Translate

السبت، 6 مايو 2023

ج3.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل علي بن نايف الشحود (3) الباب الثالث



 

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (3)

الباب الثالث

الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات

جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

الباب الثالث

الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات

المؤلف: سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي

#المقدمة

ما أن يخطر ذكر الحضارة على أذهاننا حتى تهفو قلوبنا، إلى ظلها الوارف، وتحن أرواحنا إلى أجوائها المفعمة بالتقدم‏والتطور، وتميل نفوسنا إلى ذكرها الطيب لما ترفل به من النعم والخيرات.. غير أن الحضارة بما فيها من روعة وجاذبية،لا تعني شيئاً من دون أن تكون واقعاً ملموساً.

هذا ما دفع البشرية منذ نشأتها إلى تحقيق هذا الطموح السامي، ولأجل ذلك بذلت جهود مضنية، حتى تمكنت من ذلك‏مرات ومرات.

وما شهدته البشرية على طول تاريخها من حضارات، بقيت آثار كثير منها شامخة إلى يومنا هذا، وهي تحكي لنا قصتهايوم سادت كما تحكي لنا قصتها يوم بادت.

وإليها انشدت العيون ترنو معالمها، وتقرأ قصتها دون أي ملل يذكر.

ومن بين كل تلك الحضارات التي عاصرتها البشرية في حقب تاريخية متباينة، كان للحضارة الإسلامية شأن علا كل‏شأن، وفضل فاق كل فضل.. حيث فاضت على الناس بالقيم السامية، والأخلاق الفاضلة، والعلوم والفنون الرائعة..واستمرت على هذا المنوال سنينن وسنين حتى جاء أجلها لما ابتعد المسلمون عن مناهج الوحي وهدى الشريعة،وتمادوا في حب الدنيا، والانغماس في شهواتها.. عند ذاك حلت بهم الانتكاسة، فخسروا ما كانوا فيه ينعمون.

فبعد ذاك العز عاشت الأمة الهوان، وبعد ذاك الشموخ عاشت الأمة الانحطاط، وبعد ذاك التقدم عاشت الأمة القهقري..

وراحت السنوات تطوي أيامها، والأمة على هذا الحال لم تستطع أن ترفع رأسها مرة ثانية. وإذا بأصوات رقيقةأخذت تخرج من حلقوم الأمة تنادي بأمجادها، معترضة على ما ألم بها من تخلف. وما برحت هذه الأصوات أن ترتفع‏وترتفع لتسمعها كل أذن، معلنة أن لا نجاة من المآسي والويلات، والفقر والحرمان، والظلم والاضطهاد.. إلا بالعودة إلى‏حضارة الإسلام.

وبالرغم من عمق التخلف وشدة الانحطاط اللذين لم يسمحا للأمة بالنهوض من جديد على وجه السرعة، مع ذلك لم‏ييأس المؤمنون بالعودة إلى الحضارة الإسلامية من أن يستمروا في إثارة العزم والارادة والنشاط في أبناء الأمة،ويدفعون بهم باتجاه الحضارة المنشودة عبر خطاباتهم وكتاباتهم ومشاريعهم.. دون أن يثنيهم شي‏ء عن هدفهم هذا. إذلابد لليل أن ينقضي، وينبلج الصباح بضياء حضارة الإسلام.

وفي هذا الاتجاه تحدث سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي كثيراً عن معالم الحضارة الإسلامية ونشأتها وظروفها،كما تحدث أيضاً عن أسباب انتكاستها وانحطاطها، بالاضافة إلى أنه قارنها بغيرها من الحضارات والمدنيات.. ولما رأيناجمعها في كتاب يخدم الأمة في مسيرتها الحضارية، بادرنا إلى ذلك، مستمدين العون من اللَّه تعالى، واللَّه هو ولي التوفيق.

القسم الثقافي في مكتب‏

سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي‏

طهران- 20/ ذي الحجة/ 1423ه

=============

#الفصل‏الأول‏ -رؤى قرآنية في الحضارة

العلاقة بين الدين والحضارة

من البحوث المثيرة للجدل والنقاش؛ البحث عن العلاقة بين الدين والحضارة، وفي هذا المجال فجّر (ماكس‏فيبر) قبل عدة عقود من الزمن قنبلة صوتية متأثراً بالأجواء العلمانية السائدة في فرنسا والتي كانت الدافع له في‏بحوثه الاجتماعية، فادعى أن الدين عائق دون التقدم البشري، والتطوّر الحضاري. وحاول أن يستدل على صحةفكرته هذه ببيان أن أوروبا لم تستطع التخلص من التخلف إلا بعد أن تحررت من هذا العائق، وأن المسلمين الأكثرالتزاماً بدينهم هم الأكثر تخلفاً وبعداً عن الحضارة.

ولكنّ البحوث التي أسهمت في تطويرها مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع دلّت بما لا يقبل الشك أن الدين ليس معوّقاًللتقدم الحضاري، بل إننا نجد في أكثر الديانات حوافز وبواعث تدعو إلى التطوّر الحضاري.

الدين ليس معوّقاً

وكمقدّمة لبحث معالم الحضارة الربانية، نريد إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع الشائك. فلا ريب أن هناك بعض‏المعوّقات في بعض الديانات، ولكننا عندما نعود إلى جذور هذه الديانات نجد أنها في الأغلب نقية من تلك المعوقات،وأن الأفكار المنحرفة تحوّلت إلى جزءٍ من تلك الديانات بفعل مرور الزمن، وهذه الظاهرة لا تقتصر على الديانات؛ بل‏تنسحب أيضاً على المذاهب الفلسفية التي يعتقد بها البعض، الأمر الذي يطرح تساؤلاً؛ وهو: لماذا نجد أن الدين في بدايةانطلاقه وانبعاثه يوصي بالسعي، والتحرك، والحماس، والإيثار، ولكن هذا الدين ذاته يتحوّل شيئاً فشيئاً في ذهن‏معتنقيه إلى سبب للتخلف، وعامل للجمود والسكون؟

الإسلام فجرّ طاقات التقدم‏

ومن أجل الإجابة على هذا التساؤل لا بأس أن نضرب مثلاً من واقعنا -نحن المسلمين- فنحن نعلم -كما يشهد بذلك‏العالم بأسره- أن الإسلام فجرّ في ضمير الإنسانية طاقات التقدم، والتطور، وأعطى البشرية شحنات حضارية قوية ماتزال أمواجها تنير الدرب أمام كل من يريد التقدم، واليوم لم يعد هناك أحد في هذا العالم سواء كان غربياً أم شرقياً،مؤمناً أم ملحداً، مسلماً أم غير مسلم، ينكر هذه الحقيقة، لأنها فرضت نفسها على التاريخ.

صحيح أن الكنيسة من جهة، والمستشرقين والملحدين والعلمانيين من جهة أخرى حاولوا أن يلصقوا بالإسلام تهماًمعينة، وأن يغمطوا حقه؛ بل إن بعضهم حاول أن يسند التقدم الذي حدث لدى المسلمين إلى بعض العوامل الجغرافيةوالتاريخية، كفكرة الدورات الحضارية وما إلى ذلك، ولكننا عندما نقرأ اليوم كتاباً لأحد المستشرقين أو عندما نطالع‏نصوصاً لعلماء كبار في المسيحية، أو حتى عندما نقرأ توصيات وقرارات المجامع المسيحية الكبرى مثل الفاتيكان نجد أن‏تلك التهم قد ذابت ولم يعد لها صيت.

مفارقة فهم القرآن‏

وبناءً على ذلك؛ فإن الدور الذي لعبه الدين الإسلامي في تقدم المسلمين يعدّ حقيقة تاريخية لا يشك فيها اثنان ممّن‏أوتيا نصيباً من العلم، ولكن البعض هنا وهناك يتخذون من الإسلام وسيلة لتبرير جمودهم وتقاعسهم، وتبريراًلكسلهم وتفرّقهم وبالتالي تخلّفهم، فلماذا هذه المفارقة؟

فالقرآن هو نفسه القرآن الذي كانت الآية منه تفجر وتحرّك طاقات الملايين من البشر في اتجاه العمران والتقدم، ولكن‏هذه الآية القرآنية نفسها عندما تتلى عليّ فإني استوحي منها حالة الجمود، والركود، والتقاعس، فكيف نستيطع أن نحلّ‏هذه المفارقة؟

عندما نطرح هذا السؤال على القرآن الكريم نفسه، نجد الإجابة الواضحة والصريحة عليه، ونكتشف أن هذه الإجابةمطابقة لما تحكم به عقولنا؛ ففي بعض الأحيان عندما تطرح على الآخرين لغزاً فإنهم يحتارون في كيفية حلّه، ولكنك‏عندما تقدم لهم حلّ هذا اللغز فإن الجميع سوف يؤيدونك، لأنهم سيدركون أن هذا الحلّ هو الحل المتناسب مع ماتقتضيه عقولهم، فكيف نستطيع حلّ اللغز المشار إليه؟

إن الجواب نجده في القرآن الكريم، وخصوصاً في الآية التالية التي جاءت بعد بيان التوجه الإيماني عند جيل من‏الأجيال.

(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)(مريم/59)

ولا بأس أن نذكر في هذا المجال آيات أخرى تحل مشكلة أساسية ليس في حقل العلم والمعرفة فحسب؛ وإنما في الحقل‏الاجتماعي، والتبريري والشخصي. ففي سورة مريم يقول القرآن الكريم بعد ذكر مجموعة من الأنبياء ابتداءً من إبراهيم،ثم يعقوب، وإسحاق، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس‏عليهم السلام: (اُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن‏ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإِِسْرَآئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ‏خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً)(مريم/58).

وفي آية أخرى نقرؤها في سورة الحديد، يقول تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ‏وَقَاتَلَ‏)(الحديد/10)، ويقول عز وجل موجّهاً خطابه للمؤمنين: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ‏قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِ‏)(الحديد/16).

وهذا هو النصف الأول من الآية، أما النصف الثاني فهو: (وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ‏الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏).

هبوط روح الحضارة عند اتباع الأديان‏

وهذه الفكرة نجدها في مجموعة أخرى من الآيات وخصوصاً في قصة بني إسرائيل والتدرّج الحضاري الذي سلكوه،ومن هذه الآيات نستنتج أن الإنسان في بدء نزول القرآن عليه أن يتلقى الوحي من قبل مجموعة إيمانية مخلصة ونزيهة،وهؤلاء يتلقون الوحي بفطرتهم، ويتفاعلون معه بهذه الفطرة النقية، ولكن الروح الحضارة لا تلبث أن تخبو فيهم شيئاًفشيئاً بسبب طول الأمد، وبسبب خشيتهم من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى وركونهم إلى الدنيا.

