهم , وأخذت أهمية المساجد المذكورة تزداد شيئاً فشيئاً خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، ويعتقد الإمامية أن السكن والتدريس في المراقد المذكورة من الأمور المستحبة دينياً.‏

ويروي المفيد أن أحدهم قال: حدثنا محمد بن معقل قال: حدثنا أبي عبد الله بن جعفر الحميري عند قبر الحسين في الحائر سنة ثمان وتسعين ومائتين"(58).‏

ومن أهم المشاهد الشيعية: مشهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في النجف، ومشهد الإمامين الكاظم والجواد ببغداد (رضي الله عنهما)، ومشهد الحاير أو مشهد الحسين )رضي الله عنه) في كربلاء، ومشهد الإمام الرضا (رضي الله عنه) في طوس، ومشهد فاطمة (رضي الله عنها) في قم.‏

وقد لعبت المشاهد درواً تربوياً كمؤسسات تعليمية شيعية "مما دفع دونالدسن إلى القول إن الإمام الصادق وتلامذته كونوا شبه مدرسة سقراطية , وإن عدداً من تلامذته أسهموا إسهاماً كبيراً في تقدم علم الكلام وفنه"(59).

وقد احتوت هذه المشاهد على خزائن للكتب حتى إنّ كثيراً من العلماء أو أصحاب الخزائن الخاصة كانوا يوقفون كتبهم عليها.‏

-----------

الهوامش :‏

(1)فيليب. هـ. فينكس: فلسفة التربية، ص 51.‏

(2)عبد الغني عبود: في التربية الإسلامية، ص 110-111.‏

(3)محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، ص 70.‏

(4)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 46.‏

(5)عبد الغني محمود عبد العاطي: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، ص 121.‏

(6)شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (أبو شامة):‏

كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، ج1، ص 23.‏

(7)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 54.‏

(8)خطاب عطية علي: التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول، ص 72.‏

(9)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 50.‏

(10)أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام، ص 130.‏

(11)عبد الرحمن بن نصر الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص104.‏

(12)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 47.‏

(13)محمد بن محمد القرشي المعروف بابن الأخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 260.‏

(14)مجاهد توفيق الجندي: دراسات وبحوث في تاريخ التربية الإسلامية، ص 226.‏

(15)حسن عبد العال: التربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 185.‏

(16)ابن الحاج العبد ري: المدخل، ج2، ص 321.‏

(17)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين، ص57.‏

(18)القابسي: الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، ص 321

(19)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 57.‏

(20)ابن سحنون: آداب المعلمين، ص111.‏

(21)ابن الأخوة القرشي: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 261.‏

(22)ابن الحاج العبد ري: المدخل، ج1، ص322.‏

(23)المرجع نفسه: ص 313.‏

(24)عبد الغني محمود عبد العاطي: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك ص 145.‏

(25)المقريزي: الخطط، ج2، ص 246.‏

(26)المرجع نفسه: ص 247.‏

(27)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 102.‏

(28)علي الجمبلاطي، أبو الفتوح التوانسي: دراسات مقارنة في التربية الإسلامية ص19-20.‏

(29)اسحق أحمد فرحان: التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، ص29.‏

(30)حسين مؤنس: المساجد، ص34.‏

(31)المرجع نفسه، ص37.‏

(32)أسماء حسن فهمي: مبادئ التربية الإسلامية، ص 59.‏

(33)ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص68.‏

(34)عبد اللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، ص 36.‏

(35)أحمد فكري: مساجد القاهرة ومدارسها، ص 143-144.‏

(36)السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، ص451.‏

(37)المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص205.‏

(38) Bayard Dodge: Muslim Education in the Mediaeval Times, p. 8.‏

(39)ابن جبير: الرحلة، ص 245.‏

(40)ياقوت: معجم الأدباء، ج4، ص 16.‏

(41)عبد اللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، ص55.‏

(42)أسماء حسن فهمي: مبادئ التربية الإسلامية، ص 27.‏

(43)آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 296.‏

(44)شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الثاني، ص 229.‏

(45)طه الحاجري: الجاحظ حياته وآثاره، ص106.‏

(46)آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 296-297.‏

(47)المرجع نفسه: ص297.‏

(48)ابن جماعة الكناني: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص44.‏

(49)محمد عبد الحميد عيسى: تاريخ التعليم في الأندلس، ص 353.‏

(50)خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ص142.‏

(51)المرجع نفسه. ص 142.‏

(52)المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 205.‏

(53)القلقشندي: صبح الأعشى، ج3، ص367.‏

(54) Bayard Dadge: Muslim Education in the Mediaeval Times, p.8.‏

(55)خطاب عطية علي: التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول، ص138-139.‏

(56)الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1، ص193.‏

(57)محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، ص 243.‏

(58)عبد الله فياض: تاريخ التربية عند الإمامية وأسلافهم من الشيعة بين عهدي الصادق والطوسي، ص71.‏

(59)المرجع نفسه: ص75.‏

المصدر : مجلة التراث العربي(مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق ) العدد 39 و 40 - السنة العاشرة - نيسان وتموز "ابريل ويوليو" 1990 م - شوال 1410 ومحرم 1411 هـ

=================

الرِّدة بين الصراع الحضاري وُسنَّة التدافع

(الشبكة الإسلامية)

أثار حادث الردة للمواطن الأفغاني الطبيب " عبد الرحمن " ضجة في الأوساط الإسلامية - بعد أن تبين أنه قد تنصر أثناء عمله لصالح جماعة إغاثة للاجئين الأفغان في باكستان قبل 15 عاما- أحدثت الردة والتعامل الغربي معها ضجة في الوسط الإسلامي، ليعود الحديث حول علاقتنا بالغرب ومحاولة فهم وجهة نظر الغرب إلى قضايانا .

أولاً : حادث الردة يبين مدى خطورة جمعيات الإغاثة الغربية التي تعمل في المناطق الإسلامية، ويُظهر بوضوح أن التنصير هو الهدف الحقيقي لهذه الجمعيات وليس الإغاثة، كما ٌيظهر الخطر الكبير الذي يتعرض له المسلمون اللاجئون الذين تعمل بينهم هذه الجمعيات بعد أن تم التضييق على عمل جمعيات الإغاثة الإسلامية من قبل الأنظمة الحاكمة بدعوى محاصرة الإرهاب.

ثانياً : فضحت حادثة الردة للمواطن الأفغاني السلوك الغربي عموما تجاه القيم التى يدعو إليها من المساواة والحرية واحترام القانون، فقد مارس عدد من الدول الغربية ضغطا على أفغانستان وعلى رأسها الولايات المتحدة بعد أن تعهد الرئيس بوش باستخدام نفوذ بلاده على أفغانستان لضمان "حق عبد الرحمن في اختيار دينه"، كما وأعربت عدة دول تنشر قوات في أفغانستان، من بينها كندا وإيطاليا وألمانيا وأستراليا، عن قلقها بشأن هذه القضية، وكانت وكالة الأنباء الإيطالية قد ذكرت السبت 25-3-2006 أن "بابا الفاتيكان وجه رسالة إلى الرئيس الأفغاني عبر وزير خارجيته الكاردينال أنجيلو سودانو تدعو إلى احترام حقوق الإنسان ". إن هذا الضغط على الحكومة الأفغانية كان السبب المباشر وراء الإفراج عن المرتد "عبد الرحمن " رغم أن الدستور الأفغاني الجديد الذي رعته الولاايات المتحدة ونال رضاها ينص على عقوبة الإعدام جزاء جريمة الارتداد عن الدين الإسلامي.

ثالثاً : فتحت كل الدول الغربية أذرعها ليعيش على ثراها وتحت رعايتها المرتد الأفغاني حيث صرح رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو بيرلسكوني ان "المرتد الأفغاني" الذي اعتنق المسيحية وصل الى روما الأربعاء 29-3-2006 بعد ان منحته الحكومة الايطالية اللجوء السياسي .

رابعاً : يبدو هذا الترحيب الذي لقيه المرتد منطقيا ومتوافقاً مع القيم الغربية " فقط " في حالة الارتداد عن الإسلام كشرط للجوء والعيش هناك، أما إذا لجأ إليهم مهاجر فقير متمسك بدينه، حينئذٍ تبدو القيم الحقيقية للغرب وسأضرب هنا مثلا بالمهاجرين دليلا على ما أقول : فحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، فإن أسبانيا تحتاج إلى 12 مليون مهاجر بحلول سنة 2050، وبمتوسط 240 ألف مهاجر سنويا لكي تحافظ على معدلات نموها الاقتصادي الحالي، رغم ذلك فقد جاء في تقارير لجمعيات ومنظمات حقوقية: إن أكثر من 10 آلاف شخص لقوا حتفهم غرقا في مضيق جبل طارق أثناء محاولاتهم الهجرة إلى أوربا عبر القوارب خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية فقط، كما أن وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي قد صرح الجمعة 9-9-2005 أنه تم طرد نحو 13 ألف أجنبي في وضع غير شرعي من فرنسا خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2005، داعيا إلى تسريع عمليات الطرد.

خامساً : حتى نفهم العلاقة مع الغرب لابد أن ننظر في موضوع الصراع بين الحضارات الذي هو موضوع غربي بامتياز حيث يعود إلى العصر اليوناني والروماني اللذين سادت فيهما مفاهيم الصراع بدلالاتها المتعددة ومعانيها المتنوعة، انطلاقاً مما كان يعرف في الفكر اليوناني القديم من عقيدة " صراع الآلهة " و" صراع القوة والضعف " و" صراع الخير والشر "، و" صراع الإنسان مع الطبيعة " و" صراع الإنسان مع الآلهة "، كما لا يخلو " العهد القديم " من روح الصراع هذه، فالصراع إذن أسٌّ من الأسس الثابتة التي قامت عليها الحضارة الغربية، وإذا تأملنا اليوم الوضع الدولي العام، وجدنا أن نظام العولمة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتسعى إلى فرضه على العالم عبر مجموعة من التدابير والأنظمة يُراد تطويعُها وصبّها في قالب دولي للدفع بنظام العولمة إلى اكتساح المواقع وفرض الوجود على العالم كلّه، وجدنا هذا النظام تعبيراً عن فكرة الصراع وانعكاساً لروحها، كما أن الحرب على الإرهاب وفق المنظور الأمريكي، تحولت هي الأخرى إلى حرب من أجل الهيمنة والتسلّط، وفرض المفهوم الأمريكي لصراع الحضارات بالقوة.

سادسا : رغم أن الغرب هو الذي أنشأ ورعى ويصدر مفهوم الصراع الحضاري إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا المفهوم حتمي الحدوث؟ كما بشر بذلك صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، الذي صدر في عام 1996م وفرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً "نهاية التاريخ"؟

الإجابة هنا هي النفي المطلق، ومن هنا يأتي دورنا كمسلمين في تعميق مفهوم "التدافع الحضاري" كسنة ربانية بديلا عن مفهوم الصراع الغربي، وليس يعني ذلك أن الحياة ستسير وفق خط بياني صاعد ومطّرد تتحقق فيه المصالح والمنافع للناس كافة في جميع الأحوال وتترقى ذواتهم، وأن الخير والشر لا يتصادمان، وإنما القصد من ذلك أن التدافع يُبطل الصراع، وأن الخير يغلب على الشر، وأن الحضارات تَتَواصَلُ وتَتَلاقَحُ وتَتَدافَعُ، وأن قيم الخير والعدل والفضيلة ومكارم الأخلاق والسلام في النفس وفي الأرض هي مقوّمات الحضارة التي تخدم الإنسان، وأن الحق والعدل هما قاعدتا الحضارة التي يسعد الإنسان في كنفها ويُبدع ويعمّر الأرض ويصلح ولا يفسد، فإن الصراع حالةٌ عارضةٌ، وهو شذوذٌ عن القاعدة، وليس طبيعةً من طبائع الحضارات، لأنه يَتَنافَى والفطرة الإنسانية، وهو نقيضُ " التدافع الحضاري " الذي قامت الحضارة الإسلامية على أساسه، وهو إلى ذلك كلِّه، البديلُ الموضوعيُّ للفوضى التي تسود الأوساط الفكرية والسياسية في العالم اليوم، من جرّاء شيوع مفاهيم مغلوطة ورؤى مشوّشة وتحليلات مغرضة تدفع بحركة الفكر العالمي وبالسياسة الدولية على وجه العموم، نحو مناطق مجهولةٍ محفوفةٍ بالمخاطر التي تتهدَّد الإنسانية في حاضرها وفي مستقبلها.

سابعاً : وإن كان هذا الأفغاني قد أعلن ردته فإن المشكلة تكمن فيمن هم على شاكلته ولكنهم لايعلنون ردتهم ليظلوا شوكة في خاصرة المجتمعات المسلمة، كذلك لن يستطيع الغرب أن يجرنا إلى مفهومه لصراع الحضارات ولكننا سنظل أوفياء لقيمنا وسندعوهم " للتدافع الحضاري " و" التفاعل الحضاري ".

وأخيرا : فإنني أهدي الغرب هذه الوثيقة التاريخية مثالا على تطبيقنا لمبادئنا التي عشنا لها وسنموت من أجلها، " من جورج الثاني ملك انجلترا والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام .. بعد التعظيم والتوقير نفيدكم أننا سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة .. فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر ربوع العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الانجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل ... أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص .." من خادمكم المطيع / جورج الثاني".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصريون: صبري السيد (بتصرف يسير)

================

حضارتنا وحضارتهم

(الشبكة الإسلامية) الشيخ/ عبد الرحمن السديس

إن صناعة الأمجاد وبقاء الأمم يكمن في خلود الحضارات، وسر بقاء أمجاد الشعوب وخلود حضارات الأمم يكمن في مجموعة عناصر رئيسة، يأتي في طليعتها عقيدةٌ إيمانية، ومُثُلٌ وقيم أخلاقية، والمتأمل في تأريخ الحضارات الإنسانية يجد أنها تعيش تقلبات شتى، بين ازدهار وانحدار، وقيام وانهيار، بل لعل بعضها كُتب لها الاضمحلال والدمار، لفقده عناصر البقاء والاستمرار.

وأنبل حضارة عرفها التأريخ البشري هي حضارتنا الإسلامية، فما الحضارة الغربية اليوم إلا نتاج اتصالها بحضارتنا الإسلامية في الأندلس وغيرها، بيدَ أن سبب إفلاسها اعتمادها على النظرة المادية في منأى عن الدين والأخلاق، مما كان سببًا في شقاء الإنسانية، وما كثرة حوادث الانتحار والاضطرابات النفسية والانحرافات الخلقية إلا انحدارٌ سحيق وتردٍ عميق في هُوّة فنائية كبرى، يتنادى في قعرها العقلاء لاستدراك ما فات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.

معاشر المسلمين:

لقد تعرّت حقائق الحضارة الغربية واهتزت مصداقيتها في الاضطلاع بالمؤهلات التي تؤهلها لقيادة العالم نحو إسعاد الإنسان، وتحقيق استقراره، وضمان حقوقه، ورعاية مُثله الإنسانية الرفيعة، وقيمه الأخلاقية العليا، ليحصل له الأمن المنشود، والحياة الكريمة المبتغاة، وليس هناك من يستطيع النهوض بالمشروع الحضاري العالمي إلا أمةٌ واحدة، هي أمة الشهادة على الناس، ( وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ) [البقرة: 143]، أمة الرحمة للعالمين، (وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ) [الأنبياء:107]، أمة الخيرية على العالم، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ) [آل عمران:110]، أمةٌ التمكين في الأرض، (ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَاتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأمُورِ) [الحج:41].

ولا غرو ـ يا رعاكم الله ـ فسلفنا هم بناة صرح الحضارة الإسلامية، وحملة مشعل الهداية الإيمانية، ورافعو لواء السعادة لعموم البشرية، وذلك تاج متألق وعطاء متدفق، ونور متلألئ في جبين أمتنا الإسلامية، لمميِّزات حضارية، وخصوصية دينية لم يشرف بها إلا من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد )نبياً ورسولاً.

إخوة العقيدة:

وأول هذه المميزات الحضارية وركيزتها عقيدة التوحيد الخالصة، عقيدةٌ تحث على العلم، وتحترم العقل، وترعى الخُلق، وتسعى إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ورعاية حقوق الإنسان في حفظ دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه، وتربي الضمير، وتعلي الروح الإيجابية البناءة، وتحض على التوسط والاعتدال والرفق واليسر والتوازن والعدل والرحمة، ومهما قال المتحذلقون عنها فقد قال الحق تبارك وتعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33].

وإن أحدًا من المنصفين لا ينكر أنه لم يشهد العالم حضارة أكثر منها رحمة بالخلق، وسموًا في الخلُق، وعدالة في الحكم على مر الدهور وكر العصور، ويوم أن سقطت الحضارات الموهومة في مستنقعات المادية، وعانت من الأزمات الأخلاقية حتى غرقت في أوحال التمزّق والضياع، فإن أمتنا الإسلامية هي الجديرة بإمساك زمام القيادة، وامتطاء صهوة السيادة والريادة على العالم، وحينها فلن تتخذ من التقدم الحضاري أداةً لاستغلال الشعوب، واستنزاف خيراتها، وإهدار كرامتها، ولن تتخذ من الاكتشافات والاختراعات طريقًا إلى الإلحاد ودعم الإرهاب، ولن تتخذ من الآلات العسكرية والتقانات الحربية ذريعة إلى تهديد أمن الدول والشعوب، والعمليات الهمجية والوحشية والبربرية، ولن تُسخِّر وسائل الإعلام وسائل لتضليل الرأي العام والشارع العالمي والمحيط الدولي، وتلك أعباء حمل الرسالة الإسلامية لإنقاذ البشرية وإسعاد الإنسانية التي تتيه اليوم في أنفاق مظلمة من الظلم والشقاء.

إخوة الإيمان:

ولقد تركت حضارتنا الإسلامية آثارًا خالدة في مختلف النواحي العلمية والخلقية وغيرها، وحققت دورًا عظيمًا في تأريخ تقدم الإنسانية، وخلّفت آثارًا بعيدة المدى قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارات الحديثة، وليس هذا من المبالغة في شيء، ولا ضربًا من التفاخر الكاذب والادعاء المذموم، بل ِسجِلّ التأريخ ناصح بأحرف من ذهب ومداد من نور، وإليك أيها المنصف بعض الشواهد الواقعية والنماذج الحية من تأريخ حضارتنا المشرق الوضاء، الذي ينضح عدلاً ورحمة وإنصافًا حتى مع المخالف، واسمع وقارن، فما أشبه الليلة بالبارحة.

ففي نزعة حضارتنا الإنسانية يُعلن الإسلام المبدأ الإنساني الخالد: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ) [الحجرات: 13] لينقل الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية، والتفرقة والعصبية، والتمييز العنصري إلى المساواة والتعاون الذي لا أثر فيه لاستعلاءٍ عرقي أو عنصري، ويتجلى ذلك في مبادئ حضارتنا وتشريعاتها وواقعها.

وقد زخرت كتب السير والتأريخ بوقائع كثيرة، هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يرى مرة في السوق شيخًا كبيرًا يسأل الصدقة، وكان يهوديًا من سكان المدينة، فيسأله (عن حاله، وإذا بعمر المسلم الإنساني الملهم يقول له: (ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك شيخًا)، وأخذ بيده إلى بيته، فقدم له من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال أن افرض له ولأمثاله ما يغنيه ويغني عياله.

الله أكبر، هذا ـ لعمرو الحق ـ من شواهد الروعة الحضارية في تأريخ أمتنا المجيد.

معاشر الأحبة:

وفي مجال النظرة إلى المخالف أعلنت حضارتنا الإسلامية مبدأ الإنصاف، وحسن التعامل، والدعوة إلى الله بالحسنى، مؤكدة الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، (لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ) [البقرة:136]، مع الحرص على مبدأ الحوار والإقناع، (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، (وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]، مع التأكيد على الأخذ بقاعدة سد الذرائع في عدم سبّ آلهتهم، حتى يكون لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، والحرص على المصاحبة بالمعروف، وحسن الجوار، وكريم المعاملة، فقد كان لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام جيران من أهل الكتاب، فكان يزورهم ويتعاهدهم ببره، ويقبل هداياهم، وما كتاب أمير المؤمنين عمر لأهل إيليا، وإعطاؤهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأماكن عباداتهم، وإجابتهم لاشتراطهم أن لا يساكنهم فيها يهودي إلا أنموذج رائعٌ يحمل مغزى عميقًا في آثار حضارتنا الإسلامية، مما دعا كثيرًا من منصفيهم إلى الاعتراف بأن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم، والفضل ما شهدت به الأعداء.

أمة الإسلام:

وثمة جانب مشرق في حضارتنا الإسلامية ألا وهو جانب أخلاقنا الحربية، فقد أشرقت شمس حضارتنا والعالم كلُّه تحكمه شريعة الغاب، حتى تردّى إلى عالم الوحوش الكاسرة، فوضعت حضارتنا الضوابط الحربية محرِّمة الحرب للنهب والسلب، وإذلال كرامة الشعوب، وسحق المجتمعات، وجعلت لها غايات نبيلة، منها الدفاع عن عقيدة الأمة وأمن المجتمع وردّ عدوان المعتدين، (وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]، فالحرب لا تنسينا مبادئنا، ولذلك جاءت الوصايا الكريمة حينما يشتد الوطيس: (لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا شيخًا ولا وليدًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)، جاء هذا في وصية أبي بكر الصديق حينما أنفذ جيش أسامة رضي الله عنهما.

وأبلغ من هذا رسول الإسلام ، يخرج من معركة أحد جريحًا قد كُسرت رباعيته، وشُج وجهه، فيقول له بعض الصحابة رضي الله عنهم: لو دعوت عليهم يا رسول الله، فقال: ((إني لم أُبعث لعانًا، ولكني بُعثت رحمة للعالمين، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون))، وهكذا قال يوم الفتح: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، ورأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فغضب وقال: ((ألم أنهكم عن قتل النساء؟! ما كانت هذه لتقاتل)).

ويمضي تأريخنا المجيد مسجلاً هذه الروائع، ففي حروب التتار وقع بأيديهم كثيرٌ من أسرى المسلمين وأهل الذمة، فتدخل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فك الأسرى، فأجابه الوالي إلى فكّ أسرى المسلمين فقط، فأبى شيخ الإسلام ذلك، وقال: "لا بد من افتكاك الجميع، من أهل ديننا وأهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة"، وهكذا تعامل حضارتنا الأسرى من المسلمين وغيرهم.

ولما فتح صلاح الدين رحمه الله بيت المقدس كان فيها ما يزيد على مائة ألف من غير المسلمين فبذل لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم، وسمح لهم بالخروج منها لقاء شيء يسير يدفعه المقتدرون منهم، ومن لا يقدر من الفقراء ففداؤه عليه رحمه الله.

هذه حضارتنا في روائعها، فما هي حضارتهم في شنائعها وفظائعها؟ وما يوم حليمةَ بسرّ.

حكمنا فكان العدل فينا سجيةً فلما حكمتم سال بالدم أبطَحُ

وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح

لقد شهد التأريخ المعاصر وحشية القوم وإرهابهم على الرغم من الشعارات البراقة التي تُمتهن عمليًا في كل لحظة، ورغم العهود الدولية والمواثيق العالمية التي تنادي بحقوق الإنسان في مواثيق موهومة وديمقراطيات مزعومة، تخرقها جرائم بشعة أمام سمع العالم وبصره، ولا يُغفل التأريخ المخازي النكراء في التعصب ضد المسلمين في الحروب الصليبية وفي الأندلس وفي الواقع المعاصر، مما يطأطئ رؤوسَهم خجلاً وحياءً، بل إن مخازيهم في الاضطهاد، والتعصب لا يطمرها التأريخ، وما أفعال النازية ومآسي محاكم التفتيش بخافية على أهل الإسلام، بل لا نذهب بعيدًا فهذه أحقادهم في الحربين العالميتين مهما أعلنوا في المحافل الدولية وفي مواثيق هيئة الأمم الحديثة إنسانيتهم، وهم على أرض الواقع يمارسون وحشيتهم وضراوتهم، وإن التخلق يأتي دونه الخُلُق.

إنها شعارات تختبئ وراء شعار السلام والاستقرار، وهي تزرع الإرهاب والاستعمار، وقد كشفت الأحداث العالمية والمجريات الدولية وزر قسوتهم، مما يؤكّد على مر العصور أنهم سفّاكو الدماء ووحوش التعصب وعبيد القسوة. فكيف تُشَنّ الحملات الإعلامية المغرضة ضدَّ الإسلام والمسلمين متهمة إياهم بالإرهاب والوحشية وهذه شنائعهم؟!

ولن ينسى الغيورون على أوضاع أمتهم مذابح صبرَا وشاتيلا، ومجازر قانا، وعناقيد الغضب الصهيوني ضد إخواننا في فلسطين المجاهدة، حيث تتحدث الحجارة هناك.

سكت الرصاص فيا حجارةُ حدثي أن العقيدة قوة لا تُهزَم

ولقد سقطت الأقنعة عن الإعلام الغربي المعاصر حينما تأكد للمراقبين أن أكثر وكالات الأنباء وقنوات الفضاء العالمية تسيطر عليها المنظمات الصهيونية، بل إنها تُمثِّل دُمى في يد اللوبي الصهيوني العالمي، وإذا بطل العجب في ذلك فالعجب من الإعلام المتصهين، الذي لا يمثل إلا أبواقًا ناعقة تجيد التلفيق المكشوف والاستهلاك المذموم، وإنها دعوةٌ حرّاء لرجال الإعلام في عالمنا الإسلامي للتفاعل والإيجابية، والنهوض من الركود والسلبية، والتخلص من النمطية والغثائية، وتسخير هذه الوسائل لبيان روائع حضارتنا الإسلامية، كما يجب التثبت والتبين، وعدم الركون إلى الإثارة والاستفزاز والمساس بالثوابت، في ظل تداعيات العولمة والحملة على الإرهاب.

لا بد من ضبط المصطلحات حتى لا يُخلَط بين الإرهاب المذموم والمقاومة المشروعة، وحتى لا يُتَّهم الأبرياء من حملة الشريعة ودعاة الإصلاح في الأمة وأهل الخير والحسبة والمؤسسات العلمية والدعوية والإغاثية والخيرية بدعوى مكافحة الإرهاب، وما الإرهاب إلا ما في جعبة القوم.

والسؤال المطروح على الرأي العام العالمي وعلى وسائل الإعلام الغربية: هل ما يجري على أرض فلسطين وما تمارسه إسرائيل الحاقدة يتمشى مع الحق والعدل والإنسانية؟ وإذا لم تكن ممارسات الصهيونية في فلسطين إرهابًا فما هو الإرهاب إذًا؟! مما يتطلب اضطلاع هذه الأمة بالمشروع الحضاري الكبير في قيادة دفة العالم إلى برّ الأمان وساحل النجاة في عالم يموج بالتحديات، ولا مكان فيه للضعفاء، بل الضعفاء فيه والمسلمون هم المتهمون والضحايا، والغير هو الخصم والحَكَم.

فالبدار البدار عباد الله، والحِذار الحذار أمة الإسلام، (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].

وجوب إخلاص النية

في ظل فكرة القيام بالمشروع الحضاري الإسلامي يجب أن تُخلَص النيات، وتحسن المقاصد، وتتحقق الوحدة الإسلامية بالاعتصام بالكتابة والسنة، وتصفو القلوب من غوائل الأحقاد والهوى، وتتربى الأجيال على العلم الشرعي، والتلقي من العلماء الراسخين، وينشغلوا بالمهمات والأوليات، لا بد من إعادة النظر في المواقف والسياسات، وفتح صفحة المحاسبة والمراجعات، حتى يُفوِّت أهل الخير في الأمة الفرصة على المصطادين في الماء العكر، الذين سيقفون أمام مشروع الأمة الحضاري من أولئك المنهزمين المخدوعين ببريق حضارة القوم، حتى سلبتهم الثقة في أنفسهم وأمتهم، وحتى أصبحوا متسولين على موائد الغرب الثقافية وأطروحاته الفلسفية، فانبرى بعضهم بأقلام مأجورة للمساس بثوابت الأمة في عقيدتها وأخلاقها، فاهتزت عقيدة الولاء والبراء عندهم، ونالوا من مكانة حجاب المرأة المسلمة، واستخف بعضهم بثقافة المسلمين ومناهجهم التعليمية الشرعية، فنعقوا بأصوات ببَّغاوية بالتغيير والتبديل، بدعوى التجديد والتطوير زعموا، وكثر المفتونون بسامريِّي عصرنا وعجلوهم من الثقافات الوافدة، والأطروحات المغرضة، وفي خِضم هذه الأحداث الحوالك ينطلق صوت مدوٍّ من أرض الجزيرة أرض الرسالة والهداية أرض الحرمين الشريفين حرسها الله، مُعلنًا أن لا مساومة على الدين والعقيدة، فشفى بحمد الله صدور المؤمنين الغيورين، وسد الطريق أمام المغرضين المبطلين، لتسير سفينة المجتمع في أجواء آمنة في عالم متلاطم الأمواج، كل ذلك بفضل الله، ثم بفضل ربّان مهرة، قادوا فأحسنوا القيادة، وبنوا فأبدعوا في البناء، فدعوات الأمة لهم بالتسديد والتوفيق، وأن يفرج الله الغمة عن هذه الأمة، وذلك لا يكون بالركون إلى الأحلام الوردية، وإنما بالنزول بخطى متوازنة إلى ميدان الصلاح والإصلاح، وأن يتفرغ الجميع للبناء الحضاري في كل الميادين، والله المسؤول أن يوفق الجميع لما فيه الخير في الحال والمآل، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.

================

فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية

(الشبكة الإسلامية) د . هناء إسماعيل ( مجلة الحج والعمرة )

عندما جاء الإسلام اهتم العرب منذ فجره بشتى ضروب المعرفة والعلوم، وصاحب الانتصارات الحربية الرائعة، تقدم الثقافة وازدهار الفكر على صعيد جميع العلوم والمعارف النظرية التطبيقية بالإضافة إلى مختلف الفنون والصناعات.

وكان الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة الإسلامية بالعلم والعلماء عاملاً هيأ الظروف الملائمة لانتشار التعليم، فما لبثت العلوم والطب أن اكتسيا ثوبًا جديدًا، بل نفخت فيهما الروح من جديد. فلقد شجع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نفسه دراسة الطب وقال: "تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم"[رواه أبو داود].

حافظ العلماء المسلمون على تراث المعرفة الإغريقية فاحترموه وقدروه ونهضوا به وطوروه، وكان ذلك إسهامًا عظيمًا في تقدم الطب، فقد ترجم المسلمون إلى العربية مؤلفات جالين وغيره، ووزعوها على المراكز العلمية في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، فكان لهذا العمل العظيم والجليل فوائده العلمية الكبيرة والجمة.

وقد أسهم ولاة المسلمين كذلك في نهضة علم المعالجة بالعقاقير، بل يعتقد الكثيرون أن الكلمة الإنجليزية Drug المرادفة للعقار الطبي، مشتقة من أصل عربي، كما هو الحال في آلاف المصطلحات الأخرى.

كذلك أنشأ الولاة المسلمون المستشفيات التعليمية الكبيرة والمستوصفات العامة في سائر أنحاء الدولة الإسلامية.

ومن حسن حظ العلوم الطبية أنها حظيت بالنصيب الأوفى بفضل هذا التشجيع المعنوي والمادي من الخلفاء وأولي الأمر والثراء، لاسيما خلال الحقبة الواقعة بين الأعوام 800 – 1200م.

وهذا الازدهار شمل جميع الدول الإسلامية من الشرق في الشام إلى الغرب في الأندلس، وكان لمصر الإسلامية النصيب الأكبر في هذا التقدم الحضاري، فقد أعطت لدنيا العلوم الطبية الكثير، واعتبرت أحد ينابيع الفكر العربي.. فقد أعطت ما لم تعطه الولايات الإسلامية الأخرى حضارة وعلمًا وفنًّا وفكرًا وابتكارًا، فبعد أن من الله عليها بالفتح الإسلامي سنة 21هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقت حضارة العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية بحضارة الفراعنة التي تسلمها أبناء النيل، وقد عكس المسلمون ضوء الشمس الغاربة للحضارات الفرعونية واليونانية، وكان لهم فضل الحفاظ على العلوم الطبية؛ لأن الرومان لم يحسنوا القيام على هذا التراث، بينما العرب المسلمون تسلموه وأتقنوه وأبدعوا فيه وأضافوا إليه.

كان هذا الالتقاء الحضاري نتيجة مباشرة في دفع عجلة التقدم في شتى ميادين العلوم والمعرفة والصناعات والنظم الإدارية، كما صاحب الفتوح الإسلامية إنشاء المدارس، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية مدارس الطب، فمنذ قيام الدولة الإسلامية كانت المساجد معاهد عامة لتعليم الشريعة فضلاً عن أنها دور للعبادة، وكان أول معهد هو الذي أنشأه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، بعد هجرته في السنة الأولى.

وبمرور الزمن أصبحت المساجد كلها جامعات إسلامية، وصار اسم المسجد "جامع"، واليوم نحن نسمي مؤسستنا العلمية الكبيرة الشاملة بمؤنث "جامع" أي "جامعة"، وأصبح يدرس فيها مختلف علوم الدنيا والدين .

واشتهر عمر بن منصور البهابري، ومحمد بن عبد الله المصري، بتدريس الطب في الجامع الطولوني الذي أنشاه أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية في مصر في خلال القرن الثالث الهجري، كما اشتهر عبد اللطيف البغدادي الذي كان يدرس الطب في الجامع الأزهر (وقد أنشأ في زمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس الدولة الفاطمية في مصر، خلال القرن الرابع الهجري).

كما أُنشئت بيوت الحكمة (أي خزائن الكتب) لجمع الكتب من مختلف العلوم لحفظها وترجمتها، وكانت أول دار حكمة هي دار الحكمة القياسية، التي أنشئت في زمن هارون الرشيد (القرن الثاني الهجري)، وجمع له البرامكة كتب الهند القيمة، وكتب فارس، واليونان، ونشطت حركة الترجمة، وفي عصر المأمون في أول القرن الثالث الهجري، فأصبحت دار الحكمة أكاديمية للبحث العلمي في مختلف العلوم، وخصوصًا العلوم الطبية، وأضاف العرب علومهم إلى ما ترجموه من علوم الأمم الأخرى.

ولما انتشرت العلوم وازدادت المؤلفات، وبلغ شغف الناس بالعلوم مبلغًا كبيرًا لم تعد دور الحكمة تفي بالغرض، فأنشئت دور العلوم لتلقى فيها المحاضرات، وأولها دار علم الموصلي (في القرن الثالث الهجري).

ثم ظهرت المدارس التي أنشئت عن طريق الأساتذة والأثرياء، وابتدأت بدار يجتمع فيها الأستاذ مع طلابه، وأقدم مدرسة هي مدرسة أبي بكر بن فورك الأصبهاني (القرن الخامس الهجري) في نيسابور، وكانت تدرس فيها مختلف العلوم، ثم أصبحت تلك المدارس "حكومية"، وأول مدرسة حكومية هي المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك (في القرن الخامس في بغداد وخراسان).

وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين هم أول من جعل التدريس من واجبات الدولة، وأول من عرفوا تأميم الطب والعلاج.

ويعد الرازي واحدًا من أشهر الأطباء المسلمين، فقد ألف في القرن العاشر الهجري أكثر من ثلاثمائة كتاب في الطب، كما وضع موسوعة طبية كاملة، واشتهر كذلك الطبيب المسلم ابن سينا، حتى أصبح كتابه "القانون في الطب" واحدًا من أهم المراجع الدراسية في المدارس الطبية خلال العصور الوسطى، واشتهر طبيب مسلم آخر في قرطبة وهو الزهراوي، الذي كتب في القرن العاشر كتابًا يستعرض فيه بالتفصيل كل المعارف الطبية في زمنه، كما ألف كتابًا مصورًا في الجراحة يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الطب، وضمنه صورًا للأدوات التي تستخدم في علوم الجراحة.

ومن أمثلة دور العلم الطبية (دار ابن سينا)، فكان يجتمع فيها طلبة العلم، منهم من يقرأ في كتاب القانون، وآخر يقرأ في طرق الشفاء، وكان التدريس يتم ليلاً لعدم وجود فراغ خلال النهار بسبب خدمة السلطان والأمراء، ومن أهم المدارس الطبية أيضًا المدرسة الدخوارية بالشام، التي أنشأها أبو محمد بن علي بن حامد المعروف بالدخوار، وكان كحالاً (أي طبيبًا للعيون)، وتتلمذ على يديه كثير من أطباء دمشق، وكان أستاذًا ببيمارستان النوري الكبير، ثم بعد وفاته أوقفت داره وجعلت مدرسة للطب، وكذلك المدرسة الدينسرية التي أنشأها عماد الدين الدينسري، ولكن دور العلم والمدارس الطبية لم تف بالغرض المطلوب؛ لأن الطب من العلوم التجريبية التي لا تصلح لها هذه المعاهد، فكان لابد من الدراسة العملية، ولذلك ظلت البيمارستانات هي كليات الطب المفضلة لتدريس المقررات للطالب، حيث إنها مكان تتوافر فيه الحالات المرضية وطرق العلاج.

والبيمارستان هي كلمة فارسية تتكون من شقين "بيمار" بمعنى المرض، و"ستان" بمعنى مكان، أي أن معناها مجتمعة "مكان المرض" ثم حورت في العصور الحديثة إلى كلمة مارستان، أصبحت لفترة طويلة تطلق على دور العلاج العقلي، حتى صارت التعبير العامي لهذا النوع من المستشفيات.

بذلك أنشئت المدارس الطبية العلمية، أو البيمارستانات التعليمية، وأهمها البيمارستان المقتدري في القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد هدمه المغول، والبيمارستان النوري الكبير في دمشق (في القرن السادس الهجري) ، والبيمارستان العضدي في بغداد، والمنصوري بالقاهرة، الذي أنشأه المنصور سيف الدين قلاوون، (في القرن السابع الهجري)، وكان يشرف على البيمارستان ويدرس الطب فيه علماء شهد لهم التاريخ؛ ففي البيمارستان العضدي كان ابن بطلان، وابن التلميذ، وسنان بن قرة ، وفي المقتدري كان الواسطي. وفي النوري: ابن الدخوار، وابن النفيس، وابن أبي أصيبعة.

أما بيمارستان قلاوون في القاهرة فكان أعظم مستشفى، وكلية طبية في تاريخ مصر خلال العصور الوسطى، وكان يشرف على رئاسته كبير أطباء، وهو ما يقابل اليوم عندنا "عميد كلية الطب"، وكان يتم اختياره من كبار الأطباء، وأحسنهم سمعة وعلمًا، وكان الإشراف على البيمارستان يعتبر من وظائف الدولة المهمة ولرئيسه حق مقابلة السلطان في أي وقت، كما كان للبيمارستان قسمان: قسم للرجال، وآخر للنساء، وكل قسم من الأقسام الداخلية يشمل تخصصات عدة مثل: طب العيون – الجراحة – الإسهال والحمى – الأمراض العقلية والنفسية...إلخ.

كما كان قسم خارجي يتردد عليه حوالي 4000 مريض يوميًا يصرف لهم أصناف جيدة من العلاج، وكان كل قسم يشرف عليه رئيس، وكان لرئيس الأطباء ورؤساء الفروع فقط الإذن بمزاولة فنون الطب لمن يرونه صالحًا من الطلاب الدارسين بالبيمارستان، وكان يعاون المدرسين أو الأساتذة طوائف المعيدين، فنظام المعيدين هو أصلاً من ابتكار التعليم الإسلامي، وكان للمعبد واجبات منها ما ذكره القلقشندي (إذا ألقى المدرس الدرس وانصرف أعاد الطلبة ما ألقاه المدرس ليفهموه ويحسنوه).

كان الالتحاق بالمدرسة الطبية أو البيمارستان سهلاً، إذ يذهب الطالب إلى حيث يجلس الأستاذ، ويستمع إليه، والطالب حر في اختيار مقررات الدراسة، بل ودراسة ما يرغب فيه وحرية التنقل من أستاذ إلى آخر، حتى تكون الدراسة على هواه، ولا تفرض عليه في هيئة برامج أو مقررات إجبارية، ولم يكن الأمر فوضى كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن كانت هناك كتب أساسية يجب أن يدرسها الطالب، ولا يمكنه الحصول على إجازته إذا لم يتقن هذه الكتب.

ولعل الكثيرين يعلمون أن هذا النظام انتهى من عندنا نحن مبدعيه، وانتقل إلى الدول المتقدمة على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، ومازال قائمًا ويطبق لديهم حتى اليوم، فالطالب الذي يدرس دراسات عليا أو عادية يختار أستاذه والمقررات أو البرامج التي سيدرسها بنفسه وبحرية كاملة، ولا تفرض عليه أو يفرض عليه أستاذه أو مشرفيه. ولكن من يعترف اليوم بهذا الإبداع العظيم للعرب، وفضل الحضارة الإسلامية على العلوم وطرق المناهج والتدريس؟

وتمر ستة قرون كاملة بعد هذا الإبداع الإسلامي، ونجد في عام 1537م طبيبًا بلجيكيًا، بل عالمًا من علماء جامعة لوفان، هو أندريه فيزالوس، يترجم الكتاب التاسع من كتب الرازي إلى اللغات الأوروبية، وما لبث فيزالوس أن عين أستاذًا للتشريح في جامعة بادوا، وفي عهده أدخلت كلية الطب في جامعة بادوا الأساليب الإسلامية الجديدة في ممارسة الطب، التي ما لبثت أن انتشرت في سائر أوروبا وأسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدم الطب في أوروبا.

===============

الوحدة والتوحيد أساس بناء الحضارة الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) د. عبد الحليم عويس

نموذج التلاحم بين العرب والبربر

تثور في كثير من بلاد المسلمين نعرات عنصرية، تحاول تهميش الأخوة الإسلامية، وتذويب التلاحم الجنسي الذي صهره الإسلام في بوتقة "الأخوة"، وفتح به العالم من خلال كل الأجناس الإسلامية صانعة الحضارة الإسلامية، عربية أو تركية، أو كردية أو بربرية!!

وفي بلاد الشمال الإفريقي ( والأندلسي سابقًا ) وجدت ومازالت محاولات تدميرية للإيقاع بين عنصري العرب والبربر الذين يرجعان في الحقيقة إلى أصل عربي واحد، وقد التحما معًا في فتح الأندلس ونشر الإسلام في العالم.

ومن البديهي أن العنصر البربري بكل خلفيته الثقافية يمثل واحدًا من أبرز المكونات الثقافية للمغرب العربي الإسلامي - ومن العبث بل من الأنانية القومية - إنكار دوره الحضاري الأساسي عبر عدد متطاول من القرون!!

على أنه لا يمكن – مع وجود هذا العنصر – إهمال المكونات الثقافية العربية التي استقرت على امتداد المغرب منذ الفتح الإسلامي، ولا سيما تأثير الدولتين الكبيرتين: بني رستم في تيهارت، والفاطميين في المهدية، وهما دولتان قامتا على التوحيد بين البربر والعرب في سياق واحد!!

وهذا لا يعني إهمال شأن الجهد الذي بذله البربر أنفسهم في تعلم العربية وعلوم الإسلام، حتى إننا لنجد القرن الرابع الهجري لم يكد يبزغ حتى صار كثير من البرابرة يزاحمون العرب في علوم لغة "الضاد" وأصبح علماء البربر يناظرون فقهاء العرب في القواعد الأصولية والفروع الفقهية وقضايا علم الكلام.

لقد استطاع الطابع العربي أن يغلب على الثقافة منذ مطلع القرن الرابع الهجري، وقد ساعد على ذلك أن الثقافة العربية جزء من الإسلام الذي هو عقيدة الأمة، وأن تاريخ الأمة منذ ثلاثة قرون هو تاريخ هذه الثقافة، وأن المغرب العربي محاط من كل أطرافه بثقافات عربية، سواء من ناحية الشمال حيث (الأندلس الإسلامية)، أو من الشرق حيث منابع الثقافة الإسلامية.. مما يجعلنا نطمئن إلى القول بأن الثقافة العربية الإسلامية قد نجحت في أن تكون الثقافة "الأم" والأولى.. منذ القرن الرابع الهجري، ونجحت في أن تكون مناط عناية الدول البربرية، على اختلاف منازعها واتجاهاتها السياسية الرسمية.

ولقد حظيت العربية باحترام البربر – أيما احترام – على وجه العموم، وقد اعتبروها لسان الأدب ولغة العلم وعنوان الثقافة، فانبلج بالتالي في القرنين الخامس والسادس الهجريين "عصر جديد أصبحت فيه اللغة العربية ربة المنزل، وصاحبة الأمر والنهي على القرائح والعقول".

وعند منتصف القرن الخامس الهجري حدث ما هو معروف من زحف القبائل العربية على المغرب العربي، ومهما يكن من الآثار السلبية التي خلفتها هذه القبائل في الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية (بخاصة) في المغرب العربي، فإنها كانت من الناحية الثقافية أكبر العوامل المؤثرة في تعريب الثقافة المغربية.

فقد أثرت لغة التخاطب لقبائل بني هلال وبني سليم في اللسان البربري، الذي كان طاغيًا على اللسان العربي في الأرياف، وفي المدن أيضًا، وسارت عملية الاستعراب تبعًا لعملية المزج والاحتكاك في الحياة العملية اليومية.

وقد برز بهذا المظهر الحضاري دور جديد في الآداب المغربية يسميه أحد المؤرخين المعاصرين بـ(الدور المدرسي)، وهو دور تم وضع حجره الأساس في القرن الخامس الهجري، وقد ظل هذا الاتجاه يختمر في القرن السادس الهجري، وهو دور يمتاز بأنه آخر الأدوار المدرسية الأخرى، التي اختمرت في الذهنية المغربية، ولهذا فقد جاء "خلاصة للأدب العربي وزبدة للعقول".

ويبدو أنه بعد هذا الدور بدأت (الجزائر) تدخل في عداد الدول المعربة فعلاً، وقد سبقتها بقليل من السنوات (تونس)، أما المغرب الأقصى فقد تأخر عنهما تأخرًا نسبيًا يمثل خلافًا في الدرجة، لا في المظهر الحضاري العام!!

ومن عناصر التكوين الثقافي التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في هذا الطور، زحف مذهب "مالك بن أنس" بدءًا من التأثير الذي أحدثته "مدرسة القيروان" التونسية، ومرورًا بالقسم الغربي في العالم الإسلامي كله، وهو القسم الذي انتظم فيه الأندلس وبلدان المغرب العربي، وعبورًا إلى القارة الإفريقية حيث لا يزال مذهب مالك هو المذهب الغالب في هذه البلاد.

والجدير بالذكر أن احتكاك المغرب بالأندلس وهجرة بعض الأندلسيين والأفارقة والصقليين وغيرهم إليه، وإسهام هؤلاء في الحركة الثقافية المغربية، بما حملوه من علوم وآداب.

كل هذه العناصر وربما غيرها، قد كونت الملامح الأساسية للشخصية الثقافية المغربية، وساعدت على إبرازها في صورة حضارية خاصة ذات إطار خاص، كما أن هذه العناصر في الوقت نفسه قد ساعدت على رقي الثقافة المغربية وازدهارها عامة.

وقد انتشرت في هذا العصر ظاهرة التنافس الثقافي، وكان السباق قائمًا بين بلدان المشرق والمغرب والأندلس وعواصمها المختلفة المهدية وبجاية وفاس، وتلمسان، وسبتة ، وبغداد والقاهرة والمدينة المنورة، ومكة، وغيرها.

وقد برزت كل مدينة من هذه المدن بلون خاص من العلوم أو الآداب غلب عليها، واشتهرت به.

فالمهدية عاصمة البحوث الكيماوية، وصقلية عاصمة الترجمة والنقل للعلوم العربية إلى اللاتينية، وبجاية عاصمة الرياضيات (ومن بجاية الجزائرية هذه أخذ الأوروبيون الأرقام العربية والجبر والمقابلة وهندسة أوقليدس)، وهكذا الأمر في كل عاصمة إسلامية عربية.

وقد ساعد على هذا التنافس وعطائه الحضاري، ما كان يلتزم به الحكام من رعاية للملتصقين بهم من العلماء والأدباء والشعراء.

وعلى سبيل المثال، فإن حكام المغرب الأوسط (الجزائر) خلال القرن الخامس والسادس للهجرة كانوا يرعون العلماء والشعراء، ويغرونهم بالقدوم عليهم، ويجودون عليهم بالعطاء جودًا حاتميًا، وكان أبرز حكام الجزائر على الإطلاق خلال القرن الخامس الهجري "الناصر بن علناس الحمادي" أطول الملوك باعًا في هذا المضمار، فقد كان يؤمه الأدباء، ويقصده الشعراء، فيغدق صلاته عليهم.

وكان الأمير "المنصور بن الناصر بن علناس" الذي خلف أباه الناصر على حكم الجزائر، يكتب ويقول الشعر، ويشجع الأدباء والشعراء.

وكانت حركة الانتقال المتاحة بين العواصم الإسلامية (دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول وخروج)، كانت هذه الحركة الانتقالية التي غلب عليها طابع البعثات والرحلات العلمية، من أبرز العوامل في إذكاء روح النشاط الثقافي.

وهي ظاهرة عامة في العالم الإسلامي كله خلال هذه العصور بدرجات متفاوتة بين شعوب وحكومات هذا العالم، ولربما كانت هذه الظاهرة أقوى في عالمي المغرب والأندلس عنها في المشرق، نظرًا لشعور أبناء المشرق بأنهم المصدر والأصل الذي يجب أن تشد إليه الرحال ويسعى إليه، وأيضًا لشعور المغاربة بمكانة إخوانهم (المشارقة) في الحضارة الإسلامية.

لقد كانت حدود الأقاليم غير ذات أهمية وهي لم تمثل حاجزًا أو فاصلاً بين العلماء والأدباء والكتاب والشعراء، بل كانت الأفكار في العالم الإسلامي متصلة كما تعكس تقاربًا ثقافيا يعتبر خصيصة كبرى من خصائص الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.

وفي الموسوعات العلمية الكبرى لهذه القرون تأكيد واضح لبروز هذه الظاهرة ودورها الإيجابي في خلق وحدة فكرية في العالم الإسلامي كله، فابن بسام يفرد القسم الرابع من موسوعته "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"(القسم الرابع من المجلد الأول)، لمن هاجر إلى الجزيرة "أي الأندلس" من الآفاق وطرأ عليها من شعراء الشام والعراق، ويشتمل هذا القسم على تراجم لهؤلاء الرحالة الشعراء في القرن الخامس الهجري، وحتى وفاة ابن بسام سنة 542هـ قريبًا من منتصف القرن السادس الهجري.

والمقري صاحب موسوعة "نفح الطيب" يورد لنا نحوًا من مائتين وخمسين ترجمة لمن رحلوا عن الأندلس إلى المشرق من العلماء والأدباء والفقهاء، ويورد لنا أيضًا قريبًا من خمس وسبعين ترجمة لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.

وفي كتاب "الصلة" لأبي القاسم خلف بن عبد الملك الشهير بـ" ابن بشكوال" المتوفى سنة 578هـ، نلحظ الظاهرة نفسها، فأغلبية المترجم لهم رحلوا إلى المشرق، وكثير من المشارقة زاروا الأندلس، وقد ألحقهم ابن بشكوال بقائمته التي أطلق عليها اسم "الغرباء"!!

وفي "التكملة" لابن الأبار، وفي "وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات" للصفدي، وفي "جذوة المقتبس" للحميدي، وفي غيرها من المصادر، نستطيع التأكد من هذه الظاهرة على نحو واضح.

ويذكر "ناصر خسرو" أنه رأى سنة 441هـ 1049م، وهو بمصر، بعثة للبحث عن الآثار الفرعونية (جماعات من المطالبين)، قادته من الشام والمغرب.

كما أن المشاهير كانوا يتبوأون مركزهم الثقافي على امتداد العالم الإسلامي كله، و"ناصر خسرو" يذكر لنا أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأن "أبا العلاء المعري" أديب عصرهم بلا منازع.

وحين يورد لنا "المقري التلمساني" حياة الأزدي الحميدي صاحب "جذوة المقتبس" المذكور آنفًا، يخيل إلينا أننا أمام مواطن عالمي منوع غريب؛ فقد عاش وطلب العلم في كل من الأندلس ومصر ودمشق ومكة المكرمة وواسط وبغداد، وغيرها!!

فنحن بإيجاز شديد أمام ظاهرة يمكن أن نسميها بـ(الوحدة الحضارية) حتى وإن كان ثمة تفكك سياسي منتشر.

وهذه الوحدة الحضارية صهرت المغرب العربي في بوتقتها ولم تلبث أن جعلت انتماءه للحضارة الإسلامية انتماء وجود وكيان ومصير.

وفي ضوء هذا الذي ذكرناه بإيجاز تبدو محاولات الفصل بين العربي والبربر، وهي كذلك بين كل الأجناس الإسلامية في الحقيقة. عملية فصل بين أجزاء جسد واحد، وحضارة إسلامية تقوم في بنيتها الأساسية على الوحدة والتوحيد.