ومن هذا المنطلق؛ فإن هناك الكثير منا يبدؤون بتفسير الآيات القرآنية تفسيراً مختلفاً، ويغيّرون الكلم عن مواضعه؛فهم لا يغيّرون الآيات نفسها، وإنما يغيّرون تفسيرها، ويؤوّلونها تأويلات متطابقة مع أهوائهم وميولهم، ويحاولون أن‏يفتشوا عن آيات متشابهة يتبعونها، ويتركون الآيات المحكمة الصريحة.

والأدهى من ذلك أن ظاهرة أخرى أكثر خطورة تنتشر بينهم، وهي أنهم يتوارثون بعض أفكارهم المتخلّفة، ثم يضفون‏عليها القداسة، كأن يخلطوا الدين بالتراث، في حين أن الدين يمثل برنامجاً واضحاً، فكل ما يوصي به يسمى ديناً، وأماما يطبّقه الإنسان من سيرة السلف والأولين فهو ليس بدين، بل هو تطبيق ديني لفترة معيّنة من التاريخ. وبناءً على هذا فإن علينا أن لا نجمد على سلوكهم، ونستنبط من هذا السلوك الأحكام الشرعية، لأن هذا العمل يمثل خلطاً بين الدين‏والتراث.

وقد جاءت الكثير من الآيات القرآنية لتحارب هذه الرؤية المتحجّرة، كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي‏أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏)(الاعراف/ 32)، وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاًوَلاَيَهْتَدُونَ‏)(البقرة/170).. فلماذا -إذن- نتبع آباءنا، ونجمد على سلوكهم وسيرتهم والقرآن يقول:(تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏)(البقرة/141)؟ فتلك‏أمة ونحن أمة، وذلك جيل ونحن جيل آخر، (والناس - كما يقول الإمام علي‏عليه السلام- بزمانهم أشبه منهم‏بآبائهم‏)(1).

إننا -للأسف الشديد- لم نأخذ الدين من مصادره الحقيقية المتمثلة في القرآن، والأحاديث الشريفة، بل ورثناه وراثة،في حين أن الإسلام يحرّم علينا التقليد في أصول الدين، ويأمرنا بتحكيم عقولنا في هذه الأصول، وأن نحذر من أن نخلطبين الدين والتراث، ونفسر هذا الدين تفسيراً خاطئاً حسب الهوى لتقسوا قلوبنا بعد ذلك، ويطول عليها الأمد.

وإذا ما عدنا إلى التاريخ؛ سنجد أن الآية القرآنية عندما كانت تنزل في عهد الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذه الآية كانت تفجّر في‏نفوس المسلمين ينابيع الحنان، والخوف، والخشية، فتحرّك فيهم كل المشاعر الخيّرة، وتبعث فيهم الحوافز الإيمانية، أمانحن فإننا نسمع أو نقرأ نفس الآية دون أن نبالي بها وكأن اللَّه تعالى عنى بها غيرنا ولم يقصدنا!

قسوة القلب‏

لقد ابتلينا بحالة قسوة القلب، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ‏كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(البقرة/74)، موجهاً خطابه إلى بني إسرائيل الذين كانوا قبل ذلك مفضلين على‏العالمين بشهادة قوله عز من قائل: (يَا بَنِي إِسْرآئِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى‏الْعَالَمِينَ‏)(البقرة/47). ولكن نفس هؤلاء القوم قست قلوبهم بعد ذلك فإذا هي (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ‏بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ)(البقرة/74). نعوذ باللَّه من‏قسوة القلب.

ونحن إذا أردنا أن نرى ونلمس التخلف والجاهلية والركود بصورة مركّزة، فإن بإمكاننا أن نراه في قسوة القلب؛ فعندمايقسو القلب، يتوقّف الزمن، ويتخلّف الإنسان، ويتوغّل في الجهل والجاهلية.

وعندما ترين القسوة على القلب يصاب الإنسان بحالة سلبية أخرى هي حالة (التأويل‏)، فيعد إلى تأويل‏الآيات التي تتنافى مع مصالحه ورغباته وأهوائه، كآيات الجهاد، وآيات وصف العذاب الشديد في الآخرة، أما آيات‏المغفرة والرحمة فتراه يتشبث بها؛ فهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعضه الآخر كما يقول تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُواالقرآن عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏)(الحجر/92-91)، ويقول: (أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَتَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ‏)(البقرة/87). فالرسول الذي يعجبهم يأخذون بمنهجه، والرسول الذي لا تهواه‏أنفسهم يستكبرون عليه، بل ويقتلونه.

وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر عدم فهم الدين، والجمود على سيرة الأولين، ألا وهي الإضافات والبدع التي يشيرإليها تعالى في قوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ‏)(الحديد/27)، فهذه الحالة البشرية التي‏أضيفت إلى الثقافة الإلهية هي المعوق، لأنّ التاريخ في حالة تغيّر مستمر، وإذا ما التزمنا بنفس الثقافة التي كانت سائدةقبل ألف سنة فإنها ستتحول إلى أكبر معوق لحركة التاريخ.

متى يعوّق الدين التقدّم؟

إن النتائج التي توصّل إليها (ماكس فيبر) صحيحة من جهة، وعلى سبيل المثال فإن الديانة المسيحية في‏القرن السادس عشر كانت كتلة من الأفكار المتخلّفة، ونحن نعلم جميعاً ما فعلته محاكم التفتيش في أسبانيا، وكيف أنهاكانت تعاقب بالقتل والحرق من كان يقول أن الأرض كروية أو أن الشمس هي مركز منظومتنا لا الأرض وما إلى‏ذلك، وكمثال آخر فإن المنطق الكلاسيكي؛ أي المنطق الأرسطي كان يعدّ جزءاً من الدين المقدس، فإن تجرأ أحد وقال:إن هذا المنطق ليس صحيحاً بادروا إلى قتله وحرقه.

وبالطبع فإن مثل هذا الدين يعتبر عائقاً لحركة التقدم، ولكن هل كان هذا الدين ديناً إلهياً، أم كان عبارة عن مجموعةمن الأفكار المتخلّفة الرجعية سمّيت باسم الدين، وأضفيت عليها القداسة بالباطل؟

الجوانب المشرقة من الدين‏

أما علماء الاجتماع الآخرون الذين رأوا أن الدين ليس معوّقاً فحسب، وإنما هو محفز وباعث إلى الحضارة فقد نظروا إلى‏الجوانب المشرقة من الدين، وهنا لا بأس من أن أبيّن فكرتين:

1/ ماذا نعني بقولنا (الجوانب المشرقة من الدين‏)؟

الجواب: إننا إذا راجعنا آيات الاجتهاد والسعي والتحرّك والحيوية والتعاون والتنظيم والعقلانية.. فإننا سنجد أن هذه‏الآيات هي كتلة من الحضارة، وأنها ينبوع التقدم.إن علماء الاجتماع الذين نفذوا إلى أعماق الدين وجدوا فيه ذلك‏الجوهر النقي، فقرروا على ضوء ذلك أن الدين يعد أكبر محفّز للإنسان على العمل، والنشاط والسعي والتحرّك من أجل‏بناء الحضارة.

2/ الفكرة الثانية تتمثل في كلام أورده المفكر الغربي المعروف (هاملتون جيب‏) الذي يعتبر مرجعاً في فهم‏المجتمعات الإسلامية اليوم، وهو أن علماء الدين في العالم الإسلامي هم الوحيدون القادرون على بعث الحضارةالإسلامية وتجديد المجتمع في البلدان المسلمة. ويستدل على ذلك بدليل يستحق الاهتمام والملاحظة، وهو أن الدين‏عندما يكون باعثاً فإنه سيكون عاملاً إيجابياً، وإلا فسوف يكون باعثاً سلبياً يقف أمام تقدم المجتمعات.

ولا شك أن علماء الدين قادرون على أن يحركوا البواعث الكامنة في النفوس من جهة، وأن يبينوا للناس ذلك الدين‏الحقيقي الذي يبعث على التطوير من جهة اخرى.

الثورة في النفوس‏

وهنا تحضرني كلمة لأحد علماء الحضارة، ذات حدين ويرى بموجبها ضرورة إحداث ثورة في عمق الدين، أي الثورةفي الدين نفسه، أو بتعبير آخر؛ إحداث تغيير في الجانب النظري من الدين. وبالطبع فإني لا أؤيد هذا العالم في أن التغييريجب أن يكون منصباً على الجانب النظري من الدين، لأني أرى أن النظرية الدينية هي نظرية متكاملة لا تحتاج إلى‏ثورة، بل إننا نحن من يحتاج إلى القيام بثورة في نفوسنا لنفهم الدين من جديد، وهذا هو الفرق، لأن هذا العالم يقرّر ذلك‏بصفته شخصاً علمانياً، في حين أن الدين لا يحتاج إلى ثورة، فالقرآن يبقى نفس القرآن ولكننا بحاجة إلى أن نرتفع إلى‏مستوى فهمه.

مسؤولية الدفاع عن الحضارة

البند الآخر من بنود الحضارة يتمثل -كما نستوحي ذلك من سورة المائدة- هو ضرورة أن يتحمل الإنسان مسؤوليةالدفاع عن الحضارة، فإذا دهمك خطر ما فإن أمامك أحد أمرين؛ فإما أن تهرب من هذا الخطر، وإما أن تقف في‏مواجهته، وتدافع عن نفسك. وننظر في هذا المجال إلى الآيات القرآنية التي تضرب لنا الأمثال، وتبين لنا حقائق غامضةعنا، بلغة فطرية مفهومة من خلال إيراد قصة تاريخية هي قصة بني إسرائيل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ‏أَبْنَآءُ اللّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم‏)(المائدة/18).

والآية السابقة تقرر فكرة المسؤولية، فلا يوجد إنسان يقول إنه ليس مسؤولاً عن أعماله، لأنه مسؤول مهما كانت‏انتماءاته الدينية؛ وفي هذا يقول عز من قائل: (بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَلِلّهِ مُلْكُ‏السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(المائدة/18)

ولكن هذه المسؤولية بحاجة إلى أن تتكرّس ضمن أسس للدفاع عن النفس، كما يشير إلى ذلك سبحانه في قوله:(يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْجَآءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ‏أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَءَاتاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ‏)(المائدة/20-19)

وهذه هي الحضارة التي أنعم اللَّه جل وعلا بها على بني إسرائيل، ولكنها كانت بحاجة إلى الدفاع، ولذلك قال لهم تعالى‏على لسان النبي موسى عليه السلام: (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ‏فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏)(المائدة/21)، ولكنهم تخاذلوا عن الدفاع قائلين: (قَالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيهَا قَوْماًجَبَّارِينَ وإِنَّا لَن نَدْخُلَهُا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ‏عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن‏نَدْخُلَهَآ أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي‏فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏)(المائدة/25-22)

والنتيجة الطبيعية لهذا السلوك المتخاذل هي أن الذي لا يستعد للدفاع عن حضارته، ومواجهة التحديات، لابد أن‏يعيش في التخلّف (التيه‏) كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله: (قَالَ فإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةًيَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏)(المائدة/26).

الدين حافز على التطوير

وعلى هذا فالدين حافز على التطوير، وإذا ما رأينا أن الدين يتحوّل عند البعض إلى معوّق؛ فإن فهمه لهذا الدين لابدوأن يكون قد اختلط بالمفردات التالية:

1- التراث

2- تحريف الدين‏

3- تأويل القرآن بالرأي وقسوة القلب.

ونحن إذا أردنا أن نتطوّر، فلابد أن نقوم بثورة في فهمنا للدين، لا في الدين نفسه، ومن أبرز معالم الدين المسؤولية؛ فكل‏واحد منا مسؤول عن عمله ومحاسبٌ عليه، صغيراً كان أم كبيراً، مسلماً كان أم غير مسلم.

وعلينا أن لا ننسى في هذا المجال أن نتخذ من مبدأ (الشك‏) منهاجاً في التعامل مع نظرتنا إلى الدين، فالواحدمنا ينبغي أن يسأل نفسه دائماً: من يقول إن الأفكار التي أحملها عن الدين صحيحة كلها، فلعلّي اتبع التراث وأقلدالآخرين تقليداً جاهلاً في صياغة هذه الأفكار؟

ولذلك؛ كان لزاماً علينا -إذن- أن نعود إلى القرآن الكريم، والسنة الشريفة وإرشادات الفقهاء عودةً واعيةً، ونحذر من‏أن نتبع مجموعة من المكررات والمرتكزات التقليدية الموروثة التي قد لا تكون صحيحة، وقد تكون مختلطة بأفكارمتخلفة منحرفة وأفكار رجعية لا تتناسب مع متطلبات ومقتضيات عصرنا التي تختلف بالتأكيد عن تلك التي كانت‏سائدة في العصور السابقة.

==============

#الإيمان والبواعث الحضارية

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَ‏رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ *أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏)(التين/8-1)

ما هي العلاقة المثلى بين الدنيا والآخرة؟ وكيف يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل إيمانه بالآخرة متصلاً بحركته بالدنيا ،وحركته بالدنيا مرتبطة بإيمانه بالآخرة ؟

إن الناس حيال هذا الأمر على عدة أقسام؛ ففريق منهم يفصل بين الأمرين؛ بين حياته في الدنيا وحقيقة الآخرة، فتراه-مثلاً- حينما يدخل المسجد يجد نفسه في روضة من رياض الجنة وفي رحاب الآخرة، فهو يتعبد ويذكر اللَّه كثيراًويلجأ الى اللَّه ليخلصه من عذاب نار جهنم، إلا أنه سرعان ما تتغير سلوكياته وتوجهاته القلبية بخروجه من المسجدوهو يذهب إلى خضم الحياة.. إلى السوق.. المعمل.. المدرسة ..، فيتحول -نعوذ باللَّه- إلى إنسان ماكر وكائد، يلهث‏وراء زخرف الحياة الدنيا، ناسياً حينها أحكام الشريعة وقيم السماء السامية.. إنه يدخل إلى الحياة الدنيا دون أن يلزم‏نفسه برادع أو كابح .

وفريق آخر من الناس ، تجده يترك الدنيا ويتجه إلى الآخرة، ويزعم أنه لو وجد صومعة في أعلى جبل وترهبن فيهاذاكراً وصائماً، قائماً وقاعداً، متوجهاً إلى البارئ تعالى، فإن هذا العمل سوف يقربه إلى اللَّه سبحانه ويحصل على السعادةالحقيقية.

والفريق الثالث تلحظه تاركاً الآخرة مطلقاً، فهو لا يرى حتى باب المسجد، وقد وضع القيم وآيات الكتاب المجيد وراءظهره، فيهرب من ( قيود) قيم السماء كهروبه من الأسد.

إن هذه الفرق والأقسام الثلاثة من الناس كلهم سوف يكونون إدام النار وحطب نار جهنم؛ فالذي يترك أهله ومجتمعه‏جائعين ويدع أمته عرضة لصولات وجولات العدو المستكبر، ويلتجئ إلى كهف أو صومعة أو.. مثل هذا الإنسان‏يكون أقرب إلى عدم التقيد والالتزام بحقائق القيم السماوية وإن تمسك وتنسّك بظاهرها وقشورها.

إن اللَّه سبحانه فرض على الناس واجبات وفرائض، كالجهاد والكد على العيال، كما أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن‏المنكر.. وهذه الفرائض هي من صميم القيم الإلهية التي سنّها سبحانه لتحقيق سعادة الناس في الدنيا والآخرة معاً.

وفي هذا المجال يروى أن الإمام الحسين‏عليه السلام لدى خروجه إلى كربلاء دعا بعض أهل المدينة للحاق به والوقوف أمام‏ظلم وفساد يزيد وبني أمية، فأجابه قائلاً: إن صلاة ركعتين في مسجد النبي أثوب عندي من أن أخرج معك!؟.. إن هذإ؛ّّالكلام بعيد عن روح الدين وحقائق الواقع، لأن هذه الأماكن المقدسة كمسجد النبي والكعبة المشرفة، لم تسلم أيضاً من‏جرائم وبطش يزيد وزبانيته حينما اعتدت جيوش يزيد على الكعبة المشرفة ورشقوها بالمنجنيق فأخذ الدم يسيل في‏داخل المسجد الحرام، وانتهكت أعراض المؤمنين والمؤمنات في مدينة الرسول، حتى لم تسلم بنت في هذه المدينة حينهامن الاعتداء الجنسي!

إن هذا الشخص وأمثاله يتصورون أن مجرد الانصراف لأداء بعض الركعات سوف يضفي قدسيةً على الدين وقيمه، إنه‏وأمثاله ترك حمل السلاح وجعل فريضة الجهاد وراء ظهره متصوراً أن ذلك سوف ينجيه من نار جهنم.

التدافع سنة إلهية

إن اللَّه سبحانه وتعالى يؤكد في كتابه الكريم على حقيقة (التدافع‏) كسنة إلهية، فيقول: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ‏النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَ‏اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ)(الحج/40). إن المساجد بحاجة الى رجال يدافعون عن حريمها وحرمتها، فاللجوء الى قمةجبل والانشغال بالعبادة وترك المجتمع يتضور جوعاً ويتعرض الى الجهل والاستعباد، إن هذا العمل ليس له قيمة عنداللَّه سبحانه.

وقد روي أنه لما توفي ابنٌ لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول‏اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه فقال له: (يا عثمان؛ ان اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانة أمتي‏الجهاد في سبيل اللَّه..)(2) وقال‏صلى الله عليه وآله وسلم: (سياحة أمتي الجهاد)(3)، فالدين الذين لا يتدخل في‏الشؤون الاجتماعية والسياسية للمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه المرجوة، حتى النبي عيسى‏عليه السلام لم يكن ديدنه - كمايتصور البعض خطأ - الرهبنة وترك الدنيا ، بل إنها (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)(الحديد/27).

إن الرهبانية التي يراها الرسول الأكرم‏صلى الله عليه وآله وسلم هي التوكل على اللَّه والدفاع المستميت عن قيم السماء، عبر الجهاد في سبيل‏اللَّه ومقاومة الظلم ومحاربة الأعداء. وهذا هو المعنى الحقيقي للرهبنة التي يقول فيها الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم: (رهبانيةأمتي الجهاد).. أي أن قيمة التسامي والتقرب إلى اللَّه تكمن في جوهر التصدي لقيم الزيف والزيغ والباطل؛ بل‏حتى سياحة الإنسان المؤمن وفرحه واُنسه تكمن في الذود عن حريم الرسالة والدفاع عن حقوق المقهورين‏والمضطهدين.

ممارسات قشرية

إن هذا الفريق الذي يترك الدنيا ويتعبد بقشور الدين هارباً من لباب الدين وجوهره ومغزاه، هو أبعد ما يكون عن‏منهجية وسيرة الرسول الأكرم‏صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته الأطهار الذين كانت حياتهم كلها تحدٍّ وتصدٍّ لأسباب الظلم والتعسف ،حتى نالوا جميعاً وسام الشهادة، فتقربوا واختصروا الطريق الى اللَّه سبحانه وتعالى.

أما الفريق الثاني الذي يفصل بين الدنيا والآخرة؛ فهو شعاره (ما للَّه للَّه، وما لقيصر لقيصر) و (ماللمسجد للمسجد، وما للسوق للسوق‏) هذا التوجه وطريقة التفكير تصنع من المرء رجلاً ازدواجياً ومصلحياًيلهث وراء شهواته ليلتهمها، ثم يلجأ الى المسجد وأداء بعض قشور العبادات ليغطي على سوءاته، إنه يقول لك: انظر في‏المسجد ماذا يقول لك الخطيب، انظر الى إمام الجماعة كيف يركع ويسجد ويقوم، افعل كما يفعل الإمام، ولكن في السوق‏انظر ماذا تقول لك (البورصة)، وما الذي ينفعك فادخل فيه، ولا شأن لك بغير ذلك. إنه لا يهمه من صفقته‏التجارية فيما لو أضرّت باقتصاد البلد والمجتمع، إنه يتصور كأن السوق لا يحكمه قانون اللَّه.

إن اللَّه سبحانه لا يتقبل صلاة هذا الفريق فكيف بسوقه وتجارته، فالذي يصلي في المسجد ونيته الخروج منه لزرع‏الفساد والظلم في الأرض، هذا من الذين لا تقبل أعمالهم العبادية الظاهرية، لأن اللَّه سبحانه يقول: (فَوَيْلٌ‏لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏)(الماعون/7-4)فصلاة هذا الفريق لا قيمة لها، لأنها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر.

أما الفريق الثالث الذي يخوض في الدنيا مع الخائضين ولا يهتم بالمسجد ولا بالأحكام والقيم الشرعية والإلهية؛ فهوالآخر سوف يؤول مصيره إلى نار جهنم، لأنه لا يهتم في الدنيا إلاّ بما يرضي شهواته وغرائزه الحيوانية الزائلة.