===================

حضارتنا ليست للبيع

(الشبكة الإسلامية) د . عبد الحليم عويس

إن تاريخنا الإسلامي هو أفضل تاريخ عرفته الأرض·· عبر مساحة التاريخ المدوَّن !! وهذه الحقيقة تتجلى عندما ننظر إليها في سياق بشريته، (فهو تاريخ بشر)··· وعندما ننظر إليه بالجملة، لا بالوقوف المتربص الحاقد عند نقطة معينة ، ففي حياة كل إنسان ـ عظيماً أو عادياً ـ هفوات·

والتاريخ هو حياة مجموع البشر أو الناس الأحياء، وليس رصداً لتاريخ أوهام أسطورية··· بل هو تاريخ ناس واقعيين ··· عاشوا على الأرض، وكانت لهم أشواق روحية، وغرائز بشرية!!·

وعندما ننظر بهذا التقويم الموضوعي، فسنجد أن عصر الرسالة والراشدين (1 ـ 14هـ)، هو أفضل عصور التاريخ البشري على الإطلاق، ولا يساويه إلا حياة الأنبياء عليهم السلام، وقد تقترب منهم حياة حواريي الأنبياء من الدرجة الأولى·

ولم يحظ أي نبي بهذا الجمع العظيم الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينيه··· وكان القمة المثلى للحضارة الإسلامية!·

فلما جاء الأمويون (14 ـ 231هـ)، لم ينقطع هذا التاريخ لأن عام (14هـ) لا يعني موت كل الصحابة، فبقى عصر الأمويين يرشح بهؤلاء العظماء، وانحصر الخلل في بعض النواحي القومية والسياسية، وكانت الحياة الدينية والاجتماعية في القمة··· بل في هذا العصر تمت أعظم الفتوحات التي قام بها الشعب المسلم تحت قيادة بني أمية عن رضا وطواعية·

فلما جاء العباسيون (231هـ ـ 656هـ)، مضت الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والتشريعية، بقيادة الشعب المسلم في مجراها الطبيعي ، فنهرُ الحضارة الدافق لا يخضع للتحولات السياسية بقيام دولة أو سقوط أخرى·

وقد وقع العباسيون في خطأين:

أولهما: حركة الترجمة إلى العربية من دون ضوابط كافية، ومن دون حركة ترجمة مضادة تنشر العقيدة الإسلامية في العالم···

وثانيهما: إشغال الأمة بفتنة خلق القرآن، واستعمال العنف والقسوة، وترك الحبل على الغارب للمعتزلة المنهزمين أمام المقولات الفلسفية!!·

لكن العباسيين نشروا الحضارة الإسلامية، وامتدت في عهدهم حركة سلمية دعوية لنشر الإسلام! إذ إن فتوحات بني أمية العسكرية والسياسية لم تعنِ دخول الناس في الإسلام فوراً، فالإسلام لا يؤمن بالإكراه، فكان العصر العباسي هو الذي نشر الإسلام بواسطة الأمة الداعية، لا الدولة الراعية·

ثم إن الحكومة العباسية وقفت ـ بصرامة ـ ضد الحركات الباطنية كالبرامكة، والخرَّمية، وحسبها أنها صمدت في وجه المد الفاطمي الذي نجح في الاستيلاء على المغرب ومصر·· كما أنها استوعبت السيطرة الشيعية البويهية على الحكم، بحيث بقيت السيطرة البويهية سيطرة سياسية، لا باطنية!!·

وجاء الزنكيون، والأيوبيون، والمماليك·· ثم جاء العثمانيون، الذين عاشوا خمسة قرون حتى سقطوا سنة 1924م، فكان للجميع بعض السلبيات، لكنهم قدموا للإسلام أعظم الخدمات، وصدوا عنه أشنع الغارات!!·

ومازال الإسلام ـ بفضل هؤلاء الأسلاف ـ موجوداً إلى الآن، يصارع المحن، ويمتص المؤامرات الخبيثة، ويفلت بالمسلمين ـ تحت رايته الخفاقةـ من مرحلة الاستعمار العسكري والسياسي الأوروبي إلى مواجهة الغزو الفكري الصليبي والصهيوني، ثم إلى مرحلة الصحوة الإسلامية، وما تواجهه، الآن من صعوبات ومؤامرات عالمية·

لكن الإسلام يمتد إلى كل قارات الأرض بفضل الأمة الداعية، وينتصر حتى مع الهزائم السياسية والعسكرية، كما انتصر أيام التتار··· وسيشق المسلمون طريقهم بإذن الله، وستخفق راية الإسلام ـ مهما كانت السحب داكنة ـ فالإسلام هو الحل الوحيد للبشرية·· وليس للمسلمين وحدهم، وهو قدر الله الغالب، والأمل الوحيد الذي لا أمل في إنقاذ البشرية من دونه!·

هذا التاريخ الصامد··· وهذ الإسلام الفاتح·· وهذه الحضارة المثلى التي صهرت الجوانب الوجدانية، والعقلية، والروحية، والفردية، والاجتماعية، في بوتقة واحدة، وحققت للإنسان إنسانيته، فكانت مشرق النور، روحاً وعقلاً لكل الدنيا لأكثر من عشرة قرون·

هذا التاريخ، وهذه الحضارة، هل يجوز أن نبيعهما رخيصين في عصور تصطنع الأمم فيها لنفسها تاريخاً، وتتوهم لنفسها حضارة!!·

وهل يجوز أن يبقيا مطعناً لسهام أصحاب النحل الباطلة والنزعات الشاذة، والمحنَّطين في كهوف أحداث معينة، لا يريدون أن يتحولوا عنها ليمدوا الطرف، ويوسعوا الصدر، ويتعاملوا مع البشرية بالمقياس الملائم للطاقة البشرية·

بم سنمضي في مجالات صراع الأمم، وحوار الحضارات؟

إن أسلافنا هم أجدادنا، ولا نستطيع أن ننسلخ عنهم إلا إذا كنا قد قررنا أن نفقد هويتنا··· فالاسم وحده لا يدل على صاحبه، ولا يعتمد في سجلات التاريخ!!·

وإن حضارتنا هي قسماتنا الحضارية التي نتميز بها ونحن نصنع حضارتنا المعاصرة التكنولوجية والإنسانية··· فهي التي تدل علينا، وتؤكد أننا شريحة خاصة من البشر، ولسنا عبيداً تابعين، قد ضاعت ملامحهم .. ·

وكما أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً هم ـ بعد إمام الدعوة، ورسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم، قدوتنا وعظماؤنا، فكذلك ننظر إلى من جاء بعدهم·· فهم دونهم، لكنهم أزكى منا، وقدوتنا··· فهم من خير القرون، ومن الصحابة والتابعين، ومن الأسلاف المجتهدين، مصيبين كانوا أو مخطئين·· وكذلك نربي الأمة على الانتماء لحضارتها وصُنَّاعها والاعتزاز بهم، دون أن نقدسهم أو نرتفع بهم إلى درجة العصمة··· فلا عصمة لأحد بعد رسول الله، خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام·

والويل لأمة تتربص بتاريخها أو تشوهه أو تكبِّر لحظات الضعف فيه، أو تمضي في طريقها من دون معالم تستلهمها من حضارتها·

إنها ـ عندئذ ـ أمة ضائعة، تائهة، قد ضلت الطريق!!

إن تاريخنا، وحضارتنا، ليسا للبيع، وإن مؤرخينا ومفكرينا المنتمين الواعين بسنن الله في التقدم، يجب أن يجندوا أنفسهم للذود عن هذا التاريخ، وهذه الحضارة، وأن يحسنوا ـ كذلك ـ توظيفهما للانبعاث الحضاري العصري المنشود .

( عن مجلة الوعي الإسلامي )

====================

تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) د . أبو الوفاء عبد الآخر

ظلت المعارف الصيدلية، والأعمال الصيدلية قروناً عديدة إلى ما قبل النهضة الإسلامية، أشبه بما نراه الآن من "أعمال العطارة، وخبرات العطارين" إلى أن ظهر العلماء في عصور النهضة الإسلامية، فقاموا بالدراسات المنهجية، وأجروا التجارب العلمية، واستعملوا الأجهزة العلمية، وتوصلوا إلى الاكتشافات القائمة على البحث والتجربة، وبهذا أصبحت (الصيدلة) علماً له كل مقومات العلم: الملاحظة، والبحث، والتجربة.

النهضة الصيدلية وعلماء الصيدلة:

وفيما يلي نعرض بعض مظاهر النهضة الصيدلية، ونذكر بعض مشاهير العلماء الذين شاركوا في هذا الجانب من النهضة الإسلامية:

أولاً :

لقد تقدم علم الكيمياء تقدماً عظيماً، وذلك نتيجة لمجهودات العالم الشهير (جابر بن حيان) الذي يعتبر من أعظم علماء العالم في جميع العصور، ولقد عرف العلماء قدره فسموا "علم الكيمياء" (علم جابر).

وكان (جابر بن حيان) أول من حضّر: حامض الكبريتيك، وحامض النيتريك، وكربونات الصودا، وكربونات البوتاسيوم، وماء الذهب. وأصبح لهذه الكيماويات أهمية عظمى في العصور الحديثة، بل تكاد تكون من أسس حضارة القرن التاسع عشر والعشرين في الكيمياء، والصيدلة، والزراعة، والصناعة.

وهو أول عالم كيميائي استعمل الموازين الحساسة في التجارب الكيميائية.

ولقد ابتدع طرقاً أفادت كثيراً في تحضير العقاقير وتنقيتها وذلك في عمليات (البلورة، والترشيح، والتقطير، والتصعيد) وغيرها من الأعمال الهامة الكيميائية والصيدلية.

وكان (جابر بن حيان) حريصاً على إبراز أهمية التجارب، واتباع المنهج التجريبي، ومن أقواله المأثورة: "إن من واجب المشتغل في الكيمياء، العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة لا تحصل إلا بها" وبهذا يكون (جابر بن حيان) ومن بعده (مسلمة بن أحمد المجريطي) قد سبقا علماء الغرب بعدة قرون في إخضاع العلم للتجربة، ووضع أسس "المنهج العلمي" الذي يقوم على التجربة.

وألف (جابر بن حيان) العديد من الكتب في الكيمياء والصيدلة منها كتاب (الموازين) وكتاب (سر الأسرار) وكتاب (الخواص) وكتاب (السموم ودفع مضارها) ولقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الأوربية, وظلت مرجعاً في جامعات أوربا لعدة قرون.

ثانياً:

ارتقت العلوم الصيدلية والطبية والكيميائية بعد ذلك درجات أخرى على يدي العالم الشهير (أبو بكر الرازي) الذي برع في الطب والصيدلة والكيمياء، ومن مؤلفاته كتاب (المنصوري) الذي أهداه إلى المنصور أمير خراسان، والذي ترجمه إلى اللاتنية فيما بعد (جيرار الكريموني) وظلت تدرس الأجزاء الكيميائية .. منه بجامعات أوربا, حتى القران السادس عشر.

وكتاب (الحاوى) وهو موسوعة من عشرين جزءاً, يبحث في كل فروع الطب والكيمياء، وكان يدرس أيضاً في جامعات أوربا، بل إنه كان أحد الكتب التسعة التي كانت تدرس بكلية طب باريس.

وكان مؤلفه (الجدري والحصبة) دراسة علمية رائعة، وهي الدراسة الأولى التي استطاعت أن تفرق بين تشخيص هذين المرضين، وحتى تعرف قيمة الكتاب الطبية، فقد أعيد طبعه أربعين مرة باللغة الإنكليزية بين 1494، سنة1866, وهو من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع الأولى في العالم.

وهو الذي اخترع خيوط الجراحة المصنوعة من جلد الحيوان.

كما أنه قدم العديد المبتكر من الأدوية التي تعالج أمراض العيون، والصدر والأمعاء والمجاري البولية.

ثالثاً:

خضعت الأدوية والعلاجات لدراسات مستفيضة على أيدي علماء الأمة الإسلامية في عصور النهضة الإسلامية، وكان من أبرز العاملين في هذا الميدان الشهير (ابن سينا ) الذي يعتبر من أعظم العلماء إلى عصرنا هذا، وكتابه (القانون) من أشهر المؤلفات الطبية التي سجلها التاريخ، وظلت هذه الموسوعة مرجعاً للطب والصيدلة في كثير من بلاد العالم المتحضر، حتى أوائل القرن الثامن عشر، ولقد بدأت كتبه تترجم منذ أوئل القرن الثاني عشر، وذلك بعض دارساته أساساً لبرامج التعليم الطبي والصيدلي في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر.

وقام (ابن البيطار) وهو أكبر علماء النبات من العرب, بدراسات موسعة على النباتات الطبية, وقام بإجراء التجارب عليها.

رابعاً:

مهد علماء الأمة الإسلامية للصناعات الصيدلية ، نتيجة ماقاموا به من دراسات في (فن التجهيز الدوائي).

ووصف (أبو مروان بن زهر) "قالبا" توضع فيه المساحيق، لتخرج أقراصاً سهلة التناول، كما قام بدراسات لحفظ العقاقير فكان من أوائل الباحثين في هذا الحقل..

(وبعد) .. فهذا عرض موجز لجانب من جوانب النهضة الإسلامية التي عاشها المسلمون، لعدة قرون، وذلك عندما تأصلت العقيدة في نفوسهم , ولانت الأسباب لعزائمهم ..

فعلى أثر ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، ظهرت أمة مسلمة، تولى أمرها: سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله, وفي أقل من 50 عاماً كانت الأمة الإسلامية من الهند وفارس شرقاً إلى المحيط الأطلسي وشمال إسبانيا غرباً, وأصبحت المدينة المنورة والكوفة ودمشق وبغداد والبصرة وسمرقند والقيروان والقاهرة وغرناطة وقرطبة وطليطلة مراكز الحضارة لهذه الأمة الإسلامية، وانضمت إلى هذه العواصم فيما بعد عواصم أخرى إسلامية: كالأستانة والقسطنطينية .

و بلغ المسلمون من المدنية والتقدم والحضارة درجة عظيمة لم يبلغها شعب من شعوب الأرض في مثل هذه الفترة القصيرة. كما امتدت حضارتهم عدة قرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة، وكانت النهضة العلمية التي بلغتها الأمة الإسلامية الأساس الذي قامت عليه النهضة الحديثة، ولو أنصف المؤرخون لقالوا: بأن النهضة الحديثة بدأت منذ النهضة الإسلامية واستمرت في تطور متصل بحيث يجب اعتبار النهضة الإسلامية والنهضة الأوربية جزءين متصلين للنهضة الحديثة المستمرة حتى يومنا هذا.

ولهذا فإن (قضية تصحيح تاريخ العلوم) ما تزال مطروحة على الفكر الإنساني عامة، والفكر الإسلامي خاصة , ومن الواجب على رجال التاريخ الدفاع عن هذه القضية بما يتيح للحقائق التاريخية أن تظهر وتسود, وبما يتيح لتاريخ الحضارة الإسلامية أن يأخذ مكانته اللائقة بين تاريخ الحضارات..

(وختاماً) آمل أن يكون في الحديث عن الحضارة الإسلامية ما يحفز الهمم، ويشد العزائم, ويقضي على حالة اليأس والاستسلام ويدفع المسلمين جميعاً إلى العمل الجاد, الخالص لوجه الله الكريم, حتى تأخذ الأمة الإسلامية دورها في ركب الحضارة وحتى تصبح: أمة قائدة لا مقودة، ومبتكرة لا مقلدة .. والله ولي التوفيق..

( مجلة الجامعة الإسلامية رمضان 1398 هـ )

==================

تاريخنا... هل من الضروري إعادة كتابته ؟

بقلم د / قاسم عبده قاسم

التاريخ بمعناه الواسع ، نتاج لتراكم الفعل الإنساني على مر الزمن وهدف الدراسات التاريخية الحديثة ينصب على تحليل عناصر هذا التراكم ومكوناته ، سعيا إلى فهم الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.

ليس ثمة معنى للتعامل مع التاريخ بمفهوم الحكاية ومنطق السرد ، أو اعتبار المعلومات التاريخية ، حلية تزدان بها الرءوس الفارغة ، ويتم التباهي بها في مجال السمر ، أو وسيلة يتمكن صاحبها من الفوز في مسابقات الصحف والتلفزيون فحسب.

ولم تكن هذه أبداً وظيفة التاريخ منذ بداية المعرفة التاريخية التي توسل بها الإنسان لمعرفة ذاته ، إذ إن المعرفة التاريخية والرغبة في معرفة الماضي تكاد ترقى إلى مستوى الغريزة لدى الإنسان ، على مستوى الجماعة ، وعلى مستوى الفرد على السواء ، فالتاريخ بمعناه الواسع ، هو قصة الإنسان في الكون ، وتفاعله مع الطبيعة على مر الزمان ، وهو في هذا يشبه نهراً يتدفق من المنبع إلى المصب ، من بداية الوجود الإنساني حتى اللحظة الراهنة ، يحمل كل تفاصيل رحلة الإنسان - التي لم تنته بعد – عبر الزمان.

ومن هنا يبدو السؤال المطروح سؤالاً ذا مشروعية علمية : هل هناك ضرورة لإعادة كتابة تاريخنا ؟ وربما يكون التحفظ الوحيد من جانبي أن السؤال ينبغي أن يكون : هل هناك ضرورة لإعادة قراءة تاريخنا ؟ إن إعادة قراءة تاريخنا – أي إعادة تفسيره – هي التي ينبغي أن تكون محلاً لهذا السؤال المهم في تصوري ..

وسأحاول في الصفحات والسطور التالية أن أبين الأسباب التي دعتني إلى اقتراح هذه الصيغة للسؤال ، ومن ناحية أخرى ، فإن السؤال يحمل دلالة ضمنية بأن التاريخ يتعلق بالحاضر أكثر مما يتعلق بالماضي , فنحن نطرح السؤال بسبب الظروف التي تحيط بنا حاليا.

هذا المدخل يؤدي بنا بالضرورة إلى عدة أسئلة تتعلق بالبحث في التاريخ العربي كيف يمكن التعامل ؟ هل نعتبره قصة تحكي لنا عن الماضي المجيد على نحو يدغدغ فينا مشاعر الزهو الكاذبة بإنجازات وانتصارات لم يكن لنا ـ نحن أبناء الحاضر العربي التعس – فضل في تحقيقها ؟

وهل نكتفي بقراءة هذا التاريخ من منطلق نفسي تعويضي يقول : (نحن كنا) في زمن نكاد نعجز فيه عن (أن نكون) ؟ !!

وهل يمكن للقراءة الجزئية المبتسرة لتاريخ كل دولة عربية أن تغني عن إعادة القراءة عن مفهوم الكل العربي ؟ أم أن هذه القراءة الجزئية تعبير وانعكاس لحالة التشردم والعجز العربي في مواجهة العدوان الصهيوني والأمريكي على جبهات عديدة ؟

وهل نستسلم لما تشيعه (القراءة الصهيونية) لتاريخنا وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية بالشكل الذي يخلط الحقائق التاريخية بالأوهام الأسطورية والغيبيات الدينية ؟

ويمكن الاسترسال في هذه الأسئلة وما تفرع عنها بالضرورة إلى ما لا نهاية , بيد أننا يجب أن نتوقف قليلاً أمام حقيقة مهمة مؤداها أن التاريخ يحدث مرة واحدة , وتتعدد المرات التي تتم فيها قراءته أو تفسيره ما دامت الجماعة الإنسانية بحاجة إلى تجديد وعيها بتاريخها ، أي وعيها بذاتها ، إذ إن الأحداث التاريخية هي المادة الخام التي يتناولها المؤرخ بمنهجه العلمي وأدواته البحثية ، لكي يفهمها ويحلل عناصرها المركبة ..

أما ما نسميه (كتابة التاريخ) فهي في الواقع عملية تسجيل جزئية للأحداث التاريخية, سواء كان هذا التسجيل قد تم في كتب المؤرخين وحولياتهم ، أو في الوثائق بأنواعها المختلفة ، أو في النقوش والمسكوكات ، أو غيرها من المصادر التاريخية المعروفة ..

ولا يمكن لأحد أن يزعم أن كل ما حدث في التاريخ قد تم تسجيله بالفعل ، ومن ثم فإن مهمة المؤرخ ، أو الباحث في التاريخ ، أن يحاول استقراء مصادره بشهاداتها الجزئية لاسترداد صورة الحادث من ذمة الماضي , وإعادة بنائها بكل الوسائل المنهجية أولاً ، ثم محاولة الفهم والتفسير ثانياً ، وعندما يصل البحث إلى نتيجة معينة يمكن استخدام حصاد البحث لخدمة أهداف الجماعة الإنسانية في الحاضر والمستقبل ، هذه العملية ثلاثية المراحل هي ما نسميه قراءة التاريخ أي تفسيره وليست كتابته..

ومن هنا يمكن أن نفهم السبب في أن العصور المختلفة تشهد (قراءات مختلفة) لتاريخ الجماعة الإنسانية ، قبيلة أو شعباً أو أمة ، ففي كل مرحلة تتم (قراءة) جديدة للتاريخ تسلط فيها الأضواء على جوانب معينة , وعناصر محددة من التاريخ , يمكن أن تساعد المجتمع على التعامل مع حاضره بشكل أكثر نجاحاً..

فقبل عصور الديمقراطية والاشتراكية مثلاً كان التركيز في قراءة التاريخ على دور القصر, ودور البطل ؛ ترسيخاً لفكرة الحكم الفردي ، ولكن ما حدث بعد ذلك ، لا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، وشيوع الأفكار الديمقراطية والاشتراكية ، أن بدأ البحث التاريخي يهتم بتسليط الضوء على التاريخ الاجتماعي ودور العمال والفلاحين ، وتواريخ المدن , وما إلى ذلك ؛ تكريساً لفكرة حق الشعوب في حكم نفسها بنفسها ..

وما حدث في العالم العربي أثناء فترة الستينيات وما بعدها ، حيث تم التركيز على جوانب بعينها من تاريخ مصر والمنطقة العربية تتعلق بالطبقة العاملة أو الفلاحين ، أو الطبقات الاجتماعية بشكل عام ، فضلاً عن دراسة الأنشطة الشعبية والحركات الثورية – وهذا كله يمكن أن يكون مثالاً ثانياً على تعدد القراءات للتاريخ الذي يخص شعباً أو أمة من الأمم في فترات متعددة من تاريخها.

وإعادة قراءة التاريخ ليست تزويراً للتاريخ بأي حال من الأحوال ، وإنما هي تأتي في سياق الوظيفة الثقافية الاجتماعية للتاريخ , باعتباره ممارسة فكرية في خدمة الحاضر ..

ومن المهم أن نشير في هذا الصدد إلى أن الجماعات الإنسانية لا يمكن أن تستمر في الاحتفاظ بأي ممارسة ثقافية أو اجتماعية ، ما لم تكن لها فائدة تعود على الجماعة بشكل إيجابي.

وبالتالي فإن عملية إعادة قراءة التاريخ تهدف إلى البحث عن العناصر التي ينبغي تسليط الضوء عليها لخدمة الحاضر , واستشراف آفاق المستقبل , وليس المقصود هنا أن قراءة التاريخ ـ أي تفسيره ـ يمكن أن تكون عملية تنبؤية ساذجة ، وإنما المقصود أن القراءة المعادة للتاريخ يمكن أن تسلط الضوء على عناصر بعينها تكون إلهاماً , وحافزاً على الفعل التاريخي في الحاضر والمستقبل , وبعبارة أخرى تجعل من المعرفة التاريخية نوعاً من التاريخ الحافز الذي ينشط الفعل لدى الجماعة الإنسانية ..

وربما يتجسد هذا فيما فعله المؤرخون العرب أثناء فترة الحروب الصليبية , عندما بدأت الكتابة عن تاريخ القدس ، وفضل الجهاد والمجاهدين , وإعادة قراءة تاريخ السيرة النبوية والمغازي ، ثم ظهور نمط من الكتابة التاريخية يركز على سيرة السلطان المجاهد مثل سيرة صلاح الدين الأيوبي.

هذه القراءات المتعددة ، للتاريخ تشكل في حقيقة الأمر نظرات في مرآة الذات الحضارية للتعرف على القسمات والملامح الثقافية والحضارية التي يمكن أن تكون هادياً إلى طريق الفعل الحاضر ، وعملية إعادة القراءة التي تتكرر كل حين هي محاولات معادة ومتعددة لفهم الذات ، وهذا هو السبب في أن الشعوب تعيد قراءة تاريخها أكثر من مرة.

تفسير التاريخ :

ومن ناحية أخرى ، حرصت القوى الاستعمارية والغاصبة دائماً على إعادة قراءة تاريخ الشعوب التي أخضعتها ، بالشكل الذي يخدم أهدافها التسلطية ، ومن الأمور ذات الدلالة في هذا السياق أن الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية قد حرص على تغيير كتب التاريخ في المدارس الفرنسية ، كما أن الصهاينة فعلوا الشيء نفسه بعد نجاحهم المؤقت في اغتصاب الأرض العربية في فلسطين ، لقد أعادوا (قراءة) التاريخ العربي ، والتاريخ الفلسطيني خاصة ، بالشكل الذي يغيّب الدور العربي ..

ولكن هذه القراءة لم تكن تفسيراً للتاريخ من وجهة نظر صهيونية ، وإنما كانت تزويراً لتاريخ العرب والفلسطينيين والحضارة العربية الإسلامية بوجه عام ، من أجل تغييب دور الفلسطيني , وتبرير سرقة الأرض بسرقة التاريخ والتراث , كذلك فإن إصرار الإدارة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية الآن على تغيير المناهج الدراسية ، ومن بينها التاريخ بشكل خاص ، في إطار ما تسميه إصلاح العقل العربي يمكن أن يكشف لنا أهمية هذه العملية المتكررة لإعادة قراءة التاريخ.

وقد استخدم الصهاينة قراءتهم الخاصة لتاريخ المنطقة أداة في الصراع السياسي والعسكري والثقافي ضد العرب ، كما أن الأساطير التي تم اختلاقها وترويجها عن إسرائيل القديمة قد ساعدت على ترسيخ بعض الأوهام في أذهان اليهود وأبناء الغرب الأوربي والأمريكي عن العرب والمسلمين وفلسطين ، باعتبارها (حقائق تاريخية) تعطيهم حقاً في أرض لم تكن لهم يوماً.

وليس من قبيل المصادفة أن كراسي التاريخ في الجامعات ومراكز البحوث الدراسية الغربية ، والأمريكية منها بصفة خاصة ، ظلت تحت السيطرة شبه الكاملة للباحثين والمؤرخين اليهود حتى منتصف القرن العشرين على أقل تقدير ، وكان الحصاد المر لهذه السيطرة الصهيونية أن رسخت في أذهان أبناء الغرب صورة سلبية تماماً للعرب ، ساعد عليها تراث قائم منذ عصر الحروب الصليبية ، يحمل صورة سلبية للعرب والمسلمين بوجه عام ..

ولم يكن الأمر مجرد دعاية سيئة يمكن علاجها بالمفاهيم الإعلامية السطحية ، كما يظن الجهابدة من أصحاب القرار ، وإنما كان قراءة التاريخ لخدمة الأهداف الصهيونية الآنية والمستقبلية , ولأن هذه القراءة تمت بشكل منهجي ومدروس تنفيذاً لوصية "هرتزل " بإحداث أكبر قدر من الضجة حول القضية اليهودية (من خلال الفن والتاريخ ) فإنها تركت أثارها السلبية حتى في أوساط المؤرخين العرب ، ومازلنا نعاني من هذه الآثار حتى الآن.

وكانت الظروف التاريخية الموضوعية مواتية تماماً لسيادة هذه القراءة الصهيونية في دوائر الغرب الأوربي والأمريكي , وانتقال بعض انعكاساتها على أفكار ومفاهيم نفر من المؤرخين العرب (الحرفيين)..

حقيقة أن عدداً من المؤرخين العرب الفاهمين قد عملوا على (تعريب) الدراسة التاريخية منذ وقت مبكر ، وفي العقود الأولى من القرن العشرين ، لكن آذان أوربا وأمريكا كانت مفتوحة وراغبة في الاستماع إلى القراءة الصهيونية للتاريخ منذ القرن التاسع عشر , ذلك أن الفترة التي نشط فيها المؤرخون العاملون في خدمة الحركة الصهيونية جاءت في أعقاب فترة نشط فيها المؤرخون الأوربيون والأمريكيون ، تحت مظلة الاستشراق لدراسة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ، وتاريخ المسلمين والعرب ، انطلاقا من روح العداء للدولة العثمانية بسبب حروب المورة اليونانية التي تطوع فيها كثير من الأوربيين والأمريكيين للقتال إلى جانب اليونانيين ضد الأتراك العثمانيين , باعتبارهم أصحاب حضارة الغرب الكلاسيكية.

(وبالمناسبة كانت تلك هي الفترة التي ظهرت فيها موجة العداء للسامية ، والتي كانت موجهة ضد العرب والمسلمين واليهود ، ثم حولتها الدعاية الصهيونية إلى أداة ابتزاز لصالح الحركة الصهيونية).

والناظر في تراث هذه الفترة سيجد أن البحوث والدراسات التاريخية التي خرجت في هذه الفترة ، كانت في الغالب الأعم نوعاً من القراءة الانتقامية التي تحرض أبناء الغرب ضد المسلمين , والعرب بشكل عام , وكانت تلك فرصة ذهبية لم يتوان المؤرخون الصهاينة في استغلالها , والسير على نهج مؤرخي الفترة الاستعمارية الأوربية في قراءة أو تفسير تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

ومن ناحية أخرى كانت الظروف التاريخية الموضوعية مواتية للقراءة الصهيونية لأن الدراسات التاريخية العربية الحديثة كانت لا تزال فرخاً من أفراخ الدراسة التاريخية الأوربية ، إذ كان رؤساء قسم التاريخ بالجامعة المصرية ـ أولى الجامعات العربية – من الأوربيين حتى سنة 1936م وكان طبيعياً أن تسود المفاهيم التاريخية من وجهة نظر المؤرخين الأوربيين في الدراسات التاريخية العربية الناشئة ، وكانت النتيجة الحتمية أننا صرنا نقرأ التاريخ العربي بعيون أوربية وأمريكية معادية ، أو منحازة في أحسن الأحوال.

هذه الحقيقة التي نعرفها هي التي استوجبت طرح السؤال حول ضرورة إعادة قراءة تاريخنا أو إعادة تفسيره من منظور عربي.

تعريب الدراسات التاريخية :

وربما يكون من المناسب أن نحاول النظر إلى المشهد الحالي في مجال الفكر التاريخي العربي قبل الخوض في تفاصيل الإجابة عن السؤال الذي يشي بأن ثمة أزمة تكمن وراء السؤال , فقد مر البحث التاريخي العربي ، بتطورات كثيرة منذ بدأ الأجانب والدراسات التاريخية في جامعة القاهرة قبل ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن , فقد قام عدد من المؤرخين المصريين والعرب الرواد بتعريب الدراسة التاريخية , وتخرجت أعداد كبيرة من الباحثين العرب لم يلبثوا أن أسسوا الأقسام الأكاديمية في الجامعات العربية ، التي توالت في الظهور في شتى أرجاء الوطن العربي ، وتكاثرت الدراسات والبحوث التي حققت قدراً متوازناً من تطور الفكر التاريخي العربي.

وقد أدت هذه الزيادة الكمية إلى تغير نوعي وكيفي في مجال الدراسات العربية حقاً , ولكن روح التفرق وعدم التنسيق وغياب مشروع عربي متكامل لإصدار الكتب والموسوعات التي تحمل القراءة العربية للتاريخ ، حالت دون الإفادة الكاملة من هذه الزيادة الكمية والتغير النوعي النسبي.

والمنطقة العربية حافلة بأقسام التاريخ ، كما أن أعداداً متزايدة من الجمعيات المهتمة بالدراسات والبحوث التاريخية قد نبتت على أرض الواقع الأكاديمي العربي ، وهذه نقطة إيجابية يجب أن نضعها في الحسبان ، ومن ناحية أخرى فإن عملية تعريب الدراسات التاريخية في العالم العربي تمت أحياناً بنجاح كبير في بعض الفروع , وبنجاح جزئي في فروع أخرى , على حين بقيت فروع قليلة أسيرة تماماً للمفاهيم والمصطلحات والمنظور الأوربي – الأمريكي..

وهذه نقطة إيجابية ثانية كذلك , فإن عدد المؤرخين العرب الفاهمين لحقيقة الوظيفة الثقافية الاجتماعية للدراسة التاريخية يزداد بشكل مطرد ، وهذه نقطة إيجابية ثالثة ، فضلاً عن أن البحث والدراسات التاريخية التي قام بها المؤرخون العرب قد نجحت إلى حد ما في إحداث شرخ في الصورة التي رسمتها القراءة الصهيونية الاستشراقية لتاريخ العرب والحضارة العربية ، وهذه نقطة إيجابية رابعة ، والأهم من هذا كله أن عدداً متزايداً من المؤرخين المسلمين والعرب قد نجحوا في كسر الاحتكار اليهودي الصهيوني لدراسة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعات الأوربية والأمريكية ، وهذه نقطة إيجابية خامسة.

هذه النقاط الإيجابية في المشهد ، وغيرها لا تنفي وجود النقاط السلبية المتمثلة في سيادة المفهوم الأوربي في تقسيم العصور التاريخية حتى الآن ، وفي تسلط المصطلحات الأوربية التي تخدم القراءة الأوروبية التي تصطدم بالضرورة مع القراءة العربية للتاريخ العربي ، فضلاً عن تخلف وسائل أعداد الباحثين والمؤرخين العرب ، وضآلة الموارد المالية المخصصة لتعليمهم ..

ومن ناحية أخرى ، فإن الخصومة القائمة بين معظم الحكام العرب والبحث العلمي وأهله ، قد جعلت مسألة البحث العلمي مسألة مظهرية شكلية في كثير من الأحيان ، ولم يكن البحث التاريخي استثناء في ذلك بطبيعة الحال ، انظر إلى ميزانيات البحث العلمي في العالم العربي , وقارنها بميزانية البحث العلمي في دولة الكيان الصهيوني مثلا ..ومثلما يفتقر العرب حالياً إلى التنسيق في كثير من أمور حياتهم على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وبالشكل الذي جعلهم يتوارون في الركن المظلم من العالم، غير أنهم لا يزالون أسرى التواريخ القطرية والمحلية التي تعكس واقعهم السياسي المفكك , وحال التشرذم التي يعانون منها من جهة وتكرسه من جهة أخرى.

ومن هنا فإن الإجابة عن السؤال المطروح : هل هناك ضرورة لإعادة كتابة تاريخنا ؟ تكون بالإيجاب حتماً إذ إن ما تم إنجازه قد تحقق بجهود فردية في غالب الأحوال , ولم تكن تساند هذه المبادرات الفردية جهود مؤسسية عامة في كثير من الأحيان , وهو ما أدى بالضرورة إلى عدم توافر الشروط اللازمة لوجود (قراءة عربية للتاريخ العربي) حتى الآن ..

صحيح أن الفترة التي تمتد من العقود الأولى من القرن العشرين حتى الآن قد شهدت تطوراً كمياً كبيراً , بيد أن هذا التطور الكمي لم يكن يوازيه تطور كيفي مناسب , وهو ما يعني أنه لا توجد حتى الآن مدارس عربية ، أو حتى اتجاهات في الفكر التاريخي ، وما زلنا نعيش عالة على إنجازات الفكر التاريخي الغربي ومدارسه واتجاهاته حتى الآن.

وحين ظهرت مجموعة من المؤرخين العرب تسير على هدي مدرسة ليوبلود فون رانكة الألماني الصارمة الخالية من الخيال نافستها جماعة نسبت نفسها إلى الفكر الماركسي , ونظريات التفسير المادي ، على حين لحق آخرون بالمدرسة البورجوازية التي يمثلها الإنجليزي (آرنولد توينبي) .

وعلى الرغم من أن البحث التاريخي قد حقق قدراً معقولاً من التقدم النسبي في النصف الأول من القرن العشرين , فإن التراجع بدأ مرة أخرى في الربع الأخير من هذا القرن ، ولأسباب كثيرة لا يتسع المجال لها..

تراجع البحث التاريخي ضمن تراجعات كثيرة في العالم العربي ، وإن ظلت مجموعات من المؤرخين الفرادى ، ومراكز البحوث ، تحاول السباحة ضد التيار.

وعلى الرغم من أن المقارنة بين الأوضاع في خمسينيات القرن العشرين والأوضاع الآن في مجال الدراسات التاريخية والتقدم الكمي والنوعي ، فإن ما يحقق إعادة قراءة تاريخنا من شروط لم تتوافر حتى الآن ، ولست أظن أن الأمر مستحيل أو حتى صعب ، ذلك لأننا نمتلك المقومات والشروط اللازمة لتحقيق ذلك ، ولكننا لا نملك التنسيق الجماعي على مستوى العالم العربي من ناحية ، ونفتقر إلى الإدارة السياسية التي توفر الشروط الصحية للبحث العلمي من ناحية أخرى..

وعلى الرغم من أن مؤسسات أهلية كثيرة تحاول إذكاء العمل الثقافي في الوطن العربي فإن نشاطها يكاد يكون محصوراً في نطاق الأدب والنقد والدرسات الأدبية ، كما أن الاستبداد السياسي الذي تعاني منه الشعوب العربية انعكس سلبياً على الحرية الفكرية , ولم يكن البحث التاريخي استثناء في ذلك بطبيعة الحال , والمسألة لا تحتاج إلى جهد المقاتلين بقدر ما تحتاج إلى صبر العلماء ، ولنا فيما حدث في مجال الدراسات العثمانية أسوة.

دفاع الحضارة الإسلامية:

وربما يساعدنا على الدعوة لإعادة قراءة تاريخنا حقيقة مؤداها أن خطوات مهمة قد تمت بالفعل في هذا المجال في دراسة بعض جوانب الحضارة العربية الإسلامية ، وبعض فترات تاريخ المسلمين , فضلاً عن القراءة الناجحة لفترات مهمة في تاريح العرب الحديث والمعاصر، وقد أسهم مؤرخون مسلمون وعرب كثيرون في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بالدرجة التي أحدثت صدعاً في الرؤية الغربية لهذا التاريخ .

ووجدت مراجعات كثيرة لعدد من المُسلّمات التي كانت راسخة بشأن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بالفعل ، ولكن الهجوم العنيف من جانب الدوائر الصهيونية والإمبريالية على الإسلام والمسلمين والعرب يستدعي جهداً أكثر قوة ومثابرة لإعادة قراءة أو تفسير التاريخ الإسلامي .

وهنا ينبغي أن نشير إلى أننا لسنا بحاجة إلى قراءة تبريرية ، أو دفاعية للتاريخ الإسلامي أو تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ، كما أننا لسنا بحاجة إلى قراءة بعيون وردية تجرد التاريخ الإسلامي من طابعه البشري , وتحاول أن تجعله نوعاً من الفعاليات الإلهية ، فقد كان المسلمون الأوائل بشراً مثل سائر البشر ، ولكنهم كانوا أصحاب مرجعية تمثل قوام حضارتهم , وعليها مدار حياتهم , ويجب إعادة قراءة تاريخيهم في ضوء هذه المرجعية ، وليس في ضوء مرجعيات أخرى لم يكن أصحاب هذه الحضارة يعرفون عنها شيئاً , كما أنها ليست ملزمة لنا في حاضرنا بشيء.

ويتمثل خطر القراءة التبريرية أو الدفاعية ، للتاريخ الإسلامي في أنها تتصور أن الحضارة العربية الإسلامية كانت حضارة أحادية الجانب ، وهو أمر لا يمكن أن يكون صحيحاً من ناحية ، كما أنه يعيق فهمنا لتاريخنا من ناحية أخرى, فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة متعددة الجوانب ، حققت الكثير من الإنجازات , وحفلت بالعديد من السلبيات، شأن كل حضارات البشر ، ولكنها في التحليل الأخير كانت حضارة إنسانية الطابع ، فتحت ذراعيها لكل الأجناس والديانات فأفادت منهم وأفادتهم ..

وربما يكون هذا هو السبب في أن هذه الحضارة هي الأطول عمراً بين حضارات البشر ، والأوسع في مداها الجغرافي ، كما أن مراكز الثقل فيها تنقلت بين كل الأقاليم الحضارية القديمة في العالم ، كذلك فإن القراءة التبريرية تحمل خطراً آخر هو الإحساس بالدونية الحضارية إزاء الآخر الذي يهاجم حضارتنا وتاريخنا ، والإحساس بالدونية يعيق القراءة الواعية للتاريخ على أي حال.

المصدر : مجلة العربي الكويتية , عدد ربيع الأول سنة 1427هـ

==============

متى نسد هذه الثغرة؟

(الشبكة الإسلامية) مصطفى السباعي*

من طالع تاريخ الإسلام منذ بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم حتى اليوم يرى ظاهرة واضحة كل الوضوح وهي أن الإسلام ما برح يخوض معارك متعددة النواحي تستهدف القضاء عليه أو تشويهه أو صرف المسلمين عنه، وهذه المعارك تتسم من جهة أعدائه بالدقة والتنظيم والكيد المحكم كما تتسم من جهة المسلمين بالبراءة والغفلة عن هذه المؤامرات والدفاع العفوي دون إعداد سابق أو هجوم مضاد، ولولا أن الإسلام دين الله الذي تكفل بحفظه لكانت بعض مؤامرات أعدائه كافية للقضاء عليه ومحو أثره.

ومن الواضح أن المؤامرات العدائية للإسلام تلبس في كل عصر لبوسها، فهي حين يكون المسلمون أقوياء تأخذ طريق التهديم الفكري والخلقي والاجتماعي، وحين يكونون ضعفاء تتخذ طريق الحرب والتجمع وتستهدف الإبادة والإفناء، فإذا عجزت طريق الحرب عن تحقيق أهدافها انقلبت إلى طريق فكري خداع تستهوي الغافلين أو المغفلين، فينبت للإسلام في داخل أسواره نابتة تنحرف شيئاً فشيئاً عن عقيدة الإسلام السمحة المشرقة المحررة حتى تنتهي إلى عقائد وأفكار تخالف المبادئ الأساسية للإسلام، وتحقق الأهداف الرئيسية التي يسعى إليها أعداؤه من حيث يبدو أنهم لا علاقة لهم بهذا التخريب والتهديم.

ونسوق مثلاً آخر على يقظة أعداء الإسلام وإحكام المؤامرات عليه، وهو استغلال الخلاف الذي وقع في صدر الإسلام بين الصحابة رضوان الله عليهم حول الخلافة، إن مثله يقع في كل أمة وفي كل عصر، ولكنا لم نر أمة من الأمم غيرنا عنيت بإثارة مثل هذا الخلاف أربعة عشر قرناً!..

إن المؤامرة تبدأ من اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ ثم يتلقفها قادة الفرس الوثنيون الذين خلص الإسلام شعوبهم من حكمهم الظالم وعقيدتهم الوثنية، وفتح عقولها وعيونها لرؤية النور والتعرف على الحق، فهؤلاء حين انهزموا أمام الجيش الإسلامي المنقذ لم يجدوا وسيلة للانتقام من هؤلاء المحررين إلا أن يشوهوا سمعتهم وسيرتهم في بث الأخبار الكاذبة عنهم مما يزري بمكانتهم حقاً لو صحت هذه الأخبار، ومما يحط من شأن هذا الدين وحضارته إذ كان هؤلاء حملته وقادة جيوشه، وليس أدل على ذلك من أن نقمة أولئك الحاقدين قد انصبت على مفاخر الحضارة الإسلامية علماً وحكماً وقيادة، أي على جميع القادة العسكريين الذين كانوا يوجهون هذه الحملات التحريرية، وعلى علمائهم الذين نشروا علم الإسلام وشريعته وأدوا أمانة العلم إلى من بعدهم بتجرد لا يعرف أولئك الحاقدون له مثيلاً في تاريخهم أو تاريخ غيرهم.

لقد حصل هذا كله وأثر أثراً بالغاً في تشتيت كلمة المسلمين ووهن قوتهم فيما بعد، وكان الظن أن يعي المخلصون المثقفون من المسلمين في هذا العصر هذه الدروس المؤلمة، ولكن الأسف أن كثيراً من هؤلاء لم يمسكوا القلم ليرفعوا أمتنا من حضيض الجهالة والتأخر، وليدفعوها إلى ميادين العلم والقوة والحضارة، بل أعادوها جذعة من جديد، فاقتصرت كل كتاباتهم وأقاصيصهم على تصوير الخلاف القديم بأسلوب يزيد في الفرقة، ويؤجج نار الضغائن، ويشمت أعداء الإسلام بنا، ويحقق لهم أهدافهم في منعنا من الالتقاء من جديد على الحب والخير والتعاون على البر والتقوى.

ولو سألت هؤلاء الذين يزيدون النار اشتعالاً، فيم هذا الجهد الضائع؟ وفيم هذه المساعي التي تلهي أمتنا عن بناء المجد من جديد وعن تحرير أوطانها من الاستعمار وآثاره، وتمكن الاستعمار الجديد أن يتمم رسالة الاستعمار القديم في إذلالها واستلاب خيراتها والحيلولة دون تجمعها ووحدتها؟ ولو سألتهم فيم هذا كله لما كان جوابهم إلا جواب واحد: إننا ندافع عن حق سلب من أصحابه!.. هل في تاريخ العالم كله أن أمة شغلت بنزاع بين أجدادها مضى منذ أربعة عشر قرناً وقد انتهوا إلى ذمة الله وهو وحده الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ هل في العالم اليوم أمة تحترم نفسها وتغار على كرامتها تشغل بخلاف عفى عليه الزمان عن أخطار محدقة بها من كل مكان؟

هذه بعض الأمثلة على يقظة أعدائنا وسهرهم على إحكام المؤامرات على أمتنا وشريعتنا وتاريخنا، وغفلتنا نحن عن ذلك كله، وانسياقنا مع الأهواء والعواطف التي يعرف أعداؤنا كيف يثيرونها في كل عصر بما يلائم روح العصر ومقتضيات مصالح أولئك الأعداء..

ترى، لم فاض تاريخ الإسلام بهذه الظاهرة المؤلمة: يقظة أعدائه ودأبهم على حبك المؤامرات لتهديمه، وغفلة أبنائه عن ذلك كله فلا يشعرون بالخطر إلا بعد أن يقع بهم فعلاً، وبعد أن تنهكهم الجهود في دفعه وتقليل أخطاره؟ أهو ناشئ من براءة الإسلام وخبث أعدائه؟ أم هو ناشئ من طبيعة الخير وطبيعة الشر في كل زمان؟ أم هي طبيعة العصور الماضية التي لم تكن تتقن وسائل اكتشاف المؤامرات والجرائم والخيانات؟ قد يكون من هذه الأمور كلها، فهلا آن الأوان لأن تقوم فينا مجامع ومؤسسات لتتبع آثار المؤامرات وأهدافها ووسائل تنفيذها، كما تقوم في كل دولة من دولنا الآن دوائر لتتبع آثار المؤامرات السياسية والعسكرية على أوطانها وشعوبها؟

إن استمرارنا في هذه الغفلة جريمة لا يغفرها الله، ولا يعذرنا فيها التاريخ، ولا يحترمنا معها الأحفاد، ولو أن دولة إسلامية خصصت عشر ميزانيتها لفضح هذه المؤامرات لكان أعظم شرف في تاريخ الإنسانية: شرف القضاء على الشر المتربص بالخير تربصاً يؤدي إلى شقاء الإنسانية ودمارها.

وهل لنا أن ننادي جميع عقلاء المسلمين ومفكريهم وكتابهم ـ ممن لا يتاجرون بالخلافات المذهبية ـ بأن يلتقوا من جديد على كلمة سواء: أن يدفنوا آثار الماضي كله، وأن يعملوا على ما يدفع عن أمتهم الأخطار المحدقة بهم من كل مكان، متعاونين بصدق وإخلاص، تعاون الذين لا تعرف الأهواء إلى قلوبهم سبيلاً، ولا الدسائس إلى عقولهم منفذاً، وأن يجعلوا قدوتهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وهدفهم تخليص المسلمين من أوزارهم وأغلالهم، وتبليغ رسالة الإسلام ونشر هدايته ونوره في العالمين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟ اللهم إننا بلغنا فاشهد..

ـــــــــــــــــــــــــ

* (حضارة الإسلام) العدد التاسع.

=============

المدارس النظامية في عهد السلاجقة

أولاً : نشأتها :

أختلف المؤرخون وأهل العلم حول بداية نشأة المدرسة الإسلامية، فمنهم من قال أنها ظهرت في عهد نظام الملك الذي أنشأ المدرسة النظامية سنة 459ﻫ ومنهم من قال إنها كانت قد ظهرت قبل ذلك بكثير، ولكن بالرجوع إلى المصادر والكتب المتخصصة نجد أن المدرسة في أول ظهور لها كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري 150ﻫ - 270ﻫ "

ويبدو من نسبتها إلى مؤسسها أنها قد أسست أثناء حياته، وأبو حفص البخاري من الفقهاء الذي تزعموا الحركة الفكرية في مدينة بخاري، ثم نشطت حركة إنشاء المدارس في بلاد المشرق بعد هذا التاريخ، فقد تم إنشاء مدرسة بنيسابور منُذ بداية القرن الرابع الهجري [1] أنشأها الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الشافعي (270 – 354ﻫ). وقد كانت المدارس التي أسست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر [2]، ومن الجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهرت في دمشق قبل ظهورها في بغداد، فقد تم إنشاء أول مدرسة فيها عام 391ﻫ وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية المنسوبة إلى منشئها، صادر عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق " رشأ بن نضيف " حيث قام بتأسيس المدرسة الرشائية في حدود الأربعمائة، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من الحلق التي كانت تعقد في المسجد إلى مكان يختص بتلقي علم معين فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال وتوفر لهم أسباب التعليم [3]، وفيما يلي ذكر لبعض المدارس التي أنشئت قبل المدرسة النظامية وهي حسب التسلسل الزمني لظهورها وهي أيضاً على سبيل المثال لا الحصر :

1- مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150ﻫ - 217ﻫ).

2- مدرسة ابن حيان، في بداية القرن الرابع الهجري وفي حوالي سنة 305ﻫ شيد أبو حاتم ابن حيان البستي داراً في بلده بست وجعل فيها خزانة كتب وبيوتاً للطلبة.

3- مدرسة أبي الوليد، قبل سنة (349ﻫ) هجري أنشئت مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي ت 349) ويذكر أنه كان كثير الملازمة لها.

4- مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد ت (388ﻫ) الذي وصفه السبكي بأنه كان إلى أن خرج من دار الدنيا وهو ملازم لمسجد ومدرسته.

5- المدرسة الصادرية التي أنشئها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391ﻫ في مدينة دمشق.

6- المدرسة البيهقية بنسيابور والتي أنشئت قبل أن يولد نظام الملك وقد ولد سنة 408ﻫ، فتكون هذه المدرسة أنشئت قبل هذا التاريخ.

7- مدرسة أبي بكر البستي (ت429ﻫ) والتي بناها لأهل العلم بنيسابور على باب داره ووقف جملة من ماله عليها وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والناظرين بنيسابور.

8- مدرسة الإمام أبي حنيفة والتي أنشئت بجوار مشهد أبي حنيفة وأسسها أبو سعد ابن المستوفي حيث تم افتتاحها قبل افتتاح المدرسة النظامية بخمسة شهور[4].

وقد ذكر بعض المؤرخين أن الغزنويين اهتموا بالمدارس من خلال بعض أمراءهم، كالنصر بن سبكتكين – حينما كان والياً على نيسابور وسماها السعدية [5] وجاء نظام الملك فوجد أمامه هذه النماذج العديدة من المدارس، ورأى الفاطميين قد سبقوه إلى تشييد الأزهر، والاعتماد عليه في دعوتهم ودراسة مذهبهم فكانت هذه مصادر إيحاء وتحفز للقيام بإنشاء مجموعة من المدارس وليست مدرسة واحدة لتشارك المجاهدين في حربهم ضد المبتدعين بنفس السلاح [6].

لقد تسربت الباطنية في سوريا وفارس والعراق وأخذت بفضل إغراء الدعاة وإثارتهم فطاف – ناصر خسرو – ومن بعده – حسن الصّباح – يدعوان للمذهب الباطني الإسماعيلي الشيعي الرافضي، وقام إبراهيم ينال – ثم البساسيري في الموصل وبغداد بثورتين عنيفتين كادت تقضيان على الخلفاء السلاجقة جميعاً، وكان لدار الحكمة والأزهر اللذين أسسهما الفاطميون في القرن العاشر الهجري بالقاهرة الفضل الأكبر في بث مبادئ التشيع الإسماعيلي ونشر الحكم الفاطمي [7]، ولم يكن إيقاف حركة الباطنية هذه فضلاً عن القضاء عليها بالأمر الهيّن، جذورها قد تغلغلت في جسم البلد الإسلامي الكبير بحيث لم يبق عضو منه سليماً وبخاصة إقليم خراسان فإنه كان موطن المغذَّين لها بالآراء الفلسفية والبراهين المنطقية إن لم يكن من المؤسسين لها، .. وقد اتخذ هؤلاء وتسيلتهم الإقناع والحجة عن طريق الحوار والمناقشة [8].

لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455ﻫ، فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة ! إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، خاصة وأن السلاجقة ورثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهداً في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم، كما غضوا الطرف عن نشاط دعاة الإسماعيلية في فارس والعراق وترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الشيعة فيهما، خاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية تتولى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشاء أبو علي بن سِوّار الكاتب أحد رجال عضد الدولة ت 372ﻫ دار كتب في مدينة البصرة وأخرى في مدينة رام هرمز : وجعل فيها إجراء على من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة[9]، كما أسس أبو نصر : سابور بن أرد شير : وزير بهاء الدولة ت 416ﻫ داراً للعمل في الكرخ فيعام 383ﻫ، ووقف فيها كتب كثيرة، ذكر ابن الأثير أنها بلغت عشرة آلاف وأربعمائة مجلد في أصناف العلوم، وأسند النظر في أمرها ورعايتها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة [10]، وبعد وفاة سابور آلت مراعاة هذه الدار إلى الشريف الرضى نقيب الطالبيين [11] كذلك اتخذ الشريف الرضي ت 406ﻫ الشاعر الإمامي المشهور دار اسماها دار العلم، وفتحها لطلاب العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه [12]. ويدل مجرد اسم هذه المؤسسات على الفرق بينهما وبين دور الكتب القديمة، فكانت دار الكتب تسمى قديماً خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أمام المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم، وخزانة الكتب جزء منها[13]. وهذا يشير إلى هذه الدور الجديدة كانت لها وظيفة تعليمية أيضاً [14].

وإلى جانب دور العلم هذه كان كثير من أئمة الشيعة الإمامية يقومون بالدعوة إلى مذهبهم ونشر عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم وأعنى بها المساجد التي دفن فيها أئمتهم – على حد قولهم – لئن بعضها لا يثبت والتي عرفت عندهم بالعتبات المقدسة [15]: فقد كان الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان، شيخ الإمامية المتوفي في عام 413ﻫ يعقد : مجلس نظر بدار يحضره كافة العلماء وكانت له منزلة عند أمراء الأطراف يميلهم إلى مذهبه [16] وأما أبو جعفر الطوسي محمد بن الحسن فقيه الإمامية ت 460ﻫ، فقد فر إلى النجف بعد أن هو جمت داره في بغداد، ونهبت محتوياتها في عام 448ﻫ في حملة الضغط التي تعرض لها الشيعة في بغداد عقب دخول السلاجقة إليها وتمكن الطوسي في مقره الجديد من مواصلة نشاطه العلمي والتعليمي فألف مجموعة من الكتب في الفقه والحديث على مذهب الإمامية احتلت مكاناً بارزاً في الدراسات الشيعية الإمامية، كالتهذيب والاستبصار، وهما من الكتب الأربعة المعول عليها عندهم والتي تحفل بالروايات الضعيفة والموضوعية والتي لا وزن لها في الميزان العلمي الصحيح، كما أملى الطوسي – في مشهد النجف – على طلبته كثيراً من الدروس جمعها في كتاب سماه الأمالي [17]. هذه بعض الجهود التي قام بها الإمامية للترويج لمذاهبهم والدعاية له، أما الإسماعيلية، فكانوا أساتذة هذا الميدان ولهم القدم الراسخة فيه إذ حازوا قصب السبق في إنشاء المؤسسات التعليمية، وتوجيهها وجهة مذهبية .[18]

بدأ الفاطميون نشاطهم في هذا المجال – منُذ قيام دولتهم في الشمال الإفريقي – وكان عهدهم الذهبي بإنشاء الجامع الأزهر عام 359ﻫ وجعلوا منه مؤسسة تعليمية تعني بنشر مذهبهم في عام 378ﻫ عندما ما سأل : الوزير يعقوب بن كلس الخليفة العزيز في صلة رزق جماعة من الفقهاء : فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم، وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع : وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكان لهم من مال الوزير صلة في كل سنة ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار العلم " دار الحكمة " للغرض ذاته في عام 395ﻫ وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ومن خزائن مقر الدولة الفاطمية وأجرى الأرزاق على من رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر [19]، هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الخلاقة الفاطمية لإعداد الدعاة، وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثره في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة [20]، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً [21]، وتربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه، لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة [22]

لقد كان النظام شافعياً سنياً حريصاً على الإسلام الصحيح وقد عاصرت نظام الملك آراء وأفكار متباينة مختلفة كانت منتشرة في العالم الإسلامي كالمعتزلة والباطينة وبقايا القرامطة وغيرهم من أصحاب الملل والنحل وكان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة إلى توجيه الرعية وجهة تخدم مصلحة الدولة وتبعث على الاستقرار والسكنية والأمن، لذا كان هم نظام الملك التأكيد على مواضع الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي النظامية خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان نظام الملك شافعياً، كان يرى أن يدرس الفقه والأصول المستمدة من أفكار وأراء الشافعية وكان من شروط النظامية أن يكون المدرس من الشافعية أصلاً وفرعاً [23].

إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني في أنحاء المعمورة وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظمائها، والكثير من رموز الأمة الإسلامية في عالم السياسة والفكر والعلم والتاريخ والثقافة في حالة استرخاء، وفتور، والبراكين المدمرة تجري من تحتهم، فهلا نستلهم الدرس، ونستخرج العبرة، ونعمل بالسنن والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من حكامنا، مثل ألب أرسلان في غيرته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي، وابن عقيل والبغوي وغيرهم في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة، وقضايا الفكر، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والانترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارسة والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله وأجره ومثوبته ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

00000000000000000

[1] الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 94.

[2] المدرسة مع التركيز على النظاميات للسامرائي ص 336 – 337.

[3] نظم التعليم عند المسلمين، عارف عبد الغني ص 89 الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 95.

[4] التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص 351.

[5] نظام الملك ص 365.

[6] المصدر نفسه ص 365.

[7] نظام الملك ص 353.

[8] المصدر نفسه ص 353 ، 354.

[9] تاريخ التربية عند الإمامية، عبد الله فياض ص 87 – 89.

[10] المنتظم (8/205) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع (1/330).

[11] التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد أبو الفتوح ص 177.

[12] تاريخ التربيةالإسلامية ص 139 د. أحمد شلبي.

[13] التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد ص 177.

[14] المصدر نفسه ص 177.

[15] المنتظم (8/11) التاريخ السياسي والفكري ص 178.

[16] المصدر نفسه.

[17] تاريخ التربية عند الإمامية ص 275 – 276.

[18] التاريخ السياسي والفكري ، عبد المجيد ص 178.

[19] خطط المقريزي (2/272) التاريخ السياسي والفكري عبد المجيد ص 178.

[20] التاريخ السياسي والفكري ص 179.

[21] المصدر نفسه ص 179.

[22] المصدر نفسه ص 179.

[23] بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية ص 105.

المصدر : الشبكة الليبية

==============

التراث العلمي العربي وتاريخ العلوم العربية الإسلامية

(الشبكة الإسلامية)

نعني بالتراث العلمي العربي عندما نتحدث عنه الإسهامات العربية والإسلامية الوسيطة في العلوم البحتة والتطبيقية. وقد كان هذا التراث محظوظاً لجهة التواصل بين إسهاماته في ظهور العلوم الحديثة, والبدء بدراساته وقراءاته التاريخية والنقدية. فحتى القرن السابع عشر الميلادي, كانت النشرات اللاتينية للخوارزمي والرازي وإبن سينا والتبّاني, لا تزال مستعملة أو معروفة. في حين بدأت نشرات الأصول العربية في القرن الثامن عشر, واشتدّ عودها في القرن التاسع عشر.

بيد أنّ ما كان جارياً في الواقع, انقطع في الوعي. فكما تعرضت الحضارة الإسلامية لمحاولات اقتصاص واغتيال من سياقات التاريخ الحضاري العالمي, كذلك تعرضت الانجازات العلمية العربية الإسلامية للانتقاص أو الإنكار, وبخاصة في الفلك والطب والهندسة والرياضيات. ومن جانب مؤرخي العلوم, وفلاسفة التاريخ, أكثر مما هو من جانب المستشرقين, الذين ما كانوا يجيدون التعرف عليها في أي حال.

على أنّ الأمر تغير تغيراً راديكالياً بعد الحرب العالمية الثانية وعلى مستوى الدراسات النظرية والتاريخية, كما على مستوى النشرات العلمية للنصوص الطبية والفلكية والرياضية وعلوم النبات والحيوان. وبسبب التقدم في مجال نشر النصوص, حدث تقدم في الدراسات في شتى المجالات, وصولاً إلى إمكان كتابة الموسوعات, وكتابة تاريخ للطب العربي أو للفلك العربي أو لعلم المناظر أو للكيمياء أو الرياضيات... الخ. وفي السياق نفسه ما عاد من الممكن تجاهل العلوم العربية باعتبارها جزءاً تكوينياً في الحضارة الإسلامية, وفي الانجاز العلمي العالمي في الوقت نفسه. وكان التراث العلمي العربي محظوظاً أيضاً من حيث انّ القائمين على نشر نصوصه ودراساته بينهم اليوم عدد كبير من العرب والمسلمين ذوي الشهرة العالمية مثل فؤاد سزكين وعبد الحميد صبرا ورشدي راشد وسلمان قطّايه وأحمد سليم سعيدان وأحمد يوسف الحسن وأحمد فؤاد باشا وجورج صليبا وأكمل الدين إحسان أوغلو. وبعض هؤلاء, من مثل رشدي راشد وفؤاد سزكين أصحاب مشروعات كبرى, في تاريخ العلوم أو فلسفتها أو هما معاً, ما عاد يمكن أحداً تجاهلها أو إغفال أطروحاتها وأفكارها.

التراث العلمي والفلسفي والثقافي, العربي الإسلامي, هو اليوم جزء أساسي في تاريخ العلم والثقافة في العالم. وبسبب ظروف الحصار, التي يمرّ بها العرب, وتمر بها ثقافتهم, ووجودهم السياسي والإنساني, فلعروض التوعية المستنيرة والمنفتحة والعامة, أهمية استثنائية ليس من أجل الترْبيت النرجسي, بل من أجل المعرفة والتشجيع على الانفتاح والمشاركة.

الحياة 2004/07/24

==================

دور الترجمة في الدعوة إلى الله

(الشبكة الإسلامية)

ما زالت الدعوة الإسلامية تخطو خطوات وئيدة في نشر الدين على مستوى الشعوب، فلو ارتضينا المقارنة بين ترجمات معاني القرآن وترجمات الإنجيل لوجدنا أن الفاتيكان قد قام بترجمة الإنجيل المعتمد لديه إلى كل اللغات الحية تقريبا، وكان ذلك قبل أن تبدأ حركة ترجمة معاني القرآن لدى المسلمين بصورة منظمة ذات أثر.

أما إذا أتينا لنقارن بين صراع نشر ثقافة الحضارات لوجدنا أن المسلمين لا يعدون أن تكون حضارتهم مثل حضارة الهند والصين اللتان ينتقي منهما الغرب ما شاء ليترجمه دون أن تكون تلكما الحضارتان ذاتي ثقافة غازية.

والواقع أن الحضارة الإسلامية عريقة العلوم والمعارف أصيلة المثل والقيم، بهرت العالم كله بمنظومتها المعرفية، وأقامت للبشرية صرحا من المعارف والعلوم مازال شاخصا شامخا في ضمير العقل الإنساني.

ومثل هذه الحضارة الشماء لا يليق بها أن تتوارى عن أعين الخلق وتتشرنق مستترة عن احتياجات الإنسانية بزعم اعتزازها باللغة العربية الأصيلة، أو بزعم أنها غنية بنفسها، أو بزعم عدم قدرتها على منافسة الزحف الحضاري الغربي.

فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم ترجمانا هو زيد بن ثابت أمره أن يتعلم السريانية فتعلمها في بضعة عشر يوما. واستطاع القرآن أن يكون كتاب البشرية الأول في خلال عشر سنين عندما استقر في وجدان الشعوب التي فتح بلادها المسلمون الأول.

وكان ترجمة التراث العربي هو السلاح الثاني في الفتوح الإسلامية حتى غدت اللغة العربية هي لغة الثقافة والمعرفة، لأنها صارت اللغة الوسيطة بين كل الشعوب لنوال العلوم الراقية.

وبدأ الضعف يدب في أوصال الثقافة الإسلامية يوم انتدب بعض ضعاف النفوس أنفسهم لترجمة علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية، واشتغلت الحركة الثقافية بهذا الزخم الفارغ، الذي كان نفعه في ميزان الحضارات الأخرى؛ إذ جعلت المعايير الفلسفية اليونانية هي الحاكمة على الحق المطلق في النظام المعرفي الإسلامي.. وصار القرآن نفسه يحاكم إلى منطق أرسطو وأفلاطون، وشغل المسلمون دهورا بالنزاع بين الإشراقيين والرواقيين، وكان الجاهل بعلوم تلك الحضارات الوافدة معدودًا فيمن لا يوثق بعلمه أصلا وإن كان إماما من أئمة الدين.

كل ذلك حينما انعكس الدور الأصيل الذي كانت تقوم به الفتوحات الإسلامية ألا وهو غزو العقول والقلوب بإيصال معاني هذا الدين المتين .

وقد فطن الاستعمار (وإن شئت فقل: الاستخراب) لدور الترجمة في توطين الثقافة الغازيـة، فأسس بجوار الترسانات العسكرية الجرارة هيئات علمية راقية المستوى كانت مهمتها مساعدة الزحف العسكري عبر استعراض ثقافة المستعمر بلغة الدولة المغزوة، وعندما ظهر الفرق جليا بين تخلف الدول المغزوة وإمكانيات الدول الاستعمارية في المجال الاقتصادي والعسكري وفي المجالات المدنية المتنوعة تقبلت الناس هزيمتهم باقتناع وراحت نفسية الهزيمة تتغلغل في جذور الضمير حتى مسخت الأفئدة ووجدنا من أفراد الأمة الإسلامية من ينادي بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية ومن يطلب الكفران بكل منتمٍ إلى الإسلام .

تلك الهيئات العلمية هي المحافل الاستشراقية التي كانت تلعب دورا لا يقل خطورة عن الدور التنصيري الذي صاحب الاستعمار في مراحله المختلفة.

والغريب أن جل الباحثين لم يفهموا أو لم يحاولوا أن يتفهموا أسباب قيام المحافل الاستشراقية بترجمة كثير من المراجع العربية إلى لغاتهم اللاتينية على اختلافها. فبلغت سذاجة البعض إلى الزعم أن المستشرقين قد انبهروا بالثقافة العربية فكانوا خداما في محرابها وسدنة في معبدها هياما بجمالها وعظمتها. ونحن لا ننكر وجود المستشرقين المنصفين لكن عددهم أو انتماءاتهم لا تمت بصلة للدور الجمعي الذي كان يقوم به جل المستشرقين ألا وهو القيام بحركة ترجمة واسعة النطاق من وإلى اللغة العربية بغرض أن يتخصصوا هم في اللغة العربية فيحتلوا مرجعيتها دون علماء المسلمين أنفسهم.

وهذا ما قد حدث بالفعل ، فمن الذي ينكر عظمة مشروع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، أو مَن من الأدباء يستطيع أن يتعامى عن الدور الأدبي للمستشرقين؟!

وفي غضون بضعة عقود أواخر القرن التاسع عشر كانت الأكاديميات الغربية موئلا لكثير من الباحثين العرب والمسلمين لدراسة اللغة العربية والإسلام نفسه ، وصارت دكتوراه السوربون أو دكتوراه الدولة من فرنسا وأكسفورد وهارفارد من إنجلترا تهيؤ صاحبها لتبوئ أعلى المناصب العلمية في جامعات بلاده.

وصار بعض الأكاديميين يتفاخرون أنهم درسوا آداب اللغة العربية في أروقة جامعات أوروبا، والأنكى أن منهم من يزهو أنه درس الحديث أو التاريخ الإسلامي أو سيرة الخلفاء على يد أساتذة الكراسي في الجامعات المسيحية.

لكن المشاهد لكل ذي لب أن الدراسات العربية والإسلامية في تلك الجامعات لا تتم باللغة العربية، كما ندرس مثلا الأدب الإنجليزي باللغة الإنجليزية، بل إن كل الدراسات بما في ذلك البحث الذي يتقدم به الباحث تتم بغير اللغة العربية، لا لشيء إلا لأن المشرفين أعاجم، والمراجع التي يطالب الباحث العربي والمسلم بالرجوع إليها جلها كتبه المستشرقون بلغاتهم الأعجمية.

وهكذا نرى كيف أن حركة الترجمة التي قام بها المستشرقون كان لها دور واسع بعد ذلك في تبوء الثقافة الغربية منصب المرجعية في العلوم اللغوية العربية والإسلامية أيضا.

ونحن إذا أردنا أن نستعيد المرجعية العلمية للحضارة الإسلامية (في إطار لغتنا وديننا على الأقل) فلابد من القيام بحركة ترجمة واسعة لعلومنا الإسلامية واللغوية بحث نكون - نحن - المتحدثين باسم لغتنا وديننا لا أن يكون وسطاء أعاجم أعلاج هم الناطقون الرسميون باسم الإسلام .

إن طموح الدعاة يجب أن يتجاوز مجرد ترجمة معاني القرآن إلى ترجمة التراث الإسلامي الأصيل، حتى يقرأ العالم عن ديننا كما نفهمه نحن لا كما يفهمه الأعاجم.

وهذا يستتبع بالضرورة أن يكون من بين أبناء الأمة عامة والدعاة المخلصين خاصة من يتقن لغات الأمم حتى تأخذ حركة الترجمة جانب الأصالة، وتأمن التحريف، وتضمن الأمانة في النقل والصياغة.

ولا ريب أن حركة الترجمة التي نعنيها تحتاج إلى دعم دولي أو معونة هيئات إسلامية عالمية، وهي أشبه بالدور الجهادي الذي تقوم به هيئات الإغاثة في المناطق الإسلامية المنكوبة، لأننا لا نرى نكبة أعظم من أن نتعلم الدين واللغة من غيرنا.

وإضافة إلى ذلك لا بد أن يتجاور مع حركة الترجمة حركة علمية بحثية راقية المستوى تقوم بتعقب كتابات المستشرقين والرد عليها بنفس اللغة سواء عبر طبع كتب مستقلة أو في دورياتهم العلمية أو على صفحات الإعلام أو حتى على صفحات الإنترنت.

وحديثنا على الترجمة لا يتطرق إلى محاربة الاستشراق والتنصير فقط،بل إلى مواجهة كل المذاهب الهدامة والمنحرفة أيضا من حيث إن خطرها على الدين الحق لا يقل تشويها عن الكفر الصراح.

وهاهي ذي قوى الرفض والمجوسية المتشيعة تنفث سمها بكل لغات العالم عبر المجلات التي تصدرها سفاراتها بلغات تلك البلدان، وترصد ميزانيات ضخمة لمساعدة أقلياتها في كل العالم عبر المنح الدراسية.

وهاهي ذي القاديانية والبهائية تحرص على طبع أدبياتها بكل لغات العالم مع الاهتمام باللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والعربية، مما ينبيك - أيها الغيور على دينك - أن الترجمة سلاح ماض في نشر الأفكار.

ويمكننا صياغة الأفكار المهمة بالنسبة لهذه الطريقة من طرق الدعوة فيما يلي:

(1) إيجاد الكوادر التي تتقن اللغات العالمية، ومخاطبة الدعاة في كل بلدان العالم ممن يتقنون لغة بلدانهم مع اللغة العربية، وتكوين جبهة عالمية للتعريف بالإسلام، تمولها الحكومات والدول والهيئات الإسلامية والأفراد، على أن يترك إشرافها للدعاة.

(2) عقد مؤتمرات عالمية أو محلية لمناقشة هذا الموضوع، ومساهمة الدعاة في تقديم الأبحاث التي تخص هذا الصدد، مع تقديم خبرات ذوي الخبرة في هذا المجال.

(3) تكوين مكاتب ترجمة لدى كل حركة أو اتجاه دعوي يقوم بترجمة الكتب التي تشرح حقائق الإسلام مع التنسيق بين تلك المكاتب حتى لا يحصل التكرار.

(4) تنمية مهارات الترجمة لدى الدعاة بعقد دورات تدريبية للترجمة، واستضافة المتخصصين في هذا المجال لتدريس أحدث تقنيات الترجمة.

(5) صقل لغات المترجمين والرقي بمستواها حتى تكون ترجماتهم محل احترام أصحاب تلك اللغات، ويكون ذلك بمزيد من التخصص في أدبيات اللغة الثانية التي يتقنها المترجم.

(6) إنشاء صحف ومجلات بلغات مختلفة تترجم فيها كتابات علماء العصر وفتاواهم، ويوقف الناس من خلالها على أخبار المسلمين برؤانا وليس برؤى رويتر وأسوشيتدبرس.

(7) المسارعة في استكمال ترجمة معاني القرآن الكريم إلى كل لغات العالم سدا للفرض الكفائي العالق بكاهل الأمة.

(8) البدء في مشروع ترجمة الحديث النبوي إلى لغات العالم الحية، واختيار الكتب المعتمدة مثل الصحاح أو رياض الصالحين ونحوها من الكتب التي عم نفعها بين المسلمين.

(9) البدء في مشروع جاد لترجمة عقائد أهل السنة والجماعة إلى كل لغات العالم، في مواجهة الحملات الشرسة التي تقوم بها المذاهب الضالة في دعوة غير المسلمين، وإنقاذًا لأولئك الأفراد الذي وقعوا في براثن تلك المذاهب جهلا منهم بحقيقة الإسلام .

(10) تلافي القصور الإعلامي، والبدء في مشروع جاد لقناة إسلامية دعوية عالمية تستخدم اللغات العالمية الحية في عرض الإسلام وتبيان حقائقه.

إن هذه الأفكار - أيها القارئ العزيز - قد تبدو لك ضربا من الأحلام الشاردة، ولكنني أجزم لك غير شاك، أن إمكانياتنا تستطيع أن تفعل ما هو أكثر من ذلك، ولكن المطلوب: أن تحصل البداءة، وتنشأ المبادرة الأولى، وستجد الأمر بعد ذلك توجها يتصاعد، ومسلكا يرتاده كل المخلصون.

==================

جابر بن حيان رائد الكيمياء الحديثة

(الشبكة الإسلامية) إعداد : ربيع محمود

" نحن علمنا العالم " ، هذه الجملة يعلمها بحق كل من اطلع على العطاء الحضاري الذي قدمه علماء المسلمين للعالم كل العالم ، ومعنا في هذه المقالة علم من أعلام العطاء الحضاري للأمة الإسلامية في أوج ازدهارها ، وأنموذج مشرق من صفحات الحضارة الإسلامية في مجال الكيمياء والعلوم التطبيقية ، إنه أبو الكيمياء جابر بن حيان .

من هو جابر بن حيان

هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي ، طبيب عربي، عاش في العراق بالكوفة وبغداد، وهو أول من اشتغل بالكيماء القديمة ونبغ فيها، حتى إن العرب سمَّوا الكيمياء عامة "صنعة جابر"، إشارة إلى أن "جابر بن حيان" هو أول من زاولها، وكشف عن مفردها ومركِّبها، وتناول في كتاباته الفلزات وأكاسيدها وأملاحها، وأحماض النتريك والكبريتيك والخليك، وعالج القلويات وحضَّرها ونقَّاها بالبلورة والتقطير، والترشيح والتصعيد.

إن جابر بن حيان هو الذي وضع الأسس العلمية للكيمياء الحديثة والمعاصرة ، وشهد بذلك كثير من علماء الغرب .

فقال عنه Berthelot برتيلو :"إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق" .

وقال عنه الفيلسوف الإنكليزي (باكون) : (إن جابر بن حيان هو أول من علم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء)

ويقول ماكس مايرهوف : يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوربا إلى جابر ابن حيان بصورة مباشرة. وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملة في مختلف اللغات الأوربية.

لقد عمد جابر بن حيان إلى التجربة في بحوثه ، وآمن بها إيمانا عميقا .

وكان يوصي تلاميذه بقوله :"وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب، لأن من لايعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. فعليك يابني بالتجربة لتصل إلى المعرفة".

أصل كلمة كيمياء :

يذكر بعض المؤرخين أن العلماء المسلمين الذين اشتغلوا بعلم الكيمياء منذ عهد جابر بن حيان اشتقوا لفظ( الكيمياء) من نفس لغتهم العربية .

وأصل كلمة كيمياء في اللغات الأجنبية هو ( الكمي ـــ Alchemy ) . وتدل أداة التعريف ( الـ) على الأصل العربي ولاشك . ويقول نفر من المؤرخين أن كلمة ( كمي ) من أسماء مصر القديمة وتعني الأرض السوداء .

وهناك فئة تقول بأن الكلمة أصلها يوناني قديم وعن الأصل نقل جابر وأمثاله من العلماء العرب والمسلمين ومعنى الكلمة اليونانية هو صهر المعادن وصبها . وكانت صناعة المعادن آنئذ جزءاً لا يتجزأ من عمل علماء الكيمياء والمشتغلين بهذا الفن بصفة عامة .

علماء المسلمين حرروا علم الكيمياء من الخرافة

بدأت الكيمياء خرافية تستند على الأساطير البالية ، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة . وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديث والرصاص والقصدير من نوع واحد ، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة و الجفاف والرطوبة الكامنة فيها وهي أعراض متغيرة ( نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة ، النار و الهواء و الماء والتراب)، لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير .

ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر .

فعلم الكيمياء مر بحقبة من الزمن سادتها الخرافات و الشعوذة ولكن علماء العرب المسلمين هم الذي حرروها من ذلك الضجيج الفاسد الذي لا يعتمد على علم ، بل كان مصدرها الوهم والبلبلة .

وبالفعل تأثر بعض العلماء العرب و المسلمين الأوائل كجابر بن حيان و أبو بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين من اليونان . لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها ؛ أدت هذه الدراسة إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية .

فمحاولة معرفة مدى صحة نظرية العناصر الأربعة ساعدت علماء العرب والمسلمين في الوقوف على عدد كبير جداً من المواد الكيماوية ، وكذلك معرفة بعض التفاعلات الكيماوية , لذا إلى علماء المسلمين يرجع الفضل في تطوير اكتشاف بعض العمليات الكيميائية البسيطة مثل : التقطير- التسامي- الترشيح - التبلور - التكسيد

مكتشفات ابن حيان في مجال الكيمياء

كانت أهم الإسهامات العلمية لجابر في الكيمياء إدخال البحث التجريبي إلى الكيمياء، وهو مخترع القلويات المعروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي Alkali، وماء الفضة.

وهو كذلك صاحب الفضل فيما عرفه الأوربيون عن ملح النشادر، وماء الذهب، والبوتاس، وزيت الزاج ( حمض الكبريتيك ).

كما أنه تناول في كتاباته الفلزات، وأكسيدها، وأملاحها، وأحماض النتريك والكبريتيك، وعمليات التقطير، والترشيح، والتصعيد.

ومن أهم إسهاماته العلمية كذلك، أنه أدخل عنصرَيْ التجربة والمعمل في الكيمياء وأوصى بدقة البحث والاعتماد على التجربة والصبر على القيام بها ، فجابر يُعَدُّ من رواد العلوم التطبيقية.

وتتجلى إسهاماته في هذا الميدان في تكرير المعادن، وتحضير الفولاذ، وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود، وطلاء القماش المانع لتسرب الماء، واستعمال ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج.

وشرح بالتفصيل كيفية تحضير الزرنيخ ، والأنتيمون ، وتنقية المعادن وصبغ الأقمشة.

و اكتشف أن الشب يساعد على تثبيت الألوان ، كما أنه صنع ورقاً غير قابل للاحتراق ، وحضر أيضاً نوعاً من الطلاء يمنع الحديد من الصدأ .

كما أن جابر هو أول من استعمل الموازين الحساسة ، والأوزان المتناهية في الدقة في تجاربه العلمية .

واكتشف "الصودا الكاوية" أو القطرون ، و هو أول من استحضر ماء الذهب والفضة بخلطهما بحامض الكبريت وحامض النتريك ، و أول من أدخل طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحلّ بواسطة الأحماض ، وهي الطريقة السائدة إلى يومنا هذا.

وأول من اكتشف حمض النتريك و حمض الهيدروكلوريك ، و أدخل تحسينات على طرق التبخير والتصفية والإنصهار والتبلور والتقطير.

مؤلفاته :

جاء في "الأعلام" للزركلي أن جابراً له تصانيف كثيرة تتراوح ما بين مائتين واثنين وثلاثين وخمسمائة كتاب، لكن ضاع أكثرها. وقد ترجمت بعض كتب جابر إلى اللغة اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، كما ترجم بعضها من اللاتينية إلى الإنجليزية عام 1678م ، وفي سنة 1928م أعاد هوليارد صياغتها، وقدم لها بمقدمة وافية ، وظل الأوربيون يعتمدون على كتبه لعدة قرون .

من أهم هذه الكتب :

1 - كتاب " السموم ودفع مضارها " : كتاب في خمسة فصول تبحث أسماء السموم و أنواعها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان والحيوان. والعلامات والعلاج والحذر من السموم وفيه قسم السموم إلى سموم حيوانية ونباتية وحجرية كالزئبق والزرنيخ والزاج. وهذا الكتاب يعتبر همزة وصل بين الطب والكيمياء.

2 - نهاية الاتقان: وهو مؤلف رائد في الكيمياء.

3 - أصول الكيمياء

3 - استقصاءات المعلم

4 - الموازين الصغير

5 - كتاب الرسائل السبعين : ويشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي توصل إليها ويمكن اعتباره خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره.

توفي جابر بن حيان حوالي عام 199 هـ ، الموافق 815 م على اختلاف بين المؤرخين

فهل بعد اطلاعنا على ماقدمه هذا العالم الجليل للعالم ، نعرف كم خسر العالم كل العالم بانحطاط المسلمين في عصرنا الحاضر ، وهل من همة لشبابنا كي نصل حاضرنا بماضينا ليكون مستقبلنا زاهراً بإذن الله ، هذا هو أملنا ولا يتحقق الأمل إلا بالعمل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

================

من حقوق الإنسان الغربية إلى واجبات الاستخلاف الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) وسام فؤاد*

هل يعني العنوان الذي وضعناه أن هناك خلافًا عميقًا بين الحضارتين الغربية والإسلامية في النظر إلى قضية حقوق الإنسان؟ الإجابة نعم، والبون شاسع. إن مفهوم حقوق الإنسان مفهوم غربي النشأة، حديث التكوُّن، نسبة للعصور الحديثة، وهو مخالف بصورة كبيرة لمفهوم حقوق الناس في المنظومة القيمية الحقوقية الإسلامية.

شاع مفهوم حقوق الإنسان في الفكر السياسي المعاصر لدرجة دفعت بعض الغيورين على الإسلام إلى التحرك لوضع ما تمت تسميته: بيان عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، على نسق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في عام 1948، إلى درجة أن الإعلان الإسلامي تضمن نفس المفاهيم والصور الحقوقية التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة، مع التأكيد على أن الإسلام به نفس حقوق الإنسان الواردة في إعلان الأمم المتحدة، معتذرين إلى العالم عن عدم وضوح النص الإسلامي في هذا الصدد، أو معتذرين عن عدم اهتمام الحضارة الإسلامية به حتى ذلك الوقت.

وقد قام هؤلاء المفكرون الغيورون على الإسلام آنذاك بعرض مجموعة من الأدلة الدالة على أن كلامهم حق، وأن الإسلام دين به نفس المميزات التي تحفل بها الحضارة الغربية، وذلك من دون محاولة البحث في أصول الذات؛ إذ ربما يكون لديها ما يفوق في قيمته ما أنتجته الحضارة الغربية.

وكان دافع أولئك المفكرين والساسة المسلمين إدراكهم ضرورة التحرك السريع للخروج بوثيقة إسلامية تحفظ ماء وجه الحضارة الإسلامية في مواجهة التقدم الفكري السياسي الغربي، حتى لو كانت وثيقة شوهاء. وكان المنتج الإسلامي الكامن في ذلك الوقت يفوق في قيمته وفي نفاسته ما أنتجته الحضارة الغربية بالفعل. فما هي قصة ذلك التميز وتلك النفاسة؟

مفهوم حقوق الإنسان.. الطبعة الغربية:

مفهوم حقوق الإنسان كما يرى الباحثون والمفكرون مفهوم شائع الاستخدام في أدبيات الفكر والخطاب السياسيين المعاصرين، وهو أيضًا من المفاهيم الحديثة نسبيًا، التي لا يمكن اقتفاء أثرها بعيدًا في أدبيات الفكر السياسي.

فالمفهوم في الفكر السياسي الغربي لم يتم صكه كمصطلح إلا مع ظهور عدد من الوثائق السياسية المحددة التي حملت هذا الاسم بهذه الدرجة من الوضوح، مثل: إعلان حقوق الإنسان بالولايات المتحدة المعروف باسم "إعلان فيرجينيا" الصادر عام 1776، وإعلان الثورة الفرنسية الصادر في عام 1790، وانتهاءً بإعلان الأمم المتحدة الصادر في عام 1947، والمسمى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".

لذا فمن الصعب حين نتعامل مع مثل هذا المفهوم أن نقتفي له أثرًا متغلغلاً في قلب جذور الفكر الإنساني الغربي. فالحضارة اليونانية القديمة - وهي أصل الحضارة الغربية - كما يرى الباحثون لم تصك مفهوم الحق، ولم تضع لفظًا لغويًا يقابله. ولم تبدأ مفردة الحق في التداول بالصورة التي نعرفها اليوم إلا بعد أن أصلتها الحضارة الإسلامية، فمنذ مهدها الأول تكلم بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن حقوق الله على العباد وحقوق العباد على الله وحق الزوجين كل على الآخر، بل هناك ذلك الحديث الذي صدَّق فيه النبي صلى الله عليه وسلم على قول سلمان، "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان" (رواه البخاري).

ثم بدأ المفهوم يشق طريقه إلى حيز الاستخدام في أوروبا في العصور الوسطى، وقد أرخ المفكرون لذلك مع استخدام القس توماس الإكويني له في الحديث عن مفهوم حق الملكية، والتي تناولها باعتبارها حقا تترتب عليه مسؤولية اجتماعية، وهي فكرة معروفة في السياق التشريعي الإسلامي المتمثلة في مفهوم استخلاف الله تعالى الإنسان في المال لينفقه في سبيله على من يحتاجه.

وقد بدأ استخدام المفهوم بصورة منظمة مع كتابات مفكري نظرية العقد الاجتماعي: هوبز ولوك وروسُّو. وكان أولئك المفكرون طليعة مفكري عصر النهضة الساعين إلى فصل العملية السياسية بصفة خاصة والدولة بصفة عامة عن سلطان الكنيسة، وكانت فكرة التعاقد الأساس الوضعي لتشكل مفهوم الحق وتأسيسه في التشكيل الفكري والحضاري الغربي.

كيف تأسس المفهوم؟

استندت الأدبيات التي تناولت علاقات البشر قبل ظهور نظرية العقد الاجتماعي إلى مفهوم القانون الطبيعي، وهو مفهوم ذو طابع ميتافيزيقي لا أساس ملموسًا له إلا في أفكار مفكري اليونان القدامى، وهو يعني: مجموعة من العادات والقيم السلوكية والأخلاقية التي نسبت للإنسان استنادا إلى وجوده على ظهر البسيطة، وترتب على إسنادها له التزامه بها حيال غيره، لما يعنيه ذلك من التزام غيره بها حياله. فكانت العلاقات بين البشر تسير وفقًا لهذا المسمى: القانون الطبيعي. وهذا المفهوم كان من الغموض بمكان، بحيث كانت تحتشد تحت لوائه كل قيمة اجتماعية وسلوكية يرى المفكرون أنها ضرورية للحفاظ على سلامة سير الاجتماع الإنساني آنذاك.

وظلت علاقة الناس بفكرة القانون الطبيعي هذه، بما لفّها من غموض، هي الأساس الفلسفي لما يمكن لنا نحن أن نسميه بالحقوق الاجتماعية والفردية، وذلك طيلة وجود الحضارة الرومانية ومن بعدها الحضارة المسيحية التي امتد وجودها الفعلي في أوروبا حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789م. وظلت هذه الفكرة هي المهيمنة إلا من شذرات أسلفنا الحديث عنها فيما سلف.

ومع تجذر الثورة الفرنسية، واتجاه المفكرين في إطارها إلى البحث عن أساس لا ديني للعلاقة بين الدين والسياسة، برز مفكرو العقد الاجتماعي ليقدموا نظريتهم التي أبرزت مفهوم الحق كحضور قانوني راسخ، ومكنت له في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأوروبي.

ونظرية العقد الاجتماعي لدى كل من توماس هوبز وجون لوك تحاول أن تفسر كيفية قيام الدولة في الماضي، من خلال افتراض أن الدولة قامت بموجب عقد بين الحاكم والمحكومين. ومن هذا المنطلق التعاقدي نشأ مفهوم الحق.

وتقوم نظريات العقد الاجتماعي على افتراض أن الأصل في الطبيعة الإنسانية أنها طبيعة شريرة، وأن هذه الخاصية خلقت بيئة صراعية مستمرة، قادت الجماعة الإنسانية إلى حالة اصطلح مفكرو العقد الاجتماعي على تسميتها: "حالة الطبيعة الأولى"، وأن هذه الحالة عرفت عند كل من هوبز ولوك باعتبارها حالة حرب الجميع ضد الجميع: أي تلك الحالة التي يعم فيها الصراع كل جوانب العلاقات الاجتماعية، بحيث يصير كل فردٍ عضوٍ في الجماعة البشرية خصمًا لكل أعضاء ذات الجماعة. ويرى كل من توماس هوبز وجون لوك أنه نتاجًا لهذه الحالة توافق الأفراد في الجماعة البشرية على التعاقد مع حاكم قوي ليكفل إدارة الجماعة البشرية على نحو يحقق الأمن للجميع، ويكفيهم مغبة حالة الطبيعة الأولى: حالة حرب الجميع ضد الجميع.

أما توماس هوبز فطرح فكرة تخلي الجماعة البشرية عن كل حقوقها لذلك الحاكم في مقابل أن يكفيهم حالة حرب الجميع ضد الجميع، ويوفر لهم الأمن.

وأما جون لوك فرفض فكرة تنازل الجماعة البشرية عن كامل حقوقها، وأكد أن الذي حدث هو تنازل الجماعة عن بعض حقوقها، وهي الحقوق التي يمكن أن نسميها اليوم الحقوق السيادية، في مقابل قيام هذا الحاكم أو الدولة بحماية سائر حقوق الأفراد، وعلى رأسها حق الملكية.

وأما جان جاك روسُّو فلم يتفق مع كل من هوبز ولوك في أن الأساس في البشر الشر، بل افترض العكس: الأساس هو الخير، ومن هنا فإن تصوره بالتالي لحالة الطبيعة الأول اختلف، فهي لم تكن من وجهة نظره حالة حرب الجميع ضد الجميع، بل كانت حالة رفاهية عامة.

وقد توجه جان جاك روسُّو إلى الأفكار الاقتصادية التي كانت قد بدأت تنتشر في عصره ليبين سبب نشأة الدولة على نحو مختلف، حيث أشار إلى تشكك الجماعة البشرية في إمكان استمرار هذه الحالة من الرفاهية إلى ما لا نهاية استنادًا إلى فكرة ندرة الموارد التي كانت قد بدأت تنتشر مع كتابات المفكرين الاقتصاديين أمثال آدم سميث وجيرمي بنثام. ولهذا أكد روسُّو أن الناس حرصًا منهم على عدم ضياع هذه الحالة الفردوسية قاموا بالاتفاق مع حاكم قوي قادر على تأمين عملية تداول القيم الاقتصادية، وتنازلوا له عن جزء من حقوقهم مقابل أن يكفل لهم استمرار حالة الرفاهة هذه.

ثم لم تلبث فكرة الحقوق أن تطورت مع إعلان فيرجينيا لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة، ثم مع إعلان الثورة الفرنسية، وانتهاءً بإعلان الأمم المتحدة في نفس الصدد.

لقد كان مردُّ التفصيل في بسط نظرية العقد الاجتماعي إلى حاجتنا لتحليل الأسس التي استند عليها المفهوم. ومن خلال معاودة قراءة هذه الخبرة نجد أن أطروحة حقوق الإنسان في الغرب استندت إلى ثلاثة أسس، هي:

أ - التعاقد.

ب - الصراع.

جـ - المنفعة.

فالتعاقد تم استنادا إلى رؤية أولئك المفكرين أن الجماعة الإنسانية تواضعت على أن المنفعة التي ستعود عليها من جراء الاتفاق مع حاكم، ووقف حالة الصراع القائم (لدى كل من هوبز ولوك)، أو المحتمل (لدى روسُّو) ستكون منفعة تستحق تقليص عدد الحقوق التي يتمتع بها الفرد.

أما الأساس الثاني وهو الصراع فيمكن تمثله في حديث كل من هوبز ولوك عن الطبيعة الشريرة للأفراد، والتي أدَّت بهم إلى حالة حرب الجميع ضد الجميع. وحتى روسُّو الذي تصور أن حالة الطبيعة الأولى كانت حالة رفاهية أكد على أن مصير الجماعة البشرية إلى الصراع استنادا إلى تجدد الحاجات وتغيرها وتنوعها في الوقت الذي تتجه فيه الموارد المتاحة نحو مزيد من الندرة. بل إن أساس المنظور الصراعي في الأدبيات التي تأسست عليها الحضارة الغربية يرجع في أحد روافده إلى الفكر الاقتصادي الوضعي الغربي الذي أكد على ندرة الموارد وتزايد الحاجات البشرية على نحو تعجز معه الموارد على الوفاء بهذه الحاجات.

وأما فكرة المنفعة فهي فكرة نشأت في حقل الأدبيات الفكرية الاقتصادية، في محاولة لتبرير الملكية ورأس المال وتحولات البرجوازية الأوروبية نحو التجارة ثم الصناعة، وجهود تعظيم الربح وتقليل الإنفاق.. إلخ. وكانت هذه الفكرة التي خط ملامحها المفكر جيريمي بنثام أساسا لنشأة مفهوم البراجماتية الذي مثَّل أحد أهم روافد بناء التشكيل الحضاري الغربي. كما أن نفس الفكرة: المنفعة، مثلت البيئة التي نما فيها مفهوم الرشادة أو العقلانية التي استند إليها بعض المفكرين في تدشينهم لمفهوم حقوق الإنسان.

فالحالة التعاقدية جماع ذلك كله، كما أنها في النهاية التجسيد الملموس لمفهوم الحق. فالترجمة العملية لأية حالة تعاقدية تتمثل فيما يترتب على العقد من حقوق على طرف والتزامات على طرف آخر في نفس العقد.

الطرح الإسلامي: التمايز والتميز:

أشرنا من قبل لحالة بعض المفكرين المسلمين الذين سارعوا إلى تقليد الغرب وأعلنوا أن الإسلام لديه منظومة حقوق إنسان كما لدى الغرب، وأن حقوق الإنسان في الإسلام لا تقلُّ ألبتة في نطاقها وفي قيمتها عن حقوق الإنسان في الفكر الغربي. من السهل أن نحذو حذو هؤلاء المفكرين، الذين اصطلح عدد غير قليل من المفكرين على تسميتهم بالمفكرين الاعتذاريين، ومن ثم نؤكد بأغلظ الأيمان على احتواء الإسلام على حقوق إنسانية مماثلة للحقوق الواردة في المواثيق والإعلانات الغربية لحقوق الإنسان.

بل من السهل علينا أيضا أن نقول: إن أسس حقوق الإنسان في الإسلام تعاقدية كما في الغرب.. فالإسلام كله تعاقد على التسليم لله رب العالمين في مقابل الجنة.

ومن السهل أن نقول: إن المنفعة أيضا أساس إسلامي للحقوق، ونلبس نظريات المقاصد والمصالح في الفقه الإسلامي وأصوله لباس نظرية المنفعة بدلالتها الأدنى في الفكر الغربي.

ويمكن من باب المزايدة أن نقول: إن الصراع أحد الأسس التي يحفل بها الإسلام ملبسين في هذا الإطار نظرية التدافع لباس نظرية الصراع.

يمكننا أن نفعل هذا كله، لكن لن نفعل لأسباب وجيهة. فإن لم يكن الوقت قد أسعف إخواننا المفكرين الاعتذاريين ليراجعوا كنزهم القرآني؛ فإن الوقت قد فسح أمامنا لنبحث في هذا الكنز، ولنخرج منه بما هو أرقى من طرح الغرب في مجال حقوق الإنسان.

إن محاولات مفكري الإسلام إثبات أن الإسلام ليس أدنى من الحضارة الغربية أدت بهم إلى أن استوردوا المنظومة القيمية الغربية، وقاموا بطلائها بلون إسلامي - إن جاز التعبير- وفاتهم أن المفاهيم مرتبطة بأسسها الفلسفية، وأن محاولة استيراد النموذج الغربي بأسسه الغربية ستؤدي بنا، وقد أدت بالفعل، إلى استمرار الاعتماد على الاستيراد الفكري من الآخر، ومن ثم قادت أمتنا العربية والإسلامية إلى حالة من التبعية الثقافية، ناهيك عن أثر المنظومة الحقوقية المستوردة في إحداث التفرق والصراع الاجتماعي. كما أن هذا الاستيراد حرمنا من أن نبني منظومتنا الخاصة، وحرم الغرب من مشعل حضاري هو اليوم في مسيس الحاجة إليه بعدما وصل إليه من تفسخ اجتماعي.

لا يمكننا أن ننكر أن في الإسلام حقوقًا تضارع حقوق الغرب إن لم تتفوق عليها كما قال الاعتذاريون، لكن ليس معنى هذا أن نجعل الغرب هو المعيار الذي نقلده، فنخيط أزياءنا على معاييره وطرازه. إن القضية أشبه بقضبان قطارين: منطلقهما مختلف، وغايتهما مختلفة، ولكن تقاطعت مساراتهما ومحطاتهما في بعض الأحيان، لكن هذا لا يعني أنهما بنفس المسار. وقد كان ذاك هو الخطأ الذي وقع فيه أساتذتنا الاعتذاريون الذين لا ننكر جهدهم واجتهادهم. فتوحد المسارات والمحطات أحيانًا لا يعني التشابه ناهيك عن التطابق. فالبون شاسع. ولكن كيف؟ .

من التعاقد إلى التراحم:

لست هنا بصدد أن أضع ثنائيات متقابلة طرفها الأول غربي والطرف الآخر إسلامي، فليس الأمر كما يشي به هذا العنوان الفرعي، لكن أحاول هنا أن أرسم ملامح صورة مقارنة بين البناء الإسلامي المستقل عن البناء الغربي، البناء المستقل في الأسس والمنطلقات، وفي أسلوب البناء، وفي الغاية من هذا البناء.

وبداية أقول: إن الفارق الأساسي بين الطرح الإسلامي والطرح الغربي في بناء مفهوم حقوق الإنسان تتمثل في المفارقة بين مفهومي الصراع والإيمان. فأساس مفهوم حقوق الإنسان في الغرب هو الصراع.. سواء أكان الصراع مؤسِّسًا للحالة الحقوقية أم أسلوبًا لممارستها. فحقوق الإنسان تأسست في الغرب بسبب حالة صراع الجميع ضد الجميع، وممارسة الحالة الحقوقية الغربية تعتمد كذلك على الصراع بين الحقوق وبعضها. فحقوق المرأة لم تتحقق ولم تتأسس إلا عبر صراع المرأة مع الرجل، وهكذا.

أما في الإطار الإسلامي فإن الإيمان كان الأساس الذي بنيت عليه المنظومة الحقوقية الإسلامية، فالإيمان ولّد مفهوم الأخوة والتراحم. قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات: 10)، وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107). فالآية الأولى تستلزم التراحم لصون علاقة التآخي بين المسلمين. والآية الثانية مدَّت نطاق هذا التراحم للعالمين، على اعتبار أن هذه الأمة أمة دعوة ورحمة لا أمة منغلقة على رسالتها.

من الحق إلى الواجب:

كان لفضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى نظرة ثاقبة في بحث قضية الحقوق هذه، حيث أكد في إحدى كتاباته على أن الإسلام لم يعالج قضية الحقوق كما عالجها الغرب، فالغرب وضع للناس حقوقا في مواجهة بعضهم ، فتحولت العلاقات الإنسانية إلى تناقض مصلحي، ومن ثم إلى تنافس بل صراع، بينما صاغ الإسلام حقوق الناس في صورة واجبات تقع على عاتق المحيطين بهم، يسائلهم الله تعالى عنها يوم القيامة، فحقوق الزوجة واجبات على الزوج، وحقوق الزوج واجبات على الزوجة، وحقوق الجار واجبات على جاره وهكذا.. ومن ثم تحولت منظومة الحقوق في الحضارة الإسلامية إلى منظومة عطاء وتراحم وتراضٍ لا منظومة تناقض مصلحي وصراع وتنافس وغصب وإكراه.

ومن هنا نجد أن الأساس الإيماني للحقوق في الإسلام كواجبات في الإسلام جعل البشر يتسابقون للوفاء بها، في حين تحولت الحقوق في الغرب إلى أعباء يمكن للفرد أن يتخلص منها متى غابت أعين القانون أو غفل رعاته.

من النسبي الغربي إلى المطلق الإسلامي:

من أهم مميزات منظومة الحقوق الإسلامية أنها استندت إلى داعي الإيمان برب الخلق، فالحقوق في المنظومة الإسلامية هي حقوق الخلائق.. كل الخلائق. وهي منظومة أمر بها رب الخلائق، وما دام رب الخلائق مطلقًا فإن المنظومة التي فرضها منظومة مطلقة لا يمكن التهاون في الائتمار بها، كما أنها منظومة متعالية على أن يضعها بشر قد تكون لهم مصالحهم الطبقية أو الاقتصادية أو السياسية.. إلخ.

أما الغرب فقد أسند نسق الحقوق فيه إلى فكرة المنفعة. والمنفعة فكرة نسبية متغيرة بتغير الزمان ودوران الأحوال، كما أن فكرة المنفعة تتغير وفق نظرة الجماعة المهيمنة على دوائر صناعة القرار أو القريبة من دوائر التأثير عليه: كجماعات الضغط، أو الطبقات الاجتماعية، أو النخب السياسية المهيمنة.. إلخ. وهذا ما يجعل فكرة الحقوق في المنظومة الغربية فكرة نسبية بالتبعية.

وقد لمسنا تجليين بارزين لهذه النسبية في الحضارة الغربية:

التجلي الأول: تمثل في إنكار الغرب لحقوق الإنسان غير الغربي. وتاريخ الغرب حافل بالنماذج والأمثلة على هذه الحالة، ومن يريد المثال فليرقب اليابان في الحرب الاستعمارية العالمية الثانية، أو العراق أو فلسطين أو لبنان أو السودان أو كوريا الشمالية أو الأرجنتين أو بوليفيا.. إلخ.

التجلي الثاني: يتمثل في هشاشة وضع الحريات في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من تجسس على البريد العادي والإلكتروني والهاتف، والاعتقالات بلا محاكمات، ومنع من السفر، ومنع من العودة.. إلخ. أليس هذا دليلاً على أن فكرة الحق الإنساني هذه فكرة نسبية تأسيسًا على ما يرون من نفع لها، حتى لو كان ذاك النفع ظنيا أو متوهما.

إن للمسلم أن يفخر بأن منظومته القيمية الحقوقية مختلفة كثيرا، إن لم نقل جذريًا عن المنظومة الغربية. فهذا الاختلاف سببه تفرد منظومة الإسلام وسموها وصدق توجهها الإنساني العام الشامل.

ولكن ينبغي أيضًا على المفكرين المسلمين أن يحرصوا على توضيح هذه الصورة من ناحية، وأن يحرصوا من ناحية ثانية على بلورة برنامج لصون هذه الحقوق، وخاصة الحقوق السياسية. فالبريق الذي يلف حرص الغربيين على حقوقهم السياسية يجعل حملة المشروع الإسلامي يتوهمون أنهم في موقف ضعف في مواجهة المشروع الحقوقي الغربي في الوقت الذي لا يرقى فيه ذاك المشروع الغربي على بهرجه من مطاولة القمة السامقة التي يبلغها مشروعنا الإسلامي الحقوقي.

ــــــــــ

* كاتب وباحث من مصر

=================

من أعلام الحضارة الإسلامية " ابن النفيس "

(الشبكة الإسلامية) إعداد : ربيع محمود

العرب والمسلمين ليسوا عالة على الحضارة الإنسانية كما يزعم أعداؤهم ، وإنما هم فاعلون ومبدعون فيها ، وعلى الأجيال العربية والإسلامية الشابة أن تعمق ثقتها بحضارتها ، وأن تستعد لاستعادة مكانتها عبر المشاركة الأوسع في البحث العلمي وفي الإبداع والابتكار والاختراع .

ابن النفيس عالم موسوعي فهو طبيب عام وطبيب كحال " عيون " وعالم بالمنطق والفقه والحديث وبعلم الأصول وباللغة العربية نحوها وصرفها ، وقد اشتهر بلقب ابن النفيس لنفاسة عقله وعمله .

وقد قيل فيه: ( لم يوجد على وجه الأرض قاطبة مثيل له في الطب، ولا جاء بعد ابن سينا مثله. قالوا، وكان في العلاج أعظم من ابن سينا ).

إن أول من تنبه إلى أخطاء جالينوس، ونقدها، ثم اكتشف الدورة الدموية الصغرى لم يكن سرفيتوس الأسباني، ولا هارفي الإنجليزي، بل كان رجلا عربيا من علماء الطب في القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي، وهو ابن النفيس الذي وصل الى هذا الاكتشاف العظيم قبل هارفي بأربعمائة عام، وقبل سرفيتوس بثلاثمائة عام.

اسمه ونشأته

هو أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس ، وهو طبيب وعالم ولد بدمشق سنة 607 هـ.

نشأ ابن النفيس بدمشق واخذ علوم الطب علي أيدي أطبائها وبخاصة علي يد كبير الأطباء مهذب الدين والدخوار صاحب مدرسة الدخوارية الطبية بدمشق ثم رحل ابن النفيس إلى مصر واستوطن بها في مدينة القاهرة وأصبح عميد البيمارستان أو المستشفى الناصري "مستشفى قلاوون حاليًا" الذي أنشأه السلطان قلاوون عام 580 الهجري ، كما صار طبيبا خاصا للسلطان ببيرس البندقدارى ملك مصر والشام ، طوال السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة من عمر الظاهر ببيرس وفي القاهرة حظي ابن النفيس باحترام الأطباء والحكام والأمراء.

إنجازاته

لقد بقي العلم قروناً مصراً على تعاليم جالينوس وابن سينا ، وفجأة ظهر ثلاثة من العلماء الأوربيين يصفون الدورة الدموية في القرن السادس عشر بذات الألفاظ التي استخدمها ابن النفيس قبلهم بثلاثة قرون ، وهم ميشيل سرفتوس الإسباني الذي حكم عليه بالإعدام حرقاً بسبب مؤلفه اللاهوتي، وكولومبو في بادوا ، وأخيراً هارفي الإنجليزي الذي درس في بادوا وادعى أنه صاحب الاكتشاف .

ولكن الحقيقة هي "ابن النفيس" هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى ، وقال : "إن الدم ينقي في الرئتين " قبل "سرفيتوس" بثلاثة قرون .