يبقى الفريق الرابع من الناس، وهو الفريق الذي ينجو من نار جهنم ويضمن سعادة الدارين، هو ذلك الذي يجعل الدنيامزرعة لآخرته، وتصبح الآخرة هدف الدنيا بالنسبة له؛ بل يرى الحياة كلها بأبعادها وجوانبها المختلفة والمتعددة في‏محضر اللَّه سبحانه.. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏)(الانعام/162).. إنه لايفرق في كل حركة يقدم عليها بين الدنيا والآخرة، فهو يتحرك في الدنيا ببواعث الآخرة، وهذا الفريق من الناس هوالذي يسلك الطريق السليم والقويم الذي يشير إليه سبحانه في سورة (التين‏)، والتي تصور هذه السورةالمباركة معالم الحضارة الإلهية التي يبعث فيها الإنسان روح التحرك والفاعلية.. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِسِينِينَ‏) إنه سبحانه وتعالى يشير إلى المادة الحيوية والغذائية التي تنفع جسم الإنسان وتغذّيه وتطعمه ليتمكن‏بسببها من بناء معالم الحضارة الإلهية على الأرض. فالتين فهو من الفواكه الطيبة التي تقضي على كثير من الأمراض،كداء (النقرص‏) أو يصطلح عليه ب ( داء الملوك‏) والذي أصبح اليوم داء شائع بين الناس، فهوينظم حركة الدم في جسم الإنسان. وكذلك (الزيتون‏) والذي يعتبر غذاءً وإداماً مقوياً لجسم الإنسان، وإن‏زيته مفيد للجسم دون إحداث مضاعفات، فزيت الزيتون لا يضر بكبد الإنسان، كما تضر الدهونات الأخرى، فلذاينصح الأطباء المرضى أو المصابين بارتفاع في نسبة (الكلسترول‏) في الدم إلى تناول زيت الزيتون.

معالم الحضارة الالهية

إذاً، فالتين دواء والزيتون غذاء .. (وَطُورِ سِينِينَ‏) أي ذلك الجبل المتوسط الذي انتشرت على روابيه أشجارالزيتون، لتشكل هذا المنظر الجميل الذي يوحي إلى اعتدال الهواء فيه ، لأن الزيتون لا ينمو إلاّ في المناخ المعتدل ..(وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏) .. هو ذلك التجمع الإنساني الحضاري المتكامل الذي يكتنفه عنصر الأمن.

إن الأمن من العناصر الحياتية الضرورية التي تحتاجه كافة الكائنات الحية وبالذات الحياة البشرية ، فلو كانت لناحضارة متقدمة وراقية ولكن ليس فيها أمن، فما فائدة تلك الحضارة وصرحها الشامخ ؟ فلو قالوا لك مثلاً؛ هناك قصرمنيف جداً ولكن فيه (جن‏)، فحتى لو باعوه لك مجاناً، فهل على استعداد لتسكن فيه؟!

نتذكر أن أيام القصف الصدامي على عاصمة الجمهورية الإسلامية وبسبب توالي الصواريخ كان الناس يخرجون من‏المدينة ويتركون وراء ظهورهم البيوت الكبيرة والقصور والشوارع و.. ويلجؤون إلى القرى والفيافي بحثاً عن الأمان!

إذن، فاللَّه سبحانه هيأ للإنسان الفاكهة وهيأ له الإدام المناسب، ووفر له الموقع الحصين والجميل والرابية الخضراء(وَطُورِ سِينِينَ‏) ومنحه الأمن والتعاون.. فكل هذه هي آلاء ونعم إلهية يقسم اللَّه تعالى بها بعد أن وفرهاجميعاً لمصلحة الإنسان.. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏)، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يحرث‏الأرض ويستنبتها ويطعم نفسه بالتين والزيتون الذي يحافظ على أمنه وأمانه من أسباب الخوف والرعب كالزلازل‏والحروب؛ إن هذا الإنسان خلقه سبحانه وتعالى خلقة قويمة ومتكاملة لا يعتريها نقص ولا يشوبها عوز، لقد منح‏بالعقل الذي هو قوام التطور والانطلاق لتشييد صرح حضارته البشرية، فهو يمتاز عن كافة الكائنات الحية الأخرى‏بالقدرة على التفكير وتطوير الأساليب والوسائل العملية والتعاون مع الآخرين لبناء مدنيته، وهذا مالم ولن تقدر عليه‏الحيوانات.

بين قوام الإنسان وتسافله‏

ولكن نفس هذا الإنسان القويم والمتكامل، بإمكانه - بين عشية وضحاها - أن ينزل إلى مستوى حتى دون مستوى‏الوحوش الكاسرة، فتراه يختلف مع زميله فيتراشق وإياه بالكلمات والاتهامات، فيتحول إلى نزاع، ثم إلى معركةيستنجد بها كل طرف بقبيلته أو جماعته، فتشتعل الحرب الضارية بين الطرفين، فتحيل الحضارة والمدنية التي شيدها إلى‏أنقاض ورماد. هذا الإنسان هو الذي يخرب بيته بيده فيتسافل بعد أن خلقه اللَّه سبحانه وتعالى عظيم الشأن والمنزلةإلى مرتبة أدنى من مرتبة ومقام الحيوانات، لأن الحيوانات قد تأكل بعضها بعضاً بحثاً عن رزقها وطعامها الضروري‏والحياتي، إلا أنها لا تنهش كياناتها وتجمعاتها، غير أن هذا الإنسان يتسافل في حيوانيته لينهش لحم أخيه ويدمروجوده وحضارته .. (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏) .. ما هو العمل‏الصالح؟ فالبعض يفسره بأداء الصلاة أو الصوم أو الحج وباقي الفروع العبادية، إلاّ أنني اعتقد أن هذا إيمان وليس عملاًصالحاً، إنما العمل الصالح هو الذي له منفعة ومصلحة للأمة وللمجتمع. فالكاسب والكادّ على عياله الذي يذهب إلى‏السوق ويحترف التجارة ويحصل على المال الحلال فإنه يعمل عملاً صالحاً، فكسب المال إذاً كان الهدف منه إشباع‏العيال وخدمة المجتمع، فهو عمل صالح ويؤجر المرء عليه لما يقدم خدمة للمجتمع وللآخرين.

وقد روي عن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع،والمركب البهي، والولد الصالح‏)(4).

ومن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي‏عليه السلام بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي -وهو من أصحابه- يعوده،فلما رأى سعة داره، قال: (ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاأنت قد بلغت بها الآخرة)(5).

وأتذكر في أخريات حياة المرحوم والدي‏رحمه الله كان يجتهد في بناء بيت لأحد الأقارب، وكان يهتم كثيراً بهذا الأمر وهوكبير السن قد تجاوز الثمانين، فقلت له: سيدنا! كيف تتعب نفسك وأنت في هذا العمر؟ فقال -رحمه اللَّه-: إنه ليس لي أجرفي الدنيا من ورائه، ولكن أريد أن يجلس الأقارب فيه ثم يترحّمون عليَّ بعد وفاتي.

إن الحياة التي ألفها المؤمنون سابقاً كانت مشفوعة بالتعاون والتواصل، فكان الناس ينظفون طرقهم بأيديهم - ولم تكن‏في السابق مديرية البلدية - وكان يضع كل منزل مشكاةً ومصباحاً فوق داره ليضي‏ء الدار وطريق المارة، وكانوايتسابقون في إماطة الأذى عن طريق الناس .. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا)(الاعراف/56)

إنك ترى في بعض بلداننا كراسي حافلات نقل الركاب ملوثة وأعقاب السجائر مرمية هنا وهناك، وكأن الناس قدنسوا الحديث الشريف الذي قاله الرسول الاكرم‏صلى الله عليه وآله وسلم: (النظافة من الايمان‏)(6).

الحضارة الالهية ؛ قمة الرقي المعنوي والمادي‏

إن بلادنا الإسلامية ينبغي أن تكون أرقى بلدان العالم على كافة النواحي والأصعدة كافة، سواء في مجال الصناعةوالزراعة والتكنولوجيا؛ بل يجب أن نحوز على الرقم القياسي في هذا المجال، وذلك لأن المؤمن هو الذي يعمر دنياه‏ببواعث الآخرة، لأن الدنيا في رؤيته مزرعة الآخرة، ولهذا نحن عندما نراجع مصارف الزكاة في سبيل اللَّه في الكتب‏الفقهية - ككتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي - نرى أنواع المصارف المتعددة لهذه الفريضة، كبناء القناطر والجسوروالطرقات والمدارس والمساجد. فالمسجد أو الجسر لا يختلف ثواب بنائه عن الآخر.

فإذا كان الإنسان الكافر والمشرك يعمر ويبني دنياه بدوافع مادية بحتة، فالمؤمن يعمر الدنيا بدوافع أخروية إلهية أيضاً.

إن آباءنا وأجدادنا السابقين تمكنوا من أن يشيدوا مدنيتهم المادية بدوافع معنوية كبيرة، حتى ذهلت منها عقول العلماءالمعاصرين، فكانت كلها بدوافع إيمانية نبيلة، فتلحظ فيها كافة صور الإبداع والخلاقية، فتتعجب من دقة العمل وذوق‏التفنن، فترى الجسور التي بنيت على نهر اصفهان والمعروفة ب (33 جسراً) قد فاقت في إبداعها الجسورالحديثة رغم مرور مئات السنين على بنائها، بل قد ترى بعض الجسور الحديثة سرعان ما تتهدم لمجرد تعرضها لعارض‏بسيط.

من هنا، يجدر بنا في نهضتنا الحضارية أن لا نألوا جهداً في التزود الإيماني، مضافاً إلى الحصول على علوم الحياة.

وربنا سبحانه وتعالى يقول: (إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏) يعني أن أجرهم لاينقطع، لأنه مبارك، وتستمر بركته إلى الأبد.. ( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏)، إن‏عملك الصالح يجزيك اللَّه ازاءه خير الدنيا والآخرة.

==============

#أسس الحضارة في القرآن الكريم‏

(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُواوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ‏أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَيَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏)(الحشر/12-9)

في هذه الآيات الكريمة صورتان متقابلتان ومتناقضتان عن الإيمان والنفاق، ففي حين تشعّ صورة الإيمان في حدث‏تأريخي هام هو إيثار الأنصار للمهاجرين على أنفسهم بكلّ ما يملكون، وخروجهم من شحّ ذواتهم إلى رحاب القيم‏والمبادئ، تتجلى الصورة الثانية في حالة النفاق، والغلّ، والكذب، والدجل، التي كانت قائمة بين الكفّار من أهل الكتاب‏والمشركين أو المنافقين الذين وعدوهم بالنصرة ثم خذلوهم، وخانوهم.