كان "ابن النفيس" مستقلاً في التفكير والرأي ويعارض الآراء وينقدها حتى ولو كانت من جالنيوس أو ابن سينا ، فخرج من ملاحظاته وخبراته إلى أن الدم ينساب من البطين الأيمن إلى الرئة ، حيث يمتـزج بالهواء ثم إلى البطين الأيسر وهي الدورة التي نسميها اليوم بالدورة الدموية الصغرى . وكانت تلك خطوة كبرى اعتمد عليها الطبيب البريطاني هارفي الذي كشف سنة 1628 م الدورة الدموية الكبرى

وقد سجل ابن النفيس اكتشافه هذا في كتابه :" شرح تشريح القانون لابن سينا" حيث يقول ( والذي نقوله نحن والله أعلم ، أن القلب لما كان من أفعاله توليد الروح ، وهي إنما تتكون من دم رقيق جداً شديد المخالطة لجرم هوائي ، فلابد أن يحصل في القلب دم رقيق جداً وهواء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما ، وذلك حيث تولد الروح وهو التجويف الأيسر )

وكان ابن سينا قد ذكر في كتابه القانون أن القلب به بطينان وأن أحدهما مملوء بالدم وهو البطين الأيمن وان الآخر مملوء بالروح وهو البطين الأيسر ، وأنه لا منفذ بين هذين البطينين البتة , وعارض ابن النفيس هذا الرأي ، حين أثبت بالتشريح أن الدم يذهب من البطين الأيمن ، عبر الوريد الشرياني إلى الرئة لينقي بها ويلطف جرمه ثم يعود من الرئة إلى البطين الأيسر وقد لطف جرمه وخالطة الهواء

وبالطبع لم تكن العدسات المكبرة قد اخترعت في عصر ابن النفيس ولم يتم الكشف عن الأوعية الشعيرية إلا بعد قرون ، وبذلك يكون ابن النفيس قد سبق عصره بقرون في اكتشافه للدورة الدموية

مؤلفاته

وكان ابن النفيس معتدًا بمصنفاته إذ نقل المؤرخون أنه قال : لولم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها .

ترك ابن النفيس عدداُ من المؤلفات، منها :

1 ــ "شرح تشريح القانون" وقد شرح فيه باب التشريح من كتاب القانون لابن سينا، وانتقد عدداً من أقواله في هذا الباب. وقد ظل هذا الكتاب مغموراً في المكتبات إلى أن عثر عليه الطبيب المصري الدكتور محي الدين التطاوي سنة 1924 في مكتبة برلين، وقام بدراسته في رسالة لنيل دكتوراه من جامعة فريبورج بألمانيا.

ولهذا الكتاب عناوين مختلفة وفيه شرح غاية في الدقة ، للدورة الدموية الصغرى ، اى الدورة الدموية الرئوية وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية الطبيب الإيطالي " الباجو" لاول مرة في مدينة البندقية عام(954هـ/ 1547م) وهي الترجمة التي رجع إليها الطبيب الإنجليزي " وليم هارفي " الذي يعزى إليه اكتشاف الدورة الدموية الكبرى وقد رجع إليها من قبله الطبيب البلجيكي : " فيزال".

يقول ميرهوف في هذا الصدد: (عندما قرأت المقطع الأول من هذا الموضوع ـ أي موضوع دوران الدم الرئوي، في شرح ابن النفيس، فوجئت بشبهه العظيم ببعض عبارات سرفيتوس الأساسية، فكأن المقطع العربي قد ترجم ببعض التصرف إلى اللاتينية).

2 ــ "الكتاب الشامل في الطب"، وهو موسوعة علمية هائلة سماها : "الشامل في الصناعة الطبية" وكان ينوي فيها أن تصل إلى 300 مجلد ، كل مجلد يتناول موضوعًا بذاته وخلال ثلاثين سنة قام بإتمام ثمانين مجلدًا من موسوعته "الشامل" وتوفى قبل تبييض بقية كتب الموسوعة ،

3 ــ "المهذب في الكحل"، وهو مؤلف عن الرمد وطب العيون .

4 ــ "المختار في الأغذية "، وهو كتاب عن الغذاء والحمية.

5 ــ "شرح فصول أبقراط"، توجد نسخة منه في المكتبة الوطنية بباريس والأسكوريال. وقد تم طبعه في إيران عام 1298هـ/1881م.

6 ــ "موجز القانون"، وهو موجز لقانون ابن سينا، يقع في خمسة أجزاء. وتوجد نسخ منه في كل من باريس وأكسفورد، وفلورنسا، وميونيخ، والأسكوريال. وطبع بالإنجليزية لأول مرة سنة 1838م في مدينة كالكوتا بالهند تحت عنوان ''المغني في شرح الموجز" .

ولم يكن هذا الكتاب مجرد تلخيص لكتاب الشيخ الرئيس ابن سينا الشهير (القانون في الطب) وإنما كان مراجعة نقدية علمية تجريبية ، وهذا ما يجعلنا نجد فيه النموذج الراقي لاسلوب الحضارة العربية الإسلامية في تأمل التجربة الإنسانية واستقرائها وإخضاعها للنقد فحصاً وتدقيقاً ، دون استسلام أو إذعان .

وله من المؤلفات أيضاً (شرح تقدمة المعرفة) لابقراط ، و(شرح مسائل حنين بن اسحاق) ، و(شرح الهداية في الطب) لابن سينا، و(بغية الفطن في علم البدن)

ومن مؤلفاته في غير المواضيع الطبية (الرسالة الكاملية في السيرة النبوية)، (وكتاب فاضل بن ناطق)، وهو مجاراة لكتاب (حي بن يقظان) لا بن طفيل، ولكن بطريقة دينية لا فلسفية

وفاته

عاش ابن النفيس طوال حياته مطيعا لربه أمينا لدينه، لا يشغله غير العلم والتعبد، حتى مرض ستة أيام نصحه فيها أصحابه من الأطباء في علته أن يتناول شيئا من الخمر لتسكين الآلام، فأبى أن يتناول شيئا منه، وقال: "لا ألقى الله تعالى وفي بطني شيء من الخمر".

و توفي بمدينة القاهرة ـ التي أقام بها معظم حياته ـ في 21 ذو القعدة 687 هـ عن عمر قارب الثمانين عاماً.

ولم يكن متزوجاً ، و ترك وصية وهب فيها داره ومكتبته إلى البيمارستان الناصري الذي قضى فيه معظم حياته.

====================

المساواة معلم من معالم الحضارة الإسلامية

(الشبكة الإسلامية)

تقرير المساواة حقاً بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم هذا جانب من جوانب الدعوة في حضارتنا الإسلامية.

فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: "الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" ، ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة - كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم - بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي لا يلفت نظراً، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجاً في وقوف الأسود بجانبه. ونفذت في الحج حيث تلتقي العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود واستعلاء من البيض على السود.

بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر سول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملوّن كبلال ؟ كيف يطؤها بقدميه ؟ إن مثل هذا أو قريباً منه لا يتصور في الحضارة الحديثة في أمريكا إلى عهد قريب ، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرناً، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلاناً لكرامة الإنسان على كل شيء وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فما يقدم الإنسان بياضه إذا أخَّره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.

ولذلك لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وهو من أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له: يا ابن السوداء، لم يرض منه ذلك بل قرَّعه وقال له: "أعيَّرته بسواد أمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" وهذا حدّ فاصل بين العلم والجهل بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية.

إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق ولا لون على لون هي الحضارة التي يصنعها الإنسان العاقل الكريم وتسعد بها الإنسانية الواعية الكريمة ، والحضارة التي يعلو فيها الأبيض ويمتهن فيها الأسود ، ويسعد بها ذوو البشرة البيضاء ، ويشقى بها الملونون هي الحضارة الجاهلية التي ترتد بها الإنسانية إلى الوراء مئات القرون عمياء متكبرة جاهلة حمقاء.

"إنك امرؤ فيك جاهلية" هذا وصف للحضارة الجاهلية التي تنادي بالتمييز العنصري، وهو ما كافحته حضارتنا في كل ميادين الحياة، في المسجد والمدرسة والمحكمة والقيادة ، مع الأصدقاء والأعداء على السواء .

لمَّا جاء المسلمون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن بابليون رغب المقوقس في المفاوضة مع المسلمين، فأرسل إليهم وفدًا ليعلم ما يريدون، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفداً، فأرسل إليه عمرو بن العاص عشرة نفر فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود شديد السواد، طويلاً حتى قالوا إن طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون هو الذي يتولى الكلام ، فلما دخلوا على المقوقس تقدمهم عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وقال لهم: نحّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال رجال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيًّا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فقال عبادة - وقد رأى فزع المقوقس من السواد - : إن في جيشنا ألف أسود هم أشد سواداً مني.

ألا ترى إلى هذه الحضارة ما أروعها وأسمى إنسانيتها؟ لقد كان الناس جميعاً - حتى المتحضرون في القرن العشرين - يرون السواد منقصة، وكانوا لا يرون الأسود أهلاً لأن يكون في عداد البيض، فكيف يتقدمهم ويقودهم ويفضلهم في الرأي والعلم؟ فجاءت حضارتنا تحطم هذه المقاييس، وتسفه هذه الآراء، وتقدم الأسود على الأبيض حين يقدمه علمه ورأيه وشجاعته.

وليس عبادة بن الصامت إلا واحداً من هؤلاء السود الذين رفعتهم حضارتنا إلى مرتبة القيادة والزعامة.

وكان عبد الملك بن مروان يأمر المنادي في موسم الحج أن لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وعالمها وفقيهها، أتدرون كيف كان عطاء هذا؟ لقد كان أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، مفلفل الشعر.. وكان إذا جلس في حلقته العلمية بين الآلاف من تلاميذه بدا كأنه غراب أسود في حقل من القطن! هذا الأسود الأعور الأفطس الأعرج جعلته حضارتنا إماماً يرجع إليه الناس في الفتوى، ومدرسة يتخرج على يده الألوف من البيض، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير.

ولقد كان في حضارتنا المجلون في كل ميادين العلم والأدب، وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كنصيب الشاعر، ولا فقهاء يؤلفون المراجع المعتبرة في الفقه الإسلامي كعثمان بن علي الزيلعي شارح الكنز في الفقه الحنفي، والحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (762هـ) مؤلف الراية، وكلاهما أسودان من زيلع من بلاد الحبشة.

وليس من أبناء العربية من يجهل كافوراً الأخشيدي العبد الأسود وقد حكم مصر في القرن الرابع الهجري، وهو الذي خلده المتنبي في مدحه وهجائه.

وقصارى القول إن حضارتنا لم تعرف هذا التمييز العنصري بين البيض والسود، ولم يكن فيها مجتمعات خاصة للسود لا يساكنهم فيها أبيض، ولا اضطهاد خاص بهم يجعلهم محل نقمة البيض وازدرائهم، وإنما كانت حضارتنا إنسانية تنظر إلى الناس جميعاً بمنظار الحق والخير، ولا ترى البياض والسواد إلا بياض الأعمال وسوادها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7، 8].

ولقد كان مثل هذا القول يبدو غريباً منذ خمسين سنة، فمن بدهيات الأمور أن الفريق بين البيض والسود عمل همجي لا تلجأ إليه حضارة راقية، وأن حضارتنا لم يكن منها أن تفعل ذلك وهي أشهر حضارة عرفت بنشر الإخاء والمساواة بين الناس، ولكننا منذ قيام هيئة الأمم وإعلان ميثاق حقوق الإنسان، نجد أنفسنا في حاجة إلى مثل هذا الحديث بعد أن رأينا وسمعنا الأحاديث المفجعة عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وعن حالة الزنوج والملونين في أمريكا إلى عهد قريب.

ومن العجيب أن الذين ينادون بالتمييز العنصري وينزلون أشد المحن والبلايا بزنوج أمريكا ليسوا شرقيين حتى يتهموا بالرجعية والتأخر والهمجية كما هو شأن الغربيين في اتهام الشرقيين دائماً، وإنما هم دول راقية من أكبر الدول في هيئة الأمم! فأمريكا أكبر دولة تسيطر على هيئة الأمم، وانجلترا أكبر دولة في أوروبا تباهي بديمقراطيتها، وجنوب إفريقيا كانت إلى عهد قريب ممثلة في هيئة الأمم بطبقة من الحكام الأوروبيين البيض الذين استعمروا تلك المنطقة وأخذوا يتكلمون باسمها، ودول أمريكا الجنوبية لها مقام مرموق ورأي مسموع في أوساط هيئة الأمم. وهذه الدول هي التي تقوم في القرن العشرين بأبشع جريمة إنسانية عرفها التاريخ، جريمة اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، لا لضعفه ولا لجهله بل للون بشرته!

وعلى مرمى النظر من البيت الأبيض في واشنطن وفي ظل نصب لنكولن التذكاري ينبسط حي بشع يعيش فيه مئتان وخمسون ألف زنجي ، كان إلى عهد قريب يحظر عليهم أن يدخلوا الفنادق والمطاعم والمسارح والمدارس والمستشفيات الخاصة بالبيض، حتى الكنائس، فقد دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته سعى إليه أحد القسس وقدم له قصاصة من ورق قد كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج يستطيع هذا المرء الأسود أن يقف فيها بين يدي ربه!

وفي عام 100 من الهجرة أي منذ ثلاثة عشر قرناً شكت جارية سوداء تسمى فرتونة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأن لها حائطاً قصيراً يُقتحم منه عليها فيُسرق دجاجها، فأرسل عمر فوراً إليها يخبرها أنه أرسل إلى والي مصر يطلب إليه أن يصلح لها حائطها ويحصن لها بيتها، وكتب إلى واليه في مصر أيوب بن شرحبيل: إن فرتونة مولاة ذي أصبح قد كتبت إليَّ تذكر قصر حائطها وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها. فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها! فلما وصله الكتاب ركب بنفسه إلى الجيزة ليسأل عن فرتونة حتى عثر على محلها، فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصن لها بيتها.

هذا ما فعلناه قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً.. وهذا مثل من حضارتنا.

"كتاب "من روائع حضارتنا " بتصرف كبير"

===================

الاستشراق والإسلام بين الموضوعية والتزييف

(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ غادة الجوابرة

أثارت الظاهرة الاستشراقية وما زالت تثير جدلاً حامياً بين مؤيديها ومعارضيها، بل إننا نستطيع الجزم بأنها أكثر المسائل إثارة للجدل والنقاش، وسوف تستمر هكذا ولأحقاب لاحقة، حتى يتم فهم هذه الظاهرة فهماً علمياً بعيداً عن التعصب والولاء.

وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".

بداية الاستشراق

ومعروف أن أول ترجمة غربية للقرآن الكريم كانت إلى اللغة اللاتينية، وقد تمت بإشراف رئيس دير كلوني بجنوب فرنسا سنة 1143 م، وقد أخفيت هذه الترجمة في الدير المذكور إلى سنة 1543 م حيث أظهرت، وطبعها لأول مرة تيودور بيلياندر، ثم اعتمدت واعتبرت الأساس الذي يترجم عنه إلى اللغات الأوربية.

وكانت الدراسات التي يجريها المستشرقون ولازالت تتم في مؤسسات لها مسحة أكاديمية، وقد انتشرت هذه المؤسسات في صور مراكز استشراقية تابعة لجامعات أوربية وأمريكية عديدة، وأصبحت هذه المراكز تحت أسماء وعناوين إسلامية.

والدراسة الموضوعية والمتأنية لكتابات المستشرقين في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر حتى الآن لتؤكد غلبة موقفهم المهاجم والمعادي من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن الكريم .

وأكثر هذا نلمحه في كتاب تاريخ الإسلام لجامعة كامبردج، وهو كتاب ضخم اشترك في تأليفه عدد كبير من المستشرقين المعاصرين، صدر في جزأين سنة 1970 يردد ما يزعمه جميع المستشرقين منذ نشأة الاستشراق حتى اليوم، وهو أن الإسلام مزيج ثقافي مستعار من عدة ثقافات أخرى : يهودية، ونصرانية ، يونانية، وفارسية، بالإضافة إلى ثقافة بيئته الأصلية، وهي البيئة الجاهلية.

وطبعاً، كثير هم المستشرقون الذين هاجموا الإسلام، ونذكر على سبيل المثال المستشرق صموئيل مرجليوث في كتابه عن محمد وظهور الإسلام (1905 م) يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بادعائه الوحي قد ضلل الناس عمداً .

لكن هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟

في الحقيقية أن بعض المؤلفات الإسلامية المعاصرة تظهر بعض المستشرقين في العصر الحديث بأنهم موضوعيون أو منصفون، و تصف دراساتهم بأنها محاولات جادة نحو فهم الإسلام، وتقول بأنهم قاموا بتلك الدراسات دون تأثير عوامل سياسية أو اقتصادية أو دينية ، بل لمجرد ذوقهم وشغفهم بالعلم.

تيارات ثلاث

وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق إلى أن وصل إلى التدخل في تحديد مصطلح الاستشراق نفسه، فقد زعم الغرب في البداية أنه يريد استكشاف الشرق ليعطيه رسالته الحضارية، كونه أكثر حضارة، في الوقت الذي كان الشرق يرزح تحت نير التخلف، وبالتأكيد هذا القول هو ليبرر الاستعمار أمام شعوبه و حروبه وتحركاته الوحشية البعيدة عن الإنسانية عبر رسالة إيديولوجية تمس المشاعر الإنسانية، لذلك ادعى أنه صاحب رسالة حضارية، وأخذت بالتالي ممارساته صفة المشروعية، وكان أن جاء المضمون الاستشراقي ليخدم الاستعمار ومصالحه، فظهر عدد كبير من المستشرقين قاموا بالتشويه المتعمد بهدف نشر الإيديولوجية الاستعمارية، إذ جاءت دراساتهم بعيدة عن الدقة و الموضوعية، وأخذت موقف الإنكار للرسالة والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة الشبهات حول الإسلام بوجه عام، وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بوجه خاص.

لكن الحقيقة بأن هذا أحد جوانب الاستشراق، إذ هنالك جوانب أخرى هامة تتعلق بالغرض الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التوفيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.

أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، وتيار المستشرقين الموضوعيين اتسم بأنه أعطى الفكر الحر القادر على الحكم الموضوعي، فقدم صورا رائعة ترصد الحضارة العربية والإسلامية وما قدمته من علوم ومعارف للعالم أجمع عبر التاريخ، وعندما أقرأ لهؤلاء المستشرقين أصاب بالدهشة لمدى الدقة والموضوعية التي اتصفوا بها، فقد استطاعوا الكتابة عن الشرق بما عجز عن كتابته بنفسه، وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، الذي قال فيه:

" الثقافة كانت عربية منذ بداياتها، تحت شلال نور آسيا المتدفق، ومن السماء التي تظلل نهر النيل كتبت جميع الدفقات القوية التي ولدت منها الحضارة العربية الكبرى التي بسطت منذ فجر الزمان معرفتها وآداب سلوكها".

وعن حالة التزوير والتشويه التي تعرضت لها الحضارة العربية حتى قبل ظهور الإسلام ذكر روسي: "إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي متفق عليه، وإن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلا من الساميين الأبطال المختلقين من أصل خيالي، لو أننا تكلمنا عن العرب ذلك الشعب الحقيقي، والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين".

كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية.

إذ قالت في كتابها: " لقد وجدت اللغة العربية تجاوباً من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعها، وكونت تفكيرهم ومداركهم وشكلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية، فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهاً واحداً مميزاً، حتى السلاجقة والأتراك والمماليك والتتار عندما وصلوا إلى الحكم ظلوا بقلوبهم رعايا مخلصين للثقافة العربية وللغتها، بل ولأساليب الحياة العربية وفكرها، حقاً إن قدرة هذه العقلية العربية على طبع الشعوب لرائعة".

الاستشراق والاستغراب

وأكدت د. نجاح أحمد أنه كي نفهم الاستشراق لابد من فهم المصطلح المقابل له وهو الاستغراب، أي علينا فهم العلاقة التاريخية بين الشرق و الغرب، المرتبطة بدورها بجدلية الداخل والخارج من حيث حجم القوة، فقالت: " طوال العصور القديمة والوسطى كان العرب القدماء أصحاب النظام العالمي، المتميز عن النظام الغربي الحالي بأنه كان إعمارياً، فأينما ذهب العرب شيدوا حضارة كاملة أكثر ما تجلت في الإعمار والبناء، وفي تعليم الزراعة والحرف والتجارة وقدموا الأبجدية التي هي نتاج حضارة متكاملة، وكانوا بحق أصحاب رسالة، وليس عبثاً ما يقال بأن مصر أم الدنيا، وسورية مهد الحضارات، والعراق الأصل البشري والحضاري، ومكة المكرمة مركز الكون.

شُكل النظام العالمي القديم من ثلاثي مصري ـ سوري ـ عراقي، هذا المثلث الحضاري كان المسيطر اقتصادياً وثقافياً وحضارياً، فعلم الحضارة للعالم في العصور القديمة والعصور الوسطى، ثم جاءت الدولة الإسلامية مؤلفة من المثلث نفسه إضافة إلى شبة جزيرة العرب، وأصبح هنالك نظام عالمي إسلامي مسيطر على العالم شرقاً وغرباً، يقوم على أساس جدلية الداخل والخارج ، حيث كان الداخل العربي قوياً سياسياً واقتصادياً، فأعطى العالم من إشعاع حضارته ونورها أكثر مما أخذ، وأثر فيه أكثر مما تأثر به، وانعكس ذلك على علاقة الاستشراق والاستغراب في العصور القديمة والوسطى، فكان الشرق هو المعطي والغرب هو المتأثر بحضارتنا، هذا لا يعني نفي مساهمة كل شعوب العالم في الحضارة، ولكن عندما نأخذ المعطيات ونجري المقارنة نجد أن العرب كانوا أصحاب اليد الأولى في هذه الحضارة والتيار المعتدل والموضوعي، يقول إن أصل النهضة الأوربية هي من المنطقة العربية، لكن في الفترة التالية حصلت متغيرات عالمية انتقل من بعدها مشعل الحضارة والنظام العالمي من العرب إلى أوربا. بعد أن قطع الأسبان والبرتغال الاحتكار العربي للطرق الاقتصادية العالمية بين الشرق والغرب، بمعرفتهم طريق رأس الرجاء الصالح عام 1488 واستعانتهم بابن ماجد للوصول إلى الهند، وكان ذلك بعد عشر سنوات،.. ثم جاء الاحتلال العثماني الذي هز الاقتصاد العربي في حين كان الغرب يعيش الثورة الصناعية والتقنية، وبالتالي أصبح الداخل العربي ضعيفا ومهلهلا، في حين كان الخارج الغربي يملك القوة، والأقوى يعطي أكثر مما يأخذ، فأصبح العرب متلقين للحضارة ومنفعلين غير فاعلين، وتعرضوا لهجمات تشوه حضارتهم وبعيدة عن مبادئهم، وأصابهم الإحساس بالدونية أمام القوة الغربية، في حين صار الغرب ينظر إلى المجتمع العربي بتعال، وهذا انعكس على مفهوم المستشرقين تجاه العرب الذين تخلفوا عن الركب الحضاري".

الاستشراق والدعوة الإسلامية

وبالتالي هل للاستشراق دور في نشر الإسلام والدعوة الإسلامية في العالم الغربي؟

يقول الشيخ بسام عجك : " قام الاستشراق في مرحلته الأولى، ومرحلة الانبهار بالحضارة العربية والإسلامية التي شهد أثرها في الأندلس، فقام بدراسة العالم الإسلامي من خلالها وعندها ترجم الكثير من الكتب التي تبين عقيدة المسلمين وتاريخهم وأفكارهم وتقاليدهم إلى العالم الغربي، ويمكن أن نقول إن المستشرقين نقلوا صورة العالم الإسلامي من وجهة نظرهم إلى العالم الغربي، وكانت الكنيسة هي المسيطرة على حركة الاستشراق، إذ إن الاستشراق بدأ بأهداف ودوافع دينية بحته، ناتجة من خوف الكنيسة الغربية من الانتشار السريع للدين الإسلامي في كافة أرجاء العالم القديم، فبدأت بدراسة الإسلام في محاولة جادة لإيقاف زحفه، ثم كثرت مقاعد الدراسات الشرقية والعربية واللغوية واللغات الشرقية في العالم الغربي، في جامعاتها ومعاهدها ومدارسها ومراكزها البحثية، فقام المستشرقون خلال هذه الفترة الطويلة زمنياً بترجمة الكثير من تراث المسلمين في كل مجالات سواء كانت الدينية أو الثقافية أو التاريخية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو العلوم التقنية العملية كالكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات وغيرها، هذه الترجمة أدت إلى نوع من التوعية غير المباشرة للعالم الغربي، بأن هناك مجموعة كبيرة من البشر المسلمين، لهم ثقافتهم وتراثهم وتوجهاتهم، مع أنه يجب أن نذكر أن تلك الدراسات كانت تحذيراً للغربيين من خطر مخيف بالنسبة لهم وهو خطر الإسلام، هكذا كانت الصورة تعرض، ويمكن لنا أن نذكر بوضوح تام أن المستشرقين كانوا على ثلاثة أصناف، منهم المتعصبون الذين كانوا يكتبون بروح عدائية حاقدة، وكتاباتهم كانت تتسم بالهجومية الدائمة ضد الإسلام والمسلمين ومحاولة إلصاق أي تهمة سلبية بالمسلمين أو تحريف مقاصد الشريعة الإسلامية، أو فهم النصوص فهماً خاطئاً، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المستشرق اليهودي الأصل جولد زيهر وغيره من المستشرقين المتعصبين الذين كتبوا بروح عدائية لأن منطلق البحث عندهم كان منطلقاً عدائياً بالدرجة الأولى، إذ إنهم انطلقوا من نظرية أن الإسلام يريد أن يلغي وجود العالم الغربي، فبدؤوا يكتبون تجاهه بهذه النظرة العدائية، وهناك نوع آخر من المستشرقين المعتدلين، أو لنقل الإيجابيين الذين كتبوا بروح غربية، لكن كانوا أقرب إلى الموضوعية والنزاهة العلمية في بحثهم، وربما لم يسلم بعضهم، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " ، وهو الذي قدم كتابه بهذه العبارة التي قال فيها " لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين ".

وهناك من المستشرقين من تأثر بالإسلام والمسلمين فاهتدى إلى دين الله عز وجل وأسلم وجهه لله سبحانه وتعالى، ولقد كتب من بين المستشرقين المعتدلين أو لنقل الإيجابيين أصحاب النظرة الموضوعية أو أقرب للموضوعية، المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد، ويعد هذا الكتاب من أفضل الوثائق التي يمكن أن يستفيد منها الباحثون في تاريخ نشر الدعوة الإسلامية ، فهو أولاً كتب بأيد غربية، أي لم يكتبه المسلمون، بالتالي لن يتهم المسلمون بأنهم كتبوا بنوع من التعصب أو الانحياز للإسلام والمسلمين، وهذه الأقلام الغربية اعتمدت على مصادرها وعلى كتبها، وعلى أسلوبها في البحث والدراسة، وهو يعد وثيقة تاريخية تؤكد كيف انتشر الإسلام في العالم القديم، وعلى أن الإسلام انتشر بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، وأن شخصية الدعاة وقدوتهم الحسنة للناس من حولهم هو ما أثر في دخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل، ويذكر نماذج رائعة لهذا الانتشار السلمي للدعوة الإسلامية في العالم القديم، في بلاد "الملايو وإندونيسيا" وفي جمهورية السودان وحتى المحيط الأطلسي غرباً، هذه البلاد كلها دخلت في دين الله أفواجاً دون قوة السيف، وإنما بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة التي كان يمارسها الدعاة في نشر الإسلام بهذه الطريقة السلمية التي كانت تعتمد على قول الله عز وجل: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".

بالتالي يمكن أن نذكر أن هنالك من حاول نقل التراث الإسلامي بترجماتهم ودراساتهم للإسلام والمسلمين إلى العالم الغربي، وهذا بطبيعة الحال هو نوع من تعريف الآخرين بالإسلام، وإن كتب الكثير منه بروح سوداوية حاقدة على الإسلام والمسلمين ، لكننا لا يمكن أن ننسى أن الكثير منه أيضاً كتب بروح أقرب إلى الحيادية، واتسم بالموضوعية والعلمية في الدراسة.

====================

من خصائص الحضارة الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) مصطفى السباعي ( بتصرف )

يعرِّف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها " نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي " وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية : المواد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون.

ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين.

وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلِّمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها.

وتكاد لا تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة ، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها ، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها ، إنسانية في نزعتها ، خلقية في اتجاهاتها ، واقعية في مبادئها ، كانت أخلد في التاريخ وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم.

وحضارتنا حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات وستتبعها حضارات. وقد كان لقيام حضارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب

أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:

1 - الوحدانية المطلقة في العقيدة

- أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة ، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريد له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يُعيد، وهو وحده الذي يُقصد (إياك نعبد وإياك نستعين) وهو الذي يعز ويذل، ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.

هذا السمو في فهم الواحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين.

كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الالياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء.

إن الإسلام الذي أعلن الحرب على الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ، كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين.

وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة؛ لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.

2 - إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة

- وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[الحجرات: 13].

إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.

3 - مراعاة المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا

- وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها ، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط ، ولم تجعل وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة أو أفراد، ففي الحكم وفي العلم وفي التشريع وفي الحرب وفي السلم وفي الاقتصاد وفي الأسرة، روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوًا ساميًّا بعيدًا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث، ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء.

4 - الحضارة الإسلامية حضارة تؤمن بالعلم في أصدق أصوله ، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها

- ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معًا ، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد ، وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ.

وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمًا على مبادئ الحق والعدالة، مرتكزًا إلى الدين والعقدية دون أن يقيم الدين عائقًا ما دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلى أنحاء الدنيا قاطبة.

إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى.

لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرًا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (رواه البخاري ومسلم)، " الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله "(رواه البزار). هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس ولا لرجل دين ولا لشريف ولا لغني (قل إنما أنا بشرٌ مِثلُكم)[الكهف: 110].

5 - التسامح الديني العجيب

- وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، على أن يجور في الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه. إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين وشادت قواعدها على مبادئه ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية ! وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد ولكنها كانت للأديان جميعًا.

خاتمة

هذه هي بعض خصائص حضارتنا وميزاتها في تاريخ الحضارات، ولقد كانت بذلك محل إعجاب العالم، ومهوى أفئدة الأحرار والأذكياء من كل جنس ودين، يوم كانت قوية تحكم وتوجه وتهذب وتعلم، فلما انهارت وقامت من بعدها حضارة أخرى، اختلفت الأنظار في تقدير قيمة حضارتنا، فمن مزرٍ بها ومن معجب، ومن متحدث عن فضائلها، ومن مبالغ في الانتقاص منها، هكذا تختلف أنظار الباحثين الغربيين اليوم في حضارتنا، وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا أنهم وهم الذين بيدهم مقاييس الحكم وعنهم تؤخذ الآراء، هم الأقوياء الذين يمسكون بدفة الحضارة اليوم، وإن الذين يُحكم عليهم وعلى حضارتهم هم الضعفاء الذين تتطلع أبصار الأقوياء إلى استلاب خيراتهم وحكم بلادهم بشره وجشع، ولعله هو موقف القوي من الضعيف يزري به وينتقص قدره. كذلك فعل الأقوياء في كل عصور التاريخ، إلا نحن يوم كنا أقوياء فقد أنصفنا الناس قويهم وضعيفهم، وعرفنا الفضل لأهله شرقيهم وغربيهم، ومن مثلنا في التاريخ، عدالة حكم، ونزاهة قصد، واستقامة ضمير ؟

ومن المؤسف أننا لم ننتبه تمامًا لعصبية الأقوياء ضدنا وجورهم في الحكم على حضارتنا، وكثير منهم إما متعصب لدين أعمت العصبية بصره عن رؤية الحق، أو متعصب لقومية حمله كبرياء القومية على أن لا يعترف لغير أمته بالفضل، ولكن ما عذرنا نحن في تأثرنا بآرائهم في حضارتنا ؟ فيم يزري بعض الناس من أبناء أمتنا بهذه الحضارة التي ركعت الدنيا أمام قدميها بضعة قرون ؟

لعل حجة المستخفين من قومنا بقيمة حضارتنا أنها ليست شيئًا إذا قيست بروائع هذه الحضارة الحديثة واختراعاتها وفتوحاتها في آفاق العلم الحديث، وهذا لو صح لا يبرر الاستخفاف بحضارتنا لسببين:

الأول: أن كل حضارة فيها عنصران: عنصر روحي أخلاقي، وعنصر مادي. أما العنصر المادي فلا شك في أن كل حضارة متأخرة تفوق ما سبقها، تلك هي سنة الله في تطور الحياة ووسائلها، ومن العبث أن تطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة، ولو جاز هذه لجاز لنا أن نزري بكل الحضارات التي سبقت حضارتنا، لما ابتدعته حضارتنا من وسائل الحياة ومظاهر الحضارة ما لم تعرفه الحضارات السابقة قط، فالعنصر المادي في الحضارات ليس هو أساس التفاضل بينها دائمًا وأبدًا.

أما العنصر الأخلاقي والروحي فهو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها عن المخاوف والآلام، ولقد سبقت حضارتنا كل الحضارات السابقة واللاحقة في هذا الميدان، وبلغت فيه شأوًا لا نظير له في أي عصر من عصور التاريخ، وحسب حضارتنا بهذا خلودًا.

إن الغاية من الحضارة هي أن تقرب الإنسان من ذروة السعادة، وقد عملت لذلك حضارتنا ما لم تعمله حضارة في الشرق والغرب.

الثاني: أن الحضارات لا يقارن بينها بالمقياس المادي، ولا بالكمية في الأعداد والمساحات، ولا بالترف المادي في المعيشة والمأكل والملبس، وإنما يقارن بينها بالآثار التي تتركها في تاريخ الإنسانية، شأنها في ذلك شأن المعارك والممالك، فهي لا تقارن بينها بسعة الرقعة ولا بحساب العدد، والمعارك الفاصلة في التاريخ القديم والوسيط لو قيست بمعارك الحرب العالمية الثانية من حيث أعداد الجيوش ووسائل القتال لكانت شيئًا تافهًا، ولكنها لا تزال تعتبر معارك لها قيمتها البالغة في التاريخ لما كان لها من الآثار البعيدة.

إن معركة " كاني" التي هزم فيها القائد القرطاجي الشهير " هنيبال " الرومانيين هزيمة منكرة لا تزال من المعارك التي تدرّس في المدارس العسكرية في أوروبا حتى الآن. وإن معارك خالد بن الوليد في فتوح العراق والشام لا تزال محل دراسة العسكريين الغربيين وإعجابهم، وهي عندنا من الصفحات الذهبية في تاريخ الفتوحات العسكرية في حضارتنا. ومع هذا فما كان قدم معركة كاني أو معركة بدر أو معركة القادسية أو حطين ليحول دون النظر إليها على أنها معارك فاصلة في التاريخ.

===================

صراع الحضارات في سجاله وتجلياته

(الشبكة الإسلامية) - غازي دحمان

بدأ الحديث عن صدام أو صراع الحضارات يشغل بال الكثيرين من الاستراتيجيين والمهتمين بالشأن الدولي وبمسألة العلاقات الدولية تحديداً، حيث بات يشغل جزءاً كبيراً من المساحات الإعلامية ـ المقروءة والمكتوبة ـ المخصصة لمعالجة القضايا الدولية، وصار أحد أهم القضايا الكبرى التي تشغل بال المفكرين وصناع القرار في مختلف أنحاء العالم ، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن والتداعيات المرافقة لها.

فما هي حقيقة هذا الصراع، وما هي منطلقاته، وما هو موقف الإسلام منه، وكذلك ما هي تداعياته المتوقعة؟

ما معنى الحضارة؟

لا شك أنَّ المصطلحات الرائجة في هذا الحقل مثل المدنية والثقافة والحضارة غير محددة، وللحضارة وحدها تعاريف كثيرة جداً… وإذا اكتفينا بما تلقيه كلمة الحضارة في الأذهان وهو تقدم المجتمع البشري… فهل تقدم المجتمعات البشرية في الحقول المادية هو حضارة ؟ هناك من يرفض ذلك، ولعل المنطق القرآني يرفضه أيضاً. فالبناء المادي مرفوض إذا لم يكن قائماً على أساس معايير إنسانية أو على معايير التقوى بالتعبير القرآني : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون ) [الشعراء 128-131] . فالقوة المادية تكون سبب البطش والتجبر إذا لم تكن مقرونة بقيم ذات رصيد ديني.

وليس بعيداً عما سبق ذكره، فإنه ليس ثمة إجماع على مفهوم الحضارة، فضلاً عن أنَّ بعضهم يماهي بين هذا المفهوم وبين مفهوم الثقافة، كما أنَّ تصنيفات الحضارة تتفاوت تبعاً لتفاوت المعايير، الأمر الذي من شأنه أن يخلق تناقضات وإرباكات حادة عند الحديث عن صدام الحضارات أو حتى حوارها.

محاولة لتأصيل فكرة صراع الحضارات

أشار المؤرخ الفرنسي "بروديل" في كتابه الشهير "المتوسط والعالم"، إلى أنماط من الحضارات الحية أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: "الحضارات فردوس البشر وجحيمهم"، ويقول بروديل: "يحتوي المتوسط على ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسية في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل … متجسدة في ثلاث شخصيات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة من قرون وقرون متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلاَّ لباساً لها … الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية، وعلى الأصح اللاتينية أو الرومانية… الحضارة الثانية هي الحضارة العربية ـ الإسلامية، والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنهما عدوان متكاملان الأول ابتكر الصليبية وعاشها، والثاني ابتكر الجهاد وعاشه.

في عام 1947 ألقى أرنولد توينبي محاضرة بعنوان "الصراع بين الحضارات"، وقد أعيد نشرها في مجلة هاربر لعدد إبريل 1947، ثم تضمينها في كتابه CIVILIZATION ON TRIAL (الحضارة في الميزان)، ويمكن اعتبار هذه المحاضرة نصاً ثميناً مرجعياً في الوقت الحالي. فعلى الرغم من أفكارها العفوية والخواطرية بنى هانتغتون عليها نصه في المقال الذي نشر في مجلة FOREIGN AFFAIRS وأحدث ردوداً لم تنته بعد، وأعاد صوغها في كتابه الذي أصدره لاحقاًTHE CLASH OF CIVILIZATIIONS ، والذي أخذ أبعاداً عالمية وتحول إلى ظاهرة.

وبالعودة إلى الأفكار الرئيسية التي قدمها توينبي في محاضرته، فقد اعتبر أنَّ الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين، والتي سيقف عندها المؤرخون كثيراً في القرون القادمة هي حادثة اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، وتنبع أهمية هذا الحدث في رأيه من أنه الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد، وذلك عن طريق تحطيم التراث الاجتماعي الإقليمي للحضارات الأخرى عند اصطدامها بالتراث الاجتماعي الغربي، وإن نوعية وفرادة هذا التوحد الاجتماعي للعالم لا تكمن أو تتمثل في ميدان الفنون الصناعية والاقتصادية، ولا في ميدان الحرب والسياسة، وإنما تتمثل في ميدان الدين.

ويتابع أنَّ الديانات الأربع الكبرى ذات الرسالة العالمية التي تقوم اليوم في العالم: المسيحية، الإسلام، والهندوسية، والبوذية الماهايانية التي تسود في الشرق الأقصى، هي من الناحية التاريخية ثمرة الصراع الذي دار بين الحضارة اليونانية ـ الرومانية ونظيراتها المعاصرة.

إذاً ينظر توينبي إلى تاريخ الحضارات على أنه صراع بين الحضارات، وأن هذه الحضارات إنما تقوم على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساسي في قيام الحضارة.

بعد ذلك يأتي الأمريكي صموئيل هنتنغتون، وهو مدير معهد جون أولوين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفرد، وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977-1978 مسؤولية قسم التحليل والاستشراق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ليصوغ نظريته في صدام الحضارات متلقفاً خطى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ التي ثبت تهافتها.

يقول هنتغتون: إنَّ " شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالم إلى حد كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات التالية: الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ـ الأمريكية، وربما الحضارة الأفريقية. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات ".

ويرى هانتنغتون أنَّ الفروق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة، والأهم الدين. فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو إثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة، وبناءً على ذلك سيحدث صدام بين الحضارات.

ولما كان هناك صدام عسكري يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام فإنه ليس من المرجح أن ينحسر، وإذا أضفنا إلى ذلك التفاعل العنيف بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفوشيوسية فإنه من الممكن أن ينشأ تحالف بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية يهدد الحضارة الغربية، ويبشر بظهور صدام حضارات بين الغرب والبقية THE WEST AND THE REST على حد تعبيره، وبناءً على ذلك فإنه يخاطب الساسة الغربيين محذراً '' على الغرب أن يحد من توسيع القوة العسكرية لحضارات معادية محتملة، خصوصاً الكونفوشيوسية والإسلام''.

صدام الحضارات، لماذا ؟

منذ القدم والثقافة الغربية محملة بأوهام كثيرة تجعل من الإسلام عدواً تاريخياً وتقليدياً للغرب، وليس مصدر هذه الأوهام دينياً وحسب، بل أضيفت إليه، وعلى مر الأيام والتاريخ، عوامل سياسية واقتصادية زادت في أثر هذا العامل الديني وجعلته يتخذ شكل خرافة ضخمة تستقر في أعماق الوعي الغربي.

وقد وجدت هذه الخرافة فرصتها الذهبية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي من خلال البحث عن شيطان جديد يحل محل الشيطان القديم الذي ترك وراءه فراغاً عدوانياً لا مناص من ردمه. وكما هو معلوم فإن الذات تجد نفسها عن طريق الآخر. وقد كان واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط جدار الارتطام القديم، بحث الغرب عن آخر يواجهه ويقاومه ويشعر بذاته من خلال الصدام معه. ولم يكن هناك أفضل من الإسلام ليجسد هذا الآخر، ذلك أنه ومنذ القديم شكل الإسلام هذا الآخر.

وهكذا وجد العالم المتقدم من جديد في العالم الإسلامي البديل العدواني للاتحاد السوفييتي، وبدأت الخرافة القديمة بالانبثاق والظهور، وبدأت عمليات النسج الخرافي تلف الإسلام لتظهره على أنه "الآخر"، وكذلك "الوجه المناقض للتقدم والإرث المعادي لمسيرة الحضارة".

وقد بذلت الصهيونية العالمية في هذا الإطار مجهودات كبيرة من أجل تشويه الصورة الإسلامية في الغرب دوماً وأبداً. وذلك بهدف تسميم الأجواء بين الغرب وبين العرب والمسلمين.

إنَّ موقف الغرب المعلن أو المضمر تجاه الإسلام قد ولَّد - منذ البداية - في العالم الإسلامي ردود فعل طبيعية حيناً، ومغالية أحياناً، بحيث أدت عمليات الفعل وردود الفعل المتراكمة والمتعاظمة إلى أن يصدق الغرب مزاعمه الأصلية ويؤمن بصحة تخيره شيطانه، وإلى أن تتكاثر في العالم الإسلامي من جانب آخر الأعمال العدوانية تجاه الغرب وهكذا دواليك.

ومما يدعم وجهة النظر هذه أنَّ هنتنغتون نفسه صاحب نظرية صدام الحضارات ومن كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، ومقرب جداً من دوائر صنع القرار في أمريكا، وبالتالي فإن نظريته هذه أحد المخارج التي توصلت إليها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب للحفاظ على مكاسبها الناجمة عن استمرارية موازنات الحرب في الارتفاع ، وعن تنازل المجتمعات الغربية عن جزء مهم من حقوقها في الرفاه والتقدم مقابل الحصول على قدر أكبر من الأمان تجاه الأعداء المفترضين.

رأي آخر يقول : إنَّ وراء بروز ظاهرة صراع الحضارات أسبابًا اجتماعية عائدة إلى أنَّ الهيمنة في داخل العولمة، وسيطرة الاستهلاك والتكنولوجيا أديا إلى تفجر الاختلافات والتمايزات والخصوصيات والهويات القومية والعرقية والدينية والثقافية واحتدام الصراع فيما بينها، مع بروز ظاهرة واحدية الحضارة، ومحاولة فرض السيطرة من قبل الحضارة الرأسمالية.

موقف الإسلام من قضية صراع الحضارات

إنَّ التصور الإسلامي لا يكرس الصراع كقانون تاريخي مطلق كما تقدمه فكرة هنتنغتون، ولكن الصراع في التصور الإسلامي بمعنى التدافع ليس إلاَّ سنّة واحدة من سنن الاجتماع البشري إلى جانب سنن الله الأخرى، كما أنه له منطقه المختلف عن مفاهيم الصراع الأخرى، ولذا فإن الجهاد في معناه الواسع ليس صراعاً مع الآخر للقضاء عليه، ولكن أداة لحماية الدعوة ونشرها بين الآخر، ومن ثم فهو أحد أدواته حيث أداة التعاون السلمي تظهر إلى جانبه، ولكل من الأداتين ضوابطهما وشروطهما وليست إحداهما بديلة مطلقة للأخرى.

ولذا فإن القول : إنَّ أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم في التصور الإسلامي هو الحرب أو السلام ليس قولاً منضبطاً، ولكن القول الأفضل هو: متى تكون الحرب؟ ومتى يكون السلام؟ وهكذا يجب أن نقرأ المدارس الفقهية المختلفة حول هذا الموضوع بحثاً عن إجابة لهذا السؤال الأخير، وهو السؤال الذي يحتل في التصور الإسلامي مكانة السؤال في المنظور الغربي حول الصراع كمحرك بين من وعلى ماذا؟

من ناحية أخرى فإن هذا الصراع في صورته العسكرية أو السلمية ليس لتأكيد هيمنة ثقافة على ثقافة أخرى، ولكن لتحقيق أهداف الدعوة والرسالة باعتبارها رسالة للعالمين، ليس بالإكراه والقسر والإجبار للشعوب والأمم، وعلى العكس فإن منطق صدام الحضارات في فكر هنتنغتون يعكس كل منطق التناقض بين عالمية الإسلام وبين هيمنة الحضارة الغريبة، أي عولمة النموذج الغربي. حيث إنه، أي فكر هنتنغتون، يعكس تكريساً لهذه الهيمنة وكيفية استمرار قوتها بأساليب إكراهية قسرية إجبارية.

إذاً إنَّ المفهوم الإسلامي عن نمط العلاقة بين الحضارات هو تعارف الحضارات "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، وكذلك حوار الحضارات، حيث ينبني المفهوم الإسلامي عن حوار الحضارات على رؤية الأصول " قرآناً وسنة " ، ويعكس الأسس المعرفية للرؤية الإسلامية، ومن ثم يختلف في جوهره عن المفهوم الغربي عن الحوار الثقافي أو الحضاري، كما لا بد وأنه يختلف في غاياته ودوافعه.

من هنا فقد سعت مجموعة الدول الإسلامية ، وعبر إطارها التنظيمي، منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى نبذها لقضية ما يسمى بصراع الحضارات انطلاقا من مبادئ دينها الحنيف الذي يدعو للتسامح والمحبة ونبذ العنف والتعصب، وذلك في أكثر من مناسبة داعية إلى إيجاد نوع من الحوار والتواصل بين الحضارات المختلفة، وقد عبرت عن ذلك في إعلان طهران مايو 1999، واجتماع واجادوجو يونيو1999، واجتماع باماكو يونيو2001 وكذلك اجتماع الدوحة أكتوبر 2001.

ملاحظات حول مقولة صدام الحضارات

إنَّ فرضية هنتنغتون في الصدام بين الحضارات تخفي داخلها فقراً فلسفياً واضحاً يبرز أولاً في رفضه فصل الثقافة عن الحضارة، واعتباره أنَّ الثقافة هي الفكرة العامة في كل تعريف للحضارة، ما انعكس بدوره على مفهومه عن الحضارة وربطه بالدين، وهذا خلل واضح إذ إنَّ استخدام مفهوم الحضارة، وبالتالي الدين بوصفه المؤشر الأساسي للتمييز بين أطراف الصراعات الرئيسية في عالمنا الحالي لا يساعد كثيراً في فهمنا لهذه الصراعات.

من جهة ثانية فقد أثبتت أحداث التاريخ أنَّ دور الحس الديني في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب، وإن كان قائماً وفاعلاً، إلاَّ أنه ومن خلال تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا السياسية فإن هذا الحس الديني يتدخل كعنصر " تغيير" لا كعنصر ثبات، وعنصر تغيير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق.

وقد يقول قائل : لماذا لم يكن لهذا الحس أثر في الشرق الإسلامي؟ فذلك لأن هذا الحس قد غرق في فقه سلطاني ولم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم لا من قريب ولا من بعيد.

إنَّ الأشكال الصراعية التي يصفها هنغتنتون بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسبب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي وتحولها واستدخالها لمنطقه في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.

ما لا يقوله خطاب "صدام الحضارات" هو أنَّ انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست حضارة بالمفهوم الذي يبني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجا للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.

إنَّ العرب والمسلمين اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة، ولا علومها، ولا فلسفتها، أما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاع الذاكرة أو دراسة لمرحلة، وفي الحالتين لا تملك "الحضارة الإسلامية" ، بما هي تراث ، ديناميت التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة.

إنَّ الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاَّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن لمعطيات الحضارة العالمية إلاَّ أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.

إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم والتي يزهو هنتنغتون بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد الحرب الباردة ؟

الواقع أنَّ أمثلة هنتنغتون هي نماذج من تكوينات طائفية ـ دينية ـ وإثنية ـ وقبلية ـ كانت موجودة في عالم الحرب الباردة، بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، وهذه التكوينات كانت جزءًا من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية. عالم الصين والهند، والعالم الإسلامي العثماني… هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلاَّ مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.

وماذا بعد ؟

الحديث عن صراع الحضارات لم يقتصر على الدائرة الفكرية في الغرب، ولم يبق - في أحسن الأحوال - في أدرج الاستراتيجيين وصناع القرار الغربيين كخيار مطروح، وظهر أنه ليس لعبة يتلهى بها الرأي العام الغربي في أطر مضبوطة تؤدي وظائف بعينها وكفى.

لقد كان الحادي عشر من سبتمبر الحدث الذي مزق الستار الشفاف الذي كانت تتخفى خلفه كتل الحقد العنصرية لتنجرف كالسيل حمماً وبراكين في فلسطين وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وليعبر عنصريو الغرب في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا عن حقدهم الدفين بكل أريحية وبدون وجل أو شعور بتأنيب الضمير، فالآخر الذي هو الإسلام، هو عدو لا بد من محاربته بدون رحمة !!

وبعد أن أخذت تجليات مقولة صراع الحضارات تتمظهر فاقعة وعلى صعد مختلفة تجاوزت من خلالها المقدمات لتبدأ نهشاً في المتن، والمتن ليس إلاَّ حضارتنا، حاضرنا ومستقبلنا فهل يكفي أن ندعو لحوار الحضارات في وجه سياسات تعرف تماماً ماذا تريد، أم أنَّ الأمر يتطلب تطوير استراتيجيات دفاعية قد تكون أكثر فاعلية ؟

====================

العولمة والخصوصية الثقافية

(الشبكة الإسلامية) إدريس الكنبوري *

فرضت ظاهرة العولمة نفسها بقوة في السنوات القليلة الأخيرة، وأصبحت الكلمة مؤشرًا على التغيرات التي يمكن أن تطرأ على صورة العالم والعلاقات بين الشعوب والحضارات والثقافات، فهل تتجه تلك الصورة نحو احترام التعددية أم نحو فرض المزيد من التضييق على الخصوصيات الثقافية لصالح ثقافة واحدة مهيمنة.

ورغم أن العولمة أو الكوكبة، حسب اختلاف الترجمة العربية للكلمتين الإنجليزية والفرنسية (Mondialisation ; Globalisation) لا زالت حتى الآن مجرد مصطلح لا يدل على واقع حقيقي ماثل، ولم تتشكل بعد في معطيات وحقائق على المستوى الدولي، فإن المقدمات الأولى لها أصبحت تشغل حيزا واسعا من الاهتمامات في صفوف الباحثين والمثقفين والمفكرين نظرًا لما تحمله هذه المقدمات من بذور تعطي صورة أولية للشكل النهائي للعولمة في أفق الأعوام المقبلة. ويبدو الإعلام الدولي والفضائيات إحدى هذه المقدمات المبشرة بذلك الشكل، فقد صار واضحا أن الإعلام يتوسع يومًا بعد يوم ويتوحد في الصورة والخطاب والرسالة الإعلامية، مما حوّل العالم إلى مساحة واحدة ممتدة تخفي الرسالة الإعلامية الموحدة تضاريسها المختلفة، أو إلى "قرية كونية"، حيث تتماثل المشاعر وردود الفعل بين أفراد دول المعمورة.

العولمة والثقافة

إن مسألة وضع تعريف دقيق للعولمة مسألة لا تخلو من صعوبة، ومرجع هذه الصعوبة إلى أن العولمة - كما سبقت الإشارة - ما زالت بعيدة عن التشكل في صورتها النهائية لتكون واقعا يستند عليها. كما ترجع هذه الصعوبة أيضا إلى أن ظاهرة العولمة متعددة المستويات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وكل مستوى من هذه المستويات يقتضي تعريفا للعولمة مناسبا له. كما ترجع هذه الصعوبة في درجة ثالثة إلى الموقع الذي يتخذه الباحث في موقفه من ظاهرة العولمة، فبعضهم يغلب جانب التشاؤم على جانب التفاؤل، وآخرون يغلبون الجانب الثاني على الأول، وبعضهم الآخر يتخذ موقفا وسطا يقيس الإيجابيات والسلبيات.

ولعل أوسع التعاريف انتشارا للعولمة هو ما جاء في كتاب " العولمة " للباحث الأمريكي " رونالد روبيرثسون "، حيث عرف العولمة بأنها "اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش" (1). ويضع السيد ياسين ثلاثة عمليات تكشف حقيقة العولمة: العملية الأولى تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس، والثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول، أما العملية الثالثة فهي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات(2).