إن في هاتين الواقعتين التاريخيتين؛ واقعة إيثار الأنصار وحادثة دجل المنافقين وكذبهم على أهل الكتاب من اليهود،ألفَ عبرة وعبرة لنا.

وفي الواقع؛ فإن الآيات القرآنية تحدثنا عن قضية معينة، ولكن من خلال أفق أوسع بحيث إننا لو استندنا إلى آية قرآنيةواحدة لاستطعنا من خلال منظارها أن نرى العالم كله. فعلى الرغم من أن الآية الواحدة تبين لنا حقيقة خاصة إلا أنهاتضمنت أيماءً وإشارة إلى سائر الحقائق الكونية، وهذا من معاجز القرآن الكريم.

والآيات التي أوردناها في مقدّمة هذا البحث يمكننا أن نستوحي منها القواعد التي لابد أن ننطلق منها لبناء صرح‏الحضارة الإسلامية الشامخ؛ بمعنى أننا لو استلهمنا من هذه الآيات كل معانيها السامية لاستطعنا أن نحوّلها إلى برامج‏عملية لقهر التخلّف الحضاري الذي نعاني منه.

ما هي الحضارة الحقيقية؟

والحضارة هي: حضور الإنسان عند الإنسان، وتعاونه، وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور المادي وانتهاءً بالتفاعل‏المعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود هي التي تشكل قواعد الحضارة.

والقرآن الكريم لا يريد لنا أن نكون صوريين قشريين نتحدث فقط عن الإنجازات والمكاسب والبنى الفوقيةللحضارة، أو عن القشور الخارجية للتقدم، بل يريد منا أن نكون موضوعييّن، واقعيين، من ذوي الألباب؛ فإن تحدثناعن شي‏ء تحدثنا عن خلفيّاته، وعن أول نشأته، وعن طريقة نموّه وتكامله، ولا نكتفي بالحديث عندما انتهى إليه.

والقرآن عندما يحدثنا عن المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بناه، وشيّد صرحه رسول الإسلام سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم في‏المدينة المنورة فإنه لا يحدثنا عن طبيعة البيوت، وطريقة تعبيد الطرق، ولا عن أسلوب بيعهم وشرائهم، بل يحدثنا عن‏أمر آخر؛ عن قواعد الحضارة، وتلك الروح الكبيرة التي استطاعت أن تستوعب شتات القبائل العربية المتناحرة التي‏كان شعارها الخوف، ودثارها السيف، والتي كانت تعيش في وضع متأزم، ويهدد الفناء حياتها، وكانت طعمة للغزاة.

ومع كل ذلك فقد حوّلهم رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام، وبالقرآن الكريم الذي بين أيدينا إلى ذلك المجتمع الفاضل‏الذي يضرب به المثل في التقدم المعنوي والمادي.

قواعد الحضارة

ترى ما هي أسس وقواعد الحضارة التي يحدثنا عنها الخالق عز وجل في الآيات السابقة؟ أنها كما يلي:

1/ حبّ الآخرين‏

الأساس الأول هو حبّ الآخرين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏)، فعلى الرغم من أن الإنسان مفطور على‏الحسد، وحبّ الذات، وكره الآخرين، ولكن أولئك الأنصار كانوا يستقبلون المهاجرين بالحبّ قبل كل شي‏ء، وذلك‏عندما كانت وفود المهاجرين تتقاطر عليهم تاركة بلدها، وأموالها، وإمكاناتها الاجتماعية، وقادمة صفر اليدين، لايملكون من مال الدنيا شيئاً.

إن بإمكان الإنسان أن يصطنع الحبّ في قلبه، وبإمكانه أن يداهن، ويجامل الآخرين دون أن يكنّ الحبّ الحقيقي لهم. أمّاالحبّ النابع من أعماق القلب فهو شي‏ء آخر، إنه يدلّ على تحول في أعمق أعماق الإنسان ولذلك قال تعالى عنهم:(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا)؛ أي أنّ حبّ هؤلاء يسمو على كل‏علاقاتهم؛ فما قيمة الدار، وما قيمة الأثاث والمتاع، وما قيمة العلائق المادية الأخرى؟

2/ السموّ على الأمور المادية

إن الإيمان هو القيمة الأسمى، فنفوسهم كانت تسمو على الأمور المادية، وعندما كانوا يدفعون مقداراً من المال، أويتنازل الواحد منهم للمهاجرين عن الأرض والدار، أو عن زوجته الثانية من خلال تطليقها ليتزوّجها المهاجر، فإنه‏مع ذلك لا يستعظم ما قدّمه، ولا يرى قيمة له، فلا يلحق بما قدم مَنّاً ولا أدىً.

3/ الإيثار على النفس‏

الصفة الثالثة تتمثل في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وهذا هو منتهى العطاءوالجود في سبيل اللَّه تعالى.

4/ إيقاء النفس من الشح

وتلك الصفات الثلاث تجمعها صفة واحدة أساسية يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ‏هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏). وكلمة (من‏) جاءت بحيث تحتمل الجمع، وتحتمل الأفراد في نفس الوقت، ولكنّ الكلمةالثانية (يوق‏) توحي بالمفرد، لأن الإنسان عندما يوقى شحّ نفسه، ويخرج من زنزانة ذاته، فحينئذ سوف لايكون إنساناً واحداً، بل سيكون في رحاب الجمع، ولا يلبث أن يصبح مجتمعاً، ويتحول إلى حضارة.

إن الإنسان الذي يوقى شحّ نفسه، ويتحرّر من ذاتيته وأنانيته فإنه سيلحق بتجمّع الرساليين عبر التاريخ؛ وينضمّ إلى‏صفوف شخصيّات عظيمة مثل آدم، وإدريس، ونوح، وإبراهيم الخليل، وموسى بن عمران، وعيسى بن مريم، ونبينامحمدصلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهارعليهم السلام وسيلتحق بركب الحضارة التاريخية، ولذلك قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏)، وهذه هي الصفة الأساسية التي تتفرّع منها سائر الصفات.

إننا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا، وهل نحن في عداد هؤلاء الأشخاص الرساليين، فإن مقياسنا في ذلك هو الصفات‏الفرعية، فإن كان الواحد منا محباً للمهاجرين، ولايجد في صدره حاجة مما أوتي، وكان مؤثراً على نفسه ولو كان به‏خصاصة، فحينئذ سيكون ممّن قال عنهم عز وجل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏).

الوحدة منطلق تأسيس الحضارة

إننا قد لا نعيش أزمة حضارية، وقد لا نمر بالغليان الثوري الذي يهزّ المجتمع من الأعماق فنحتاج إلى الإيثار، ولكننانعيش -لا ريب- في حالة نحتاج فيها إلى الوحدة، ولذلك يقول اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا). فبداية تأسيس الحضارة، ومنطلق الوحدة اعتراف الإنسان بالذنب، واعترافه باحتمال أن يصدرالخطأ منه برحابة صدر، وإلا فإن أرضية الوحدة لا يمكن أن تتهيأ أبداً.

إن هذه الأرضية تتطلّب مني أن اعترف بخطأي، واستغفر اللَّه، قبل أن أشير إلى أخطاء الآخرين، واستغفر لهم. وإلى هذاالمعنى يشير قوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ‏). والغل يعني أن تضمر في‏نفسك السوء للآخرين، فإن كان هذا السوء يعني أن تحبّ لنفسك ما لا تحب لهم، وتكره لها ما لا تكرهه لهم، فإن هذامعناه أنك تحب أن يرتكبوا خطأ، وينزلقوا، ويتوقفوا عن التحرك إلى الإمام. فالغل هو أي سوء تضمره في نفسك‏للآخرين، ولذلك يقول عز وجل محذّراً من هذه الصفة: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ‏فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ‏).

والملاحظ هنا أن اللَّه سبحانه استخدم صفة الرأفة والرحمة عندما تحدث عن ضرورة أن يكن المؤمنون الحبّ لبعضهم‏البعض. وهذا معناه أننا عندما نريد أن نتحدث عن التعاون، والوحدة بين الأصدقاء، فإن علينا أن لا نتحدث معهم بلغةالجبار، ولغة عذاب اللَّه، بل بلغة رحمة اللَّه ورأفته.

إن على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق ربه، فعندما تريد أن تتعاون مع الآخرين فلا تحصِ أخطاءهم. فاللَّه سبحانه وتعالى‏هو الذي يتولى المحاسبة والمراقبة، وهو الذي من أجله نعمل، وهو الغفور الرحيم.

إن هذه هي الصورة الحقيقية للحضارة كما يرسمها لنا القرآن الكريم، فهي ليست مجرّد كلمات وشعارات، أو إنجازات‏مادية، بل هي مكاسب معنوية قبل كل شي‏ء، وهي تعاون ينطلق من حالة الإيثار.

ثمّ يصوّر لنا القرآن الكريم الجانب المخالف للحضارة، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ‏كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ‏لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ‏).

ترى من أي فريق نريد أن نكون؟

إننا يجب أن نجتهد اليوم من أجل أن نكون من الفريق الأول، وللأسف فإن الكثير منّا يرفع شعار الوحدة، ولكنه عندمإ؛

ّّيواجه الواقع العملي سرعان ما ينهار، فتزلّ قدمه بما يرفع من شعار.

إننا نعلم أن هناك خلافات، وأن هناك وجهات نظر مختلفة، وأسباباً تدعو إلى الشقاق، ولكن لابد أن نتمتّع بتلك النفسيةالرحبة التي تستطيع أن تستوعب الجميع، ولابد من أن نصمد أمام الخلافات، فلا نستسلم لأي إنسان يثيرنا بصورة أوبأخرى بحيث تشتعل حرب لا تبقي ولا تذر بسبب أمور ثانوية تافهة.

أن من العار علينا أن ندخل في صراع مع بعضنا البعض، فالأعداء يتربصون بنا الدوائر، والقرآن الكريم يأمر أن نكون‏أشداء على الكافرين، أذلّة مع المؤمنين الذين يتمثلون اليوم في التجمعات الإسلامية، والمؤسسات الدينية. صحيح إن‏هناك الكثير من النفوس الطيبة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن أن الشيطان قد تكون له بعض الخطوط في هذه التجمعات‏والمؤسسات، وقد يستطيع النفوذ إلى مواقع قريبة من القيادة، ويمرّر إليها بعض الأوراق الصفراء المليئة بالتهم ضد هذاوذاك، فإن لم تكن هذه القيادة متصفة بصفة الإيمان الحق، والحكمة، والرشاد، والتريّث في الأمور فإنها ستقع لا محالة في‏تلك المزالق الشيطانية.

إن الشيطان قد لا يخدعك -كقائد- بشكل مباشر، ولكنه يخدع من وراءك، كصديقك ومن يعمل معك، أو يخدع‏الطفيليين الذين يدورون حولك، ويجعلك تنخدع من خلالهم. فلتعلم القيادات أنّها -هي الأخرى- قد تكون طعمةسائغة للدوائر الاستعمارية، لأن وحدتنا تهددهم، وتشكل الخطر الرئيسي عليهم، ولتتذكر قياداتنا إن شياطين الإنس‏لهم طرق خفية ، فلا تنس هذه القيادات أن مواقعها خطيرة، وعليها أن لا تتورّط في الصراعات، ولا تنسى أن بعض‏من يحوم حولها قد يثير الخلاف باسمها، وفي هذه الحالة سيضطرّ القائد إلى خوض الصراع بسبب عدم انتباهه وحذره.

وبالطبع؛ فإنه لا بأس أن يعتمد القائد على مجموعة أو أجهزة معينة، ولكنّ القرار النهائي يجب أن يكون بيده، كما يقول‏عز وجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏)(آل عمران/159).

فالحذر الحذر من أن يتدخّل الآخرون سلبياً في قرارات القائد، وخصوصاً في قضايا الصراع، فإنهم في هذه الحالةسيشعلون نار هذا الصراع، ويتركون القائد يحترق في نارها دون أن يشعر.

إن من الواجب على الأمة الإسلامية أن تنصح القيادة، وربّما يكون من أبرز معاني النصيحة أن تقول لها الحق، ولاتحاول التأثير على قراراتها من خلال التقارير الكاذبة. وهذه هي من أهم واجبات من يحيط بالقيادات في المؤسسات‏الدينية، أو التجمعات الإسلامية.

وقد يصبح الواحد منّا قائداً في المستقبل، وأنا أوجّه تحذيراتي هذه بالدرجة الأولى إلى الشباب الرسالي، وإلى طلاب‏العلم الذين من الممكن أن يتصدّوا لمراكز قيادية في المستقبل، فالفتيا لا تنحصر في مسائل الدماء والطهارة وما إلى ذلك‏من أبواب الفقه، بل إن المواقف هي فتاوى بحدّ ذاتها، فلنتخذ مواقفنا هذه بوعي وعمق، ولنفكّر ونجيل النظر فيها قبل‏أن نتخذها. فالفقيه من الممكن أن ينفق عشرات الأيام من أجل أن يعرف حكم مسألة شرعية قد لا يبتلي بها إلا القلةمن الناس، أما بالنسبة إلى المواقف فيبغي أن ننفق عليها أضعافاً مضاعفة من الأيام لكي لا نقع في أخطاء فادحة تسبب‏الضرر إلى الأمة كلها.

وكل ذلك من الممكن أن نتفاداه من خلال تطبيق الأسس الحضارية التي أشارت إليها الآيات القرآنية السابقة، والتي‏تعتمد بالدرجة الأولى على الأساس الأكبر المتمثل في سيادة روح المحبة، والتآلف والتعاون بين صفوف المؤمنين.

==============

#بصائر الحضارة في سورة المائدة

الحديث عن علاقة الدين بالحضارة حديث ذو شجون، وقد أسهب في تفصيلها وشرحها الكثير من المؤلفين والباحثين.

وخلاصة رؤيتنا فيها؛ إن الحضارة والدين يشتركان في الطريق، ولكن الحضارة البشرية -وأعني بها الجوانب الإيجابيةمن مدنية الإنسان- تتوقف عند الحياة الدنيا، بينما يستمر الدين في تنظيم حياة الإنسان في الآخرة أيضاً .

وفي هذا أود أن أتحدث عمّا توصلت إليه من خلال التدبر في سورة المائدة التي نستطيع أن نقول: إنها تحدثنا عن حضارةالمسلمين.

والمعروف عن هذه السورة أنها آخر سورة نزلت على قلب النبي الأمين‏صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها آية إكمال الدين حيث يقول‏تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة/3).

ونحن نجد في هذه السورة أيضاً الملامح الخاصة بشخصية الأمة الإسلامية، التي تميّزها عن شخصية المعتنقين للديانات‏السماوية الأخرى وخصوصاً اليهودية والنصرانية.

مقياس تسمية السورة القرآنية

وقبل أن نتحدث عن البرنامج الحضاري الذي نستخلصه من هذه السورة المباركة، نود أن نقف قليلاً عند كلمة(المائدة) التي سميت السورة بها، بل لماذا سميت السور القرآنية -أساساً- بالأسماء المعروفة عنها؟

إن اللَّه تبارك وتعالى ينتزع أسماء السور من الواقع، وبالذات من أكثر الحقائق والظواهر إثارةً في هذا الواقع؛ فعندمايحدثنا القرآن الكريم في سورة (البقرة) عن التقوى، ودورها في بناء شخصية الفرد والمجتمع، فإنه على الرغم‏من ذلك يطلق عليها اسم (البقرة) لأن قصة أصحاب البقرة قصة مثيرة، وهي تتكرر في حياة المجتمعات،حيث أن أغلب الناس يزعمون أنهم متدينون، وأنهم ليسوا منافقين بالمعنى المعروف عن النفاق، ولكنهم - في نفس‏الوقت - ليسوا مؤمنين بالمعنى الحقيقي للإيمان، وإنما هم عناصر تحب أن تكون مؤمنة، إلا أنهم -في ذات الوقت-يحاولون الالتفاف حول الدين، والقيم، والأحكام، وخصوصاً تلك التي تبدو صادقه وحاسمة وشديدة الوقع عليهم.ولذلك فقد أطلق اسم (البقرة) على هذه السورة المباركة استناداً إلى الفكرة المستوحاة في قصة بني إسرائيل‏المعروفة.

وهناك سورة مباركة أخرى تحدثنا عن القيادة الإسلامية التي تمنح المسلمين الانسجام والتكامل والتفاعل، وقد أطلق‏على هذه السورة (آل عمران‏)، لأن وجود القيادة النزيهة الطاهرة المختارة من قبل اللَّه جل وعلا هو ركيزةوحدة الأمة، ولذلك سميت هذه السورة ب (آل عمران‏).

أمّا السورة التي تحدثنا عن المجتمع الإنساني وخصوصاً المجتمع الإسلامي فتحمل اسم (النساء)، ذلك لأن‏الموقف من المرأة هو سمة أساسية في حضارة المجتمعات، وفي تقدمها، أو تخلّفها.

التوجيهات الحضارية في سورة المائدة

والسورة التي نحن بصددها -أعني سورة المائدة- فإنها سميت باسم المائدة التي نزلت على بني إسرائيل في عهد النبي‏عيسى‏عليه السلام.

والمائدة -هنا- لا تعني الخوان الذي ينضد عليه أنواع الطعام والشراب، بل إنها تعني -بمفهوم أشمل- ما يسترزق‏الإنسان به، أو ما يستريح له من طعام وشراب، أو ما يسبّب الرفاه له.

في الآيات الأولى من هذه السورة المباركة تطالعنا فكرتان:

1/ نموّ التعاون.

2/ النهي عن مجموعة من المحرمات؛ كأكل الميتة، والمتاجرة بالقمار، وأنواع السحت.

ترى ما هي العلاقة بين هاتين الفكرتين من جهة، وبين بناء الحضارة الإنسانية المتطوّرة من جهة أخرى؟

الجواب؛ إن الحضارة هي الحضور؛ أي تفاعل الإنسان، وتعاونه مع نظيره الإنسان، وهذا التفاعل والتعاون قائمان على‏أساس قانون؛ إذا التزم به الجميع فإن التعاون سيسير بانتظام وتصاعد؛ أما إذا لم يلتزموا به، فإن التعاون لا يلبث أن‏يتحوّل إلى فوضى.

وقد تضمنت سورة المائدة جملة بنود للحضارة، ونذكرها كما يلي:

1/الالتزام بالقانون‏

ولذلك نجد في الآية الأولى من سورة المائدة أن اللَّه تقدست أسماؤه أمر بالالتزام بالقانون في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ‏ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة/1). وهذا هو البند الأول من البرنامج الذي سبقت الإشارة إليه، فعلى الجميع‏أن يلتزموا بالقانون، ويفوا بالعقود التي تمثل القوانين والالتزامات التي يضعها الإنسان في مجال التعامل مع غيره، أياًكان نوعها.

وهناك من العقود ما هو تجاري، وما هو اجتماعي، ونحن جميعاً سمعنا بنظرية العقد الاجتماعي التي تحاول أن تصوغ‏النظام السياسي للمجتمعات، فهي قائمة على فكرة أن الإنسان حرّ ولكنه قادر على أن يربط نفسه بعقد، فيكون ملتزماًبه ولا يجوز له أن يتحلل منه، وتقرّر هذه النظرية أن السلطة السياسية تقوم على هذا الأساس؛ أي على أساس أن‏العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة تقوم من خلال عقد سياسي.

وبناءً على ذلك، فإن الركيزة الأولى للمجتمع المتحضّر هي الالتزام بالعقود والمعاهدات كما يقول تعالى: (يآ أَيُّهَاالَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

2/ اجتناب المحرّمات‏

وأما عن البند الثاني يقول القرآن الكريم: (أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم‏).

وبعد ذلك يذكر لنا القرآن مجموعة من المحرمات، وهنا علينا أن نلاحظ نوع هذه المحرمات، فهي من النوع الذي لابد من‏تثبيته لتصفية الحضارة من الطفيليات. فهناك من المجتمعات من هو مبتلى بالطفيليات كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان؛بمعنى أن هناك بعضاً من أفراد المجتمع يعملون، ولكن هناك مجموعة منه تعيش عالة على غيرها، مثل الإنسان المرابي‏الذي يجلس في بيته وفي نهاية الشهر أو السنة تأتيه الأرباح والفوائد دون أن يبذل أي جهد، وفي الحقيقة فإن هذه‏الأرباح مبتزّة من جهد سائر أفراد المجتمع.

والنموذج الآخر من المحرمات التي نهى عنها الإسلام هو الأطعمة الخبيثة التي يشير إليها تعالى في قوله: (حُرِّمَتْ‏عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّمَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب‏).