أما الثقافة، فبصرف النظر عن عشرات التعاريف التي وضعت لها والتي تنطلق من مرجعيات فكرية وإيديولوجية تحاول تغليب مفهومها للثقافة، فيمكن تعريفها بإيجاز بأنها مجموعة العقائد والأفكار والطقوس والعادات والتقاليد التي تميز شعبا عن شعب آخر، وترجع إلى جذور دينية أو إثنية أو علمانية، الأمر الذي يعطي لجماعة بشرية أو مجتمع معين خصوصية معينة ثابتة ومستقلة عن خصوصيات الشعوب والجماعات الأخرى، وهذه الخصوصية الثقافية تزداد أهميتها إذا نظرنا إليها بوصفها " نتاجا تاريخيا يحمل عبر الزمن تصورات وآراء ومعتقدات، وأيضا طرائق في التفكير وأساليب في الاستدلال قد لا تخلو هي الأخرى من خصوصية" (3).

ويقدم المرحوم مالك بن نبي تعريفا أكثر دقة للثقافة، إذ يقول: "إن الثقافة هي الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والألحان والحركات، وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد، بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر". ويرى ابن نبي: "أن الثقافة لا يمكن أن تقوم من دون المبدأ الأخلاقي الذي يحدد العلاقة بين الأشخاص مع بعضهم، وبينهم وبين عالم الأشياء والمفاهيم" (4). فالثقافة إذن ليست مجرد الأفكار والسلوكيات والعقائد والعادات، بل هي إشعاع أخلاقي ونفسي يلقي بظلاله على الكون والحياة والمجتمع.

ثقافة بلا مبدأ أخلاقي

لا يخفى أن العولمة على مستوى الثقافة والإعلام والقيم الحضارية أصبحت الآن تتقدم زاحفة بوتيرة سريعة. فالعولمة الثقافية تبشر اليوم بتقارب الثقافات والخصوصيات والهويات واحتكاكها، تذوب معها الفوارق بين الثقافات، وتضمحل الحدود والأسوار، لكن مآل هذا التقارب والاحتكاك الثقافي ما زال حتى الآن غامضا وغير معروف، وإن كانت مقدماته حاضرة في حياتنا اليومية عبر وسائل الإعلام الناقلة للقيم الوافدة والثقافات الأخرى، وأبرزها الثقافة الغربية المادية والعلمانية التي تمجد قيم الاستهلاك والربح والأنانية والكسب السريع.

وقد أوحى هذا التقارب بين الثقافات للغرب بالمخاطر التي يمكن أن تسفر عنها العولمة الثقافية، وبالتخوف من الإسلام والثقافة الإسلامية، فظهرت مقولة "صدام الحضارات" للباحث الأمريكي صامويل هانتنغتون، التي يتحدث فيها عن المخاطر الكامنة في الثقافات الأخرى - ومنها الإسلامية - على الثقافة والحضارة الأنجلوسكسونية الغربية المسيحية، وهذا يعني أمرا واحدا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نفقهه، وهو أن الغرب الذي سبق إلى التبشير بالعولمة وكأنه الرابح الوحيد منها، هو نفسه المتخوف على ثقافته وحضارته. إن العولمة الثقافية ستفتح الباب أمام المنافسة الحضارية والثقافية بين الثقافات، من أجل الهيمنة والغلبة على الثقافات الأخرى، وفرض السيطرة على العالم وزرع القيم الحضارية الواحدة التي ستصبح إذًا المفتاح الوحيد الذي يخول للشعوب فرصة الدخول إلى نادي العولمة. وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية فعلا في تصدير قيمها الثقافية إلى باقي دول المعمورة، واستشعرت أوربا نفسها - بوحدتها النقدية والثقافية القوية - مخاطر هذا التغلغل الأمريكي في نسيجها الثقافي، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل قوية من قبل المسؤولين الأوربيين وخاصة الفرنسيين منهم، وطالبوا بـ " الاستثناء الثقافي " في مفاوضات منظمة التجارة العالمية (5).

تنحو العولمة نحو القضاء على السيادة الثقافية للأمم والشعوب وإزالة الخصوصيات التي تقف حجر عثرة أمام شيوع قيمها الجديدة التي تبشر بها، لتحل محلها ثقافة جديدة معولمة تهدف إلى تسليع القيم وتوظيف الإعلام لخدمة أهدافها. ولعل من بين السمات الحقيقية لثقافة العولمة هي بالتأكيد النسبية والتغير المستمر، لأن ثقافة العولمة ثقافة تركض وراء كل جديد في الأسواق العالمية، وهذه الأسواق هي التي تحدد القيم وليس العكس، وهذا يشير إلى أن هذه الثقافة مجردة عن المبدأ الأخلاقي الذي يشكل أساس أي ثقافة بانية ومؤسسة، لا ثقافة الهدم والخراب الإنساني، فلا مكان للقيم الروحية في هذه الثقافة السطحية المادية، بل قيم مادية متغيرة باستمرار يحكمها مبدأ الجديد في كل شيء، وتتعارض مع الأخلاق والأديان التي تؤكد على الثوابت الراسخة.

والعولمة أيضا دعوة إلى تبني نموذج ثقافي معين، وسيادة النمط الثقافي الواحد (6)، وهذا يعني أن كل من لا يساير هذا النمط معرض للتهميش والانقراض، وفقا لنظرية "الاصطفاء " الداروينية والبقاء للأصلح من الأنواع. وتقوم وسائل الإعلام من خلال الصورة برسم معالم هذا النمط الثقافي الواحد وتسويقه عبر مناطق العالم.

تهديد التعددية الثقافية

لقد أشار عدد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين إلى مخاطر العولمة على الخصوصيات الثقافية للشعوب، وتهديدها للتعدد الثقافي وحتى اللغوي. وفي عام2000 خرج برنامج للأمم المتحدة للتنمية في تقريره السنوي حول التنمية البشرية عن صمته ليعبر عن هواجسه من زحف العولمة على الثقافات. وأشار التقرير إلى أن طوفان الثقافات الأجنبية يمكن أن يؤدي إلى تخريب التعددية الثقافية في العالم ويدفع الشعوب إلى التخوف من فقدان هويتها الثقافية. وأوصى التقرير بضرورة حضور جميع الثقافات في العالم والتعبير عن نفسها، مستشهدا بمقولة شهيرة للمهاتما غاندي يقول فيها: " إنني أقبل أن تغمرني جميع الثقافات الموجودة، لكنني لا أقبل أن تدهسني واحدة منها". ولقد أشار التقرير - استنادا إلى تقرير لمنظمة اليونسكو - إلى أن الثقافة أصبحت تحظى بأهمية اقتصادية كبرى في السنوات الأخيرة، حيث تضاعفت قيمة المبادلات العالمية من الإنتاج الثقافي بين 1980- 1991 ثلاث مرات من 67 إلى 200 مليار دولار، وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية النسبة الأكبر في هذا المجال (7).

هذه المؤشرات والمعطيات التي تضمنها تقرير صادر عن منظمة عالمية تؤكد فعلا مقدار الخطر الذي تحمله العولمة في أحشائها بالنسبة للثقافات غير الغربية أو غير الأمريكية، خطر القضاء على التعددية الثقافية والحضارية التي لا يمكن من دونها أن يتحقق الانتماء الإنساني والإثراء الحضاري للأمم والشعوب. فالتعدد والتنوع فطرة إنسانية جعلها الخالق سبحانه وتعالى لحكمة بالغة، وهي التعارف والتقارب والتعايش والبحث عن الأفضل مما لدى الآخرين والتكامل والتكافل. ومن دون ذلك ينحدر المجتمع الإنساني في هوة سحيقة من الأنانية وعبادة الذات مما يمهد للفناء والتلاشي.

موقفنا نحن المسلمين

لكن المبالغة في تقدير مخاطر العولمة بالنسبة لنا نحن المسلمين قد تكون دافعا نحو الاستسلام لتيارها والتعامل معها على أنها قدر لا مفر منه، وهو ما يتنافى مع عقيدتنا التي تمتلك من لوازم القوة والصلابة والصمود ما أوهى صخورا عاتية كثيرة في الماضي والحاضر وردت على أعقابها.

إن الإسلام جاء هداية للبشرية جمعاء، ولإخراجها من ظلمات الكفر والضلال والفتن والصراعات المقيتة إلى نور الهداية والاحترام المتبادل والتعايش السلمي بين الشعوب. وقد جاء دينا شاملا لكافة مجالات الحياة، رسالة جامعة للبشرية كلها، دونما إلغاء لخصوصياتها الذاتية، بل بإغنائها وتهذيبها من متعلقات الشرك والانحراف، وتقويمها ورسم أهداف سامية لها، إن موقف المسلم من العولمة ينبغي أن يكون موقفا متشبعا بهذه النظرة الإيمانية القوية ومسلحا بالتفاؤل وعاملا على خوض غمار العولمة بالوسائل التي يتيحها الدين الإسلامي الخاتم، وهي التحصين والتربية القوية والعلم والمعرفة، إذ من دون ذلك لم يكن المسلمون ليصمدوا في الماضي أمام الغزاة والمحتلين والمستعمرين، قبل أن يكون هناك ما يسمى بالعولمة.

فالعولمة ليست كائنا خرافيا تستحيل مواجهته، ولا آلة صماء لا يمكن تطويعها أو التعامل معها. إنها ظاهرة عالمية جديدة تطرح تحديات جديدة، وقد كان المسلمون باستمرار يجابهون الكثير من التحديات منذ أن ظهر الإسلام وأضاء نوره الكون، وكانت هذه التحديات بالنسبة لهم جديدة بمقاييس عصرهم وإمكاناتهم المتاحة، لكنها لم تكن مخيفة أو تعجيزية بالنظر إلى الشحنة الإيمانية القوية التي كانوا يخوضون بها لجج المعارك الحضارية الكبرى.

وربما كان جزء كبير من تخوف المسلمين اليوم من ظاهرة العولمة عائدا إلى أمرين أساسيين: الأمر الأول عدم العودة إلى تاريخنا الإسلامي العظيم وسجله الضخم وقراءته قراءة فاحصة وتدبر دروسه ومواعظه. والأمر الثاني انهيار المعنويات النفسية والشعورية والإيمانية للمسلمين، حتى كاد العالم الإسلامي اليوم تتحقق فيه مقولة القابلية للاستعمار التي وضعها مالك بن نبي - رحمه الله - لوصف النفسية الإسلامية في فترات معينة من القرن العشرين أمام الاحتلال الأجنبي لأقطار المسلمين.

وهناك أمر ثالث يثار عند المبالغة في التخوف من ظاهرة العولمة. فهذه المبالغة قد تعود أيضا إلى الاعتقاد الواهم لدى فئات من المسلمين بأنهم لا يملكون ما يقدمونه للعالم، بينما يملك العالم ما يقدمه للمسلمين، وهذه مقولة خاطئة تعود إلى العاملين السابقين. إن المسلمين يملكون شيئا كثيرا يمكنهم تقديمه إلى العالم لو عرفوا كيف يسخرون الوسائل الحديثة لذلك، وإذا أدركنا أن هذا واجب على المسلمين انطلاقا من مبدأ الشهادة على الناس وهداية البشرية، عرفنا أن العولمة ليست غولا مرعبا، بل هي على العكس قناة جديدة تفتح أمام الرسالة الإسلامية، وليس غريبا أن يكون الغرب هو نفسه أول من يعرف هذه الرسالة الإسلامية ويتوجس خيفة منها، ويضع نظرية حول صدام الحضارات انطلاقًا من هذا التوجس. إن العولمة لا تشكل خطرا بذاتها على المسلمين، ولكن سوء التعامل وعدم اختراقها هو ما يشكل أسوأ الخطر علينا.

يقول الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي: " إن الدعوة إلى العولمة لا ينبغي أن يقصد بها طمس هوية الشعوب، وإلغاء خصوصياتها الحضارية، ولا الغض من عناصر هويتها الدينية والثقافية، أو قطع الصلة بينها وبين تاريخها وتراثها الحضاري. وأكثر ما ينطبق ذلك على العالم الإسلامي الذي يؤمن بدينه عقيدة وشريعة ويعتز به، ويمكن أن يسهم بالإضافة والتجديد إلى حضارة الإنسان المعاصر في نطاق عالمية الإسلام، وأنه رسالة عالمية خالدة، خاتمة للرسالات الإلهية، تدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين ". ويواصل الدكتور التركي قائلا: " إن المسلمين يملكون رصيدا ضخما في مجال الثقافة والقيم والعلاقات الإنسانية، والتعاون بين الأمم والشعوب، فينبغي أن يكون للإسلام نصيبه في بناء أي نظام عالمي جديد، وأن يكون له مكانة في الدعوة إلى التعايش السلمي بين البشر " (8). ويقول الدكتور محمد فاروق النبهان : " نحن نجد ملامح العولمة في القيم الإسلامية التي تدعو إلى التكافل بين الناس، والتعاون على الخير وإلغاء كل مظاهر التمييز العنصري، ومقاومة كل دعوة إلى إقليمية ضيقة أو قومية متفوقة، أو عصبية جاهلية" (9).

وإذا كانت العولمة ظاهرة جديدة نشأت في الغرب، فإن الإسلام جاء بالعالمية الإنسانية منذ عدة قرون، وهي البديل الأخلاقي للعولمة الغربية، والإسلام لم يكن عالميا فقط لأنه موجه إلى العالمين، بل كذلك لأن الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ومكسب للبشرية جمعاء، ولم يكن العرب سوى نواة هذه الرسالة، أما محيطها فهو كل الإنسانية. وقد ساهمت الشعوب الأخرى جميعها في بناء هذا الصرح الشامخ، فهي حضارة غنية في ذاتها تداخلت فيها إسهامات كل الشعوب.

خطوات في مواجهة العولمة

إن الموقف الإسلامي الصحيح في مواجهة العولمة هو التشبث بالإسلام عقيدة وشريعة وتحكيمه في النظر إلى الظواهر العالمية المستجدة، وتفسيرها لردها إلى حجمها الحقيقي في إطار المنظومة الإسلامية الصحيحة التي تتسم بالشمولية والواقعية والعالمية والخيرية. غير أن تصريف هذا الموقف يتطلب التعبئة الشاملة للمجتمع للتصدي لمخاطر العولمة المحتملة والأكيدة، ونجمل عناصر هذه التعبئة في الخطوات العملية التالية :

1- تحصين الذات بالتربية الإسلامية الصحيحة والسليمة للفرد والأسرة، والطفل بالخصوص لأنه رجل المستقبل والحامل لبذور القوة والهزيمة بحسب التنشئة التي يتلقاها في وسطه.

2- بناء استراتيجية ثقافية إسلامية قوية وراشدة وفعالة تقدم الإسلام للبشرية على أنه البديل والخلاص الوحيد من محن العولمة المادية، وتوضيح حقيقة الأنموذج الحضاري الإسلامي.

3- وضع قاعدة لإعلام إسلامي يعنى بتقديم الصورة الحقيقية للإسلام باعتباره هداية للبشرية، وكشف عورات الحضارة الغربية المادية وبيان نواقصها ومخاطرها على الجنس البشري.

4- إنشاء سوق اقتصادية بين دول العالم الإسلامي لتبادل المنافع والسلع بما يحقق التعامل بين الاقتصاديات الإسلامية والتكافل بين شعوب العالم الإسلامي، دون الانغلاق عن بقية العالم.

5- تشجيع العلم والمعرفة والبحث عن الخبرات وتوظيفها التوظيف الناجح لتحقيق الاكتفاء الذاتي لشعوب العالم الإسلامي من الغذاء والدواء.

6- ترشيد الاستهلاك والتوعية بذلك والإلحاح على القيم الإسلامية الواضحة في هذا المجال.

ــــــــــ

*- باحث وكاتب صحافي من المغرب.

الهوامش:

1-نقلا عن د. عبد الخالق عبد الله:العولمة جذورها وكيفية التعامل معها.عالم الفكر،المجلد 28 العدد الثاني.1999 ص 52.

2- السيد يسين: في مفهوم العولمة.المستقبل العربي.عدد 129 أكتوبر 1998ص 7.

3- محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي.المركز الثقافي العربي.البيضاء، الطبعة الثانية 1987 ص 13.

4- مالك بن نبي: تأملات - مشكلات الحضارة: دار الفكر المعاصر.بيروت- دار الفكر، دمشق-الطبعة الخامسة 1412ه. 1991م ص 147.

5- إدريس الكنبوري: العولمة والهيمنة الثقافية الأمريكية. الفرقان. عدد 43 - 1420ه. 200م-ص 101.

7- هانس مارتين وهارالد شومان: فخ العولمة - ترجمة عباس علي -عالم المعرفة - الكويت-أكتوبر 1998- ص 42.

8و9- العالم الإسلامي ( رابطة العالم الإسلامي) الاثنين 28 ربيع الأول 1420 -يول

==============

لماذا أخفق المسلمون في تحقيق النهضة؟

(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج *

تزامن خفوت الحضارة الإسلامية مع صعودها في الغرب كما سجل ابن خلدون في مقدمته، ولم يستشعر المسلمون وطأة هذا الخفوت وضريبته حتى القرن التاسع عشر مع طلائع "الإصلاحات" التي بدأها بعض الولاة العثمانيين في أقاليم الخلافة الإسلامية استهداءً بالغرب، وأدت هذه الإصلاحات التي عرفت بـ"التنظيمات" إلى انهيار الخلافة العثمانية برمتها، ولم يبدأ البحث عن سبل النهوض على نحو جدي إلا حين دكت قنابل نابليون مدن العالم العربي، أي في قلب الخلافة الإسلامية.

مضت المحاولات الفكرية للبحث عن النهضة، بدأت بالسؤال: "لماذا تقدم الغرب؟" لنحذو حذوه، ثم أصبح السؤال (مع شكيب أرسلان) في مطلع القرن العشرين:"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" ولم يلبث أن انقلب السؤال (مع أبو الحسن الندوي) في منتصف القرن المذكور ـ بسبب صعود الدولة العلمانية واستشراء المد الماركسي على النخب الفكرية ـ إلى: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" والآن بعد قرنين من الزمن عدنا إلى نقطة الصفر، إذ لم يتحقق من النهضة التي حلم بها مفكرو الأمة شيئ، وأصبح السؤال: "لماذا أخفقت النهضة؟"!

هذا الموضوع الذي أصبح أحد أكثر الموضوعات أهمية الآن في أوساط النخبة الثقافية المسلمة، تدور حوله بحوث متعددة وتحت مسميات مختلفة، ويأتي هذا الكتاب في سياق الجواب عن النهضة في سؤالها الأخير "لما أخفقت؟".

هل النهضة "حلم تاريخي" ؟

يبحث المفكر الإسلامي التونسي احميدة النيفر في القسم الأول من الكتاب عما إذا كانت النهضة "حلماً تاريخياً" وحسب، ويجد في مسيرة النهضة ما يؤكد أنها لم تكن أكثر من ذلك بكثير؛ فالنخب الفكرية لم تُرْسِها باعتبارها مشروعاً تاريخياً مكتملاً. يفسر النيفر ذلك بأن النهضة التي بدأت بباعث ديني (هو الإسلام) وعلى أيدي رجالات الفكر الإسلامي، ما لبثت أن تنكرت لهذا الأساس على أيدي النخبة الثقافية اللاحقة فأقيمت قطيعة مع الخطاب الديني ـ وهو بطبيعته جزء من الحراك الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلامية ـ فقد استبعدت القيادات الفقهية واستُبدلت بمناهجها .. أخرى مبتوتة الصلة بالدين وغريبة عن الثقافة العربية والإسلامية، كما استُبدل بخطابه خطاب آخر غريب من نفس السحنة والجنس. هذا في الواقع ما صنعه المثقفون العلمانيون المؤمنون بالحداثة الغربية على نحو يجعلها وكأنها مسار تاريخي حتمي لكل الحضارات الإنسانية، لقد ساهم حلمهم بالتحديث الغربي واستلابهم لنموذجه في إرباك مسار النهضة، فتبني العلمانية وتهميش دلالة الدين قسراً باعتبارها ـ من منظوره ـ فاقدة القدرة على إنشاء الحضارة بخطابها القرآني! وتمددت القطيعة لتتجاوز الدين وتصل حتى إلى التراث الإسلامي بأكمله، اعتقاداً منهم بأن ذلك سيحرر الفكر العربي من التخلف وسيقوده نحو التقدم، كما حصل في البلدان الأوربية دون وعي منهم بأن الثقافة الأوربية كانت تنطلق من طبيعة صلة النهضة الغربية مع ماضيها، وزاد في هذه الصعوبة الوعي المتأخر بالنهضة، وهو ما يسميه النيفر بـ"الوعي المفوت"، مما أدى إلى المراوحة التي تعوق الجهد المبذول للبناء الفكري النقدي، ويظهر ذلك جلياً ـ بنظره ـ في تداخل وعدم وضوح مفاهيم النهضة والتباسها.

بناء الأيديولوجية !

وينظر النيفر إلى انقسام النخب الثقافية بين ذهنية الولاء المطلق للغرب وذهنية الرفض التام له على أنها ساهمت في تمزيق الثقافة العربية بالإضافة إلى الأحداث السياسية المتتالية على الفكر النهضوي العربي فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من ظهور للأحزاب والتيارات الفكرية المتعددة الاتجاهات حيث كانت ردة الفعل، أو الاستجابات القهرية عليها في معظم بلدان العالم الإسلامي، ومن ثم فإن اتجاه المثقفين إلى اعتماد "مرجعيات مستعارة" في منهجهم من خلال المقارنة مع الغرب الأوربي، فعملت النهضة على ترسيخ قيمة الآخر (الأوربي) والاتجاه الإصلاحي الذي أعطى الأولوية للمجال السياسي، وبالتالي لم تستطع النهضة ـ كما يستنتج النيفر ـ أن تبني تصوراً واضحاً عن نفسها ولا حتى عن ذات الآخر في اللحظة نفسها! وبنت بدلاً من ذلك منظومة فكرية أيديولوجية (اعتقادية) عن النهضة على حساب بناء مشروع للنهضة ! وهكذا ما استطاعت هذه النخب الثقافية المستعلية التواصل مع ثقافة مجتمعاتها الإسلامية بسبب انحباسها في مقولات وأفكار ونظريات تجاوزها الزمن ، ولا هي استطاعت بناء المشروع فبقيت سجينة أحلامها الأيديولوجية التي لا رصيد لها إلا إكراهات الظروف العابرة وهما ما أدى للفشل في بناء مشروع للنهضة والإطاحة به.

النهضة المفارقة

يجد النيفر بناء على ذلك أنه لكي نبدأ بصياغة مشروع للنهضة من جديد علينا أن نلحظ أن أسئلة النهضة الأوربية مفارقة لنا بقدر اتصالها بواقع الغرب التاريخي، ومتزامنة مع تطورات الواقع والفكر لديه في حين أنها تحولت لدينا إلى قطيعة مع الواقع والتاريخ العربي والإسلامي، ولأجل ذلك ظلت الأسئلة التي يطرحها فكر النهضة تدور حول نفسها وتكرر ذاتها في كل مرة يتم الحديث فيها عن النهضة دون أي تقدم يستحق الذكر!

ولا يفرق النيفر تفريقه بين الأطوار التي مرت بها النهضة على نحو واضح ودقيق، كما يأخذ عليه المفكر المغربي محمد الوقيدي، لأن النيفر فيما يبدو لا يجد أنه من الممكن إقامة هذا القضية على نحو حدي ودقيق زمنياً، ومن الأجدى التعامل مع أفكارها وتحولاتها ومقاربتها زمنياً قدر الإمكان. كما أن النيفر لا يفرق في النهضة بين عربية وإسلامية لأن النيفر أيضاً فيما يبدو يعتبر أن ما ينطبق على العالم الإسلامي ينطبق على العالم العربي والعكس صحيح مهما وجدت الإستئناءات (ماليزيا مثلاً).

وينتقد الوقيدي أطروحة النيفر لتفسير إخفاق النهضة في مفارقة خطابها للواقع العربي الإسلامي، بأن هذا لا يفسر القضية كاملة، إذ إنها تنتهي إلى حصر القضية في علاقة الفكر بالواقع، وهو ما يجعلنا نغفل عن البحث في الواقع ذاته للبحث عن الأسباب الموضوعية التي أعاقته عن التطور في اتجاه النهوض , والتجاوز إلى آفاق جديدة.

مهما يكن فقد وقف النيفر على التفسير المعقول لإخفاق مسعى النهوض في العالم الإسلامي، الذي كانت النخبة الثقافية العلمانية سبباً رئيسياً فيه.

في القسم الأول من المقال قدمنا وجهة نظر إسلامية جواباً لسؤال "لماذا أخفقت النهضة؟"، حيث انتهت إلى أن السبب الرئيسي يكمن في تحول مسارها من أرضيتها الدينية إلى الأرضية العلمانية، ومن أصلها الفكري والعملي الجماعي إلى الأيديولوجيا السياسية الحزبية الضيّقة. وفي هذا القسم نتابع طرح الجواب ولكن من موقع آخر.

ـــــــ

يطرح المفكر المغربي محمد الوقيدي ضرورة التركيز على الإشكالات التي كانت تكبح باستمرار كل محاولات النهوض، حيث يردها إلى عوامل ذاتية بالدرجة الأولى في العالم العربي والإسلامي تكثفت في خطاب النهضة مما أدى إلى القصور في بنائها.

ويجد الوقيدي بعد مقارنة معقدة بين النهضة العربية والنهضة الأوربية أنه فيما كانت الأوربية تعبر عن واقع موجود وقائم بالفعل كانت جارتها العربية تعبر عن "واقع مأمول" لم يتحقق بعد.

يقسم الوقيدي تاريخ البحث في "النهضة" إلى مرحلتين متمايزتين (وهي بنظره قسمة لا غنى عنها لاختلاف التطورات التي مر بها العالم الإسلامي) الأولى تبدأ من مطلع القرن التاسع عشر، والثانية تبدأ من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية القرن العشرين. ففي القرن التاسع عشر كان هناك وعي بالتأخر وتساؤل عن أسبابه وشروط الخروج منه، وكان مفكرو البلاد الإسلامية في هذه المرحلة يبحثون في الشروط الذاتية التي تسمح للمجتمعات الإسلامية أن تتجاوز التأخر، كما كانوا يتصورون أن هذا التجاوز هو "استئناف" لدور حضاري سابق، ولذلك وعلى الرغم من اختلاف صيغ التعبير والتدليل اتفق هؤلاء المفكرون على ضرورة العودة إلى العقيدة في أصالتها ونقائها الأول، وكان في هذه المرحلة حديث عن الآخر المتمثل بالغرب الأوربي المتزايد قوة وصعوداً ، ولكنه كان حديثاً عن آخر يمكن بشروط ذاتية تجاوزه أو ردم الهوة التي تفصلنا عن زمنه، ويعتبر محمد عبده ممثلاً نموذجياً لهذه المرحلة.

تمتاز المرحلة الثانية بظهور فئة جديدة من المفكرين المسلمين ذوي تكوين خاص متميز عن تكوين مفكري المرحلة الأولى. فقد كان تكوين مفكري المرحلة الأولى تقليدياً، إذ نهلوا من التعليم الذي كان سائداً في البلاد العربية والإسلامية منذ قرون، وكانت رحلاتهم إلى أوربا بمثابة تعليم إضافي لتعليمهم التقليدي على حد تعبير الوقيدي، الذي يرى أن هذا التعليم المزدوج هو الذي أدى إلى "الطابع التوفيقي" لأفكارهم عن النهضة. أما في القرن العشرين فقد ظهرت فئة مثقفة جديدة أعادت طرح سؤال النهضة هذه الفئات تلقت تعليمها في الغرب في ظل تغيرات عميقة حصلت في المنطقة، فاحتلال البلدان العربية والإسلامية لم يتوقف تأثيره على حدود الهيمنة العسكرية، بل امتد إلى القطاعات الثقافية والتعليمية والاجتماعية، وتشكلت البلدان المستعمرة بعد الاستقلال على أساس معطيات التقدم الغربي في تنظيم الدولة والمجتمع وإدارتهما. لقد تطورت الظروف الداخلية للبلدان العربية والإسلامية على نحو عميق، فلم تعد بنياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية على ما كانت عليه أيام بدأ رواد النهضة الأوائل دعوتهم. كذلك خضعت البلدان العربية والإسلامية إلى تقسيمات جديدة لم تكن تعرفها من قبل فصيغت خريطة جديدة للعالم، وولدت القضية الفلسطينية وتطورت على نحو درامي مزمن بحيث استنزفت جزءاً كبيراً من جهود النهضة، و كانت حركات التحرر ـ إضافة إلى ذلك ـ تلعب دوراً حاسماً في توجيه جهود النهضة. ومن جهة أخرى عاش العالم الإسلامي خلال العشرين تناقضات جعلت توازنه يأخذ صيغة اختلال، من حيث إنه لم يتطور نحو أن يكون عالماً تسوده علاقات متوازنة بين بلدانه، بل علاقات تطبعها أساساً الشروطُ الهيمنة ذات المستويات المختلفة وهو ما جعل التنمية مطلباً أكثر تعقيداً ومتعارضاً بطبيعة الحال مع ظروف الاختلال التي يحيا فيها العالم الإسلامي برمته.

لقد أصبح سؤال النهضة في المرحلة الثانية يعبر في وسط التحولات الجديدة التي مرت بها المجتمعات الإسلامية و من منظور التطور في هذه العلوم وفي تطبيقاتها، والاستفادة مما حصل فيها في البلدان الأوربية.

في المرحلتين إذًا ثَم فارق في نمط العلاقة مع الغرب (متمثلاً في أوربا على وجه التحديد) فقد أصبحت أوربا نموذجاً لوجهين متناقضين : نموذج النجاح في النهضة حيث "يجب"ـ حسب الوقيدي ـ الاقتداء بها، ونموذج الهيمنة الاستعمارية حيث "لا يمكن أن تتحقق النهضة دون التحرر منها".

وفي المرحلتين أيضاً كان هناك وعي بالشروط التي تعصف بالمجتمعات المسلمة (الداخلية والخارجية)، وهي شروط تغيرت على نحو كبير في كلا المرحلتين. لقد مهد فكر النهضة الإسلامي في المرحلة الأولى لتطورات الفكر النهضوي في مرحلته الثانية، وانتقل الفكر النهضوي من "التجديد" الإسلامي إلى استيعاب تطورات العصر، ولكن هذه المرة (المرحلة الثانية) لم يكن بالضرورة على أساس المرجعية الإسلامية.

هذا ما يراه الوقيدي على أنه الواقع الذي حصل، وهو تفسير لا يلغي تفسير النيفر (كما أوضحناه في القسم الأول من المقال) بل إنه يمكن القول إن هذا التفسير يدعم بشكل حاسم تفسير النيفر المذكور.

لكن النيفر الذي عقب على البحث يعد أن الوقيدي اعتمد على منهجية تاريخية تدرس الأشياء من منظور تاريخي لم يستطع في تفاصيل قراءته التحرر من (معتقداته الحداثية)، مما يجعله عاجزاً عن التفهم الدقيق في قراءته للتراث العربي الإسلامي ونتاج مفكريه، وقد أفرز هذا التفهم الإيديولوجي عند الوقيدي نظرة مختلة للفكر العربي والإسلامي، حيث قسمه إلى تاريخين معاصر وإصلاحي تقليدي، وهو ما لا يفيدنا ـ إن لم يكن قد أعاقنا ـ في معرفة البنية التضاريسية الفكرية للعصر الوسيط وما سبقه.

كما يظهر القصور المنهجي في تعامل الوقيدي مع ابن خلدون والذي قصر شهادته - لا كما أراد - على ما عرفه الغرب دون التعرض للتشخيص الخلدوني الساعي لاستعادة الفاعلية الحضارية بعد قرون سبعة من الحضارة العربية والإسلامية.

ويأخذ النيفر ـ محقاً ـ على الوقيدي فرضيته المتضمَّنة في أفكاره التي تقول إن التجديد الفكري للفكر العربي الإسلامي لا يمكن أن يعتمد على التراث، وإنما بتجاوزه، مما يعتبره النيفر توجهاً استئصالياً عقائدياً تجاه التراث الإسلامي، وهو ما يعتبر بحد ذاته أساساً في عوامل إخفاق النهضة الإسلامية كما يراها النيفر.

ويبدو التفسيران اللذان عرضناهما لإخفاق النهضة في العالم الإسلامي يلخصان فعلياً التوجهات القائمة الآن، ولا يمكن لأي بحث في النهضة أن يجري دون مناقشة وتفكيك وإعادة تركيب كلا النظريتين. فلبّ البحث في النهضة يتوقف أساساً على طريقة نظرنا لهذه القضية وموقفنا منها، فقد أصبح سؤال النهضة الآن ـ كما ذكرنا في مقدمة القسم الأول من المقال ـ :"لماذا أخفقت النهضة؟"، وجواب السؤال يمر حتماً عبر مراجعة نقاشات من هذا النوع.

ــــــــ

* كاتب وباحث سوري

ـ الكتاب: لماذا أخفقت النهضة العربية؟

ـ المؤلف: احميدة النيفر، ومحمد الوقيدي

ـ الناشر: دار الفكر ـ دمشق/بيروت

ـ الطبعة: الأولى 2

======================

البعد الحضاري في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة

(الشبكة الإسلامية) القاهرة ـ كمال حبيب

بعد عام من أحداث سبتمبر دشنت الإدارة الأمريكية ما أطلقت عليه "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية"، وهي وثيقة خطيرة لم ينشر نصها بالكامل باللغة العربية ، لكنّ المثقفين والمفكرين العرب خاصة المصريين بدؤوا في الكتابة عنها باعتبارها إعلانًا إمبراطورياً جديداً للهيمنة الأمريكية على العالم، وبالطبع فإن الوثيقة التي تحتوي على 31 صفحة كاملة تمثل انقلاباً حقيقياً في العلاقات الدولية حيث تتبني ما تطلق عليه الحروب الاستباقية في مواجهة من تسميهم الوثيقة بالارهابيين - أي الجماعات والتنظيمات التي تمثل تهديدًا لأمريكا، وأيضاً في مواجهة الدول التي تضعهم أمريكا في خانة محور الشر باعتبارهم قادرين على إنتاج أسلحة غير تقليدية يمكن أن تصل إلى يد هذه الجماعات ، فلم تعد مبادئ الاحتواء أو الردع أو الردع المتبادل صالحة اليوم في ظل الهيمنة المطلقة لأمريكا على العالم ، إنما الجديد هو "الحرب الاستباقية" في مواجهة من يهدد حدودنا .

ولا تحرص الوثيقة الجديدة على بناء تحالفات دولية أو الرجوع إلى أروقة المؤسسات الأممية، فهي تؤكد أنها لن تنتظر الحلفاء وأنها ستتحرك وحدها وبمفردها باعتبارها القوة العظمي الوحيدة في العالم ، ويضع هذا المبدأ الجديد العالم على أبواب فوضى عالمية غير مسبوقة؛ ذلك لأنه يفتح الباب واسعا ً للدول الأخرى أن تعتمد الحرب الاستباقية في مواجهة أعدائها ، كما أنه يعتبر الحرب الاستباقية هذه دفعا لعدوان متوهم وهو ما يهدد بقوة تعريف القانون الدولي لإباحة استخدام القوة في حالة وقوع عدوان فعلاً.. وفي هذا السياق كتب وزير الخارجية الفرنسي "دومينيك دو فيلبان" مقالاً هاماً في الأهرام 3 أكتوبر الفائت بعنوان "العراق: يجب عدم القفز فوق المراحل" أوضح فيه خطر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وقال: "ما يزال الاستقرار مطلبا استراتيجيا، وإذا ما كان نزع التسلح العراقي يمثل أمراً يلزم تحقيقه فيجب أن يتم في ظروف تعزز النظام الدولي دون إضافة عوامل جديدة للفوضى في منطقة تعاني أصلا من وجود مفرط لهذه العوامل ودون فرض مخاطر جديدة للمواجهات في هذه المنطقة التي تعاني من الشقاقات ، وبالنسبة لفرنسا فإن النظام ليس معناه الضعف أو العجز ولكن إعمال الإرادة ووضوح الرؤية لمصلحة تسوية دائمة للأزمات" .

إن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ترفض أي منافسة لها على المستوى العسكري، فهي وحدها فقط القوة التي لا تدانيها قوة أخرى، ولا يجب أن تدخل أي دولة مهما كانت في تنافس عسكري معها؛ ولذا فإنها تنصح دولاً مثل الصين في تحويل إنفاقها العسكري إلى الاقتصاد .

وبالطبع فإن أي استراتيجية تتضمن جانبا عسكريا وجانبا قيميا متصلا بالدفاع عن قيم الأمة التي تضع هذه الاستراتيجية، وهذا هو المقصود مما نكتبه .. فما هي الأبعاد القيمية التي تتضمنها الوثيقة ؟ وماهي القيم التي تراها الوثيقة معادية لها ويجب تغييرها ؟

الأبعاد الثقافية في الاستراتيجية الجديدة

تتحدث الاستراتيجية الجديدة عن ضرورة تكريس قيم الحرية والحفاظ على الكرامة الإنسانية والدعاية لقيم الديموقراطية والليبرالية الاقتصادية والتي تعني السوق المفتوح والمجتمع المفتوح، وهي لا تسعى لتكريس هذه القيم في المجتمعات الغربية أو المسيحية وإنما تعمل على فرضها فرضاً ـ وبالقوة إذا اقتضى الأمر ـ ولكن أين ؟ في العالم الإسلامي.. فهو العالم الذي يمثل تحدياً للحضارة الغربية والقيم الأمريكية ، وجاء بالنص في الوثيقة "سوف تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية والاقتصادية لتشجيع قيام المجتمعات الحرة والمفتوحة وستفعل كل ما في وسعها للمحافظة على وضعها بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم والتركيز على استخدام المعونة الأمريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لكسب معركة القيم والأفكار المتنافسة ،بما في ذلك معركة مستقبل العالم الإسلامي.

أي أن مستقبل العالم الإسلامي يمثل قلب الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، واليمين الأمريكي الحاكم يتصور أن صياغة مستقبل المسلمين من جديد لا يمكن أن تتم السيطرة عليه إلا عبر السيطرة على الأفكار التي يرونها سلفية أو كما يطلقون وهابية ، وطرح أفكار جديدة تمنع ظهور أجيال جديدة من الإسلاميين الذين يكرهون أمريكا ويسعون لشن حرب عليها .

ومن ثم فإن ما صرحت به مستشارة الأمن القومي الأمريكي "كوندليزا رايس" في حوار مع الفايننشال تايمز الأسبوع الماضي وقالت فيها: إن أمريكا هي قوة تحرير للعراق والعالم الإسلامي، وإن هذه القوة يجب ألا تتوقف عند حدود هذا العالم فقط" . وقالت: "هناك عناصر إصلاحية في العالم الإسلامي نسعي لدعمها"!!

وهذا هو نفسه عين ما أعلنته الاستراتيجية الأمريكية الجديدة حيث قالت: علينا خوض معركة موازية ضد الأفكار في العالم الإسلامي ، وهنا فنحن لا نطبق صدام الحضارات لكنه صدام داخل حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية، وهذه المعركة هي التي ستحدد مصير مجتمعاته .

ومن ثم فقيم الإسلام ومستقبل العالم الإسلامي كله هو الرأس المطلوب في هذه المعركة التي بدأتها أمريكا من أفغانستان وفلسطين وتسعي لتنفيذها في العراق، ولا ندري من ستقصده بعد ، والمؤكد هنا أن المعركة ليست سياسية كما كان الأمر في الماضي حيث خاض آباؤنا معارك تحرير مجتمعاتنا من الاستعمار، كما أن المعركة ليست اقتصادية حيث خاض آباؤنا أيضا معارك للتحرر الاقتصادي والاجتماعي، ولكنها معركة ثقافية المقصود فيها عقائد المسلمين وثقافتهم بل ومستقبلهم ، والثقافة هى الجوهر والروح التي تكسب البشر هويتهم ووجودهم ، وهى التي تمنحهم الطاقة للمواجهة والمدافعة والمعركة القادمة هي معركة الثقافة والحضارة الإسلامية

==================

الحضارات .. حوار أم صراع

(الشبكة الإسلامية) لندن ـ حافظ الكرمي

ركز العدد الجديد من مجلة "الإسلام اليوم" على تناول قضية حوار الحضارات وتفاعلاتها وأبعادها. إذ يتضمن العدد الجديد من هذه المجلة الفكرية التي تصدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو"، دراسة للدكتور محمد عابد الجابري حول "مصداقية حوار الحضارات"، ودراسة للدكتور عبد الهادي بوطالب بعنوان "عالمية الإسلام ونداؤه للسلام ودعوته للتعايش والاعتراف بالآخر". كما يشتمل العدد على مقال للدكتور أحمد عرفات القاضي حول "الحضارات، حوار أم صراع؟ رؤية إسلامية".

ويتضمن عدد "الإسلام اليوم" دراسة للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري بعنوان "مفهوم التنوير في التصوّر الإسلامي"، بينما يستعرض الدكتور مفيد الزيدي في العدد الجديد "الإسلام في الصين: انبعاث الحاضر وآفاق المستقبل".

وعالجت افتتاحية العدد موضوع "تصحيح صورة الإسلام"، وجاء فيها: "لقد تَزَايَدَ الاِقتناع في هذه المرحلة، بأن صورة الإسلام في الغرب، لا تعكس حقائق هذا الدين الحنيف، ولا تعبّر عن مبادئه السمحة، ولا تبرز خصائصه ومقوّماته وقيمه. وتَتَعدَّدُ الأسباب التي أدّت إلى هذا الضرب من التشويه لصورة الإسلام في المجتمعات الغربية، على مختلف المستويات، الرسمية والشعبية والإعلامية والأكاديمية.

ولكن من أهمّ هذه الأسباب ما يعود مصدرُه إلى العوامل المحلية التي تتمثَّل أساساً، في المخلفات التاريخية التي تَرَاكَمَت عبر العصور لتحجب بكثافتها حقائقَ الأشياء عن العقل الغربي في أكبر عمليةٍ لتزييف التاريخ عرفها الإنسان في العصور جميعاً، مما نشأ عنه تحريفٌ بالغ الإفراط للمفاهيم والتصوّرات عن الإسلام ديناً وثقافةً وحضارةً وتاريخاً وأمةً، ومما أدّى إلى إقامة حواجز عالية حالت، ولا تزال تحول، دون التعرّف على الإسلام والوقوف على حقائقه، والإطلاع الحر على جوانب من ثقافته ومظاهر من حضارته".

وتضيف الافتتاحية: "على الرغم من أن العقل الغربي قد تحرَّر عبر معارك فكرية متواصلة، من رواسب عديدة كانت تقيّد انطلاقه نحو آفاق المعرفة، وتحول بينه وبين الاِستنارة بأنوار الفكر والعلم، فإنه ظل مكبَّلاً بأصفاد من مخلفات العصور الوسطى المظلمة التي عاشتها أوروبا في زمن كان العالم الإسلاميّ خلالها يعيش في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية وتألق العقل الإسلامي، على مستوى رؤيته إلى الإسلام في كل أبعاده، وإلى الإبداع الإسلامي في جميع آماده".

وتقول الافتتاحية إنه مع مرّ السنين وبزوغ عصر الاستعمار العالمي لأقطار العالم الإسلامي في أول صدمةٍ حضاريةٍ تعيشها الأمة الإسلامية منذ غزو المغول للشرق الإسلامي في منتصف القرن السابع الهجري، تَضَافَرَت عوامل كثيرة كان لها أقوى التأثير في تعميق الهوة الثقافية الفاصلة بين الغرب وبين العالم الإسلامي، وفي خلق حالةٍ دائمةٍ من الكراهية والعداء ضد الإسلام والمسلمين أخذت في التضخم والتوسّع والانتشار، حتى بلغت حدّا أقصى في الإساءة إلى الإسلام عن تخطيط وتدبير، وفي الإضرار بمصالح العالم الإسلامي في دأب وإصرار، تشويهاً لصورته، وتحريفاً لحقيقته، وتزييفاً لإرادته، وإفساداً لعلاقاته مع المجتمعات الغربية، بصورة عامة.

وجاء في الافتتاحية "بالتأمل في أبعاد ظاهرة محاربة الإسلام وتشويه صورته التي تسود الغرب حالياً على وجه العموم، ومن خلال رؤية ثاقبة إلى عمق الأسباب التي تساعد في تأجيج حالة الكراهية والعداء ضد الإسلام والمسلمين، نجد أن ثمّة أسباباً تعود إلى واقع العالم الإسلامي في تعقيداته وتشعباته، الأمر الذي يجوز معه القول، إن تصحيح صورة الإسلام في الغرب يبدأ من ترشيد أحوال العالم الإسلامي، وتحسين ظروف الحياة العامة في مختلف مرافقها وفي شتى مجالاتها، بما يرتقي بمستوى حياة الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى التقدم في الميادين جميعاً، وبما يقوي الكيان الإسلاميَّ ويرسخ قواعد البناء الحضاري الشامخ الذي هو هدفٌ مشترك تجتمع حوله الإرادة الإسلامية الجماعية".

واستطردت: "من الإنصاف ومن باب النقد الذاتي، نقول إن صورة الإسلام في الغرب، ستظل غير واضحة القسمات، ما لم يقم المسلمون بتصحيح صورتهم في الداخل بالعمل النافع للناس والذي يمكث في الأرض، وبتعديل أوضاعهم، على المستويات جميعاً، في ضوء تعاليم الإسلام السمحة وقيمه الكريمة، وبما يتناسب مع متطلبات العصر ومستجداته، وبإقامة علاقاتهم فيما بينهم على قواعد التضامن الإسلامي، وبتعزيز أواصر التلاقي والتقارب والتكامل والتعاون على الأصعدة كلِّها، وبمحو دواعي التنازع والاِختلاف الذي يُفضي إلى تشتيت الجهود وتمزيق الصفوف وفتح الأبواب أمام اختراق الأجنبي المعادي لهم إلى دواخلهم ؛ وما لم يبادر أُولو العزم من القائمين على شؤون المجتمعات الإسلامية كافة، كلٌّ من موقع مسؤوليته، إلى الدفع بمسيرة الحياة نحو الاتجاه الصحيح، على النحو الذي يزيل الأسباب المؤدية إلى القصور والضعف في الكيان الإسلامي، ويُفضي إلى تطهير المجتمع مما يتعارض مع شروط الحياة التي جاء بها الإسلام رحمةً للناس كافة".

وأكدت مجلة "الإسلام اليوم" أن تصحيح صورة الإسلام هو عمليةٌ مركبةٌ مترابطة الحلقات، يَتَدَاخَلُ فيها العمل على الصعيد المحلي والإقليمي، والتحرّك على الصعيد الدولي، ولا سبيل إلى الفصل بين الاِتجاهين اللذين ينبغي أن يسيرا في خطين متوازيين، وصولاً إلى تحقيق هذا الهدف السامي النبيل الذي إذا تحقَّق زالت الدوافع والدواعي التي تتسبَّب في تشويه صورة الإسلام، على جميع المستويات، وانتفت تبعاً لذلك، كلُّ المبرِّرات التي تشجع على الإساءة إلى الإسلام بطريقة أو بأخرى، وإلى الإضرار بالمصالح العليا للعالم الإسلامي، بأسلوب أو بآخر.

وتشير المجلة في افتتاحيتها إلى مسؤولية النخب العلمية والفكرية والثقافية في العالم الإسلامي في العمل في هذا الاِتجاه، مؤكدة أنها تَتَضَاعَف في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها العالم من جراء اختلاط المفاهيم وقلبها، وتزييف الحقائق وتدليسها، وتصاعد موجات الكراهية والعداء والإساءة إلى الدين الحق، وفقاً لمقتضيات المنهاج الرشيد، واعتماداً على الأساليب الناجعة المفيدة، والوسائل النافعة المجدية.

=================

إشكالية العصرنة في تحديث النظم الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ عبد الرحمن الحاج

ـ قبول مبدأ التحديث لا يتعارض مع مبدأ التمسك بالأصول، والأخذ بمبدأ التجديد أو الإصلاح لا يتعارض مع مبدأ الأصالة والقدم.

ـ قضية التحديث للنظم الاقتصادية ينبغي أن تسبقها حلول جذرية في منهجية أو لنقل برمجة العقل الإسلامي.

ـ غنى النصوص أمر يلاحظه المجتهد والفقيه أكثر مما يلاحظه الإنسان العادي.

ـ حاجات المجتهد إلى العلوم العصرية إنما هي حاجات مساعدة في فهم الوقائع لا في أخذ الأحكام.

نشأ مصطلح النظم الاقتصادية حديثاً بسبب استقلالية العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية. والمراد بذلك أمران: الأمر الأول: جانب المبادئ الكلية والأسس والفلسفات التي يقوم عليها كل نظام مراعية النظرة إلى الإنسان وموقعه من الحياة، الإنسان في إطاره الاجتماعي والسياسي والفردي، والغايات التي تسمو هذه النظم إلى تحقيقها، والمناهج التي تقوم عليها والمصادر التي تستقى منها مادتها. والجانب الثاني: جانب التشريعات والتفصيلات الجزئية.

ومما لا شك فيه أن الإسلام تناول هذه النظم من خلال هذين الأمرين معاً مفسحاً المجال أمام عقول المجتهدين وثقافاتهم المعاصرة لهم كي يجتهدوا لنا في التفصيلات، ولذا صح أن نصف هذه النظم بكونها "إسلامية" لكون نصوص الوحي رسمت أصولها ومبادئها الكلية وتفصيلاتها على وجه يعطي النص مرونة الاجتهاد ممن هو أهل لتحمل هذه المسؤولية·

هذا الكلام افتتح به الدكتور محمد المعتصم بالله البغدادي (المحقق اللبناني المعروف لكتب التراث) محاضرته حول (النظم الإسلامية وإشكالية العصرنة) بدعوة من "المنتدى للتعريف بالإسلام والحوار بين الثقافات" في بيروت.

وأضاف البغدادي إن مصطلح الحداثة من المصطلحات التي فيها إغراء لإيهامه التجدد والتطوير لأنه دخل منظوماتنا الفكرية ضمن ثنائية حادة جداً إلى حد التناقض؛ بحيث إن الأخذ بأحد الاصطلاحين محتم لترك الآخر، أو التضاد بحيث أن الجمع بينهما ممتنع. فالمصطلحان متممان لبعضهما بحيث لا ينفكان، فقبول مبدأ الحداثة لا يتعارض مع مبدأ التمسك بالأصول، والأخذ بمبدأ التجديد أو الإصلاح لا يتعارض مع مبدأ الأصالة والقدم.

إن النظرة التوفيقية انطلقت لتبحث عن ثالث كبديل مناسب للعصر، أو من الثالث لتبحث عن حالات من الانسجام بين الأمرين حيث لا تعارض ولا تضاد ولا تناقض وإن اختلفت الحلول المطروحة التي قامت عليها كل تلك التوفيقات. ولكن المشكلة تبقى ـ حسب البغدادي ـ في الحداثة نفسها؛ هل هي حداثة أصلية بناءة إبداعية، أم حداثة تقليدية جديدة تستعيض عن تقليد القديم بتقليد الجديد المتمثل في حضارات أخرى.

تعرّض البغدادي للمشكلات الناجمة عن قضية التحديث المنشود لنظمنا الإسلامية، والتي تجلت في تصويره لحجم المشكلة سواء على صعيد الآليات والتقنيات الفكرية أو بسبب التسطيح للعقل العربي والإسلامي أو بسبب الضياع والحيرة التي انتابت عقولنا بحيث طرحت شعارات كثيرة لإعادة بناء بيتنا الداخلي، أو بسبب الصراع المحتدم بين تيار يُشَرْعن الواقع وتيار يوقعن الشريعة تحت ما أطلق عليه فقه الواقع، أو بسبب إننا ـ كأناس ننتمي إلى مسمى العقل الإسلامي ـ ننطلق من مقولتين خطيرتين: المقولة الأولى بأن الإسلام رسم المبادئ الكلية وترك لكل عصر تحديد الطرائق والوسائل والأساليب بما لا يختلف معها، أو ـ المقولة الثانية ـ النصوص متناهية والوقائع غير متناهية وهي مشكلة أصولية أقحمت في غير ميدانها. بالإضافة إلى ذلك وقع العقل العربي والإسلامي في منطق التبرير لما حدث، ومنطق الانتظار لما لم يقع! بسبب الشعور الّلاواعي في داخلنا الذي يدعونا للالتزام بالدونية للفكر الغربي. كل هذه الأسباب المذكورة تصور لنا حجم المشكلات الناجمة عن قضية التحديث المنشود لنظمنا الإسلامية التي ينبغي أن تسبقها حلول جذرية في بنية أو منهجية أو لنقل برمجة العقل الإسلامي.

ورأى البغدادي أن قضية التحديث للنظم الاقتصادية ينبغي أن تسبقها حلول جذرية في منهجية أو لنقل برمجة العقل الإسلامي. مؤكداً أن تلك الحلول تعتمد على:

1- ضبط العلاقة بين العقل والنص لرسم الدور الذي ينبغي أن يلعبه العقل على حسب محددات الشرع .

2- إدراك الفرق بين الاجتهاد الفقهي ودعاوى فتح باب الاجتهاد التي تتطرق بالدرجة الأولى للاجتهاد الفكري أو العقلي.

3- الإدراك التام أن النصوص نفسها أو الوحي حدد الدور الذي يلعبه العقل ورسم له طرائق التعامل مع الواقع ومع النصوص نفسها ومع نفسه، فقالت لنا هذه النصوص صراحة (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)... الخ. وتساءل البغدادي: ماذا في المنهج غير هذه المفردات المؤصلة له العقل، التفكر، النظر، الاستنباط، الاجتماع، البرهنة، الاستدلال؟ ...ثم ما فيه من مراتب المعرفة من حق ويقين وعلم وظن وجهل أن كل دعوى لإزاحة وإراحة العقل وادعاء أن القلب هو الأساس لا العقل إنما هو مصادرة للنصوص وتعطيل لها ونَصرَنة لهذا الدين!