إن هذه المجموعة من المحرمات هي من نوع آخر فهي ليست من الطفيليات، بل هي من أنواع المحرمات التي لو شاعت‏في المجتمع فإن روح التكاسل ، والتقاعس سوف تنتشر فيها. فالإسلام يطلب من الإنسان القادر الذي يمتلك النشاطوالقوة أن يعمل، كأن يزرع الأرض، أو يصطاد الحيوانات الحيّة المحلّلة، وينهاه بشدة عن أكل الميتة، أو ما يتبقى من لحوم‏الحيوانات بعد أن تأكلها الحيوانات المفترسة، أو الحيوانات الميتة نتيجة تعرضها لحادثة من الحوادث كالسقوط والنطح‏والقتل.. كل ذلك لكي ينمي في الإنسان روح العمل والنشاط وعدم الاتكال على الغير. فالحضارة التي تقوم على‏أساس تلك الصفات السلبية هي حضارة منهارة لا محالة ، بينما الحضارة المثلى لابد من أن تقوم على أساس النشاطوالاجتهاد والسعي.

ونحن نستطيع من خلال ذلك التحريم أن نستوحي بصيرة ورؤية خاصة بطبيعة الاقتصاد في المجتمع الإسلامي، تقوم‏على أساس لغو كل نوع من أنواع العمل الكاذب. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات الناجحة رأينا أن تلك الحضارات لم‏تكن لتقوم وتزدهر لو كان فيها مجموعة من تلك الأعمال الكاذبة، فكلما استطعنا أن نحذف الوسائط ونلغيها كلّمااستطعنا أن نقترب من المفهوم الحقيقي للحضارة.

3/ الإقبال على الطيّبات‏

البند الثالث يشير إليه سبحانه في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا اُحِلَّ لَهُمْ قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏)(المائدة/4).هذا هو شعار المجتمع الإسلامي، والحضارة الربانية، وتفسير ذلك أن النفس البشرية تعتريها حالتان هما؛ حالةالانغلاق، وحالة الانبساط. فحالة الانغلاق تساوي حالة التخلّف، أما حالة الانبساط فتعادل حالة التحضّر.

ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من البشر تسودهم حالة الرهبة والخوف من بعض الأشياء والظواهر المحيطة بهم؛ أي أنهم‏يمتلكون نظرة تشاؤمية تجاه ما حولهم، وإذا ما درسنا تأريخ الشعوب البدائية وجدنا أنها كانت تعبد الظواهر الطبيعةالمخيفة الموجودة في بيئتها كالبحار والأنهار، والأصوات الغريبة، والصواعق.. لأنهم كانوا يخافون منها، ومن أجل أن‏يأمنوا شرها -حسب زعمهم- فقد كانوا يعبدونها.

وعلى هذا الأساس؛ فإن الإنسان عندما يكون بدائياً متخلّفاً فإننا نراه يهاب ويخاف كل شي‏ء، ونراه يعمد إلى تحريم‏كثير من الطيبات والأرزاق على نفسه، بل إن الأصل عنده هو الحرمة، أما الحلّية فإنها استثناء بالنسبة إليه، ولذلك فإن‏الناس في ذلك العصر سألوا النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: (ماذا أحل لهم‏) ولم يقولوا: (ماذا حرّم عليهم‏)لأنهم يعتقدون أن كل شي‏ء حرام باستثناء أشياء معدودة.

أما القرآن الكريم؛ فقد أعطاهم القاعدة العامة في ذلك، فقال: (قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏)، وقدّم لهم قاعدة :(كل شي‏ء حلال حتى تعلم أنه حرام‏)، شريطة أن تكون (الطيبات‏) هي المدار في الحلّية،ذلك لأن الإنسان إذا اندفع معتقداً بأن كل شي‏ء حلال فعله يعمّم اعتقاده هذا حتى على الخبائث، وهذا مما لا يجوز،وعليه في هذه الحالة أن يعود إلى عقله وضميره ووجدانه.

وعليه؛ فإن الإقبال على الطيّبات وتجنب المحرمات هما بند أساسي من بنود الحضارة التي أشار إليها تعالى في قوله:(اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏)؛ أي الاستغلال الصحيح للطبيعة وما فيها، والقرآن الكريم يفتح لنا الآفاق الواسعة في‏هذا المجال.

4/ النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسية

بعد أن يقرر اللَّه سبحانه وتعالى أصل الحلّية في الاستفادة من نعمه، يصل بنا إلى بند آخر هو بند النظرة الإيجابية إلى‏المتعة الجنسية. فالإنسان المتحضّر من المفروض فيه أن ينظر نظرة إيجابية إلى متعة الجنس في حدودها الشرعيةوالطبيعية، في حين نرى أن الإنسان البدائي المنغلق على نفسه يتصور خطأً أن التمتّع مع الجنس الآخر هو جزء من الحرام‏إلا في حالة الاضطرار، ونحن نرى هذه الظاهرة لدى بعض الديانات إذ تحرّم على رجال الدين ممارسة العلاقة الجنسية.

أما الإسلام؛ فيفتح أمام الإنسان الأفق في هذا المجال موضحاً أن العلاقة الجنسية في حدودها الشرعية لا ضير منها؛ بل‏إنها تعتبر واجبة في بعض الأحيان كان يشعر الإنسان بأنه سيندفع إلى ارتكاب المحرّم في حالة عدم زواجه.

وبناءً على ذلك؛ فإن ممارسة العلاقة الجنسية تعد أمراً طبيعياً من وجهة النظر الإسلامية إذا ما تمت على ضوء أحكام‏الشريعة الإلهية، وأن ليس هناك من داعٍ إلى أن يشعر الإنسان بتأنيب الضمير والكآبة بعد ممارستها، فقد أثبت علم‏النفس والتربية الحديث أن شعور الإنسان بالندم والكآبة بعد ممارسته للجنس يعد حالة غير طبيعية ناجمة عن عوامل‏تربوية خاطئة.

وقد أشار سبحانه إلى هذا البند المهم من بنود الحضارة في قوله بعد أن يوضح أن طعام أهل الكتاب حلّ للمسلمين‏وبالعكس: (...وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ اُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَ‏اُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ‏الْخَاسِرِين‏)(المائدة/5)

ونحن نستوحي من هذه الآية الكريمة أن التعامل مع الجنس يتم خلال مرحلتين؛ المرحلة الأولى باعتباره ضرورة،والمرحلة الثانية بوصفه أكثر من ضرورة. وحسب ما يبدو لي فإن الآية تحدّثنا عن هذا الجانب، فهي لا تقرّر أن الجنس‏هو ضرورة اجتماعية فحسب، بل يجب أن يتحول إلى متعة بريئة طاهرة، فيكون هناك عقد، ويكون هناك دفع للأجور،وأن يكون بريئاً من السفاح واتخاذ الأخدان. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات، فأننا سندرك أن هذا البند يمثل نوعاًمن التقدم فيها.

5/ الالتزام بالنظافة

إن النظافة هي من أصول الحضارة الإسلامية، فعلى الواحد منا أن لا يتصور أنه يقوم بعمل دوني وضيع عندما يعمد إلى‏تنظيف الوسط الذي يعيش فيه، بل إن هذا العمل هو من صميم دورنا في الحياة، والقرآن الكريم يرفع مستوى التنظيف‏إلى درجة بحيث يجعله في بعض الأحيان من الواجبات المقدسة كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله بعد أن يأمر بالتوضؤقبل الصلاة: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ‏تَشْكُرُونَ‏)(المائدة/6)

الحضارة مجموعة من القيم السامية أولاً

وفي نهاية هذا البحث لابد أن نذكّر بأن الحضارة ليست مجرد تقنية، وتكنولوجيا، وتوفير للوسائل الترفيهية، بل هي‏قبل كل شي‏ء مجموعة من القيم الرفيعة السامية التي يلتزم بها الإنسان، ومن هذه القيم؛ القيم الجمالية، فالإنسان الذي لايستطيع أن يتذوق مظاهر الجمال في الحياة ليس جديراً بأن يكون متحضراً. فنحن إذا أردنا أن نصل إلى مستوىً‏حضاريّ رفيع، فلابد من أن نهتم بالجوانب الجمالية كما نهتم بالجوانب الأساسية في حياتنا، وأن لا نقصر اهتمامنا على‏الجوانب المادية من الحضارة فحسب، فنتصوّر إن الحضارة هي التقدم في الجانب التكنولوجي والعلمي فقط، بل علينا-بالإضافة إلى ذلك- أن نهتم بالمظهر، وأن نحرص على تكريس المظاهر الجمالية في حياتنا، كالاهتمام بالنظافة، والسعي‏من أجل أن نكون منضبطين ومنظمين في جميع أمورنا، لأن النظام بحد ذاته- مظهر من مظاهر الجمال التي من شأنها أن‏تجعل حياتنا جميلة مشرقة في ظاهرها وفي باطنها، علماً إن الإسلام قد وجّه اهتمامنا إلى هذه الناحية في نصوص كثيرةفي نفس الوقت الذي لفت أذهاننا فيه إلى ضرورة تحقيق التقدم في المحتوى والمضمون.

==============

#الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة

الحضارة الفضلى الرفيعة التي تصبو إليها الإنسانية المعذبة، والتي وعد بها الإسلام، وبشّرت بها رسالات اللَّه سبحانه‏وتعالى، هذه الحضارة ترتسم لنا تباشيرها في سورة المائدة الكريمة، وهي خاتمة السور القرآنيّة التي نزلت على قلب‏نبيّنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا ما أمعنّا النظر وتدبّرنا في المعنى العميق لكلمة (المائدة) لوجدنا أنها تجسّد لنا معاني السعادة الإنسانية،والأمن، والاستقرار، وراحة النفس والروح، ذلك لأنّ ظلالها وامتداداتها أوسع وأكبر من مصطلح الحضارة، ومفهوم‏(المدنيّة)، حيث أنّ لهذين المصطلحين آثاراً بعيدة عن الصحة والصواب في أطر المفاهيم المادية السائدة،والرؤى السطحية للحياة المعاصرة.

الإسلام روح الحضارة

إنّ الحضارة الحقّة التي تفي بمعنى تلك الكلمة، هي التي تجلّت تباشيرها في رسالة السماء الخاتمة، كما تجلّت من قبل في‏الرسالات السابقة، والتي تجعل من الإنسان وتكامله محور حركتها؛ فهي تعتمد هذا المخلوق الناطق الذي كرّمه اللَّه‏تبارك وتعالى على كل مخلوق، فلا تلغي دوره أو تهمل جانباً من حياته، بل هي حضارة عدم الإفراط والتفريط في‏جميع جوانب الحياة الإنسانيّة، وفي أي بعد من أبعادها؛ وهي الحضارة ذات البناء المتكامل، وهي في داخل الإنسان‏حضارة الروح والنفس والعقل والجسم، وهي في الحساب الزمني حضارة العصر الحاضر، والزمن الماضي، والمستقبل‏الآتي. ثم إنّها حضارة المعنويات السامية، والمعاني النبيلة، والقيم والمفاهيم الرفيعة، وحضارة الإصلاح والإحسان‏والازدهار والتقدم، وهي الحلقة الرابطة بين الدنيا والآخرة، بل هي مقدمة الحضارة الأخروية ، والمبشرة بها.