إن ذروة الحضارة الإسلامية متمثلة في عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإن غنى النصوص أمر يلاحظه المجتهد والفقيه أكثر مما يلاحظه الإنسان العادي أو الساذج، وإذا كانت الوقائع متناهية كما يدعي البعض فإن النصوص إن أخذت مع سبق مدلولاتها وطرائق استثمار المعاني فيها في منطوقها ومفاهيمها وحقيقتها ومجازها··· وإن أخذت النصوص بهذه الدلالات لا شك أنها كالوقائع لا متناهية. ولذا فإن مصدر النظم الإسلامية هو مصدر كاف شاف واف؛ وحاجات المجتهد إلى العلوم العصرية إنما هي حاجات مساعدة في فهم الوقائع لا في أخذ الأحكام والمستجدات المضافة إلى العلوم إنما هو ثراء من كفة العقل يوسع آفاقه في دراسة الواقع التاريخي ويكسبه الدقة والعمق. أما النّص فشأن آخر وعمل آخر وعقل آخر. يفهم هذا من يدرك الصلة بين الأحكام الشرعية التي هي خطاب الله تعالى والوقائع التي هي مناط تلك الأحكام من أسباب وشروط وموانع وعلل ومصالح .

هذا وبالرغم من أن محاضرة البغدادي كانت يفترض أن تتناول "تحديث النظم الاقتصادية" إلا أن المحاضر كما يبدو وجد من موقعه،كمتخصص بالشريعة الإسلامية، أنه من الأجدى الحديث عن العلة في قضية "التحديث" نفسها.

=================

الحضارة الإسلامية الأعظم تأثيرًا في أسبانيا

(الشبكة الإسلامية) لندن ـ حافظ الكرمي

أكدت المستشرقة الأسبانية "مانويلا كوريتز جارسيا" أن الحضارة الإسلامية والعربية كانت أكثر الحضارات تأثيرًا في أسبانيا ، حيث عاش المسلمون هناك ثمانية قرون - من القرن الثامن الهجري حتى القرن الخامس عشر - تركوا خلالها تراثا ثقافـيّا وحضاريّا ضخمًا جعل من أسبانيا الجسر الذي يصل بين العرب والمسلمين من ناحية وأوروبا من ناحية أخرى ، واشتهر من العلماء المسلمين في الأندلس ابن سينا وابن رشد وابن فرناس وابن زهير الذي مازالت عائلته موجودة حتى الآن .

وأضافت الدكتورة مانويلا، الحاصلة على الدكتوراة في فقه اللغات السامية والمتخصصة في التراث العربي: أن تأثير العرب والمسلمين في أسبانيا امتد إلى الحياة التجارية في أسبانيا ، حيث أسسوا الموانئ البحرية والبرية ، وبنوا المنارات والخانات التي تشبه الفنادق حاليا ، كما وضعوا القوانين التي تنظم العمل التجاري ، وعملوا - أيضا - على تنشيط التبادل التجاري بين الشرق وأوروبا .

وأشارت مانويلا جارسيا في حوار مع مجلة " المرأة اليوم " الإماراتية إلى أن الأسبان ينظرون إلى التراث العربي والإسلامي أيام الأندلس كجزء من تاريخ أسبانيا ، وهناك 6 آلاف كلمة ذات أصول عربية في اللغة الأسبانية ، وتوجد مدن وعشائر وعائلات ذات أصول عربية ، كما أنه بعد 20 عاما من الآن سيكون للمسلمين حضورًا قويّا في أسبانيا خاصة في غرناطة والعديد من المدن مثل مدريد التي أصبحت مليئة بالمساجد والمدارس العربية والمقابر الخاصة بالمسلمين .

وأوضحت جارسيا: أنه يوجد في أسبانيا حتى الآن الكثير من التراث العربي الإسلامي ، خاصة في مدينة قرطبة ، ومن أبرز معالم هذا التراث قصر الحمراء في غرناطة ، كما توجد آثار أخرى مختلفة وتراث فكري وعلمي وموسيقي ، إضافة إلى أن الحضارة العربية والإسلامية تدرس في المدارس ، ويوجد 25 قسمًا للدراسات العربية والإسلامية في جامعات أسبانيا .

وكشفت عن أن العديد من المثقفين الأسبان يشاركون نظرائهم العرب في النظر إلى الأندلس على أنها الفردوس المفقود، نظرًا لما تحقق من إنجازات في مختلف المجالات خلال فترة حكم المسلمين والعرب.

================

الثقافة الإسلامية .. نبراس الأمة في التميز الحضاري

(الشبكة الإسلامية) الرياض- د. إبراهيم بن ناصر الحمود

لا ريب أن كل أمة تعتز بحضاراتها التي هي عنوان تقدمها ورقيها، وإنما تستمد الأمة الإسلامية هذا التميز الحضاري من خلال معالم ثقافتها الإسلامية، فهي مثابة الأفكار والتصورات التي يبني الإنسان المسلم عليها وجوده في هذه الحياة - لا سيما وأن الثقافة الإسلامية تستمد تلك الرؤى والأفكار من مصدرين أساسين مهمين هما: الكتاب والسنة ، ثم يأتي بعد ذلك ما للأمة من تراث وتقديرات، إضافة إلى ما استفادته من تجارب الأمم الأخرى مما لا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي.

وإن التزام الأمة بهذا التواصل يضمن لها تقويم ثقافتها الذاتية وأصالتها على مستوى الأفراد والجماعات.

وكلما ابتعدت الأمة عن تلك المصادر الأساسية، أو أخلت بشيء منه لا يمكن للأمة أن تثبت وجودها الحقيقي - إذا هي فقدت شيئاً من قيمها وأخلاقها الإسلامية، أو تناست لغتها وتاريخها في هذه الحياة.

وإذا أردنا البحث عن أهم الأسباب التي تحول دون تميز الأمة في حضاراتها في العصر الحاضر لتبين لنا أن من أهم ذلك تدخل عدد من الروافد الأجنبية في بناء المجتمع الإسلامي، ما يطفئ شعلة التميز والقيادة في تلك الحضارة.

ومعلوم أن الدين الإسلامي جاء - والحمد لله - مهيمناً على ما سبقه من الأديان، ولهذه الهيمنة صلة وثيقة بمسألة التميز التي ينشدها المجتمع الإسلامي، الذي يرفض أن يكون تابعاً لغيره أو مقلداً أو مقتبساً من حضارة أخرى فهذه الأمور إن وجدت، فما هي المتمات لأصول التميز القائمة وروحه السائدة ومناهجه الثاقبة.

فالمأمول لهذه الحضارة الإسلامية في الحال والمستقبل أن تكون ذات قيادة مستقلة بنفسها، ومستمدة تعاليمها من القرآن والسنة إذا هي أرادت التميز الحقيقي ، وعلى غيرها من الحضارات أن تنضم إلى مركب القيادة والتوجيه، لتكون حضاراتنا الإسلامية في مقدمة الركب ، وحق لها ذلك ما دامت ثابتة وراسخة على قواعدها الأصولية لم تتغير أو تتبدل، إذ كيف يليق بثقافة تنتسب إلى هذا الأصل المنيع والركن الرشيد وتكون في موقع الاقتباس والتقليد؟!

وتأكيدًا لهذا المعنى يقول الله تعالى في محكم التنزيل : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناُ عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جمعياً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

هكذا يبين الله تعالى الخيرية التي تميزت بها هذه الأمة من خلال كتابها والتحاكم إليه ونبذ الأهواء المضللة خشية الفتنة والتفكك والاضطراب فالحق واحد وطرق الضلال متعددة، وركون كثير من الناس إلى سلطان الهوى- والبعد عن الهدى من أهم معوقات التميز الحضاري في العصر الحاضر- ما ذاك إلا بسبب الجهل بمقاصد التشريع الإلهي حتى جلب أولئك لأمتهم شيئاً من توابع الذل والانكسار، ووصفهم بالفسق في قوله سبحانه في سياق تلك الآيات : (وإن كثيرًا من الناس لفاسقون) المائدة 49.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ميز هذا الإنسان عن غيره من المخلوقات بهذا العقل البشري الذي يعرف به الحق والباطل، والخير والشر فإن هذا العقل يحتاج إلى الغذاء المناسب حتى يعطي وظيفته على الوجه الأكمل، وهذا الغذاء يستمد من القيم الحقيقية لثقافتنا الإسلامية، وأصولها المباركة، لينعكس أثر ذلك على التميز الحضاري لهذه الأمة وواقع حياتها العملية، فيكون المجتمع مجتمعاً تسوده روح المحبة والتعاون والقيم الفاضلة، وتلك خصوصية لثقافتنا الإسلامية، وينبغي أن يوجد هذا التميز وتلك الخصوصية في كل وقت فلا تحدد بزمان معين ؛ لأن رسالة الإسلام رسالة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعامل الثقافة الإسلامية عامل مهم جداً في رسم المنهج السليم لحضارة الأمة، لأنها قلبها النابض ولباسها المنيع الذي يحميها من زيف وضلال الحضارة الغربية.

ومن هنا ندرك أن الثقافة الحقيقية التي لها أثر في بناء حضارة الأمة ثقافة واحدة ، وهي الثقافة الربانية التي تستمد رسالتها من الوحي الإلهي وفيها سعادة البشر، وما عداها فهي من الجاهلية الأولى التي همها النهب والاستعمار- كما هو الحال في الاستعمار الغربي الذي من أهم أهدافه: زعزعة العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين، إدراكاً منه أن التمسك بالعقيدة سبب بناء الأمة المسلمة ، وزعزعتها وتحطيمها في نفوس سبب لتدميرها.

والواقع اليوم يشهد لذلك ؛ فنحن نرى آثار الاستعمار في تلك الأجيال المسلوبة الإرادة، بل منها من فقد هويته حتى صار تبعاً لغيره عاجزاً عن تحقيق شخصيته المسلمة، وهذه نتيجة حتمية لكل مجتمع يفقد ثقافته الأصلية.

ولا أحد ينكر أن واقع ثقافتنا اليوم يحتاج إلى مزيد من العطاء ممن ينتسبون إليها من رجال الفكر والأدب بحيث نحقق الاكتفاء الذاتي الذي يحفظ لنا كيان تلك الثقافة.

ولنجعل من الشعوب التي فقدت قيمها وأخلاقها خير دليل على تأثر الحضارة بالبعد عن معالمها وأصولها التي تبني عليه، ما يجعل هذا التأثر السلبي يصيب الأمة بالخلل في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا هو سبب التأخر الحضاري لدى أمة من الأمم.

ولقد كان من نتائج الخروج عن أصول الثقافة الإسلامية والعربية أن أنهار أكبر حصون التحصين الثابتة في المجمع ما حدا بالمجتمع إلى أن يعيش فترة من الجمود والتعطيل ، لكونه وقع بين فكين : أحدهما حضارة غربية مستوردة ، والآخر عامل أصيل متجمد، ومتى استمر الوضع على هذه الحال فإن عملية النهوض بثقافة الأمة تكاد تكون مستعصية ما لم يهيئ الله لها من يأخذ بيدها من مفكري الأمة أصحاب العقول الراجحة الذين يعرفون للحياة المطمئنة قيمتها.

ومن مظاهر التقدم الحضاري الذي يشهده المجتمع المسلم ما يتعلق بأنواع التقنين الحديثة المعلوماتية التي بدأت تنتشر في كل قطاع أو مؤسسة، بل وعلى مستوى الأفراد، حيث أصبح لا غنى للفرد عنها اليوم لتنظيم حياته وأولوياته، إضافة إلى ذلك تجد الكثير ممن كانوا يسكنون الوادي ويمارسون الحياة البدائية قد تولوا عدداً من المناصب التي تؤهلهم لتغيير أنماط السلوك في المجتمع وفق الشريعة الإسلامية بعيداً عن عادات وتقاليد الجاهلية الأولى.

فعلينا أبناء هذه الأمة المسلمة أن نسرع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من جوانب حضارتنا اليوم، ونأخذ بها إلى شاطئ الأمان بعيداً عن عوامل الغزو الفكري الثقافي، وما أكثره اليوم ، بل التنافس فيه قائم على حساب ثقافتنا الإسلامية.

وإن مما يعين على إنقاذ تلك الحضارة في ظل قيمنا الإسلامية وفق متطلبات العصر أن تسلك مسلك التوسط والاعتدال في التعامل مع تلك القيم والمبادئ ، إذ إن التطرف والغلو من أشد العوامل فتكاً بحضارة الأمة، وإنزال أنواع الذل والهوان التي تصيب العباد والبلاد، وما نشأ ذلك الغلو وذلك التطرف إلا بسبب القوى الداخلية التي ابتعدت عن عقيدتها ، ما سهل للاستعمار السيطرة والهيمنة على مقدرات الأمة حتى فقدت الكثير من معالم حضارتها الإسلامية حيث أراد الاستعمار طمس تلك المعالم.

وما أن أحست الأمة بالخطر القادم الذي يهدد حياتها وحضارتها حتى اتجهت إلى نزعة جديدة شغلتها عما هو أهم ، ألا وهي النزعة المادية ومن هنا غاب معظم القيم من حياة الأفراد والمجتمعات، ولم تعد حياتهم قائمة على أي نوع من التعالي والمثالية.

فأملنا في ثقافتنا الإسلامية اليوم أن تأخذ بزمام الحضارة إلى بر الأمان بعيداً عن مظاهر الفوضى والانحراف، وألا تترك مجالاً لتلك القوى المادية لإشباع رغباتها على حساب قيمنا وأخلاقنا التي هي عنوان حضارتنا الإسلامية، وأن نكرس جهدنا في سبيل الحفاظ على مقدراتنا التي أساسها وحدة الإيمان والعقيدة الصحيحة بعيداً عن الطغيان المادي الذي يفقد الإنسان إنسانيته، ومتى بنى الإنسان حضارته على قيمه وأخلاقه الإسلامية فإن هذا البناء لن يقهر بإذن الله ، وسيظل شامخاً إلى الأبد في مواجهة التبعية من أجل تميز حضاري مرموق لا يتغير ولا يتبدل.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحب وسلم

===================

صراع الحضارات في سجاله وتجلياته

(الشبكة الإسلامية) - غازي دحمان

بدأ الحديث عن صدام أو صراع الحضارات يشغل بال الكثيرين من الاستراتيجيين والمهتمين بالشأن الدولي وبمسألة العلاقات الدولية تحديداً، حيث بات يشغل جزءاً كبيراً من المساحات الإعلامية ـ المقروءة والمكتوبة ـ المخصصة لمعالجة القضايا الدولية، وصار أحد أهم القضايا الكبرى التي تشغل بال المفكرين وصناع القرار في مختلف أنحاء العالم ، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن والتداعيات المرافقة لها.

فما هي حقيقة هذا الصراع، وما هي منطلقاته، وما هو موقف الإسلام منه، وكذلك ما هي تداعياته المتوقعة؟

ما معنى الحضارة؟

لا شك أنَّ المصطلحات الرائجة في هذا الحقل مثل المدنية والثقافة والحضارة غير محددة، وللحضارة وحدها تعاريف كثيرة جداً… وإذا اكتفينا بما تلقيه كلمة الحضارة في الأذهان وهو تقدم المجتمع البشري… فهل تقدم المجتمعات البشرية في الحقول المادية هو حضارة ؟ هناك من يرفض ذلك، ولعل المنطق القرآني يرفضه أيضاً. فالبناء المادي مرفوض إذا لم يكن قائماً على أساس معايير إنسانية أو على معايير التقوى بالتعبير القرآني : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون ) [الشعراء 128-131] . فالقوة المادية تكون سبب البطش والتجبر إذا لم تكن مقرونة بقيم ذات رصيد ديني.

وليس بعيداً عما سبق ذكره، فإنه ليس ثمة إجماع على مفهوم الحضارة، فضلاً عن أنَّ بعضهم يماهي بين هذا المفهوم وبين مفهوم الثقافة، كما أنَّ تصنيفات الحضارة تتفاوت تبعاً لتفاوت المعايير، الأمر الذي من شأنه أن يخلق تناقضات وإرباكات حادة عند الحديث عن صدام الحضارات أو حتى حوارها.

محاولة لتأصيل فكرة صراع الحضارات

أشار المؤرخ الفرنسي "بروديل" في كتابه الشهير "المتوسط والعالم"، إلى أنماط من الحضارات الحية أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: "الحضارات فردوس البشر وجحيمهم"، ويقول بروديل: "يحتوي المتوسط على ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسية في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل … متجسدة في ثلاث شخصيات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة من قرون وقرون متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلاَّ لباساً لها … الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية، وعلى الأصح اللاتينية أو الرومانية… الحضارة الثانية هي الحضارة العربية ـ الإسلامية، والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنهما عدوان متكاملان الأول ابتكر الصليبية وعاشها، والثاني ابتكر الجهاد وعاشه.

في عام 1947 ألقى أرنولد توينبي محاضرة بعنوان "الصراع بين الحضارات"، وقد أعيد نشرها في مجلة هاربر لعدد إبريل 1947، ثم تضمينها في كتابه CIVILIZATION ON TRIAL (الحضارة في الميزان)، ويمكن اعتبار هذه المحاضرة نصاً ثميناً مرجعياً في الوقت الحالي. فعلى الرغم من أفكارها العفوية والخواطرية بنى هانتغتون عليها نصه في المقال الذي نشر في مجلة FOREIGN AFFAIRS وأحدث ردوداً لم تنته بعد، وأعاد صوغها في كتابه الذي أصدره لاحقاًTHE CLASH OF CIVILIZATIIONS ، والذي أخذ أبعاداً عالمية وتحول إلى ظاهرة.

وبالعودة إلى الأفكار الرئيسية التي قدمها توينبي في محاضرته، فقد اعتبر أنَّ الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين، والتي سيقف عندها المؤرخون كثيراً في القرون القادمة هي حادثة اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، وتنبع أهمية هذا الحدث في رأيه من أنه الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد، وذلك عن طريق تحطيم التراث الاجتماعي الإقليمي للحضارات الأخرى عند اصطدامها بالتراث الاجتماعي الغربي، وإن نوعية وفرادة هذا التوحد الاجتماعي للعالم لا تكمن أو تتمثل في ميدان الفنون الصناعية والاقتصادية، ولا في ميدان الحرب والسياسة، وإنما تتمثل في ميدان الدين.

ويتابع أنَّ الديانات الأربع الكبرى ذات الرسالة العالمية التي تقوم اليوم في العالم: المسيحية، الإسلام، والهندوسية، والبوذية الماهايانية التي تسود في الشرق الأقصى، هي من الناحية التاريخية ثمرة الصراع الذي دار بين الحضارة اليونانية ـ الرومانية ونظيراتها المعاصرة.

إذاً ينظر توينبي إلى تاريخ الحضارات على أنه صراع بين الحضارات، وأن هذه الحضارات إنما تقوم على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساسي في قيام الحضارة.

بعد ذلك يأتي الأمريكي صموئيل هنتنغتون، وهو مدير معهد جون أولوين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفرد، وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977-1978 مسؤولية قسم التحليل والاستشراق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ليصوغ نظريته في صدام الحضارات متلقفاً خطى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ التي ثبت تهافتها.

يقول هنتغتون: إنَّ " شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالم إلى حد كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات التالية: الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ـ الأمريكية، وربما الحضارة الأفريقية. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات ".

ويرى هانتنغتون أنَّ الفروق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة، والأهم الدين. فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو إثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة، وبناءً على ذلك سيحدث صدام بين الحضارات.

ولما كان هناك صدام عسكري يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام فإنه ليس من المرجح أن ينحسر، وإذا أضفنا إلى ذلك التفاعل العنيف بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفوشيوسية فإنه من الممكن أن ينشأ تحالف بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية يهدد الحضارة الغربية، ويبشر بظهور صدام حضارات بين الغرب والبقية THE WEST AND THE REST على حد تعبيره، وبناءً على ذلك فإنه يخاطب الساسة الغربيين محذراً '' على الغرب أن يحد من توسيع القوة العسكرية لحضارات معادية محتملة، خصوصاً الكونفوشيوسية والإسلام''.

صدام الحضارات، لماذا ؟

منذ القدم والثقافة الغربية محملة بأوهام كثيرة تجعل من الإسلام عدواً تاريخياً وتقليدياً للغرب، وليس مصدر هذه الأوهام دينياً وحسب، بل أضيفت إليه، وعلى مر الأيام والتاريخ، عوامل سياسية واقتصادية زادت في أثر هذا العامل الديني وجعلته يتخذ شكل خرافة ضخمة تستقر في أعماق الوعي الغربي.

وقد وجدت هذه الخرافة فرصتها الذهبية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي من خلال البحث عن شيطان جديد يحل محل الشيطان القديم الذي ترك وراءه فراغاً عدوانياً لا مناص من ردمه. وكما هو معلوم فإن الذات تجد نفسها عن طريق الآخر. وقد كان واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط جدار الارتطام القديم، بحث الغرب عن آخر يواجهه ويقاومه ويشعر بذاته من خلال الصدام معه. ولم يكن هناك أفضل من الإسلام ليجسد هذا الآخر، ذلك أنه ومنذ القديم شكل الإسلام هذا الآخر.

وهكذا وجد العالم المتقدم من جديد في العالم الإسلامي البديل العدواني للاتحاد السوفييتي، وبدأت الخرافة القديمة بالانبثاق والظهور، وبدأت عمليات النسج الخرافي تلف الإسلام لتظهره على أنه "الآخر"، وكذلك "الوجه المناقض للتقدم والإرث المعادي لمسيرة الحضارة".

وقد بذلت الصهيونية العالمية في هذا الإطار مجهودات كبيرة من أجل تشويه الصورة الإسلامية في الغرب دوماً وأبداً. وذلك بهدف تسميم الأجواء بين الغرب وبين العرب والمسلمين.

إنَّ موقف الغرب المعلن أو المضمر تجاه الإسلام قد ولَّد - منذ البداية - في العالم الإسلامي ردود فعل طبيعية حيناً، ومغالية أحياناً، بحيث أدت عمليات الفعل وردود الفعل المتراكمة والمتعاظمة إلى أن يصدق الغرب مزاعمه الأصلية ويؤمن بصحة تخيره شيطانه، وإلى أن تتكاثر في العالم الإسلامي من جانب آخر الأعمال العدوانية تجاه الغرب وهكذا دواليك.

ومما يدعم وجهة النظر هذه أنَّ هنتنغتون نفسه صاحب نظرية صدام الحضارات ومن كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، ومقرب جداً من دوائر صنع القرار في أمريكا، وبالتالي فإن نظريته هذه أحد المخارج التي توصلت إليها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب للحفاظ على مكاسبها الناجمة عن استمرارية موازنات الحرب في الارتفاع ، وعن تنازل المجتمعات الغربية عن جزء مهم من حقوقها في الرفاه والتقدم مقابل الحصول على قدر أكبر من الأمان تجاه الأعداء المفترضين.

رأي آخر يقول : إنَّ وراء بروز ظاهرة صراع الحضارات أسبابًا اجتماعية عائدة إلى أنَّ الهيمنة في داخل العولمة، وسيطرة الاستهلاك والتكنولوجيا أديا إلى تفجر الاختلافات والتمايزات والخصوصيات والهويات القومية والعرقية والدينية والثقافية واحتدام الصراع فيما بينها، مع بروز ظاهرة واحدية الحضارة، ومحاولة فرض السيطرة من قبل الحضارة الرأسمالية.

موقف الإسلام من قضية صراع الحضارات

إنَّ التصور الإسلامي لا يكرس الصراع كقانون تاريخي مطلق كما تقدمه فكرة هنتنغتون، ولكن الصراع في التصور الإسلامي بمعنى التدافع ليس إلاَّ سنّة واحدة من سنن الاجتماع البشري إلى جانب سنن الله الأخرى، كما أنه له منطقه المختلف عن مفاهيم الصراع الأخرى، ولذا فإن الجهاد في معناه الواسع ليس صراعاً مع الآخر للقضاء عليه، ولكن أداة لحماية الدعوة ونشرها بين الآخر، ومن ثم فهو أحد أدواته حيث أداة التعاون السلمي تظهر إلى جانبه، ولكل من الأداتين ضوابطهما وشروطهما وليست إحداهما بديلة مطلقة للأخرى.

ولذا فإن القول : إنَّ أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم في التصور الإسلامي هو الحرب أو السلام ليس قولاً منضبطاً، ولكن القول الأفضل هو: متى تكون الحرب؟ ومتى يكون السلام؟ وهكذا يجب أن نقرأ المدارس الفقهية المختلفة حول هذا الموضوع بحثاً عن إجابة لهذا السؤال الأخير، وهو السؤال الذي يحتل في التصور الإسلامي مكانة السؤال في المنظور الغربي حول الصراع كمحرك بين من وعلى ماذا؟

من ناحية أخرى فإن هذا الصراع في صورته العسكرية أو السلمية ليس لتأكيد هيمنة قوم على قوم أو ثقافة على ثقافة أخرى، ولكن لتحقيق أهداف الدعوة والرسالة باعتبارها رسالة للعالمين، ليس بالإكراه والقسر والإجبار للشعوب والأمم، وعلى العكس فإن منطق صدام الحضارات في فكر هنتنغتون يعكس كل منطق التناقض بين عالمية الإسلام وبين هيمنة الحضارة الغريبة، أي عولمة النموذج الغربي. حيث إنه، أي فكر هنتنغتون، يعكس تكريساً لهذه الهيمنة وكيفية استمرار قوتها بأساليب إكراهية قسرية إجبارية.

إذاً إنَّ المفهوم الإسلامي عن نمط العلاقة بين الحضارات هو تعارف الحضارات "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، وكذلك حوار الحضارات، حيث ينبني المفهوم الإسلامي عن حوار الحضارات على رؤية الأصول " قرآناً وسنة " ، ويعكس الأسس المعرفية للرؤية الإسلامية، ومن ثم يختلف في جوهره عن المفهوم الغربي عن الحوار الثقافي أو الحضاري، كما لا بد وأنه يختلف في غاياته ودوافعه.

من هنا فقد سعت مجموعة الدول الإسلامية ، وعبر إطارها التنظيمي، منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى نبذها لقضية ما يسمى بصراع الحضارات انطلاقا من مبادئ دينها الحنيف الذي يدعو للتسامح والمحبة ونبذ العنف والتعصب، وذلك في أكثر من مناسبة داعية إلى إيجاد نوع من الحوار والتواصل بين الحضارات المختلفة، وقد عبرت عن ذلك في إعلان طهران مايو 1999، واجتماع واجادوجو يونيو1999، واجتماع باماكو يونيو2001 وكذلك اجتماع الدوحة أكتوبر 2001.

ملاحظات حول مقولة صدام الحضارات

إنَّ فرضية هنتنغتون في الصدام بين الحضارات تخفي داخلها فقراً فلسفياً واضحاً يبرز أولاً في رفضه فصل الثقافة عن الحضارة، واعتباره أنَّ الثقافة هي الفكرة العامة في كل تعريف للحضارة، ما انعكس بدوره على مفهومه عن الحضارة وربطه بالدين، وهذا خلل واضح إذ إنَّ استخدام مفهوم الحضارة، وبالتالي الدين بوصفه المؤشر الأساسي للتمييز بين أطراف الصراعات الرئيسية في عالمنا الحالي لا يساعد كثيراً في فهمنا لهذه الصراعات.

من جهة ثانية فقد أثبتت أحداث التاريخ أنَّ دور الحس الديني في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب، وإن كان قائماً وفاعلاً، إلاَّ أنه ومن خلال تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا السياسية فإن هذا الحس الديني يتدخل كعنصر " تغيير" لا كعنصر ثبات، وعنصر تغيير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق.

وقد يقول قائل : لماذا لم يكن لهذا الحس أثر في الشرق الإسلامي؟ فذلك لأن هذا الحس قد غرق في فقه سلطاني ولم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم لا من قريب ولا من بعيد.

إنَّ الأشكال الصراعية التي يصفها هنغتنتون بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسبب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي وتحولها واستدخالها لمنطقه في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.

ما لا يقوله خطاب "صدام الحضارات" هو أنَّ انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست حضارة بالمفهوم الذي يبني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجا للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.

إنَّ العرب والمسلمين اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة، ولا علومها، ولا فلسفتها، أما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاع الذاكرة أو دراسة لمرحلة، وفي الحالتين لا تملك "الحضارة الإسلامية" ، بما هي تراث ، ديناميت التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة.

إنَّ الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاَّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن لمعطيات الحضارة العالمية إلاَّ أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.

إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم والتي يزهو هنتنغتون بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد الحرب الباردة ؟

الواقع أنَّ أمثلة هنتنغتون هي نماذج من تكوينات طائفية ـ دينية ـ وإثنية ـ وقبلية ـ كانت موجودة في عالم الحرب الباردة، بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، وهذه التكوينات كانت جزءًا من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية. عالم الصين والهند، والعالم الإسلامي العثماني… هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلاَّ مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.

وماذا بعد ؟

الحديث عن صراع الحضارات لم يقتصر على الدائرة الفكرية في الغرب، ولم يبق - في أحسن الأحوال - في أدرج الاستراتيجيين وصناع القرار الغربيين كخيار مطروح، وظهر أنه ليس لعبة يتلهى بها الرأي العام الغربي في أطر مضبوطة تؤدي وظائف بعينها وكفى.

لقد كان الحادي عشر من سبتمبر الحدث الذي مزق الستار الشفاف الذي كانت تتخفى خلفه كتل الحقد العنصرية لتنجرف كالسيل حمماً وبراكين في فلسطين وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وليعبر عنصريو الغرب في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا عن حقدهم الدفين بكل أريحية وبدون وجل أو شعور بتأنيب الضمير، فالآخر الذي هو الإسلام، هو عدو لا بد من محاربته بدون رحمة !!

وبعد أن أخذت تجليات مقولة صراع الحضارات تتمظهر فاقعة وعلى صعد مختلفة تجاوزت من خلالها المقدمات لتبدأ نهشاً في المتن، والمتن ليس إلاَّ حضارتنا، حاضرنا ومستقبلنا فهل يكفي أن ندعو لحوار الحضارات في وجه سياسات تعرف تماماً ماذا تريد، أم أنَّ الأمر يتطلب تطوير استراتيجيات دفاعية قد تكون أكثر فاعلية ؟

=================

العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي

(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج ـ سوريا

- الكتاب: ملامح العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي

- المؤلف: محمد أحمد عواد

- الناشر: الأصدقاء للنشر/ عمان

- الطبعة: الأولى 2001م

يسعى هذا الكتاب للإجابة عن السؤال: ما هي ملامح العقلانية العلمية في الفكر العربي الإسلامي منذ مطلع القرن الثاني الهجري إلى القرن الثامن الهجري؟ وتحديد هذه الفترة الزمنية يأتي من اعتبارها تتضمن أبرز ما قدمه العقل العربي الإسلامي في القطاعات المختلفة، أي الفلاسفة والعلماء المسلمين الذي وضعوا مؤلفاتهم أصلاً باللغة العربية.

أهمية هذه الدراسة كونها تدرس مدى تأثير التراث العلمي العربي الإسلامي على حقول المعرفة المختلفة للتراث برمته.

و"العلم" هنا هو المفهوم الحديث له، وهو الإدراك الإنساني للواقع المحسوس عن دليلٍ قاطع وهو بهذا المعنى يختلف عن مفهوم العلم الذي ساد في الحضارة الإسلامية التي لم تحصره بالواقع المحسوس.

يتضمن مفهوم "العقلانية" حدود عمل العقل في إطار العالم المادي الفيزيائي، واستناد العقل إلى الحس في إنتاج المعرفة، والتزام الموضوعية والفصل بين الأنساق الثلاثة: الفلسفة والدين والعلم. وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة تعارضها.

1- العلوم التجريبية:

وقف العلماء العرب المسلمين على تراث الأمم السابقة، وبخاصة الهند وفارس والسريان واليونان، فنقلوه بأمانة، ناسبين كل فكرة إلى صاحبها ـ بعكس اليونان الذين استخدموا التراث السابق دون أن يشيروا إلى مصادرهم ـ ثم قاموا بنقده، فلم يقفوا منه موقف التابع ـ وهناك شواهد كثيرة على الأمر مثل الرازي مع جالينوس أو ابن الهيثم مع بطليموس ـ ومن ثم طوروه، وأضافوا إليه، وأسسوا حقولاً جديدة، وعلى الصعيد المنطقي التزموا بمنهج القياس المنطقي، وطبقوا الاستقراء والتمثيل، وثمة منهجين رئيسين استخدما بصورة مباشرة في العلوم الرياضية والاختبارية، وهما:

أولاً: المنهج الرياضي:

قدّم الفراعنة والبابليون إنجازات كثيرة على صعيد العلم الرياضي، وكانت تعتمد التجريب منهجاً، تسلّم اليونان هذه النتائج فطوروها، ومنذ فيثاغور بدأت تتراكم مجموعة من النظريات الرياضية المعمّمة في الحساب والهندسة، ثم جاء إقليدس، فأعاد تنظيم المادة المتراكمة في صورة نسقٍ استنباطي، فهناك ابتداءً: التعريفات ثم البديهيات فالمصادرات فالنظريات. وبهذا تشكل المنهج الرياضي في صورته الاستنباطية، وتم تطبيقه في الحساب والهندسة والميكانيكيا.

أحدث اليونان بهذه المنهجية قطيعة تامة مع مرحلة التجريب البابلية الفرعونية، وقد ورث العلماء العرب المسلمون هذه المنهجية، ولم يقبلوا بكل النتائج التي قدّمها اليونان فحاولوا تقديم حلولٍ جديدة، كما حدث في نقد المسلمة الخامسة لاقليدس، واستناداً إليه أسسوا علم الجبر والموسيقى، واستخدموه بصورة فعّالة في العلم التجريبي وبخاصة في الفلك والفيزياء، وبهذا كانوا امتداداً للمرحلة الاستنباطية اليونانية.

ثانياً: المنهج التجريبي:

استخدم العلماء العرب المسلمون هذا المنهج في الكيمياء والفيزياء والفلك والطب، وبصورة ما في الرياضيات، وقد تنبهوا إلى أنّ مستخدمه، يجب أنْ يكون مؤهلاً على الصعيد النظري. فهذه المرحلة ضرورية، تمثل شرطاً ضرورياً، وفي ضوئها يتم تحديد المشكلة، ثم تأتي مرحلة الملاحظة المباشرة للظاهرة، وجمع المعلومات عنها بواسطة الحواس، واستخدام الآلات والأدوات المختلفة.

ثم يقول العقل استناداً إلى هذه المادة الخام بتكوين فرض لحل المشكلة، ويجب ألاّ يحكم على هذا الفرض بالصدق أو الكذب قبل امتحانه، ومن هنا تأتي التجربة للحسم في صدق هذا الفرض أو كذبه، وما يثبت بالتجربة فهو صادق، ويصبح بمرتبة القاعدة أو المبدأ أو القانون العام وقد طالبوا بتكرار التجارب حتى يثبت الأمر، وقد صرّحوا بأنّ هناك إمكانية لوقوع الباحث في الخطأ، وبينوا أنّ أسبابه قد تعود إلى الموضوع أو قصور الأدوات المستخدمة أو الذات الفاعلة، وقد طبقوه بنجاح في فروع العلم التجريبي.

وصحيح أنّ هذا المنهج له جذور في التراث السابق، لكن، يعود الفضل إلى العرب المسلمين في إعادة الاعتبار إليه. وقد ركزوا بصورة خاصة على:

أ- أن التجربة هي المعيار الذي نلجأ إليه لحسم صدق القضايا العلمية الاختبارية، وقد أطلقوا عليها ألفاظاً مختلفة، مثل: الاعتبار أو الامتحان عند ابن الهيثم أو التدبير كما هو الحال عند جابر بن حيان، ولم يكتف العلماء العرب المسلمون بالتجربة الواحدة، وإنما ذهبوا إلى ضرورة التكرار بغية المزيد من التحوط في الحكم، وما أثبته التجربة عندهم يرتقي إلى مستوى القانون العام وفي علم الفلك لعبت الملاحظة العلمية دوراً حاسماً في غياب إمكانية التجارب الدقيقة، ودعموا ذلك بأجهزة كثيرة تحسن أدوات الملاحظة.

ب- استخدم العلماء العرب المسلمون الأدوات والآلات المختلفة في تجاربهم وكانوا حريصين على تقديم وصف نظري لها، ولطرق عملها، وتطويرها، باستمرار ومن هنا نجد التقدم الكبير الذي شهده علم الفلك بدءاً من مرصد المأمون إلى مرصد أولوغ بك وهذا ما نجده مع ابن الهيثم في البصريات، أو مع أدوات الجراحة عند الزهراوي.

جـ- واهتموا في ضوء ذلك بوحدات القياس للأوزان والأطوال والمساحات، وقد تطورت صناعة الموازين لديهم بصورة ملفتة للنظر، والشاهد على ذلك، ميزان الحكمة عند الخازن.

د- ولم يكتفوا هؤلاء بهذه القضايا، وإنما طوروا جهازاً من المفاهيم على مستوى نظرية العلم، وبخاصة قضية الموضوعية، أو العدل بلغة ابن الهيثم. فقد اعتقدوا أنّ هدفهم هو بلوغ الحقيقة، ومن هنا، فقد دعوا إلى نبذ الاعتبارات الذاتية والهوى والانفعالات، والتهويمات والطقوس السحرية، وأكدوا ضرورة عدم الخضوع للسلطة المعرفية السائدة.. ومن هنا جاء نقدهم لبطليموس وإقليدس وأرسطو وغيرهم، فالحجة في آخر الأمر على البرهان والدليل بغض النظر عن القائل.

تبنى العلماء العرب المسلمون نظرة إلى العلم مخالفة تماماً للرؤية اليونانية التي كانت تفصل بين النظر والعمل، فأكدوا على هذا الجانب حتى في الرياضيات، فقد كانت الغايات العملية هي الهدف الأخير للعلم، وبهذا يكونوا قد تبنوا معظم شروط العقلانية العلمية المعاصرة، فقد نادوا بالموضوعية في العلم، ودعوا إلى تكامل الحس والعقل في الإنتاج العلمي.

لم يجد العلماء العرب المسلمون تناقضاً بين العلم وبين الإيمان بالوجود الإلهي، بل اعتبروا أنّ نتائج العلم تشهد بشكل أو بآخر للحكمة الإلهية، وهذا لا يقل من عقلانيتهم العلمية إذ ليس من شروط العقلانية العلمية إنكار وجود الله ورفض الدين، فهؤلاء العلماء بإجماع لم تكن مرجعيتهم دينية [فقط]، بمعنى أنّ العلم [الإنساني] ليس نتاجاً للفعل الإلهي، وإنما هو فعل للعقل الإنساني، وهو قابل للتعديل والتطوير، وهناك إمكانية متاحة لتصحيح الخطأ، والافتراضات يمكن التحقق من صدقها أو كذبها، والحقيقة لا تكتمل أبداً [إلا عند الله]، وإنما هي في نمو مستمر والنقد الذاتي كما يرى ابن الهيثم وغيره ركن رئيس في تطور المعرفة العلمية.

والسؤال الذي يطرح بعد هذا: ما مدى تأثير العلوم الاختبارية والرياضية في الحقول المعرفية المختلفة المعرفية المختلفة؟ فهل أسهمت في تكوين عقلانية علمية من نوع ما عند بعض المنتسبين إليها.

2- العلوم النقلية:

ومعروفٌ أنّ علم الكلام والفقه من العلوم النقلية التي تأسست منذ وقت مبكر، وقد سبقت العلوم الاختبارية من حيث التأسيس والنشأة بفعل عوامل داخلية وخارجية، وخضعت في تطورها لتأثيرات مختلفة أثرت في مسيرتها. وقد اتجه علماء الكلام المتأخرون إلى المنطق منذ القرن الخامس الهجري، ومن ثم اجتمعت لديهم النزعتان الكلامية والصورانية. وقد تأثر الفقهاء بالمنطق لكنْ، ليس بصورة مباشرة كما حدث عند علماء الكلام المتأخرين، إذ لم ينظروا أبداً إلى المنطق باعتباره منهجية ملائمة لهم على الصعيد الفقهي، ولم يتبنوا الصورانية، وإن تأثروا في أبحاثهم وخاصة على الصعيد المنهجي بالمنطق.

لم يكن علماء الكلام والفقه بعيدين عمّا يجري في حقل العلوم الاختبارية، فهناك علماء وفقهاء اكتفوا بالمراقبة أو الاستفادة بشكل جزئي، وهناك آخرون، بالضرورة، تأثروا بما يجري فيها، وهناك اختلاف بينهم في درجة التأثر، ولم يكن في هذا الحقل ما يثير حفيظة علماء الكلام أو الفقهاء ليتخذوا منه موقفاً معادياً، وذلك لسببين:

أولاً: أنّ الموضوعات التي يبحثها العلم الاختباري ليست قضايا دينية مباشرة، مثل الإلهيات.

ثانياً: أنّ المعيار الذي يلتزم به العلماء هو التجربة العلمية من حيث هي الشهادة على صدق ما يقولون، ومن هنا، فهناك إمكانية للتحقق ممّا يقولون.

في ضوء هذين السببين، تعاطف علماء الكلام والفقهاء مع العلم الاختباري إلى حد كبير، وذهب بعضهم إلى حد الاشتغال به. مثل الجاحظ وابن الجوزي، فأولهما اشتغل في علم الحيوان، وثانيهما ألف في الطب عشرة مؤلفات، وتسرّبت اللغة الطبية إلى مؤلفاته المختلفة. وقد ترك هذا الاشتغال تأثيراً على خطابهما الكلامي والفقهي، ومن ثم تشكلت عقلانية علمية تتفاوت بينهما، لكنْ، يتفق الاثنان على بعض القضايا والمبادئ، ومنها:

أولاً: اعتقد الاثنان أنّ المعرفة العلمية ممكنة، وهي نتاج لتعاون كبير بين العقل والحس، ومن هنا قبلا الاستنباط والاستقراء والتجربة كمناهج للوصول إلى المعرفة، بغض النظر عن اختلافهما عن الفلاسفة والعلماء في فهم الاستنباط.

ثانياً: اعتقد الاثنان أنّ العالم محكوم بالقوانين السببية، ومن ثم يمكن تفسير الظواهر سببياً، وعلى الرغم من أنهما كانا يعتقدان بأنّ العالم نتاج الفعل الإلهي، إلا أنهما على الصعيد التفسيري كانا يلجأان إلى الأسباب القريبة في التفسير.

ثالثاً: شكلت الحقيقة بالنسبة للاثنين، هدفاً ينبغي الوصول إليه، ومن هنا تمسكا بالموضوعية بصورتها الحديثة، فقد نبذا الهوى والميل والعواطف والأساطير والانفعالات، وكل ما من شأنه أن يعوق الإنسان عن بلوغ الحقيقة، ونظراً إلى التجربة والخبر الصادق باعتبارهما معيارين يجب اللجوء إليهما، للتحقق من صدق المعرفة أو كذبها، فهما معياران للحقيقة، فالقضية الصادقة يجب أن يتم التثبت منها بالتجربة أو الخبر الصادق.

رابعاً: يتفق الاثنان على أنّ العقل لا يمتلك قدرات مطلقة. وأنّه على الصعيد الميتافيزيقي، يمكن للعقل أن يثبت الوجود الإلهي. وأصرّ ابن الجوزي بوضوح بالغ على أنّه يجب التوقف بعد ذلك، والاتجاه لإثبات النبوة، ومعرفة تفاصيل عالم الغيب من خلالها، فلا يمكن التحقق من صدق القضايا على هذا المستوى عقلاً، والاكتفاء بموقف السلف الذي كان يرى عدم الخوض في تأويل الآيات المتشابهات التي تتحدث عن هذا العالم، فهي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا الحسم الذي نجده عند ابن الجوزي، ليس موجوداً عند الجاحظ، ومن هنا كان رفضه علم الكلام، فقد اعتبره محاولة من قبل علماء الدين للتفلسف، وهي مجرد آراء ظنية لا يقين فيها. وهناك بعض النصوص عند الجاحظ يقترب منها من هذا الموقف كرسالته في المعارف وأرائه في كتاب "الحيوان".

خامساً: يعتبر الاثنان الدين خطاباً متميزاً مختلفاً عن خطاب العقل [الإنساني]، فهما نسقان مختلفان في الغايات والأهداف. ولا يجوز إلغاء أحدهما لصالح الآخر وعلينا أن نفهم العقل هنا بإنتاجه العلم الرياضي والتجريبي، أمّا الإلهيات بما هي نتاج للعقل فهي موضع خلاف، إذ لا يجوز إقامة تكافؤ منطقي بين قضايا الإلهيات وقضايا العلوم الاختبارية، فهذه الأخيرة يمكن التحقق من صدقها تجريبياً والحسم بشأنها، أمّا قضايا الإلهيات فلا تخضع للحس والتجربة، ومن ثم هي آراء، وقضايا ظنية. وقصارى ما يمكن إثباته على هذا الصعيد مجرد الوجود الإلهي كما يرى ابن الجوزي. أمّا ما يتعلق بالصفات والأفعال، والقضايا الميتافيزيقية الباقية، فيجب الرجوع فيها إلى خطاب الأنبياء، الذي ثبت صدقه بالمعجزات.

3- علم الأصول:

كان الإمام الشاطبي، المتوفى في نهاية القرن الثامن الهجري، معاصراً لابن خلدون، وقد وفّر له هذا الأمر ملاحقة التطور الذي حدث في علم أصول الفقه من القرن الثالث إلى القرن الثامن الهجريين، وكان من الطبيعي أن يتأثر علماء الأصول إيجاباً أو سلباً بحركة العلوم الاختبارية، بحكم أنهم كانوا مضطرين لتحديد موقفهم من العقلانية، كما يمكن أن تظهر في القياس والإجماع، وبخاصة عند أصحاب التعليل، فالتحقق من العلة قادهم إلى العلم الاختباري وموضع القياس جعلهم يتخذون موقفاً من المنطق. وبدءاً من الغزالي تسرّب المنطق إلى هذا العلم، وباتت المؤلفات الأصولية تبدأ بمقدمة منطقية.

رفض الشاطبي إدخال المنطق الصوري إلى علم أُصول الفقه، وسجّل اعتراضات جوهرية، نجدها عند ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما، ومن ثم لم يكتف بالرفض وإنما حشد الانتقادات الكثيرة ضد النزعة الصورانية، وهذا الموقف جاء نتيجة حتمية لموقف معرفي آخر هو الاعتقاد بأنّ للعقل حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، وهي حدود هذا العالم، بمعنى أننا لان ستطيع أنْ نحصل على معرفة يقينية إلا في حدود هذا العالم، أمّا عالم الغيب أو الميتافيزيقا، فلا يمكن الوصول إلى قضايا يقينية بشأنه، ومن هنا كان إعلانه بوضوح حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل [والاكتفاء بالنقل في هذا المجال]، ثم ذهب الشاطبي مسافةً أبعد من ذلك، فتبنى مبدأ الفصل بين الأنساق المعرفية، ورفض محاولة الاحتواء والغزو بين هذه الأنساق، فلا يجوز مثلاً تأويل الخطاب الديني باسم العلم والفلسفة أو تأويل العلم باسم الدين والفلسفة أو تأويل الفلسفة باسم الدين والعلم. [لكن هذا الفصل فصلٌ في المرجعيات دون الموضوعات].

وتتجلى العقلانية العلمية عنده بصورتها الكبيرة، في محاولة استرجاع القوانين العامة التي تحكم الشرع عن طريق الاستقراء أي مقاصد الشريعة .

لا مجال أمامنا سوى الإقرار بتكون العقلانية العلمية عند الشاطبي، لكن لا يعني هذا أن كل علماء أصول الفقه مثله، ولا نجد هذا الوضوح في خطاب المعري، وذلك لأنّ الشاطبي كان متأخراً بينما المعري عاش في القرنين الثالثو الرابع الهجريين، وعلى الرغم من ذلك نجد هناك المبادئ نفسها تقريباً، وإن كانت ليست معالجة بصورة كاملة عنده.

4- الفلسفة وعلم الكلام:

هل تكون لدى الفلاسفة المسلمين عقلانية علمية من نوع ما، وللإجابة على هذا السؤال نقدم نموذجين من الفلاسفة هما:

أولاً: الفلاسفة الذين تبنوا العقلانية الصورية، فهؤلاء اعتقدوا بإجماع أنّ المنطق منهج مناسب للفيلسوف، وهو علم دقيق محايد يرتبط بقضايا الفكر، وقواعده صحيحة، ويمكن أنْ يساعدنا في ضبط تصوراتنا الفلسفية، وذهب بعضهم إلى ضرورة استخدامه أيضاً في العلوم الاختبارية، بصورة واضحة، إذ يعتبر من المسلمات الرئيسة في العلم، ومناهجه لا غنى للعالم أو الفيلسوف عنها، ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل تجاوز بعضهم ذلك إلى حد الاعتقاد أنه كافٍ بذاته على صعيد الفلسفة.

ومعروف أنّ المنطق الأرسطي يتضمن قضايا ميتافيزيقية مضمرة فضلاً على أنّه بالقوة يدفع إلى التقليد الميتافيزيقي، فهو ابتداء مبني على نزعة واقعية في الكليات، وهذا ما لم يتنبه إليه هؤلاء الفلاسفة، فقد تصوروا أنّ نظرة أرسطية للكليات سليمة، فهو يُّقر أنها موجودة على مستوى الأذهان، لكنّ لها وجوداً بالقوة على المستوى الخارجي، وهذا الحل لم يخرجنا من النزعة الواقعية للكليات، فضلاً عن أنّ عوامل الإضافة والتركيب على مستوى العقل تدفع بهذه الكليات إلى مسافات بعيدة يصعب التحكم فيها، ومن ثم تساهم في بناء عوالم غيبية مختلفة، وهي بشكل أو بآخر مسؤولة عن نظرية الفيض بأشكالها كلها، ومقولة العقل الفعّال، ونظرية عشق العالم للإله، وحياة النجوم... الخ.

كان هؤلاء يتصورون أنّ ما وصلوا إليه صحيح من الناحية الاستنباطية، لكن إذا اعتمدنا هذا المعيار فقط، فكل القضايا الميتافيزيقية تتساوى في الصدق والكذب، إذ لا معيار يمكن أنّ يحسم بينهما، ومن هنا كانت نظرة ابن حزم النافذة بضرورة الالتزام بإمكانية رد هذه الأفكار إلى قضايا حسيّة أو عقلية بسيطة أو إلى دليل بواسطة التجربة، لكن معظم هؤلاء الفلاسفة لم يقبلوا بوجهة النظر هذه، رغم أنهم كانوا يعتقدون بإجماع بأنّ قانون السببية يحكم العالم.

لكنّ المشكلة هي في طريقة البرهنة على السبب، ومعظمهم كانوا يلجأون هنا إلى تقسيمات تحكمية لا مسوغ لها، كما هو الحال في مسألة الواجب والممكن، وبهذا أصبح عالم الأفكار لديهم مطابقاً للعالم الخارجي، وتحوّل الكلي من تعميم منهجي لغايات الفهم إلى كلي مطلق هو الأصل، وأصبحت الماهية المنجزة قانوناً صارماً خارج الزمان، وعلى الواقع أنْ يتطابق معها، مما يشكل عقبات رئيسة أمام نمو المعرفة العلمية. وقد ارتبط بهذه النزعة موقف محدد تجاه العقل، فهو يمتلك صلاحيات مطلقة في البحث في الشؤون الميتافيزيقية!

ثانياً: يختلف الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذا الأنموذج عن الفلاسفة السابقين، فهؤلاء قبلوا المنطق كمنهجية للفيلسوف، لكنهم لم يقبلوا النتائج التي أُنجزت فلسفياً من الفلاسفة السابقين، بل يعتقدون أنهم لم يلتزموا كثيراً بالمبادئ المنطقية وخالفوها، التأويل أحياناً وقد نبّه ابن رشد تحديداً إلى أنهم انطلقوا من عالم ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة، أي من عالم الأفكار لبناء عالم الوقائع، وهذا ليس صحيحاً، فالأصل أن تكون مبنية استناداً إلى عالم الوقائع، لكن قبل ابن باجة وابن رشد المنطق دون القيام بأية عملية تقويمية له، اقتناعاً منهم بصدق الصورة الأرسطية، ولم يأخذ الاثنان بمحاولة ابن حزم الذي أجرى تعديلاً جريئاً له في ضوء تبنيه للنظرة الإسمية، ومن ثم على مستوى نظرية الحد لم يعد ابن حزم يسعى للبحث عن الماهيات، والكليات عنده أسماء لا غير، وتميز هؤلاء الفلاسفة بمسألتين، فرقتا بينهم وبين السابقين:ـ

أولاً: لم يمنحوا العقل صلاحيات مطلقة للبحث في الشؤون الميتافيزيقية وفرض ابن حزم الحظر المطلق عليه، أمّا ابن باجة وابن رشد فقبلا فيما يبدو تحديداً جزئياً له، إذ في ضوء هذا نفسر رفضهما لنظرية الفيض والعقول.

ثانياً: تبنى هؤلاء الفلاسفة مبدأ الفصل بين الدين والعقل، فهما نسقان مختلفان من حيث المبدأ، ولم يقبلوا بتأويل الفارابي أو الإلغاء السينوي المشرقي، واختلفوا في تصوير طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما بعد الفصل، فقد أعطى ابن حزم دوراً محدداً للعقل في الخطاب الشرعي وتجاوز ابن رشد الحدود عندما منح العقل صلاحيات مطلقة في تأويل النص باعتبار أنّ أهل البرهان هم الأقدر على فهمه، وقد رفض الموقف الرشدي من اللاحقين مثل الشاطبي وابن تيمية.

يعتبر هذان المبدءان من المبادئ الرئيسة في العقلانية العلمية، وهو الذي دفعنا إلى تمييزهم عن السابقين فهم حقاً تبنوا العقلانية الصورية، لكنهم رفضوا التأويل الفلسفي الذي قدمه السابقون، وتجاوز ابن حزم الآخرين بصورة خاصة، ويمكن اعتباره نموذجاً لوحده على العقلانية العلمية بين الفلاسفة، وذلك بتبنيه عدداً من القضايا الرئيسة فيها، وهذه القضايا الحزمية هي:

أولاً: قَبِلَ ابن حزم مكتسبات العقلانية الصورانية، وبخاصة المنطق ومبدأ السببية، وهو يقبل هذا الأخير بصورة تامة، فكل التفسيرات عنده سببية، أمّا المنطق فهناك ضرورة في إعادة بناءه من جديد، في ضوء النظرة الاسمية للكليات، ويقبل القياس من حيث هو آلية للبرهان.

ثانياً: الفصلُ بين عالم الغيب وعالم الإنسان، والإنسان لا يستطيع معرفة قضايا عالم الغيب، وإنما مجاله الخاص به هو عالم الإنسان، لذلك نادى بحظر النشاط الميتافيزيقي على العقل بصورة تامة.

ثالثاً: المعرفة ممكنة، لكن يجب أنْ يدعمها دليل، بمعنى أنّ القضية الصادقة لابد أن يدعمها على الأقل دليل واحد من الأدلة العلمية الأربعة وهي:

1- أوائل الحس. 2- أوائل العقل. 3- التجربة. 4- الخبر الصادق.

وكلُّ قضية مركبة يجب أن يكون بإمكاننا تحليلها إلى قضايا بسيطة مدعومة بهذه الأدلة، فإذا لم يتوافر هذا الشرط، فالقضية كاذبة.

رابعاً: الفصل بين الدين والعقل، ولا يجوز إلغاء أحد الطرفين لمصلحة الآخر، فهما نسقان مختلفان، ودور العقل في الخطاب الديني لا يتعدى المساندة والفهم والتمييز.

خامساً: رفض كل القضايا الأسطورية التي لا دليل عليها مثل عقول النجوم، وأفعال السحر.

تصور هذه القضايا الصورة الأولى للعقلانية العلمية في الفلسفة الإسلامية، ونحن لا ندعي كمالها، وإنما ستتطور، عند اللاحقين وهي تشهد بأنّ حقل الفلسفة قد تأثر بالعلوم الاختبارية والعقلانية العلمية عند ابن حزم هي نتاج مباشر لهذا التأثير.

5- المعرفة العلمية:

رفض ابن تيمية وابن خلدون الفلسفة المستندة إلى المنطق الصوري كمنهجية للفيلسوف، وهذا الرفض هو موقف فلسفي وينبع من فلسفة مارسها الاثنان، وإن لم يعطيا لها اسماً، ووجدنا أنّ التسمية المناسبة لهذه الفلسفة هي "العقلانية العلمية".

فكلاهما نادى بأنّ الأساس الأخير للمعرفة هو العقل، لكنّ هذا العقل ليس العقل الذي نجده في العقلانية الكلامية أو العقلانية الصورية، وإنما العقلُ كما نجده في المعرفة العلمية، ومن ثم هي فلسفة تتحدد بعلاقاتها بالعلم ابتداءً، فهي تقبل قضايا العلم الصادقة، والمنهجيّة المتبعة فيه، وتستثمرها في حقول مختلفة باعتبارها المنهجية الأمثل للبحث، وعلى الصعيد المنطقي تلتزمُ بمنطق لا يخالف مبادئ المعرفة العلمية، وتلتزم بمبادئ ستة رئيسية، تكون البنية العميقة لهذا الخطاب، وهي:

أولاً: مبدأ مصادر المعرفة الأربعة:

ذهب الاثنان إلى أنّ المعرفة هي نتاج تكامل بين الحس والعقل وما يبنى عليها مثل التجربة والأخبار الصادقة، وهذه هي مصارد المعرفة العلمية، ومصادر كل معرفة صادقة ممكنة، وبهذا قال الجاحظ، وابن الجوزي، والشاطبي والمعري وابن حزم وغيرهم كثيرون.

ثانياً: مبدأ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل:

يذهب الاثنان إلى أنّ موضوع المعرفة [الإنسانية] هو العالم المادي الذي نصل إليه بالحس والعقل والتجارب، وينبني على هذا أنّ مجال العقل الذي تظهر فيه فعاليته هو هذا العالم. فالمعرفة ممكنة للإنسان لهذا العالم، ويمكن أنْ نصل إلى قضايا صادقة بشأنه. وينبني على هذه المسألة قضيتان:

أ- هناك عالمان على الصعيد الأنطولوجي، هما: عالم السماء [الغيب] وعالم الإنسان.

ب- حدود مجال العقل وفعاليته هي عالم الإنسان، أمّا عالم السماء فلا يستطيع العقل أنْ يقدم معرفة يقينية بشأنه، لأنه يقع خارج مجال فعاليته.

ومن ثم نادى الاثنان بضرورة الفصل المنهجي بين العالمين، وتقييد مجال العقل في هذا العالم، وحظر النشاط الميتافيزيقي عليه، وبهذا نادى ابن حزم وابن خلدون، والشاطبي والمعري.

ثالثاً: مبدأ ضرورة الموضوعية في المعرفة:

ذهب الاثنان إلى أنّ عالم الإنسان يخضع لمبدأ السببية، فهناك أسباب ومسببات على الصعيد الأنطولوجي، وعلينا الوصول إلى التفسيرات السببية على الصعيد المعرفي. ويجب من ثم أن يصل الآخرون إلى النتائج ذاتها، لأنّ المعرفة بطبيعتها غير ذاتية، والمعرفة العلمية بالذات تتسم بهذه السمة فهناك إمكانيةٌ للتحقق من نتائجها من قبل آخرين، أمّا المعرفة الذاتية التي تبقى حبيسة ذات العارف، فلا تستحق أن تسمى معرفة، وهذه هي الموضوعية في المعرفة.

رابعاً: مبدأ الفصل بين عالم السماء والإنسان:

يذهب الاثنان إلى أنّ عالم السماء لا يمكن معرفة تفاصيله بالعقل، وقصارى ما يمكن الوصول إليه هو إثبات الوجود الإلهي، أمّا ماهية هذا الوجود وصفاته فلا يمكن معرفتها بالعقل، وهي عموماً موضوع الدين. وبهذا قال الشاطبي وابن الجوزي.

خامساً: مبدأ الفصل بين الأنساق الثلاثة:

نادى الاثنان بضرورة التمييز بين أنساق ثلاثة: الفلسفة والعلم والدين فهناك اختلافات بين هذه الأنساق في الموضوعات والوسائل والغايات، ويجب إلا يتم إلغاء أحدِها لصالح الاثنين الآخرين. بمعنى أنّه لا يجوز تحميل الخطاب الديني تأويلات فلسفية لا تمت له بصلة أو نقوم بتأويله علمياً، إذ ليس الدين من حيث المبدأ علماً [بالمعنى الوضعي] أو فلسفة، وهذا يعني بصورة أخرى الاعتراف بشرعية الأنساق الثلاثة وهذا ما نجده عند ابن حزم وابن رشد وابن الجوزي والشاطبي.

سادساً: مبدأ الالتزام بالروح العلمية:

يذهب الاثنان إلى أنّ هدف المعرفة من حيث المبدأ بلوغ الحقيقة بغض النظر عن الأهواء والانفعالات الذاتية. ومن ثم دعا الاثنان إلى ضرورة نبذ الاعتبارات الأسطورية والسلطوية والمصالح الذاتية، والأهواء والخرافات وكل ما من شأنه أنْ يقف حائلاً دون بلوغ الحقيقة.

والعمدة في آخر المطاق على الدليل، أمّا التصوف فقد قبله الاثنان شريطة أن لا يخالف ما هو معلوم بالتجربة أو بنصوص الدين المقدسة [الثابتة]، ويجب أن يبقى تجربة ذاتية، تتعلق بالعابد نفسه، وهذه التجربة هناك صعوبة في التعبير عنها لغوياً ومن ثم تحويلها إلى معرفة ممكنة، وبهذا قال ابن الجوزي أيضاً.

وقف ابن تيمية وابن خلدون على العلوم الاختبارية في عصرهما، وأدركا بوضوح بالغ طبيعة المعرفة العلمية، من حيث هي نتاج إنساني، ليس مصدره العقل الفعال أو الله [تعالى] أو أية قوة كونية أخرى. وهي ليست ثابتة بصورة مطلقة، وإنما قابلة للتعديل والتطوير، في ضوء تحسن أدواتنا، ووسائلنا وقيامها ابتداءً على أوليات الحس والعقل، والتجارب المستندة إليها. وأنّ المعيار الحاسم في قبول القضية العلمية هو التجربة، فهي القادرة على التحقق من صدق فروضنا، فما ثبت بالتجربة يجب قبوله والاعتراف به، وما عدا ذلك يبقى في دائرة الفرض الذي لم يتحقق، ومن ثم لا نستطيع الحكم عليه بالصدق، وبهذا تقدمت المعرفة العلمية، وحصل الاتفاق بين المشتغلين فيها، وفي ضوء هذا الوعي حاكم الاثنان الخطاب الفلسفي السائد، فقضاياه لا يمكن أنْ نتحقق من صدقها مثل قضايا العلم الاختباري [السبيل الوحيد لها هو النقل]، فهم قد حكموا معايير المعرفة العلمية في نقد الخطاب الفلسفي، ومن ثم قادهم هذا إلى نقدِ المنهج المنطقي باعتباره الأداة التي أَنتجت المعرفة الفلسفية.

انطلق الاثنان من التسليم بحقل العلوم الاختبارية والدفاع عنه، ومن داخله قام الاثنان بنقد الخطاب الفلسفي ومنهجه، فالخطاب الفلسفي يجبُ أنْ لا يُناقض المعرفة العلمية، وعليه أنْ يتبنى معاييرها. وفي ضوء هذا النقد تبنى الاثنان فلسفةً تلتزم بقواعد العلم وتنطلق منه، ومن هنا، كان المنطق الاسمي امتداداً للمعرفة العلمية، فالتسمية والتدليل هما الامتداد الطبيعي للمنهجية العلمية، فهما يُقدمان لنا معرفةً نسبيةً حول تجاربنا عن عادات الموجود بلغة ابن تيمية. والعلمُ قد حققَّ إنجازاته بفضل هذه المنهجية التي تلتزمُ بالعالَمِ المُعطى كحقلٍ للمعرفة العلمية، فهو لا يحدثنا عن عالمٍ مفارق، ولا يدَّعي أنَّ بإمكانه معرفة تفاصيل هذا العالم، ومن هنا علينا الالتزام بهذا على الصعيد الفلسفي، بمعنى أنَّ علينا أنْ نلتزمَ بالعالم كموضوع للمعرفة الفلسفية، وأنْ نُسلمَ بحدود العقل في إطار حدو هذا العالم، وفرضُ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل، وبهذا كانت الفلسفةُ التي تبناها الاثنان من إنجاز العقل النظري أو الفلسفي، والتأسيس الفلسفي بهذا النهج قد تم انطلاقاً من معطيات العقل النظري.

لم يكتفِ الاثنان بالنتيجة السابقة، وإنما انطلقا بعد ذلك إلى معالجة الخطاب الديني، وبالطبع كان من الممكن لهما أنْ يتوقفا عند حدود إنتاج العقل الفلسفي، ومتابعة النشاط الفلسفي على هذا المستوى. لكنْ هناك خطابٌ موجود وهو الدين، وبالنسبة لهما هذه الفلسفة لا تناقض الدين أساساً، بمعنى إذا انطلقنا من داخل الخطاب الديني، فهذه الفلسفة لا تناقضه، ومن ثم لا مشكلة على هذا الصعيد، وإنما المشكلة هي: هل يخالف الدين قواعد العقل الفلسفي الذي يقوم على التسمية والدليل والبرهان،، أي إذا انطلقنا من داخل حقل العقل الفلسفي إلى الدين؟

إذا حكمنَّا معايير العقل النظري في الخطاب الديني فلا مهرب من هذا التناقض، فعالم الغيب الذي يتحدث عنه الدين، لا يمكن أنْ يختبر على صعيد العقل الفلسفي [الوضعي]، ومن ثم أخذَ الاثنان بضرورة الفصل [أو التمييز] بين الخطابين، ومن ثم الاعتراف بشرعيتهما، وضرورة أنْ لا تحاكم القضية إلاّ في ضورة معايير النسق الذي تنتمي إليه. ومن ثم الإيمانُ بالغيب قضيةٌ صادقةٌ على صعيد العقل النقلي، ولا يجوز تطبيق معايير العقل الفلسفي [الوضعي] عليها.

لم يُقبلْ الخطاب الديني اعتباطاً، فقد قام الاثنان بتسويغه عقلياً، أمّا ابن خلدون فقد لجأ إلى نظرية الاتصال، وأمَّا ابن تيمية فقد دعا إلى ضرورة دراسة ظاهرة النبوة ابتداءً، فالنبوة ليست محصورة بالنبي محمد (r)، وإنما هي ظاهرة موجودة عند آخرين [قبله]، ومن ثم يمكن دراسة هذه الظاهرة درساً علمياً، والنبوة تثبت بالمعجزة، وهناك شهادات لا يمكن الطعن فيها على وجود هذه المعجزات، ومن ثم لا مهرب لنا من قبولها. فإذا سلّمنا بذلك، فتلك هي بداية شرعية الخطاب الديني الذي قبل على أساسه. فإذا سلمنا بشرعية هذا الخطاب فعلينا فيما بعد أنْ لا نحاكمه إلاّ في ضوء المعايير التي يقدمها، تمثل الصورة السابقة، مبادئ العقلانية العلمية الستة التي قبلها الاثنان، وهذه الصورة هي الأكمل عبر ستة قرون، وصحيح أنّ بعض هذه المبادئ وجد عند السابقين، لكنها لم توجد بصورة مكتملة عند أحدهم، ولم تعالج بصورة كافية.

لا يعني هذا بالطبع أنّ هذه المبادئ هي كل مبادئ العقلانية العلمية، الموجودة لدينا في الوقت الحاضر، وإنما لا شك في أنهم قد تقدموا في هذا المجال وقطعوا فيه أشواطاً طويلة جداً ولم تقف جهودهما عند حدود إدراك مبادئ العقلانية العلمية، وإنما انخرط الاثنان في الممارسة العلمية بصورة مباشرة، فاشتغل ابن تيمية في إعادة بناء علم المنطق على أسس جديدة، أمّا ابن خلدون فأعاد تأسيس علم التاريخ، واكتشف علماً جديداً هو علم العمران.

كانت القضية الرئيسة التي انطلق منها ابن تيمية في إصلاح المنطق هي إعادة النظر في الكليات، فاستناداً إلى أفلاطون يوجد للكليات وجود موضوعي مفارق للذات. وقد تنبه أرسطو إلى هذا الأمر، وقام بنقده، لكنه أعطى الكلي أيضاً وجوداً واقعياً وإن كان مختلفاً عن الوجود الأفلاطوني، فهو يتحدث عن وجود بالقوة للكلي، ويجعله مكافئاً للصورة، وهي محايثة للمادة، وهذه الحلول الأرسطية لم تخرج عن دائرة التصور الواقعي للكلي، وقد تبنى الفلاسفة الإسلاميون التصور الأرسطي من الكندي حتى ابن رشد باستثناء ابن حزم. الذي كان له موقف مختلف عنهم. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للموقف الأرسطي من الكلي، إلا أنّ الفلاسفة الإسلاميين اعتقدوا بصواب الموقف الأرسطي، وقد رفض ابن تيمية وابن خلدون هذا الأمر تماماً، فالكليات لا وجود لها إلا في الذهن، والكلي الذي ليس له أصل في عالم الحس يجب رفضه، والكائنات الميتافيزيقية التي وصل إليها الفلاسفة، هي كليات لا أساس لها في عالم الحس، ومن ثم يجب رفضها لأنه ليست من وظيفة العقل إدارتها. وقد بُنيت نظرية المعرفة الأرسطية على أساس موقفه من الكلي، فالمعرفة تصورات نصل إليها بالتعريف بالحد، والذي يصور ماهية الشيء المعرّف، وتصديقات نصل إليها بالقياس.

وقد أنكر ابن تيمية ذلك تماماً، فالحد لا يصور ماهية الشيء وإنما وظيفته اسمية تماماً، بمعنى أنه مثل الاسم وظيفته التمييز بين الأشياء، والماهية تقوم على التمييز بين الصفات الذاتية والصفات العرضية للشيء، وهذا التقسيم مفتعل فلا يوجد معيار حاسم على هذا المستوى. أمّا القياس، فقد شدّد ابن تيمية على أنّ ما نصل إليه من معرفة بواسطته يمكن أن نصل إليه دون ذلك، والشروط الموضوعية له يجب إعادة النظر فيها، وقد طوّر ابن تيمية هذا الأمر إلى نظرية الاستلزام. وقد تبنى ابن خلدون القضايا الرئيسة التي أثارها ابن تيمية، فهو لم يكن منشغلاً في إعادة بناء العقل النظري مثل ابن تيمية، وإنما كان مشغولاً في إعادة بناء العقل العملي استناداً إلى البنية النظرية ذاتها.

أمّا ابن خلدون، فقد أعاد اعتبار لعلم التاريخ، فبعد أنْ كان ملحقاً بالعلوم النقلية، قام بإرجاعه إلى حظيرة العلوم العقلية، وانشغل في المعاير التي يجب اللجوء إليها للتحقق من صدق الواقعة التاريخية، ولم يكتف بموازين الجرح والتعديل. وإنما بين أنّ المهمة الأولى يجب أن تكون مطابقة الخبر للقوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية، والعلم الذي يبحث في هذه القوانين هو علم العمران، لكنّ هذا العلم لم يقم بتأسيسه السابقون، ومن ثم ندب نفسه أيضاً لإنجاز هذا الأمر، ومن هنا، أسس ابن خلدون علم العمران، ليكون مساعداً لعلم التاريخ، ومن الجدير بالذكر أنّ القوانين الاجتماعية يمكن الوصول إليها عبر الملاحظات والتجارب. ويمكن النظر إلى "المقدمة" باعتبارها تمثل الممارسة العلمية الحقيقية لابن خلدون. ونحن لا ندعي اكتمال هذه التجربة، ولكن ما يهمنا هو الروح العلمية التي تحلى بها والعقلانية العلمية التي وجهت خطابه في هذا المجال.

لا شك أنّ ابن تيمية وابن خلدون قد تأثرا بالعلوم الاختبارية، وأنّ العقلانية العلمية التي حكمت خطابهما جاءت بفعل هذا التأثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهي نتاج تطور مستمر خلال القرون السبعة السابقة. وهي تمثل الصيغة الأكمل في تراثنا.

===============

من حضارتنا في الهند

(الشبكة الإسلامية) د . حسين مؤنس

دخل الإسلام الهند والسند أول ما دخل على يد محمد بن القاسم الثقفي المتوفى سنة 98هـ وذلك في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك .

وقد انتشر الإسلام بعد ذلك على يد التجار والزهاد والدعاة المخلصين انتشاراً محدوداً.

وفي القرن الرابع الهجري ظهرت موجة الفتح الإسلامي الثانية للهند عندما حكم الهند عاهلون كبار من العرق التتري والمغولي ، على رأسهم إلب شكين التتري ، والد محمود الغزنوي ، الذي حكم مملكة تبدأ من ضفة نهر جيحون اليسرى ، إلى سلسلة جبال سليمان مغرب السند ، وجعل قاعدة ملكه في غزنة ، ثم يستولي على البنجاب ويبدأ في هذه النواحي اعتناق الإسلام بأعداد كبيرة .

وعندما خلفه ابنه محمود الغزنوي ، الذي استمر في الحكم ثلاثين سنة ، قام بحملات على أنحاء من الهند اثنتي عشرة مرة ، مما جعل فتح المسلمين للهند وسيطرتهم عليها ، أمراً ثابت الدعائم والأركان .

وقد حكم المسلمون الهند ثمانية قرون منذ محمود الغزنوي ، وحتى دخول الإنجليز إليها في القرن التاسع عشر الميلادي ، الثالث عشر الهجري .

وخلال هذه القرون الثمانية، أسدى المسلمون لشبه القارة الهندية خدمات عظمى ، أولها وأعظمها ، أولاها نشر الإسلام ؛ الذي أصبح يدين به منهم نحو عشرين في المائة ، ولو كان من سياسة المسلمين إجبار الناس على الدخول في الإسلام ، لكان أولى البقاع بذلك هي الهند، إذ كانت السيطرة فيها كاملة للمسلمين ، وكان أكثر أهل الهند وثنيين من الهندوس ، ومن البوذيين .

وقد تعدى تأثير الإسلام في معتنقيه ، إلى من سواهم من غير معتنقيه ، فأثر في عقلية الشعب الهندوكي وفي ديانته نفسها .

ويقول الباحث الهندي المعروف " بانيكار " : " إن من الواضح أن تأثير الإسلام في الديانة الهندوكية كان عميقا في العهد الإسلامي .. إن فكرة عبادة الله في الهنادك ، مدينة للإسلام ، إن قادة الفكر والدين في هذا العصر وإن سموا آلهتهم بأسماء شتى، قد دعوا إلى عبادة الله ، وصرحوا بأن الإله واحد ، وهو يستحق العبادة ، ومنه تطلب النجاة والسعادة ، وقد ظهر هذا التأثير في الديانات والدعوات التي ظهرت في الهند في العهد الإسلامي كديانة " بهاجتي " ودعوة " كبيرداس "، هذا من الناحية الدينية ، أما من الناحية الاجتماعية فكان تأثير الإسلام ـ كما يقول العلامة أبو الحسن الندوي ـ عظيما، إذ حمل المسلمون معهم فكرة المساواة الإنسانية التي لم يكن للهند عهد بها؛ فلا نظام طبقات ، ولا منبوذ ، ولا نجس بالولادة ، ولا تقسيم وراثي للحرف والصناعات ، ولا جاهل يحرم عليه التعليم ، بل الناس جميعاً يعيشون معاً ، ويأكلون جميعا ، ويتعلمون سواء، ويختارون ما يشاءون من الحرف والصناعات .

ويدخل في أثر الإسلام الاجتماعي موقفه من المرأة ، من ناحية احترامها والاعتراف بحقوقها وكرامتها كعضو محترم من أعضاء الأسرة والإنسانية ، ولعل عظمة موقف الإسلام من المرأة تتجلى في الهند إذا علمنا أن النساء في الهندوكية كن يحرقن أنفسهن بالنار بعد وفاة أزواجهن ، وهن لا يرين ولا يرى المجتمع لهن حقاً في الحياة بعد وفاة الأزواج ، وهذا الطقس الهندوكي ، يسمى " ستي ".

وقد أورد مؤرخ الهند الكبير المشهور بمؤلفاته السائرة وكتبه المقررة في الجامعات وهو المؤرخ ( جادو سركار) عديداً من الأيادي الإسلامية على الهند ، منها باستثناء ما ذكرنا في الناحيتين الدينية و الاجتماعية ... إيجاد صلات للهند بالعالم الخارجي ، بعد أن كانت معزولة تماما عن العالم ، ومنها إيجاد لغة رسمية إدارية وأسلوب نثري فني يصلح للكتابة العلمية والأدبية ، ومنها إيجاد وحدة سياسية واجتماعية في اللباس ومظاهر الحضارة ، خصوصا في الطبقات الراقية ، وبدرجة ما في الطبقات الشعبية ، ومنها تقدم لغات إقليمية في ظل الحكومة المركزية اعتماداً على تحقق السلام والأمن والرفاهية ومنها تجديد التجارة عن طريق البحار التي كانت قد توقفت منذ فترة طويلة ، وإنشاء بحرية للهند بعد أن كانت بعيدة عن هذا المجال .

أما فضل الحضارة الإسلامية في الهند على المسلمين أنفسهم ، فهو صفحة عظيمة لا يمكن حصر نواحي إبداعها في هذا المجال ، سواء فيما أنشأوه من آلاف المساجد البالغة الغاية في فن المعمار ، وسواء فيما أسهموا به في العلوم الإسلامية المختلفة .

ومن التراث الإسلامي العالمي الذي دبجه مسلمو الهند كتاب "العباب الزاخر" للإمام حسن بن محمد اللاهوري، وكتاب "كنز العمال " للشيخ علي بن حسام الدين المتقي البرهانغوري ، ومنها "الفتاوى الهندية " في ستة مجلدات ، "ومنها مسلم الثبوت في أصول الفقه" لمحب الله بن عبد الشكور ، وكتاب "كشاف اصطلاحات الفنون" للشيخ محمد التهانوي ، و"جامع العلوم" و"حجة الله البالغة" للإمام ولي الله الدهلوي ،وهو من أعظم الكتب في الحضارة الإسلامية .

ومنها "تاج العروس في شرح القاموس" للسيد مرتضى الزبيدي ...

وما هذه إلا قطرة في بحر كبير ، و إلا فإن صفحة حضارتنا الإسلامية في الهند ، صفحة زاخرة في كل جيل وفي كل قرن ، ولا زالت هذه الحضارة موصولة بإذن الله ، حتى وإن نزل المسلمون من مستوى القيادة فإنهم قادرون على البقاء ـ

بإذن الله ـ في مكان القيادة في الفكر والحضارة ...

لأنهم ـ لو تمسكوا بدينهم ـ جزءٌ من خير أمة أخرجت للناس .

وهو ما نرجوه لهم ، ونتمنى أن يعينهم الله عليه ..

================

صحفي بريطاني يشهد للحضارة الإسلامية

(الشبكة الإسلامية) نورالهدى /خالد الأصور

الكاتب دينيس أوفرباي :

- العلم في حضارة المسلمين وسيلة لتأكيد وحدانية الله .

- الحروب المتعاقبة وراء تآكل دعائم العلم الإسلامي .

إن طريق المعرفة والعلم الإسلامي يمتد من أثينا إلي الإسكندرية إلي بغداد، إلي دمشق، وإلي قرطبة بأسبانيا (الأندلس) عبر قصور الخلفاء ومعامل الكيميائيين ، فقد استطاع المسلمون - ممتثلين لأمر القرآن الكريم بالبحث عن المعرفة وقراءة الطبيعة بحثا عن دلائل قدرة الخالق في الإنسان والكون والحياة - أن يبنوا مجتمعا كان قلب العالم في العصور الوسطي ، هذا ما قاله الكاتب البريطاني "دنيس أوفرباي" في صحيفة "هيرالد تريبيون" الدولية ، مؤكدا أن اللغة العربية ظلت مرادفا للعلم والمعرفة نحو ألف عام، وهو العصر الذهبي الذي يحسب لها ضمن إسهاماتها كقصب السبق في الجامعات الحديثة والجبر وأسماء النجوم ، وحتي نظرية العلم كمسألة تجريبية ، ولم تزدهر أي حضارة علي الأرض كل هذه المدة الطويلة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإسلامية بعلومها المختلفة، التي كان غرسها داخل أوروبا الغربية - كما يقول المؤرخون - وقودا لعصرالنهضة والثورة العلمية، رغم أن التاريخ لم يحتفظ سوي بالقليل جدا في المجال العلمي عن هذا العصر الذهبي، فقليل من الأعمال العلمية الكبرى من ذلك العهد التي تمت ترجمتها من العربية - على كثرتها - لأن هناك الآلاف من المخطوطات لم يقرأها الدارسون المحدثون بعد .

الإسلام والعلم

ويشير الكاتب إلى أن تاريخ الإسلام الفكري ؛ وفقا لرأي الباحثين يناقض التصور الذي تطرحه الأحداث الأخيرة ، فالحقيقة أن الإسلام قد شجع العلم والمعرفة، وينقل آراء بعض العلماء العرب والمسلمين في الجامعات الغربية :

فيقول د. عثمان بكار - الأستاذ بجامعة جورج تاون: إنه ليس هناك صراع بين الإسلام والعلم، ويضيف د. فاروق الباز العالم الجيولوجي بجامعة بوسطن الأمريكية: إن المعرفة جزء من العقيدة، فعندما تعرف أكثر تري دلائل أكثر علي وجود الله.

وينوه "أوفرباي" في مقاله إلي أن العلم وجد خطوة في العصور الإسلامية الوسيطة لعدة أسباب ، من أهمها أن هذا العلم كان ذا مغزى روحي ، حيث كان وسيلة لتأكيد وحدة الخالق التي هي أساس رسالة الإسلام ، مشيرا إلى ما قاله عالم التشريح والفيلسوف ابن رشد في القرن الثالث عشر : (إن أي إنسان يدرس علم التشريح سوف يزداد إيمانا بقدرة ووحدانية الله العظيم ) .

ويلفت إلي سبب آخر هو أن الإسلام واحد من الأديان القليلة في التاريخ الإنساني الذي يعتبر النهج العلمي ضروريا للشعائر الدينية ، كما قال بذلك "ديفيد كنج" المؤرخ العلمي بجامعة "جوته" بمدينة فرانكفورت الألمانية في كتابه "الفلك في خدمة الإسلام" الصادر عام 1993، موضحا أن أعظم العقول الفلكية في العالم الإسلامي حملت علي عاتقها مهمة إصدار جداول أو رسوم بيانية يمكن عن طريقها تحديد مكان قبلة الصلاة ، ويضيف "كنج" إن جهود علماء المسلمين ارتفعت إلى أعلي مستوى من الدقة ، وكانت لديهم معرفة بالنجوم استخدموها في الملاحة في الصحراء، وبدءا من القرن الثالث عشر قام الأوروبيون وخاصة الإسبان بترجمة الأعمال العربية إلي اللاتينية بأقصى وأسرع ما يستطيعون ، وكانت النتيجة إحياء المعرفة التي تحولت في النهايةإلي الحضارة الغربية .

ويتساء ل"أوفرباي" عن أسباب عدم استمرار العلوم الإسلامية في التقدم ، موضحا استنادا لروايات المؤرخين أن ذلك يرجع غالبا إلي الحروب الصليبية من الغرب ، وحروب المغول من الشرق ضد العالم الإسلامي ، وغزو المسيحيين لأسبانيا بمكتباتها الرائعة الضخمة في قرطبة الزاخرة بالعلوم العربية، مما أدى إلى تآكل تدريجي في دعائم العلم الإسلامي.

===================

رئيسة HP لولا الإسلام لما تطورت تقنية المعلومات

(الشبكة الإسلامية) ميدل ايست اونلاين

أبرز سيدة أعمال في العالم تشيد بإسهامات الحضارة الإسلامية في تقدم علوم الكمبيوتر من خلال اسهاماتها في علوم الجبر والترميز .

__________

أشادت أبرز سيدة تشغل موقعاً رفيعاً في قطاع المعلوماتية بالحضارة الإسلامية ، وقالت إنّ إسهاماتها كانت سبباً رئيساً في تقدم تقنية المعلومات والكمبيوتر في العصر الحديث.

وقالت كارلي فيورينا كبيرة المسؤولين التنفيذيين بشركة هيولت باكارد التكنولوجية المعروفة في حديث لها بولاية منيسوتا : " تمكنت هذه الحضارة من تأسيس دولة عظمى على امتداد قارة بكاملها، ترامت أطرافها من محيط إلى محيط ، ومن مناطق شمالية إلى مناطق استوائية وصحارى . وضمن سلطانهاكان يعيش مئات الملايين من الناس تباينت معتقداتهم وأصولهم الإثنية "، كما ذكرت .

وأضافت تقول " وكان الحافز لهذه الحضارة أكثر من أي شيء آخر هو الاختراعات . فقد صمم معماريوها المباني التي تحدت قانون الجاذبية. أما رياضيوها فقد ابتدعوا الجبر والحساب ما ساعد العالم على تصميم أجهزة الكمبيوتر واستنباط الترميز .

كما بدأ أطباؤها في تحليل الجسم البشري وعثروا على علاجات جديدة للأمراض . ورصد فلكيوها السموات وأطلقوا الأسماء على الكثير من النجوم ومهدوا الطريق أمام السفر في الفضاء واستكشافه ".

وقالت أبرز سيدة أعمال في العالم " ورغم أننا نجهل في كثير من الأحيان ما ندين به لتلك الحضارة الأخرى (الإسلامية)فان ما وهبته لنا هو جزء لا يستهان به من تراثنا . فصناعة التكنولوجيا لما كانت لتوجد لولا إسهامات الرياضيين العرب وقد تحدى الشعراء الفلاسفة مثل ابن الرومي مفاهيمنا للذات والحقيقة، أما سلاطين مثل سليمان القانوني فقد أسهموا في مفاهيمنا الخاصة بالتسامح والقيادة المدنية "، على حد تعبيرها.

وكانت شركة "هيولت باكارد" قد تأسست في الولايات المتحدة عام 1939 لتغدو فيما بعد من أبرز الشركات العاملة في حقل تقنية المعلومات على مستوى العالم . وتقود كارلي فيورينا المولودة في العام 1954 الشركة منذ يوليو 1999 لتكون بالتالي أبرز امرأة تتمكن من اقتحام المستويات العليا لرجال الأعمال وقطاع المعلوماتية على مستوى العالم بنجاح.

نص الكلمة

لقد كانت هناك في وقت من الأوقات حضارة كانت هي الأعظم في العالم . فقد تمكنت هذه الحضارة من تأسيس دولة عظمى على امتداد قارة بكاملها، ترامت أطرافها من محيط إلى محيط ، ومن مناطق شمالية إلى مناطق استوائية وصحارى .

وضمن سلطانها كان يعيش مئات الملايين من الناس تباينت معتقداتهم وأصولهم الاثنية .

وكان من بين لغاتها لغة أضحت اللغة العالمية لغالبية الكون ، لغة شكلت جسرا بين شعوب مائة قطر . وكانت جيوشها مكونة من قوميات كثيرة ، وأتاحت حمايتها العسكرية لها أن تنعم بقدر من السلم والرخاء اللذين لم تعرفهما قط من قبل . وامتد نطاق تجارة هذه الحضارة من أميركا اللاتينية إلى الصين ، وفي كل مكان بينهما .

وكان الحافز لهذه الحضارة أكثرمن أي شيء آخرهو الاختراعات فقد صمم معماريوها المباني التي تحدت قانون الجاذبية . أما رياضيوها فقد ابتدعوا الجبر والحساب ما ساعد العالم على تصميم أجهزة الكمبيوتر واستنباط التشفير .

كما بدأ أطباؤها في تحليل الجسم البشري وعثروا على علاجات جديدة للأمراض . ورصد فلكيوها السموات وأطلقوا الأسماء على الكثير من النجوم ومهدوا الطريق أمام السفر في الفضاء واستكشافه.

وألف كتابها آلاف الروايات . ووضع شعراؤها أبياتا عن العشق في الوقت الذي كان من سبقهم يخشون التفكير بأمور من هذا القبيل .

وفي الوقت الذي كانت فيه أمم أخرى تخشى الأفكار ، ازدهرت هذه الحضارة على هذه الأفكار وأبقتها حية .

وحين هدد الرقباء بمحو المعرفة النابعة من الحضارات السالفة أبقت هذه الحضارة المعرفة حية ونقلتهاإلى حضارات أخرى .

وفي حين تتشاطر حضارات الغرب المعاصرة الكثير من هذه الخصائص فإن الحضارة التي أتحدث عنها كانت حضارة العالم الإسلامي من عام 800 إلى 1600 بلاطات بغداد ودمشق والقاهرة وشملت الإمبراطورية العثمانية وحكاما متنورين مثل السلطان العثماني سليمان القانوني .

ورغم أننا نجهل في كثير من الأحيان ما ندين به لتلك الحضارة الأخرى ، فان ما وهبته لنا هو جزء لا يستهان به من تراثنا. فصناعة التكنولوجيا لما كانت لتوجد لولا إسهامات الرياضيين العرب . وقد تحدى الشعراء - الفلاسفة الصوفيون مثل ابن الرومي -مفاهيمنا للذات والحقيقة، أما سلاطين مثل سليمان القانوني فقد أسهموا في مفاهيمنا الخاصة بالتسامح والقيادة المدنية .

ولعله يمكننا أن نتعلم درسا من مثاله . فقد كانت القيادة الإسلامية تقوم على مبدأ الجدارة ، وليس الوراثة . وكانت زعامة سخرت قدرات شعبهاالبالغ التنوع الذي ضم التقاليد المسيحية والإسلامية واليهودية .

وهذا النوع من الزعامة المتنورة زعامة غذت الثقافة والقدرة على الاستمرار والتنوع والشجاعة ، هذه الزعامة قادت إلى 800 عام من الاختراعات والرخاء .

وفي حقب مظلمة وخطيرة مثل هذه علينا أن نؤكد التزامنا ببناء مجتمعات ومؤسسات تتطلع إلى هذا النوع من العظمة . وعلينا أكثر من أي وقت آخر في الماضي أن نركز على أهمية القيادة ، بل على الأفعال القيادية الجريئة، وتحديدا على الأعمال الشخصية القيادية

==============

العولمة وصراع الحضارات

الشبكة الإسلامية) أ. د. جعفر شيخ إدريس - رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

{أُذِنَ للّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإنَّ الله على نَصرِهِم لقَدِيرٌ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 39،40].

الصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات. فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم.

على هذا تدل الآية الكريمة التي تشير إلى اعتداء أناس من قبيلة ، هي أشرف قبائل العرب ، على أناس آخرين من هذه القبيلة نفسها؛ لأنهم خالفوهم في معتقدهم. وهذا هو الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. ويلاحظون أن كبرى الحضارات كانت إلى حد كبير مرتكزة على أديان.

فما الحضارة؟ وما الثقافة؟ وما العولمة؟ وما علاقة الصراع بين الحضارات بها؟

الحضارة والثقافة والعولمة

كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة ـ وإن كانت عربية ـ إلا أنها جعلت في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها. فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما هي عند أهلها.

وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م في مجلة Foreign Affairs بهذا العنوان، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه.

ينقل هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية أو الحضارة civilization ، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة culture؛ فما الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟

يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:

يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى.

لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضــارات مختلفة، كمـا أن الحضـــارة الواحـــدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال.

والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري.

أما العولمة فيمكن أن نقول إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم.

النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة.

هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.

المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات السنين.

فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟

يذكر بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.

ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟ إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه ـ بحسب قيمهم ـ في مصلحتهم المادية أو الروحية. هذا إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها. هذان إذن عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع العلاقات أو التأثير.

دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.

كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها ـ كما نقل الغزاة قبلهم ـ دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم لغتهم.

أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى منهم تفقد هويتها الثقافية ـ لغة ومظهراً وديناً ـ وتذوب في المجتمعات الغربية. لكن أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت ـ مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو دراسية ـ سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.

أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام. ولذلك كان دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة. لكن دخول غير الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.

أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً. فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق الحضارات الأخرى لما تمتاز به من عقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية. يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو هيجل وينقل عنه قوله: «إن الروح الألمانية هي روح العالم الجديد». ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة لأحد سواها. ويقول ـ أعني الكاتب ـ: إن هذه القضية ـ يعني قضية هيجل ـ لم تفرض نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف العالم(1). ويقول أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية: «إنه لأمر عجيب وإنها لحركة في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية والإسلامية...) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة»، وأحسن من عبر عن الجمع بين الدافعين الاقتصادي والحضاري هو المؤرخ الأسباني الذي سوغ ذهابه وزملاءه لغزو الجزر الهندية بقوله: «خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير».

استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية.

يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:

«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة. لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها؛ فمنذ أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فإن التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن الثامن عشر. فالأمم الأوروبية ـ بما فيها روسيا ـ كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت ـ بدرجات متفاوتة ـ قد سيطرت بالفعل على ما يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد ازدرعوا جماعات مستوطنة تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم».

ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند وأندونيسيا كان سيجد فيها أوروبيين جاؤوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن العشرين أخضـع الشــرق الأوسـط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطـــورية العثمانية قـد قسـمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتــي (Meso american) و (Andean)، وأخضعـت الحضارات الهندية والإسلامية وأخضعت أفريقيا. وتوغل في الصين وجعلت تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمئة عام تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية.

ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.

تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن ـ كما لخصها كاتب أمريكي ـ في أن الأمم الغربية:

- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.

- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.

- وأنها هي الزبون العالمي الأول.

- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.

- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.

- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.

- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.

- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.

- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.

- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.

- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.

- وعلى صناعة الطيران.

- وعلى وسائل الاتصال العالمية.

- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة(1).

العولمة لم تكن ـ كما كان يرجى لها إذن ـ أن تسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.

إلى متى سيستمر هذا التفوق وهذه الهيمنة الغربية؟

يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً ـ على الأقل بهذا القدر الكبير. لماذا؟ هذا موضوع كبير لا يسعنا هنا إلا أن نشير إليه مجرد إشارات، فنقول:

1 - لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية، وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية والتقنية لبلاد غير غربية.

2 - يزداد تقديرنا لأهمية هذا الضعف النسبي للقوة المادية للدول الغربية إذا ما تذكرنا ما يقوله كثير من مفكريها بأن السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا فكراً ولا ديناً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبدا.

بيد أننا يمكن أن نستدرك على هنتنجتون ومن يرى رأيه بأن الغرب وإن لم يكن في نفس الأمر متفوقاً في تلك المجالات إلا أن أهله كانوا يعتقدون فيه هذا التفوق، وأن هذا الاعتقاد الباطل كان دافعهم، مع الدوافع الاقتصادية للخروج لغزو العالم كما ذكرنا سابقاً.

3 - أما الآن فإن هذا الضعف النسبي في القوة المادية للغرب يصحبه وربما سبقه فتور في الدافع الرسالي؛ فحماس الغربيين لدينهم المسيحي في بداية قرنهم الواحد والعشرين لم يعد كما كان في القرن الثامن عشر، ولم يطرأ هذا الفتور في الحماس الديني بسبب التأثر بالحضارات الأخرى في المكان الأول، وإنما كان في أساسه:

- بسبب دراساتهم العلمية لأصول دينهم التاريخية، تلك الدراسات التي شككت في الثبوت التاريخي لكثير من نصوصه، والتي أثبتت أن في هذه النصوص تناقضاً ومخالفة لبعض الحقائق العلمية نشأ عنه انقسامهم إلى أصوليين ـ أكثرهم من العوام ـ يؤمنون بحرفية ما في كتابهم المقدس، وليبراليين يعتقدون أنه ما كل ما فيه من عند الله، وأنه تأثر بالظروف الثقافية للزمن الذي كتب فيه.

- ثم كان التطور في مجال العلوم الطبيعية سبباً آخر؛ لأن منهج هذه العلوم يقوم على عقلانية لا وجود لها في دينهم.

- ثم زاد من ضعف الإقبال على الدين أو الاهتمام به النظام السياسي العلماني الذي يفصله عن الدولة، بل وعن الحياة العامة كلها.

4 - كان كثير من المفكرين الغربيين يأملون في أن يحل العلم الطبيعي محل الدين، وينجح في حل مشاكل البشرية التي عجز الدين عن حلها. لكن تجربة الحربين العالميتين العظميين، واعتمادهما على التقنية الحربية التي وفرها العلم الطبيعي أضعفت من هذا الأمل. ثم كانت كارثة هيروشيما فاقتنع كثير من المفكرين والعوام الغربيين بأن العلم الطبيعي إنما هو سلاح يعتمد حسن استعماله أو سوؤه على قيم لا تؤخذ منه هو، فلا بد أن يكون لها مصدر آخر.

5 - والشيوعية ـ التي هي نتاج غربي ـ والتي تعلق بأوهامها الآلاف المؤلفة من الناس في الشرق والغرب، باءت هي الأخرى بإخفاق ذريع.

6 - لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصحبها من مشكلات اجتماعية.

7 - الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي أزعج ذلك الشعب وأثار تشاؤمه حين كتب يقول كما نقل عنه مؤلف إنجليزي: «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة التهديد القادم من الشرق ـ من آسيا ومن الإسلام»(1).

ولعلنا نستطيع أن نقول إنه حتى لو لم يطرأ هذا الفتور في حماس الغربيين لدينهم ولرسالتهم، فإنه ما كان لحضارتهم أن تصير حضارة عالمية إذا ما فقدت القوة المادية؛ لأنها لا تملك في نفسها مقومات العالمية. لكن هذا موضوع آخر لا يسعنا الدخول في تفاصيله الآن، غير أن كثيراً من هذا القصور سيتضح إذا ما أظهرنا بعض مقومات عالمية الإسلام؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. إلى هذا نتجه الآن وبه نختم مقالنا هذا.

ما الذي يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون حضارة عالمية؟

أرى أننا ينبغي أن نميز أولاً بين الإسلام والحضارة الإسلامية؛ لأنه إذا كانت الحضارة هي في جوهرها المعتقدات والقيم والتصورات المتمثلة فعلاً ـ أو قل إلى حد كبير ـ في واقع أمة من الأمم، فما كل ما جاء به الدين المنزل من عند الله متمثلاً في الأمة التي تعلن إيمانها به. فالدين دينان: دين منزل من عند الله لا يتغير ولا يتبدل {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} [الحجر: 9] ودين متمثل في واقع الناس يقترب من الدين المنزل أو يبتعد عنه، ولا يطابقه إلا في الرسول الذي جاء به، والذي صدق عليه قول زوجه أم المؤمنين: «كان خلقه القرآن»(1)، أما غيره فمنهم من يقرب منه قرباً شديداً، ومنهم من يبتعد عنه بعداً كبيراً وإن كان منتسباً إليه. فالحضارة الإسلامية المتمثلة في واقع المسلمين تتأهل للعالمية بقدر قربها من الدين المنزل الذي تنتسب به. فما مقومات العالمية في هذا الدين؟ إنها مقومات كثيرة وعظيمة، لكننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعضها:

1 - أنه بينما كان الرسل من أمثال موسى وعيسى ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ يرسلون إلى أقوامهم خاصة فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، أرسل رحمة للعالمين، وجعله الله خاتماً للنبيين. فحتى لو كان اليهود والنصارى المنتسبون إلى هذين الرسولين مستمسكين بدينهم الحق، لما جاز لهم أن يجعلوا منهما دينين عالميين بعد نزول الدين الخاتم؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما أرسل هذين الرسولين إلى قومهما خاصة وإلى فترة محدودة. فالمسلم المستمسك بدينه العارف بهذه الحقيقة يستبشر بالتطور الذي حدث في وسائل الاتصال والانتقال الذي جعل من العالم قرية واحدة كما يقولون. يستبشر به؛ لأنه يرى فيه تصديقاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان يمكن أن يعلم أن العالم سيتقارب هذا التقارب فلا يحتاج إلا إلى رسول واحد.

2 - أن إمكانية تقريب المسافات أمر حاضر في حس المؤمن الذي يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ} [الإسراء: 1]، وحين يذكر كيف أن المكذبين به صلى الله عليه وسلم ضاقت أعطانهم عن أن يروا إمكان ذلك، وحسبوا أن الممكن محصور في المألوف. ويقرأ المؤمن في كتاب ربه أن رجلاً عنده علم من الكتاب استطاع أن ينقل عرشاً بأكمله في أقل من طرفة عين من اليمن إلى الشام، ثم يقرأ في كتاب ربه ما هو أعجب من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى السماء السابعة ورجع في ليلة واحدة؛ وهي مسافة لو قطعها مخلوق بسرعة الضوء لاستغرقت منه البلايين من السنين الضوئية. ويصدق المسلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».

3 - أن هذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فهو يخاطبهم بوصفهم بشراً وضع الله في قلوبهم أساسه؛ فهو ليس بالأمر الغريب عليهم. وما أكثر الذين شعروا بهذا حين أسلموا وفاضت أعينهم مما عرفوا من الحق.

4 - ومما يزيد المسلم اقتناعاً بعالمية دينه أنه أثبت في الواقع أنه ليس بالدين الذي تحده ظروف جغرافية أو مناخية، أو زمانية أو ثقافية؛ فقد اعتنق هذا الدين أناس بينهم كل أنواع تلك الاختلافات، فلم يجدوا في شيء منها ما يحول بينهم وبين الإيمان به أو وجدانهم شيئاً غريباً عليهم. فالمسلمون في كل بقاع الأرض الآن أقرب إلى دينهم من النصارى أو اليهود لدينهم. فما زال المسلمون رغم كل تلك الظروف المختلفة يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويقرؤون الكتاب المنزل على رسولهم من غير تحريف ولا تبديل.

5 - وإذا كان تطور العلوم الطبيعية يقف الآن حجر عثرة في طريق بعض الأديان الباطلة، فإنه يقف شاهداً على صدق هذا الدين؛ لأنه لا يجد فيه ما يخالف شيئاً من حقائقه، بل يجد فيه تقريراً لبعض تلك الحقائق قبل أن يتمكن الإنسان من اكتشافها بوسائله البشرية. ولا يجد فيه مخالفة لمنهجه العقلاني التجريبي؛ إذ يجده ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا ينكر ما يشهد به الحس. فإذا ما شعر الناس بأهمية الدين ـ كما يشعر بذلك كثير منهم الآن ـ وإذا ما صدهم عما عرفوه من أديان تناقضها المنطقي، أو مخالفتها للواقع المحسوس فسيجد ديناً فيه كل ما يريد من هدى واستقامة وراحة نفسية، وهو خال من تلك النقائص. فسيكون العلم الطبيعي بإذن الله ـ تعالى ـ سبباً من أسباب دخول الناس في هذا الدين على المستوى العالمي.

6 - والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً تلك الهيمنة التي ذكرناها سابقاً إلا أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف مصالحها ويثور التنافس والتحاسد بينها، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى من سيطرتها.

إذا كانت تلك هي بعض المقومات التي تؤهل الإسلام ليكون دين القرية العالمية، ومركز حضارتها، فإن في واقع الأمة المنتمية إليه الآن ما يعرقل سيرها بدينها نحو تلك العالمية:

1 - أول تلك العوائق هو كون الحضارة الغربية قد نجحت في جعل بعض المنتسبين إليه عملاء لها في داخل الأوطان الإسلامية، ومكنت لهم فيها؛ فهم الذين قسموا الأمة وجعلوها متنازعة، وشغلوها بصراعات داخلية سياسية واجتماعية، فحالوا بذلك بينها وبين أن تسعى متكاتفة إلى الأخذ بأسباب التقدم المادي من علم طبيعي وتقنية وإنتاج؛ لأن وحدة الأمة ـ وإن كانت كافرة ـ شرط في هذا كما تشهد بذلك تجارب اليابان والأمم الغربية.

2 - وثانيها أن هذا النزاع كان وما يزال السبب في فقدان القدر اللازم من الحرية التي هي أيضاً شرط لذلك التقدم. لكن الغربيين الذين كانوا سبباً في فقدانها يعزون هذا الفقدان الآن إلى طبيعة العرب أو طبيعة الإسلام! وقديماً قال العربي: «رمتني بدائها وانسلَّت».

3 - وثالثها أن كثرة كاثرة من المنتمين إلى الإسلام قد حادوا عن جوهره التوحيدي، ففقدوا بذلك الشرط الذي علق الله ـ تعالى ـ نصره لهم عليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وعّدّ اللَّهٍ الذٌينّ آمّنٍوا مٌنكٍمً وعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ لّيّسًتّخًلٌفّنَّهٍمً فٌي الأّرًضٌ كّمّا اسًتّخًلّفّ الذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً ولّيٍمّكٌَنّنَّ لّهٍمً دٌينّهٍمٍ الذٌي ارًتّضّى لّهٍمً ولّيٍبّدٌَلّنَّهٍم مٌَنً بّعًدٌ خّوًفٌهٌمً أّمًنْا يّعًبٍدٍونّنٌي لا يٍشًرٌكٍونّ بٌي شّيًئْا ومّن كّفّرّ بّعًدّ ذّلٌكّ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الفّاسٌقٍونّ} [النور: 55].

4 - ورابعها أن الغرب يبالغ في خوفه من الإسلام، ويزيد في هذا التخويف أناس يبالغون في خطر البعث الإسلامي الجديد متخذين من هذا التخويف وسيلة لتحقيق مآرب لهم لا تمت إلى مصلحة الغرب في شيء؛ وأكثر من يعينهم على هذا ويعطيهم أدلة يفرحون بها أناس لا عقل لهم ينتمون إلى حركة البعث هذه يكثرون من التهديد والوعيد للغرب من غير أن تكون لهم مقدرة على تحقيق أدنى شيء منه. وبسبب هذا الخوف المَرَضي من الإسلام ييالغ الغرب في ضغطه على الدول الإسلامية والتدخل في شؤونها ليقضي على كل بادرة نهضة إسلامية تطل برأسها فيها، {واللَّهٍ غّالٌبِ عّلّى أّمًرٌهٌ ولّكٌنَّ أّكًثّرّ النَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} [يوسف: 21] .

5 - مع كل هذا الخطر الغربي فإن بعض الدعاة عندنا يتصرفون وكأنه لا وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته، ولا يفكرون في الرد على أفكاره، وكأنهم لم يسمعوا بمثل ما قال عالم الجزيرة الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب الجهاد». وصار هؤلاء الدعاة ـ بسبب هذه الغفلة ـ مشغولين بمحاربة أناس هم معهم في صف البعث الإسلامي. إن نقد الخطأ ـ ولا سيما ما كان في مسائل العقيدة ـ أمر واجب وعمل عظيم؛ لكن نقد أخطاء المسلمين شيء، وجعلها الشغل الشاغل عن الخطر الداهم شيء آخر.

===============

السياسة الاقتصادية جزء من الرؤية الإسلامية الشاملة

(الشبكة الإسلامية) مراسلة القاهرة

رغم فشل التطبيقات الاقتصادية الوضعية

الاقتصاد الإسلامي ما يزال نظرية

- خبراء الاقتصاد يؤكدون في ندوة بالقاهرة:السياسة الاقتصادية جزء من الرؤية الإسلامية الشاملة

- وصلاحيتها التطبيقية ممتدة

- النظرية الاقتصادية الإسلامية ليست خليطا بين فردية الرأسمالية وجماعية الاشتراكية.. إنها نسيج ذو ملامح متفردة

- ضرورة دراسة وتحقيق تراث الاقتصاد الإسلامي وإنشاء موقع لبحوثه ودراساته علي الإنترنت

متابعة: عمرو شنن

مركز الإعلام العربي

يكاد يكون هناك شبه اتفاق بين الاقتصاديين العرب والمسلمين علي أن الخلل الهيكلي الاقتصادي والمالي في كثير من دول العالم الإسلامي مرجعه تنحية النظرية الاقتصادية الإسلامية عن مجال التطبيق الواقعي وإخضاع البنية الاقتصادية في هذه الدول لسياسات ونظريات بينها وبين الرؤية الإسلامية فجوة واسعة ؛ بل إن بعض هذه السياسات ثبت فشلها في الدول التي أخذت بها من قبل ونظرا لأن تحويل منهجية الاقتصاد الإسلامي إلى مؤسسات واقعية أمر لا يحكمه الحماس أو حسن النية وحدهما ، بل تتشابك بشأنه السياسة والمصالح والعلاقات الدولية وغيرها فإن تقويم تجارب التطبيق الرأسمالي والاشتراكي في مجال الاقتصاد خطوة أساس لإظهار مدي حاجة العالم كله – لا الإسلامي فحسب – إلى تأصيل نظريات أخرى خالية من مساوئ هاتين النظريتين . وهو ما بدأ بعض الاقتصاديين العرب يعبرون عنه بمقولة تعكس يقينهم بالفشل الذريع للتطبيق الاقتصادي غير الإسلامي من ناحية ، وتضع الرؤى الإسلامية في مجال الاقتصاد موضع من يتسول مكانه علي خريطة العالم ، إذ يقولون: أخضعوا البرنامج الاقتصادي الإسلامي للتطبيق وأعطوه فرصة متساوية مع الرأسمالي والاشتراكي وانتظروا النتائج.

شوري وكلمة حق

من هذا المنطلق كانت ( منهجية الاقتصاد الإسلامي ) موضوع ندوة عقدت

مؤخرا بجامعة عين شمس وتحدث فيها نخبة من أساتذة الاقتصاد وخبرائه ، وظهر فيها إجماع على أن النظام الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الرؤية الإسلامية الشاملة غير المنفصلة عن المجتمع ، وأن الاقتصاد الذي انبثق من العقيدة وتكيف وجوده بالشريعة يجب أن يظل خاضعا في نموه وتجدده للأصل الذي ينبثق منه والشريعة التي كيفت وجوده.

فقد أشار الدكتور السيد عطية عبد الواحد - أستاذ الاقتصاد المساعد بحقوق عين شمس - إلي ضرورة أن يتأسس السلوك والمنهج الاقتصادي على تقوى الله ومخافته لدى الفرد والجماعة ، وكذلك تنمية الشعور بالخوف من الله لدي القائمين على تنفيذ السياسة الاقتصادية ، وأن يكون القرار الاقتصادي داخل المجتمع المسلم مسؤولية جميع أفراد هذا المجتمع .

كما يجب على ولي الأمر أن يطبق مبدأ الشورى . وعلى جماعة المسلمين - وخاصة العلماء - أن يقولوا كلمة الحق مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة . قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وأضاف أن النظام الرأسمالي هو نظام خادم أمين للأغنياء ، ولكنه متفرج أصم عن مصالح لفقراء ، ولذلك فقد فشل هذا النظام ؛ لأنه يؤدي إلى سوء استخدام الموارد الإنتاجية والخلل في توزيع الدخول ثم التطور غير المتوازن للقطاعات غير الاقتصادية.

وقال: إن النظام الاشتراكي يعتمد على نظام التخطيط الاقتصادي كأسلوب لإدارة الاقتصاد القومي ، وهذا النظام يواجه مشاكل خطيرة تتمثل في أن السلطات التي تقوم بالتخطيط لا تملك المعلومات الكافية التي تتعلق بتكاليف الفرص البديلة لقراراتها ، مما يخلق مشكلة حقيقية في تجميع المعلومات أمام جهاز التخطيط موضحا أن هذا النظام أرسى قواعد البيروقراطية الخانقة وأدى إلى سيطرة الحزب الواحد وانتهى في الواقع إلى ديكتاتورية طاغية.

ومن خلال هذه الرؤية النقدية أكد الدكتور محمد شوقي الفنجري - أستاذ الاقتصاد ووكيل مجلس الدولة الأسبق - أن محاولة إلحاق الاقتصاد الإسلامي بأحد النظامين الرأسمالي أو الاشتراكي أو تصوير السياسة الاقتصادية في الإسلام على أنها مزيج مركب وسط بين الفردية (الرأسمالية) والجماعية (الاشتراكية) تأخذ من كل منهما جانبا مفهوم خاطئ , موضحا أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد متميز له ملامح منفردة تقوم علي مفاهيم مختلفة عن تلك التي تقوم عليها الرأسمالية أو الاشتراكية.

المصالح.. بحسب الأهمية

السياسة الاقتصادية في الإسلام لا تقف عند المصالح المادية ، ولكنها تمزج بينها وبين الحاجات الروحية ، وتقوم على استشعار مراقبة الله تعالي والمسؤولية أمامه الأمر الذي يميز الاقتصاد بطابع إيماني وروحي مصدره ابتغاء وجه الله تعالى في مباشرة النشاط الاقتصادي .

كما أن المادة ليست مطلوبة لذاتها في النشاط الاقتصادي الإسلامي ، وإنما الغاية هي فلاح الإنسان وإعمار الدنيا وتحقيق التعاون والتكامل بين مختلف شعوب ودول العالم لا الصراع والاقتتال.

وأضاف أن السياسة الاقتصادية في الإسلام تقوم على أساس الموازنة والملاءمة والتوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة ، وأن الحل الاقتصادي لأية مشكلة يكون إسلاميا بقدر ما يحقق هذا التوفيق بين المصلحتين الخاصة والعامة ، و أن تحقيق المصالح يختلف باختلاف الزمان والمكان ، وأن تقدم المصالح بحسب أهميتها ، حيث لا يجوز في مجتمع إسلامي أن يسمح أولو الأمر بتشييد القصور والصرف علي الكماليات بينما الحاجات العامة والمرافق الأساسية معطلة ؛ الأمر الذي نهى عنه القرآن الكريم بقوله: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد .

وأشار الدكتور رفعت العوضي - أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر - إلى أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي يحقق التقدم الاقتصادي ويدعمه مما يثبت عدم صدق القول بأنه يؤدي إلي العودة بالحياة الاقتصادية إلى الماضي و إلى تخلفها ، مؤكدا أن للاقتصاد الإسلامي صلاحيته التطبيقية الممتدة في كل زمان ومكان.

إنسانية الاقتصاد

وقد توصلت الندوة إلى عدد من التوصيات المهمة في نهاية المناقشات واستعراض الأفكار المطروحة حول الاقتصاد الإسلامي ، وكان من أهمها ضرورة الاهتمام بدراسة التراث الاقتصادي للمسلمين خاصة كتب الفقه المتخصصة وكتب التاريخ الاقتصادي في الحضارة الإسلامية وضرورة الاهتمام بدراسة النواحي الإنسانية في مجال الاقتصاد مثل : القيم الأخلاقية والمقاصد الشرعية والقواعد الفقهية والسنن الإلهية ، وبلورة المسلمات الإسلامية في مجال الاقتصاد ،

ومنها العناصر الإيمانية والضوابط الأخلاقية والفقهية وإبراز عالمية الاقتصاد الإسلامي وأنه صالح للإنسان في كل زمان ومكان ، وتأصيل التنظير في الاقتصاد الإسلامي وإبراز علاقة التنظير بالواقع.

كما أوصت بتدريس بحوث الاقتصاد الإسلامي في كليات وأقسام الاقتصاد بجامعات العالم الإسلامي وإنشاء قاعدة بيانات ومعلومات علي الإنترنت واقتراح تكوين جمعية في مصر ذات طابع دولي للمتخصصين في الاقتصاد الإسلامي <B

================

عالمية الأدب الإسلامي

(الشبكة الإسلامية) د.عبد الباسط بدر - (عن مجلة الأدب الإسلامي بالاتفاق معها )

العالمية ، كلمة لها بريق خاص في الأدب والنقد ، فهي صفة يتباهى بها - حتى الغُرور - الأديب الذي يوصف إبداعه بها . وحلم تسعى إليه أمم عدة ، لأنها في أبسط دلالاتها شهادة للإبداع الأدبي بنوع من التميز والتفوق ، واستيعاب التجربة الإنسانية العامة ، التي تتجاوز الحدود الجغرافية ، وربما تتجاوز الزمان أيضًا إلى كل زمان ومكان ، فالنص الذي ينجح في مخاطبة وجدانات بشرية متعددة المشارب ، ومتعددة البيئات والظروف ، ويؤثر فيها ، هو نص يستبطن التجربة الإنسانية المشتركة بين هذا القدر الهائل من الناس ، ويقف على شاطئ الحقيقة (الوجدانية) المطلقة ، ولأنها - العالمية - أيضًا الطريق إلى مكاسب معنوية - وربما مادية - هائلة .

لذا تجتهد بعض الأمم في تحقيق أكبر قدر ممكن من العالمية ، وتبذل في سبيل ذلك جهودًا ضخمة ، فتقوم بترجمة غُرر أعمالها الأدبية إلى لغات الشعوب الأخرى ، وتعقد الندوات والمؤتمرات ، وترعى الكراسي الجامعية التي تدرّسها في الآفاق ، وتنفق عليها ، وتهتم اهتمامًا فائقًا بالأدباء من غير أبنائها ، الذين يكتبون أعمالاً أدبية بلغتها ، وتغمرهم بالجوائز السخية ، وأقرب الأمثلة إلينا فرنسا ، التي تسعى عبر (الفرانكفونية) لتمد ظلالها الأدبية إلى الجهات الأربع ، فتنشئ - أو تعزز - روابط نفسية بين أكبر قدر ممكن من الشعوب ، تتمحور حول المبادئ والقيم التي تتبناها ، وتحقق لها - من ثم - مكاسب سياسية واقتصادية لا تحصى .

وهكذا تصبح عالمية الأدب - على المستويين الفردي والأممي - هدفـًا ترتبط به أهداف أخرى ، ومكسبًا تتحقق من ورائه مكاسب كثيرة .

عن طريق الترجمة

وتتحقق العالمية للأدب عندما ينتقل - بطريق الترجمة غالبًا ، وبلغته الأم أحيانًا - من المجتمع الذي أبدع فيه إلى مجتمعات أخرى ، وينتشر فيها متجاوزًا الحدود الجغرافية والسياسية واللغوية ، فمثلاً يمكن أن نقول عن أدب شكسبير إنه بلغ مرتبة العالمية ؛ لأنه تُرجم إلى معظم لغات العالم ، وقرأته شعوب كثيرة بلغاتها المحلية - فضلاً عن الأفراد المتميزين في تلك الشعوب الذين قرؤوه بلغته الأم - فالعالمية هنا هي عالمية الشيوع والانتشار ، وتكون بعد مرحلة الشيوع المحلي عادة ، وتتدخل فيها عوامل خارجية كثيرة ، منها الظروف السياسية والحضارية للأمة ، والجهود التي تبذلها في نقل آدابها إلى الآخرين ، وقد استطاعت كل من إنجلترا وفرنسا أن تنشر آدابها في المجتمعات التي سيطرت عليها في القرن الميلادي الماضي وشطر من القرن الحالي ، كما استطاعت أمريكا أن تنشر قدرًا من آدابها بفضل الجهود والترجمات المكثفة التي تقوم بها ، أو ترعاها ، مؤسساتها الثقافية المختلفة ، فلا يكون تميز التجربة الإنسانية وتفوقها السبب الوحيد في عالميتها ، وقد يكون مستواها الفني دون المستوى الفني بكثير لأعمال في المجتمعات المستقبِلة ، ولكن هذه لم تتهيأ لها وسائل التوصيل والترويج .

بين الانتشار والجودة

وثمة نوع آخر من العالمية لا يقتصر على عالمية الانتشار ، بل يتجاوزها إلى عالمية الإبداع أيضًا ، فتجد التجربة الإنسانية بملامحها الرئيسية تتكرر في مجتمعات مختلفة اللغات والظروف ، وتجد النصوص الأدبية تجتمع على موضوعات ومضامين ، وعلى ألوان من الاستقاء والتأثر ، وعلى صياغات متقاربة - إن لم تكن متماثلة - للصورة الفنية ، فتصبح الأعمال الأدبية التي تتصف بهذه الصفات فصولاً متنوعة في كتاب كبير واحد .

وتبنى من مجموعة العناصر المتماثلة كيانًا أدبيًا عالميًا ، يحس به ويتذوقه المتذوقون في كل مكان يصل إليه ، فيحسون أنه يخاطب وجداناتهم ويؤثر فيها ، وكأنه صدر عنها أو أنشئ فيها . وهذا اللون من العالمية - في يقيني أقوى وأعمق من عالمية الانتشار وحدها ، وهو اللون الذي يتميز به الأدب الإسلامي .

العوامل المؤدية

فعالمية الأدب الإسلامي تبدأ من مرحلة الإبداع وتزدهر فيها ، وتخضع في مرحلة الشيوع لعوامل سياسية وثقافية تجعلها بين مد وجزر .

ذلك أن الأدب الإسلامي ينتجه كل مجتمع مسلم ، أيًا كانت لغته وجغرافيته ، وأحواله السياسية … ينتجه أدباء مبدعون في تلك المجتمعات ، امتلأت وجداناتهم بوهج الإيمان ، واستوت نظراتهم للحياة من خلال رؤى الإسلام ، وتفاعلوا مع الأحداث التي واجهوها في مجتمعاتهم بتلك الرؤى ، وأبدعوا أعمالاً أدبية بلغاتهم المحلية ، وبرؤىً إسلامية تتغلغل في موضوعاتها ، أو مضمونها - وفي عدد من أدواتها الأسلوبية - إسلامية كاملة ، لا يمنعها انتقالها من لغتها الأم إلى لغات أخرى من أن تؤثر في القارئ المسلم أيًا كانت بلده ولغته ، وأن تهز وجدانه ، فيحس بها وكأنها ولدت لتخاطبه ، وأن الانفعالات التي تحملها جزء من الانفعالات التي يتلجلج بها صدره ، وأنها جسر متين بينه وبين الأديب الذي أبدعها ، وأنها - من ثم - لبنة في بناء عالمي كبير ، تتجاور في لبنات أخرى من هذا المجتمع وذاك ، في تناسق وتناغم كاملين .

فالأديب المسلم التركي أو الفارسي أو الهندي أو الأندونيسي.. إلخ ، عندما يكون مؤمنًا ملتزمًا بإسلامه عقيدة وفكرًا ومنهج حياة ، يتعامل مع أحداث مجتمعه من خلال إسلامه ، وتتجه عواطفه وفق المؤشرات الإيمانية ، وتحمل تجربته الأدبية انفعالاته الإيمانية بتلك الأحداث ، وتصوغها في عمل أدبي إسلامي ، يتذوقه ويتأثر به كل متذوق مسلم يطلع عليه ويفهمه ، وهذه حقيقة واقعة في آداب الشعوب الإسلامية غير العربية كلها . ففي كل أدب من تلك الآداب أعمال أدبية ذات صبغة إسلامية واضحة ، أبدعها أدباء مسلمون ملتزمون بإسلامهم يتفاعلون مع الأحداث من زاوية إيمانية ، وإذا انتقلت هذه الأعمال إلينا بالترجمة - أو بلغتها الأم إذا كنا نعـرف تلك اللغة - أحسسنا بأن التجارب التي تحملها جزء من تجاربنا ، والانفعالات التي تموج بها تلامس أعماق قلوبنا ، والقضايا التي تعرضها هي بعض اهتماماتنا .

وأقرب الأمثلة لدينا الآداب الفارسية والتركية والأردية… التي تشكلت بعد انتشار الإسلام في أرضها شكلاً جديدًا تأثرت فيه بالإسلام ، بل وتأثرت حتى بالتراث العربي الذي اطلع عليه بعض الأدباء والمثقفين فيها .

وسنعرض نماذج من آداب الشعوب الإسلامية المختلفة في آسيا وأوربا وإفريقيا تمثل كمًا هائلاً من النصوص يكمن في تلك الآداب ، وننظر في مدى قابليتها لتكون لبنة في بناء الأدب الإسلامي العالمي ، الذي يخاطب وجدان المسلم أيًا كان زمنه ومكانه ولغته . ونبدأ بالأدب الفارسي :

الأدب الإسلامي في اللغة الفارسية

من المعلوم أن الأدب الفارسي بدأ مرحلة جديدة تمامًا بعد انتشار الإسلام في إيران ، ذلك أن لغة الأدب قبل الفتح الإسلامي كانت (الفهلوية) ، فحلت محلها منذ منتصف القرن الثالث الهجري اللغة (الدريّة) التي نهضت في رعاية من كانوا ذوي لسانين عربي وفارسي ، وفي ظل الإمارات الفارسية التي قامت في العصر العباسي : إمارات الطاهريين والصفويّين والسامانيين ثم الغزنويين ومن وليهم ، وترك الإيرانيون خطوطهم القديمة التي كانوا يستخدمونها في كتابة لغاتهم - وغالبًا ما كانوا يستعيرونها من الآشورية والآرامية - فاستبدلوا بها الخط العربي لأنه أيسر كتابة وأكثـر وضوحًا .

وقد تأثر الشعر الفارسي بالشعر العربي من جهة ، وبالقيم الإسلامية من جهة أخرى تأثرًا كبيرًا ، في جميع مناحيه الشكلية والمضمونية ، تأثر به في عَروضه وفي صوره البيانية وفي معانيه ، واستمد عدد من الشعراء موضوعاتهم من القصص القرآنية وصنعوا منها قصصًا شعرية مختلفة ، وجنح بعضهم إلى صوفية مغرقة بينما ظلت قصائد المديح والحكمة والوعظ أقل جنوحًا وتطرفًا ، وظهرت المعاني الإسلامية في معظم ذلك الشعر ، وراجت ملاحم شعرية تاريخية ، منها (ما اتخذ مادته من الدين الإسلامي مثل "ظفر نامة" لحمد لله مستوفي القزويني ، وموضوعها تاريخ إيران منذ ظهور الإسلام حتى عند المؤلف المتوفي عام 750هـ) .

وظهرت قصص رمزية فلسفية مادتها إسلامية ، مثل : منطق الطير لفريد الدين عطار ، وقصة يوسف وزليخا لعبد الرحمن الجامي ، وبعيدًا عن الشطحات الصوفية والخيالات المتطرفة تبقى في الشعر الفارسي والأدب الفارسي القديم بعامة روح إسلامية ، وتظهر في قصائد يصح أن نعدها من الأدب الإسلامي الخالص .

ونتجزأ من هذا التراث الضخم بقصيدة للشاعر سعدي شيرازي ، قالها في رثاء بغداد بعد أن اجتاحها التتار عام 656هـ . ومطلع القصيدة - كما ترجمها الدكتور محمد غنيمي هلال - :

حق للسماء أن تمطر الأرض دمًا

على زوال الملك المستعصم أمير المؤمنين

ويقول في القصيدة :

ارفع عينيك أنت يا من رأى شوكة البيت المنيع

حيث قياصرة الروم رؤوسهم على التراب

وخاقان الصين طريح الثرى أريقت دماء أولاد عم المصطفى

على تلك الأرض ، حيث كان السلاطين يضعون الجبين

بعد هذا لا ينبغي أن تؤمل الراحة في الدنيا

يبقى القار في الخاتم حينما ينفصل منه الفص

ماء دجلة دم منذ الآن ، كلما انسابت في منحدره

جعل من نخيل البطحاء عجينًا من الدم

عبس وجه البحر من هذا الحدث الأليم

وآية ذلك ما على وجهه من قطوب الموج

على أن وجه الإسلام وطريق الرحمة داعيهما

أن يحترق قلب المحبين على فراق الأعزاء

لا يليق النواح على دم الشهداء

فأقل سعادة لهم هو الخلد في عليّين

فانتظر حتى الغد ، حيث يوم العدل والقيامة

ولا يقتصر الأدب الإسلامي الفارسي على الأدباء الذين عاشوا في إيران ، بل يتعدى إيران إلى البلاد المجاورة التي اتخذت اللغة الفارسية لغة لها كبعض الولايات في الهند وأفغانستان والباكستان وأوزبكستان .

وقد ظهر في تلك البلاد أدباء أبدعوا أعمالاً أدبية إسلامية باللغة الفارسية ، إضافة إلى الأعمال الأدبية التي أبدعوها بلغاتهم المحلية ، ومن هؤلاء الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال الذي كتب عدة دواوين بالفارسية ، منها .. أرمغان حجاز ، أسرار خودي ، رموز بي خودي .

الأدب الإسلامي في اللغة التركية

يمثل الأدب الإسلامي في تركيا نموذجًا عاليًا لإرتباط أدب الشعوب الإسلامية غير العربية بالإسلام ، فهو الجذر الأول للأدب التركي بعامة ، وهو الذي تفرّد بساحته الأدبية لعدة قرون ثم تحول إلى تيار مواز لتيارات أدبية قومية واشتراكية ، وواجه أقسى ظروف التحول وصمد في وجه العلمانية حتى تجاوز ظروف المحنة ، ووصل إلى وقتنا المعاصر ، حيث استطاع أن يستعيد قدرًا وافرًا من وجوده وانتشاره .

ويذكر مؤرخو الأدب التركي ، أن الأتراك كانوا قبل إسلامهم قبائل تعيش حياة رعوية في الغالب ، فلما دخلوا في الإسلام استقروا في مناطق الأناضول وأقاموا إمارات إسلامية ازدهرت في عهد السلاجقة ، حيث بدأت لغتهم تنتقل من مرحلة المشافهة إلى مرحلة التدوين ، وبدأ الأدب التركي يتشكل وينتشر .

ويقرر بعضهم أن الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي ارتحل في القرن الثامن الهجري إلى قونية - وكانت عاصمة سلاجقة الروم - وأراد أن يخاطب العوام بشعره وكانوا يجهلون اللغة الفارسية - لغة مثقفي ذلك العهد - ولا يعرفون سوى التركية ، فاضطر أن ينظم شعرًا بالتركية يدعوهم إلى الزهد والتصوف.. فنشأ الأدب التركي أدبًا تعليميًا دينيًا ، وجاء بعده في القرن التاسع الهجري شعراء آخرون عمقّوا هذا الاتجاه مثل يوسف إمره ، وعاشق باشا ، وسليمان جلبي ، وهذا الأخير بلغ شعره منزلة عالية بين الأتراك ، بفضل قصيدته المطولة في السيرة النبوية ، والتي ما زال الأتراك حتى اليوم ينشدونها في المناسبات الدينية في المساجد والمنازل .

مدائح نبوية تخلو من الصوفية

وقد ظهرت في الشعر التركي أنواع عديدة من الشعر الديني ، منها المدائح النبوية التي شابتها بصمات صوفية ، ومنها "المحمدية" وهي على العكس من المدائح النبوية (تخلو تمامًا من أية نزعة صوفية وربما اختص بها أهل السنة معارضين غلاة الصوفية) ، فهي تبدأ بالتوحيد وبالتنويه بأن الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى في أسمائه الحسنى ، ثم تعرض صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون مبالغات أو تهويلات ، وتتبعها بصفات الخلفاء الراشدين ، ومكارم أخلاقهم.. وربما تعرض بعض قصص الأنبياء .

ومع تطور الأدب في تركيا ، وتعدد فنونه وموضوعاته ، انتشرت الآثار الإسلامية في عدد من فنونه الجديدة وموضوعاته ، فضلاً عن الفنون والموضوعات الدينية المحضة ، فظهرت آثاره في الشعر الديواني ، وهو مزيج من المشاعر الدينية والغزلية العفيفة ، ويعد الشاعر (باقي) رائدًا كبيرًا من رواده ، كما ظهرت الآثار الإسلامية في النثر الفني المرسل ، الذي يعتمد على معانٍ دينية أيضًا .

ومع بداية التطورات القومية في الدولة العثمانية ، وظهورها نزعةً قوية عند بعض الأدباء الأتراك في نهاية القرن التاسع عشر ، ظهر تيار مضاد يحافظ على القيم الإسلامية ويعمقها في الأدب التركي الحديث ، ويعالج مشكلات المسلمين في الدولة العثمانية المتهاوية ، وقد تزعم هذا التيار الشاعر الكبير محمد عاكف أرصوي الذي عاصر معاناة تركيا في الحرب العالمية الأولى ، واحتلال جيوش الحلفاء أرضها ، وسقوط الخلافة ، والذي جعل شعره منبرًا إسلاميًا قويًا ، يستثير المشاعر الإيمانية في نفوس الأتراك ، ليدافعوا عن دينهم وأرضهم ، وقد شاعت قصائده بين الأتراك بقوة ، وصارت إحداها فيما بعد النشيد القومي التركي.. وما زالت حتى الآن - بعد حذف عبارات قليلة منها - ، ويعد محمد عاكف رائد مدرسة أدبية كاملة ، حملت هموم المسلمين في تركيا وتطلعاتهم طوال الفترة الكمالية ، واستطاعت هذه المدرسة أن تتصدى للتيار القومي والعلماني ، وأن تحافظ على النسيج الإسلامي في الأدب التركي ، وأن تعززه .

ومن شعره الإسلامي في المحنة قصيدة بعنوان (لا يأس) افتتحها بقوله تعالى (ومن يقنط من رحمة ربه إلا القوم الضالون) ثم قال يحذّر الأتراك من الاستسلام لليأس ويستنهضهم لإعادة مجدهم الإسلامي :

أين مني نفحة من الأمل فيك ،

أتحسب أنه قط انطفأ ؟

ما كان لفجر الحق الأزلي أن يُمْحى

أيها الظالم !

بعد قليل ترى ما أظلم أيام غدك

ويا أيها القلب المؤمن الذي حار وهو يعبد الحق ،

إن صدرًا واحدًا فقط يعيش بدون أمل ، وهو صدر الكافر !

أيجتمع اليأس والإيمان ؟

حاشا لله ، وقد علمت وأيقنت أنه ضرب من المحال ؛

فلماذا إذن أذللت عنقك ووقفت مطرّق الرأس ؟

ألا تشفق على ذريتك ، إن لم تشفق على نفسك ؟

لو أطبقت على الآفاق آلاف الكوارث ،

لما انهارت هذه الأمة . ما دمنا نتجنب أن نقول : "إنها سوف تضمحل"

ما كانت لتنهار ، كلا ، لن تنهار ولن تسقط !

فاقتل أنت اليأس العاوي وأيقظ العزم ؛

فحسبها نفحة من الإيمان حتى تعود إلى الحياة ، فلينتعش أملك ، ما هذه الخيبة ؟ وما هذا الخسران ؟

إبدا بإسكات الآلام الماضية ،

وبث الأمل القوى في أبنائك ؛

وتوكل على الله واعتصم بحبل السعي واخضع للحكمة …

هذا هو الطريق ، ولا أعرف صراطًا مستقيمًا سواه .

الأدب الإسلامي في اللغة الأردية

وإذا انتقلنا إلى الأدب الأردي الذي ينتشر بين ملايين المسلمين في شبه القارة الهندية ، وبين مئات الألوف المهاجرين منها إلى آفاق العالم ، فسنجد صورة أخرى للعلاقة الحميمة بين الأدب الإسلامي ، تناظر زميلتها التركية ، وتكاد تفوقها ، لولا قرب العهد بهذا الأدب .

ذلك أن اللغة الأردية قد تشكّلت في صورتها الحالية في القرن الحادي عشر الهجري ، وكانت قبل ذلك لغة محلية متأثرة بالهندية القديمة ، ثم تأثرت بالحضارة الإسلامية وباللغة العربية التي انتقلت إليها مع الإسلام ، وبالفارسية أيضًا ، وعندما احتل الإنجليز الهند وفرضوا ثقافتهم عليها ، دخلت اللغة الأردية عناصر من اللغة الإنجليزية أيضًا . غير أن الآثار العربية هي أقوى الآثار فيها ، فقد استفادت الأردية من العربية في قواعدها وعروضها وحروف الكتابة ، وفي بعض الجوانب البلاغية ، وفي عدد كبير من الألفاظ ، مباشرة أو عن طريق الفارسية التي نقلت من العربية ، واستفادت من اللغة الفارسية في تلك الجوانب أيضًا ولكن بقدر أقل .

وقد أصبحت الأردية لغة الثقافة بين المسلمين ، بفضل الأعمال الأدبية التي كتبها عدد من الأدباء البارعين ، أمثال ميرزا غالب ، والسيد أحمد خان ، ومحمد حسن آزاد ، ومنشي سجاد حسين ، وألطاف حسين "حالي" ، ومحمد إقبال.. إلخ إضافة إلى الكتابات الفكرية والإسلامية التي كتبها الدعاة والمصلحون .

وقد ارتبط الأدب الأردي بالقيم الإسلامية من خلال أوضاع المسلمين في الهند ، والتحديات السياسية ، والصدام مع الهندوس ، والتحديات الثقافية الغربية ، وكان عدد من الأدباء الكبار منهمكين في القضايا السياسية ، ومهتمين بإصلاح أوضاع المسلمين ، وتعزيز العقيدة فيهم ، وإغنائهم بالثقافة الإسلامية ، فجعلوا إبداعهم الأدبي منبرًا من منابر التوجيه الإسلامي الحي . وساعدتهم في ذلك مواهبهم الكبيرة ، فأبدعوا أعمـالاً أدبية إسلامية ، انتشرت بقوة بين المسلمين وأثرت فيهم تأثيرًا قويًا ، ومن تلك الأعمال : المنظومة المطولة "مسدس" للشاعر ألطاف حسين الملقب بـ (حالي) الذي يستعرض فيها واقع الحياة قبل البعثة النبوية ، والجاهلية القائمة فيها ، وسوء أحوال الإنسان ، ثم يعرض الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في الحياة ، وظهور الحضارة الإسلامية ، وأثرها في تطور الحياة الإنسانية بعامة ، ثم يعرض ضعف المسلمين وانشغالهم بأمور الدنيا ، وتفرقهم وسقوط دولتهم ، والأحوال السيئة التي أصبحوا فيها في كل قطر ، وخاصة في الهند ، ويدعو إلى نهضة جديدة ، بالعودة الصحيحة القوية للإسلام ، وبناء حضارته من جديد .. وتبلغ المطولة قرابة ثلاثمائة مقطع ، في كل مقطع ستة أبيات .

ومن الأدباء الذي كان لهم أثر كبير بين المسلمين في الهند ، وتجاوزت شهرتهم إلى البلاد الإسلامية والعربية الشاعر الكبير محمد إقبال .

ولإقبال مكانة كبيرة في الأدب الإسلامي بغير العربية ، فهو من المبدعين المتميزين الذين كانت لهم رؤية خاصة في الحياة ، وكان صاحب نظرية تؤمن بأن الشخصـية الإسلامية هي الشخصية المهيئة لقيادة العالم ، وبناء الحضارة الصحيحة ، كما أنه كان يدعو إلى قيام كيان إسلامي خاص لمسلمي الهند ، تحقق فيما بعد في قيام دولة باكستان . وإقبال نموذج للأديب الإسلامي العالمي ، فقد تجاوز شعره منطقته وانتشر بين مسلمي الهند ، كما تجاوز الهند ليصبح إبداعًا إنسانيًا عالميًا ، وترجم إلى لغات عدة منها اللغة العربية ، وقد ترجم الدكتور عبد الوهاب عزام عددًا من دواوينه شعرًا ، ونحا نحوه الصاوي شعلان ، ومحمد حسن الأعظمي في كتابهما (فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان) ، ونجتزئ بأبيات من إحدى قصائده ، وبترجمة هذين الكاتبين النثرية ، ثم الشعرية لها . والقصيدة بعنوان "شكوى" يتجه فيها إلى الله سبحانه وتعالى ، شاكيًا ما أصـاب المسلمين ، من تخلف وفرقة وضعف ، بعد أن كانوا بناة الحضارة ، ورواد الأمم .

نراه في مطلع قصيدة "شكوى" يصور أشجانه وآلامه ، ثم يوجه العتب المرير إلى نفسه واستسلامها للمحن ، ثم يناجي الله عز وجل ، وفي فمه التراب ، ليعلن صرخة المسلمين ويجأر بدعواتهم ، يقول :

"ربـاه إليك شكوى عبيدك الأوفياء ، الذين لم يتعودوا إلا إزجاء الحمد ، وترتيل الثناء" .

لقد كانت الدنيا قبل هذا الدين الإسلامي عالمًا تسوده الوثنية ، وتحكمه الأصنام ، وفي بقاع هذا المعمور كانت سجدات هذا الإنسان لا تعرف غير الأوثان ، ولم يكن الإنسان يعبد غير التماثيل المنحوتة من الأحجار ، والصور المصنوعة من الأشجار ، وحارت فلسفة اليونان وتشريع الرومان ، وضلت حكمة الصين في الفلوات .

ولكن ساعد المسلم القوي قَطَعَ من الأرض شجرة الإلحاد . وأسطع على الإنسانية نورًا من التوحيد وظلاً من الاتحاد .

وبعد :

فستطول بنا الرحلة لو جئنا نستعرض نماذج من الأدب الإسلامي في الشعوب الإسلامية غير العربية.. فهذه الشعوب تنتشر في مساحات واسعة من الكرة الأرضية ، تمتد من أندونيسيا شرقًا إلى شاطئ الأطلسي غربًا ، ومن القوقاز شمالاً إلى جز المالديف جنوبًا ، فضلاً عن الجاليات الإسلامية الكثيرة التي تنتشر في بلاد كثيرة ، فما من مجتمع مسلم إلا وفيه أدباء يملأ الإيمان قلوبهم ، ويصبغ بألوانه الزاهية إبداعاتهم الأدبية.. بل ما من مجتمع مسلم إلا وفي تراثه الأدبي نصوص تدخل في نسيجها قيم الإسلام وتصوراته .

ومن المؤسف أن معرفتنا بآداب الشعوب الإسلامية قليلة ، وأن حركة الترجمة من لغات تلك الشعوب إلى اللغة العربية ، وبالعكس ، قليلة ونادرة أحيانًا ، وأنـّا بعامة نجهل الكثير عن أحوال تلك الشعوب وتاريخها وآدابها.. وباستثناء الدارسين المختصين لا نكاد نجد أحدًا يعرف شيئًا عن شعوب ما وراء النهر ، وشعوب الجمهوريات الإسلامية التي استقلت أخيرًا عن الاتحاد السوفياتي ، وشقيقاتها التي ما زالت مدمجة في دولة الصين الشيوعية . اللهم إلا ما أبرزته الأحداث والأخبار هنا وهناك ، وطبيعي والحالة هذه أن تكون معرفتنا بآداب تلك الشعوب نادرة أو معدومة .

إن النصوص القليلة التي تترجم بين الحين والآخر ، وتنشر في الدوريات ، أو تشير إليها الدراسات تحمل تأشيرات كثيرة وقوية على وجود أدب إسلامي حي لدى الشعوب الإسلامية غير العربية كلها.. والأمر في اعتقادي يحتاج إلى جهود موجهة وكبيرة ؛ لتتبع هذا الأدب وإظهاره .

وقد بدأت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية خطوة رائدة في هذا المجال ، فنشرت كتابًا عن الأدب الإسلامي التركي ، وكتابًا آخر عن الأدب الإسلامي الأردي ، وتعد فيما علمت لإصدار كتاب عن الأدب السواحلي ، ولو أن بعض المؤسسات الثقافية الأخرى أسهمت في هذا العمل المتميز لكان ذلك شكلاً من أشكـال توثيق الروابط بين المسلمين في أطراف الأرض . وتعريف بعضهم ببعض .

وقد نصت رابطة الأدب الإسلامي العالمية في أهدافها المعلنة على هذا العمل فذكرت في المادة الثالثة من النظام الأساسي أن من أهداف الرابطة نقل الأدب الإسلامية العربي إلى لغات الشعوب الإسلامية وبالعكس ، وتحقيق عالمية الأدب الإسلامي .

وقامت مؤخرًا بخطوة عملية ، فأعلنت عن مسابقة لترجمة النصوص الإبداعية لأدب الشعوب الإسلامية إلى اللغة العربية ، في مجالات الرواية والقصة والمسرحية والشعر ، والأمل أن تحقق هذه الخطوة - وخطوات أخرى قادمة تقوم بها مؤسسات ثقافية إسلامية أخرى وفي مقدمتها الجامعات ودور النشر - تقدمًا في هذا الميـدان ، فتصدر ترجمات لأعمال إبداعية أدبية ، ودراسات عن آداب تلك الشعوب ، وأن تقوم حركة ترجمة مقابلة من اللغة العربية إلى لغات الشعوب الإسلامية غير العربية ؛ فتقوم جسور جديدة من المعرفة والعلائق الثقافية بين الشعوب الإسلامية .

إن القدر المحدود المتوافر في مكتبتنا العربية ، من آداب الشعوب الإسلامية ، ومن الدراسات عنه يبيح لنا أن نقول : إن الإسلام قد أثّر في آداب الشعوب الإسلامية كافة ، وجعل الأدباء الملتزمين به يبدعون أعمالاً أدبية إسلامية : إسلامية في موضوعاتها ، أو في المواقف والرؤى التي تظهر فيها ، أو في الآثار العامة التي يخرج القارئ بها …

وإن هذه الأعمال في تلك اللغات هي التي تعطي الأدب الإسلامي بُعده الثالث ، بُعْد العالمية ، عالمية الإبداع ، وعالمية التأثر بالقيم الإسلامية ، وعالمية ظهورها في أعمال أدبية تتجاوز حدود اللغات ، والقوميات ، والخريطة الجغرافية .

==============

الإسلام وحوار الحضارات

(الشبكة الإسلامية) الأستاذ الدكتور / محمد عبد المنعم خفاجي

الإسلام دين الله الذي بشّر به رسول الإسلام محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه - هدى للناس ورحمة ودعوة إلى كل القيم الإنسانية الرفيعة التي يجب على الإنسان أن يحافظ عليها ويلتزم بها ، ويتخذها دستوراً له في الحياة .

وناموس الإسلام أو قانونه ، أو دعوته ، ذلك مفصّل في كتاب الله الحكيم ، الذي نزل به الروح الأمين ، على نبي الله ومصطفاه ورسوله إلى خلقه ، وإلى العالمين كافة ، محمد صلى الله عليه وسلم . رسالة شريفة واضحة سامية ، يقول محمد فريد وجدي : "الإسلام أن تسلم وجهك لله ، مجرداً نفسك عن علمك وعقلك وحولك وقوتك وتقاليدك كلها ، الخشوع دثارك ، والتقوى والرجاء والضراعة صفاتك ، متجرداً له كيوم ولدتك أمك على الفطرة ، لتتحقق عبوديتك" ، ومن قبل قال عمر بن الخطاب لبعض أصحابه : لقد أعزكم الله بالإسلام فمهمها تطلبوا العزة من غيره يذلكم الله ومن بعد قال مستشرق غربي هو "ولز" : "الإسلام هو الدين الحق الذي يساير المدنية" والهرمز الفارسي قد عرف الحقيقة ، فقال لرسول عمر بن الخطاب : إنما غلبتمونا بالإسلام .

إن التوحيد هو الدعامة الكبرى لشريعة الإسلام ، وهو الزاد الذي يستمد منه المسلم كل قوته ، يقول الله - عز وجل - في محكم آياته : {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خـالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل} (الأنعام /102) . ويقول - عز وجل - :{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليمـًا حكيمـًا}(النساء /170) .

ويقول تولستوي : خلاصة الإسلام كما نادى به محمد هو أن الله واحد لا إله إلا هو ، وأن الله رحيم عادل ، وأن مصير الإنسان النهائي متوقف على الإنسان نفسه ، فإذا سار حسب شريعة الله ، وأتم أوامره واجتنب نواهيه ؛فإنه في الحياة الأخرى يؤجر أجراً حسنـًا ، وإذا خالف شريعة الله وسار على هواه ؛فإنه يعاقب في الحياة الأخرى عقابـًا شديداً . في عام 1938م عقد في لاهاي مؤتمر "القانون المقارن" وفيه قد قرر المجتمعون اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً مهمـًا من مصادر التشريع ،بعد أن أشاد الأعضاء الأجانب على اختلاف مللهم بأحكام الشريعة الإسلامية .

وفي عام 1951م عقدت شعبة الحقوق من المجمع الدولي للقانون المقارن مؤتمراً للبحث في الفقه الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس تحت اسم "أسبوع الفقه الإسلامي" ودعت إليه عدداً من المستشرقين وأساتذة القانون في الدول الغربية والشرقية ، وقد حاضر الأعضاء في موضوعات محددة حددها مكتب المجمع الدولي للقانون المقارن وهي : إثبات الملكية - المسؤولية الجنائية - الاستملاك للمصلحة العامة - تأثير المذاهب الاجتهادية بعضها في بعض - نظرية الربا في الإسلام . وخلال المناقشات قال النقيب السابق للمحامين في باريس : أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته كأساس للتشريع يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور وبين ما نسمعه الآن في المؤتمر مما يثبت خلاف ذلك تمامـًا ببراهين النصوص والمبادىء .. وفي ختام الأسبوع قرر المؤتمر أن الفقه الإسلامي يقوم على مبادىء ذات قيمة أكيدة لا مرية في نفعها وأن اختلاف المبادىء في هذا المجال التشريعي الضخم ينطوي على ثروة من الآراء الفقهية وعلى مجموعة من الأصول الفقهية التي تتيح لهذا الفقه أن يستجيب بمرونته لجميع مطالب الحياة الحديثة . كما قرر المؤتمر أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامي المؤتمر يساعد على تسهيل الرجوع إلى مؤلفات هذا الفقه في موسوعة فقهية تعرض فيها المعلومات القانونية الإسلامية وفقـًا للأساليب الحديثة .

وفي بحوث عديدة بيّن الباحثون أن الفقهاء المسلمين شرَّعوا المحاكم الدستورية العليا ، واختصاصات هذا النوع من القضاء كما فصلها أبو الحسن الماوردي هي :

1- النظر في القضايا التي يقيمها الأفراد والجماعات على أجهزة الحكم في الدولة.

2- النظر في تظلم موظفي الدولة ضد تطبيقات القانون .

3- تقرير الأحكام التي يعجز القضاء العادي عن إصدارها .

4- ما يختص بتقرير حقوق الإنسان .

وقد يملكنا الذهول عندما نعرف أن عمر بن الخطاب وقف يومـًا يودع أحد ولاته قبل سفره إلى الإقليم الذي سيحكمه ، وألقى عليه هذا السؤال : ماذا تفعل إذا جاءك سارق أو ناهب ؟ وكان رد الوالي : أقطع يده . فاستدرك عمر الحديث معه قائلاً : وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك . إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم . فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها ، يا هذا إن الله قد خلق الأيدي لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية .

وعندما ألّف "روسو" كتابه "العقد الاجتماعي" وقرر فيه أن الأمة هي مصدر السلطات وهي سيده الحاكم الذي يستمد منها قوته وسلطته ، لعله كان يعرف أن الإسلام قرر هذه المبادىء تقريراً وطبقها تطبيقـًا ، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول : إن من استرعاه الله على المسلمين فقد وجب عليه ما يجب على العبد لسيده ، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته] - رواه البخاري ومسلم - أليس هذا المفكر الغربي على صواب وعلى هدى من الإسلام حينما تقرؤه يقول : ولز : الدين الحق الذي يساير المدنية هو الإسلام . أوروبا تخاف الإسلام ، وتخاف من الإسلام ، ليس ذلك على مستوى الحكومات فحسب ، بل على مستوى الأفراد والجماعات ، وحرب الأقليات الإسلامية في الغرب مستمرة اليوم ومن قبل وستستمر في الغرب مستمرة اليوم ومن قبل وستستمر من بعد أيضـًا .

ولقد وقفت الإمبراطورية الرومانية في وجه الإسلام منذ معركة اليرموك حتى فتح القسطنطينية على يدي السلطان محمد الفاتح في أواسط القرن التاسع الهجري تشن عليه الحرب وتدبر له المؤامرات ، وتؤلب عليه القوى المختلفة ، وما حديث الحروب الصليبية بسر … وكانت بيزنطة إحدى القوى المحركة للأحداث في غزو التتار للعالم الإسلامي وفي تدميرهم لبغداد وقضائهم على الخلافة العباسية .

وحسبنا دليلاً على ذلك ما يرويه التاريخ من أن هيتون ملك أرمينية المسيحي كان العامل الرئيسي في إقناع الملك المغولي "مانجوخان" (646-655هـ - 1248-1257م) بإرسال حملة هولاكو المشؤومة بل إن هولاكو نفسه زوج ابنه من ابنة إمبراطور القسطنطينية المسيحي . ومذابح الصرب في الهرسك وفي كوسوفا أثر لهذا الشعور الغربي المستحكم بالعداء للإسلام وللمسلمين .

على أن في الغرب منصفين يدعون ولا يزالون يدعون إلى الحوار بين الشرق والغرب ، الحوار بين الحضارات ، ومن أبرز هؤلاء الدعاة ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز والإسلام منذ عصر الرسالة حتى اليوم لا يعرف طريقـًا إلى الحضارات والأديان الأخرى غير طريق الحوار والمجادلة بالحسنى ، والله - عز وجل - يقول في كتابه الحكيم : {ولا تجـادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت/46) .

إن الأصوات المنصفة في الغرب ، مع قلتها ، تنفر من حرب الحضارات ومن كل ذلك نفوراً شديداً . فتشارلز ولي عهد بريطانيا ينادي بضرورة الحوار بين الحضارات ، لا الصراع بينها .

ووزير الخارجية البريطانية السير روبين كوك ينادي في كلمته التي ألقاها منذ نحو عامين في أحد المراكز الثقافية الشرقية بلندن : بأن الثقافة الغربية مدينة للإسلام وحضارته ، وبأن الغرب في حاجة إلى الإسلام كصديق لأنه دين السماحة والحب والوئام ، وبأن من الظلم أن نلصق الإرهاب بالإسلام ؛لأنه دين السلام (صحيفة الأهرام - صفحة الفكر الديني - 19/10/1998م) .. قال روبين كوك : إن جذور ثقافتنا الإنجليزية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هي إسلامية أيضـًا فالفن الإسلامي والعلوم والفلسفة الإسلامية قد ساعدت على تشكيل تطورنا ، والأرقام الإسلامية ما زالت يعتمد عليها .

إن ثقافة الغرب مدينة للإسلام … والبعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو بعد انتهاء الحرب الباردة وإن الإسلام هو العدو الجديد ، كما يقولون : إن صراع الحضارات قادم ولا مفر منه ، وأنا أقول : إنهم مخطئون خطـًأ فادحـًا ، فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن في حاجة إليه كصديق ، قد تكون حضاراتنا أو أدياننا مختلفة ، ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نتعايش معـًا ، إن علينا أن نتعاون معـًا لإفشال هذه الإدعاءات ، فالقرآن الكريم يدعو في سورة الحجرات (الآية 12) إلى التعارف بين الشعوب . إن القائل بأن ثقافتنا غير متجانسة مخطىء ، فهناك قدر كبير من المعارف يمكن أن نتعلمه من بعضنا ، والغرب مدين للإسلام بالشيء الكثير ، فالإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة وكبيرة في الحضارة الغربية ، ومن أكبر الأخطاء التي يمكن للغرب أن يرتكبها هو الظن بأن الثقافة الإسلامية شيء غريب عنا فهي ليست كذلك فإن ثقافتنا قد تشابكتا عبر التاريخ والأجيال . وما زالتا تتلاقيان أيضـًا في وقتنا الحاضر ، إني أقترح إجراء حوار جدي حول القضايا العديدة التي تهم الجانبين .

وأمامي كذلك كتاب "بين شتى الجبهات" للمفكر الألماني عبد الهادي هوفمان الذي عمل في الحقل السياسي الألماني فترة طويلة ، وعند بلوغه سن الواحدة والأربعين اعتنق الإسلام (أي عام 1989م لأنه من مواليد 1949م) ، ويجاهد في إزالة الوهم العدائي بين المسلمين والألمان .. وهو غير مراد هوفمان السفير الألماني السابق في المغرب ومؤلف كتاب "الإسلام كبديل" . وهما يلتقيان في الإيمان بالإسلام كدين صحيح وشامل لكل مناحي الحياة ، وقد أصبحت أوروبا في أمس الحاجة إليه .

إن الكتاب "بين شتى الجبهات" بصفحاته ألـ 250 حافل بالتنويه بدعوة الإسلام إلى حرية العلم وحرية الفكر وحرية العبادة ، وإلى الشورى ، ويقول : إن صورة الإسلام في الغرب صورة عدو لدود ، وهو وضع مقلوب للحقيقة ، وإن الإيمان بإله واحد يجمع بين المسلمين والنصارى ، كما يؤكد عظمة الحضارة الإسلامية وقيامها على أساس المسؤولية الفردية ، والوحدة والتعاون والإخاء وحقوق الإنسان .

هل نسي الغرب أن الإسلام وحضارة الإسلام وعلماء الإسلام هم الذين أحيوا التراث اليوناني القديم وقدموه محققـًا ومشروحـًا إلى أوروبا ؟ وهل نسي الغرب أن الإسلام هو الذي حمى اليهودية واليهود في العالم من بطش وجبروت العصور الوسطى في أوروبا ؟ وهل نسي الغرب أن الإسلام هو الذي حمى المسيحية ، وحمى مصر المسيحية من جبروت الدولة البيزنطية وطغيانها ؟ وهل نسي الغرب أن الإسلام دعوة سلام إلى العالم وإلى الدنيا جميعـًا ، ودعوة أخوة وتعاون دولي لمصلحة الشعوب . وكيف يعادي الغرب المدجج بكل أنواع التدمير النووي وغيره ، الشرق الإسلامي الذي جعل السلام شعاره في كل شيء وفي كل وقت ، بل في كل عبادة ، بل في كل عمل لم يصنع ما صنعته الصرب في البوسنة والهرسك ولم يصنع ما صنعته روسيا والصين في بلاد الإسلام وفي مسلمي بلادها .

إن الإسلام والغرب ، يجب أن يلتقيا ، وبلا ريب فهما يمكن أن يلتقيا لو حافظ الغرب على روح الأخوة البشرية ، وعلى حق كل منهما في أن يعيش في سلام وتعاون مع الآخر ، وعلى أن الخروج على الشرائع السماوية باسم الحضارة والحرية خطأ لا يغتفر وشرك ما بعده من شرك .

والسلام على من اتبع الهدى

مجلة الأزهر:المحرم14

!!!!!!!!!!!!!!!!

الفهرس العام

مقدمة هامة 2

تمهيد 18

خصائص التصور الإسلامي 18

مقدمة هامة 18

تيه وركام 32

"صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟" 40

الربانيــة 42

الثّبات 61

الشُّمُول 72

التوازن 82

الإيجابيـــة 92

الواقعيــــة 100

التوحيـــد 108

الباب الأول 117

الحضارة الإسلامية وأسسها 117

أنواع الحضارة الإسلامية 117

خصائص الحضارة الإسلامية ومظاهرها 119

الجانب السياسي في الحضارة الإسلامية 121

الجانب الاقتصادي في الحضارة الإسلامية 132

الجانب الاجتماعي في الحضارة الإسلامية 139

الجانب العلمي في الحضارة الإسلامية 160

العلاقات الدولية في الحضارة الإسلامية 187

النظام التشريعي في الحضارة الإسلامية 188

النظام القضائي في الحضارة الإسلامية 192

الجانب العسكري في الحضارة الإسلامية 198

العمارة في الحضارة الإسلامية 211

الدور الحضاري للمسلم المعاصر 227

المستقبل في ظل التحولات الشاملة 230

شهادة التاريخ 233

دور الكتّاب والمساجد عند المسلمين 253

الرِّدة بين الصراع الحضاري وُسنَّة التدافع 273

حضارتنا وحضارتهم 277

فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية 284

الوحدة والتوحيد أساس بناء الحضارة الإسلامية 289

حضارتنا ليست للبيع 294

تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية 297

تاريخنا... هل من الضروري إعادة كتابته ؟ 300

متى نسد هذه الثغرة؟ 310

المدارس النظامية في عهد السلاجقة 313

التراث العلمي العربي وتاريخ العلوم العربية الإسلامية 320

دور الترجمة في الدعوة إلى الله 322

جابر بن حيان رائد الكيمياء الحديثة 327

من حقوق الإنسان الغربية إلى واجبات الاستخلاف الإسلامية 331

من أعلام الحضارة الإسلامية " ابن النفيس " 341

المساواة معلم من معالم الحضارة الإسلامية 345

الاستشراق والإسلام بين الموضوعية والتزييف 349

من خصائص الحضارة الإسلامية 356

صراع الحضارات في سجاله وتجلياته 361

العولمة والخصوصية الثقافية 370

لماذا أخفق المسلمون في تحقيق النهضة؟ 378

البعد الحضاري في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة 385

الحضارات .. حوار أم صراع 388

إشكالية العصرنة في تحديث النظم الإسلامية 390

الحضارة الإسلامية الأعظم تأثيرًا في أسبانيا 393

الثقافة الإسلامية .. نبراس الأمة في التميز الحضاري 395

صراع الحضارات في سجاله وتجلياته 399

العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي 407

من حضارتنا في الهند 423

صحفي بريطاني يشهد للحضارة الإسلامية 426

رئيسة HP لولا الإسلام لما تطورت تقنية المعلومات 428

العولمة وصراع الحضارات 431

السياسة الاقتصادية جزء من الرؤية الإسلامية الشاملة 443

عالمية الأدب الإسلامي (الشبكة الإسلامية) د.عبد الباسط بدر - (عن مجلة الأدب الإسلامي بالاتفاق معها ) 447

الإسلام وحوار الحضارات 459 . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال  المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟ الباب الخامس قيم التقدم   في ا...