والحضارة التي ترسمها لنا رسالات السماء وخصوصاً الإسلام في هذه الدنيا هي بمثابة المدرسة التي تصنع الإنسان‏وتصوغه، فيتخرّج منها البشر الصلحاء الذين يصبحون أهلاً لحضارة الآخرة.

الدعوة السامية إلى البناء الحضاري‏

ومن بين ثنايا السورة المباركة نفهم وندرك الدعوة السامية إلى البناء الحضاري القائم على الركائز والأسس الإلهية التي‏تضمّنتها كل رسالات السماء؛ فلو كان الذين اتبعوا النبي عيسى بن مريم‏عليه السلام قد أخلصوا في اتباعهم ومناصرتهم له، ولوأنّهم أخذوا بالإنجيل طبقاً لما هو في الأصل، وطبّقوه في حياتهم وانتهجوا خطوطه في مسالكهم، ولو أنّ الذين سبقوهم-أعني اتباع النبي موسى‏عليه السلام- أخذوا بالتوراة كما أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى، بلا تحريف ، ولا إضافة، ولا تزييف، ولوكانوا قد تجنّبوا الداء الذي مزّق شمل ووحدة الإنسانية في أطر الأفكار الضيقة والأطروحات الاستعلائية الجاهلية.. لوأنّهم فعلوا كل ذلك لاعتُرف بهم من وجهة النظر الإسلامية والمنظار القرآني شريطة أن يطهّروا عباداتهم وتشريعاتهم‏من تلك الأفكار والمفاهيم الدخيلة التي تشربت ونفذت إلى معتقداتهم، كفكرة الحلول والخلوص في المسيحية، وفكرةالعنصرية التي دخلت في اليهودية.

ونحن نلحظ ونلمس في الآيات القرآنية إشارات واضحة وعديدة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام زرع لنا بذورالأمل والبشرى بقيام حضارة الإنسان المتكامل، ومن تلك الإشارات الواضحة قوله عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ‏ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ‏يَحْزَنُونَ‏)(المائدة/69)

وفي آية أخرى من سورة آل عمران يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّامُسْلِمُونَ‏)(آل عمران/64)

هل تحققت الحضارة التكامليّة؟

وقد يعترض معترض في هذا المجال فيقول: إنّ شيئاً بمعنى (الحضارة التكاملية) لم يتحقق على يد الرسل‏والأنبياء على امتداد التأريخ الطويل، ولم نلمسه نحن حتى الآن، علماً أن ألفاً وأربعمائة عام أو يزيد قد انطوت على عمرالرسالة الخاتمة. ولكنني أقول جواباً على هذه الشبهة إن هذه المدّة ليست بالزمن الذي يذكر عندما نقارنه بالآلاف‏المؤلّفة من السنين في عمر الرسالات المديد، وعمر الإنسانية على هذه البسيطة. فالإنسان ربما عاش على هذه الأرض‏كما يرى ذلك علماء الجيولوجيا والتاريخ- منذ أربعة ملايين عام- على تقدير البعض، وربمّا يستمرّ في بقائه عليها إلى‏ملايين أخرى... ولكن نظرتنا السطحية واستعجالنا للأمور، سببهما أعمارنا الضئيلة قياساً بتلك المدة المتطاولة.

ونحن لنا رؤية أعمق وأوضح في هذا المجال تختلف عن الرؤى الأخرى، فعمر الإنسان وحياته على هذه الأرض أطول‏بكثير مما قيل، ودليلنا على ذلك قول الإمام علي بن أبي طالب‏عليه السلام: (وقروناً بين ذلك كثي)ر(7) ثم إن مايدعم نظرتنا واعتقادنا هذين، هو ما تم اكتشافه في بعض الحفريات والآثار، حيث قدّر فريق من العلماء أن وجودالإنسان على كوكب الأرض يعود إلى ما قبل مليون عام!!

ولو نظرنا إلى تاريخ البشرية على الأرض منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليها ثم المضيّ نحو المستقبل الممتد البعيد، فافترضنا-جدلاً- أن كل هذا التاريخ هو بمثابة يوم واحد، لوجدنا أن هناك طفرات هائلة في مقاطع متقاربة جداً ومتداخلة من‏هذه المسيرة. وبعبارة أخرى؛ لرأينا أنّ مسيرة التقدم الحضاري تتصاعد بشكل متسارع، فلو أردنا قياس عمر هذاالتطوّر الإنساني وافترضناه يوماً واحداً فسوف يتضح لنا هذا التقدّم بالشكل التالي: في الساعات الأولى لم يكن‏الإنسان يعرف شيئاً، وكان طبعه كطبع الحيوانات الوحشية، ثم في الساعة الخامسة من هذا اليوم اكتشف الإنسان النار،وبعدها بساعة اكتشف الزراعة، ثم بعدها بساعة أو ساعتين ظهرت الحياة الاجتماعية، وأقيمت المدن والقرى، وبعدبضعة دقائق من تلك الساعة أقيمت الحضارات، ثم اخترعت الماكنات والآلات، وقامت الثورة الصناعية، وبعد بضع‏ثوان صنعت المركبات الفضائية، وتم غزو القمر... وهذه هي حركة التقدم البشري، فهي بصورة متوالية هندسيةمعكوسة بالنسبة إلى العمر الزمني؛ أي إنّ الإنسان استغرق سنين طوالاً ربما كانت قروناً حتى اكتشف النار، ولكن‏المسافة الزمنية بين اختراع الماكنة البخاريّة واكتشاف الذرة لم تكن إلاّ قرنين، ثم ما هي إلاّ عشرات من السنين حتى‏وطأت قدماه أرض القمر.. وهذه هي مسيرة البشرية، وانطلاقها السريع نحو الأمام.

ونحن لو أمعنّا النظر مرة أخرى في الفترة الزمنية الأخيرة التي شهدت هذا التقدم الهائل والقفزات السريعة لوجدناهاأنها إنّما حدثت بعد أن بُعث النبي عيسى‏عليه السلام، ثم نشطت بزخم أقوى بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم،وهذا إن دلّ على شي‏ء فإنّما يدل على أنّ رسالة الإسلام، والمؤمنين الحقيقيين بها هم أصحاب البشارة الحقيقة، والقفزات‏الكبرى المترقبة.

==============

#الحوار بين الحضارات الإلهية

(إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآءِ قَالَ اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم‏مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى‏ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُالرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ‏الْعَالَمِينَ‏)(المائدة/115-112)

كانت الحياة خلية واحدة ثم نمت وتكاثرت وتنوعت. هكذا يقول علماء التاريخ.

فالحضاري في البدء كانت كلمة طيبة ثم أخذت بالنمو حتى أصبحت شجرة وارفة الظلال كثيرة الثمار عظيمة الفوائد.وهذه الحضارات الكبرى التي تضرب بها الأمثال عبر التأريخ لم تكن سوى كلمات طيبة في صدور أولي الذكر، ثم‏تطورت وتنامت وازدهرت فأصبحت حضارة يشار إليها بالبنان.

وكما كان أصل الحياة من اللَّه الخالق المبدع سبحانه وتعالى الذي يخرج الحي من الميت، كذلك كانت الكلمة الطيبة جذرالحضارة البشرية.

وقد تتفاوت مفردات التعبير عن هذا الاصطلاح، حيث يحلو للبعض من علماء التاريخ أن يعبروا عن أساس وجذرالحضارة بكلمة الفكرة الحية ويعادلون بها كلمة (الخلية الحية) حيث تتكاثر وتتنوع حتى تصبح حياةبأنواعها، كذلك الفكرة الحية تتكاثر وتتنوع فتصبح حضارة.

ولكنني أفضل الاستفادة من التعبير القرآني الأدق والأصح وهو (الكلمة الطيبة) استيناساً بقوله سبحانه‏وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي‏السَّمَآءِ)(إبراهيم/24). وإذا أردنا تعبيراً مناسباً لفكرة الحضارة، فأظن أن أرجح تعبير عن ذلك هو كلمة(المائدة السماوية).

ولعل الأسباب الكامنة وراء اختيار هذه التسمية هي:

1/ إن مفردة الحضارة مستمدة من الحضور، بمعنى أن يكون هناك أناس حاضرين إلى آخرين حاضرين. وبعضهم‏يسميها بالمدينة، إذ المجموع يجتمع في مدينة واحدة. وكان العرب من قبل يميزون بين الحضارة وغيرها على هذاالأساس، حتى قال شاعرهم:

ومن تكن الحضارة أعجبته‏

فأي رجال بادية ترانا

نظراً إلى أن البدو في الصحراء القاحلة لا يجتمعون على شي‏ء، خلافاً للحاضرين في المدينة. وعلى هذا الأساس فإن‏الحضارة والمدنية شي‏ء واحد، باعتبار أن المدنيين يجتمعون إلى بعضهم، فلا حضارة دون مدينة، ولا مدينة دون‏حضارة.

2/ لما كان الحضور والاجتماع هو الأساس، فهل يمكن تصور حضور واجتماع دون محور مشترك أو داع مقنع؟

والجواب هو النفي قطعاً، إذ الناس لا يجتمعون ولا يحضرون في مكان واحد صدفة؛ فقد يكون الماء - الذي هو وجه‏الحياة - أو التجارة أو الفكرة أو المسجد أو.. أساس حضورهم. وحينما ندرس تاريخ المدن نكتشف بأن كل مدينة قدتأسست بسبب محور ما؛ فمثلاً كانت الجزيرة العربية قليلة المياه، وكان الناس يجتمعون حول الماء أينما وجدوه، ثم‏يتكاثر الجمع حتى يشيدوا مدينة وحضارة.. ولم تكن مدينة مكة المكرمة استثناء عن هذه القاعدة، حيث شيدت على‏أساس بئر زمزم التي تفجرت تحت قدمي النبي اسماعيل‏عليه السلام، ثم تكرست مدنية الجمع بعد أن شيد النبي إبراهيم‏عليه السلام بيت‏اللَّه الحرام، فأصبحت مدينة مكة المكرمة محوراً حضارياً لكافة المدن في الجزيرة العربية آنذاك.

الحضارة روح وجسد

وبعد كل ذلك علينا الإجابة عن هذا السؤال المهم، والخطير جداً، وهو: ماذا يحدث لو اختلف أفراد الحضارة إختلافاًمعنوياً؟

إن ما يضمن استمرار المدنية هو القيم والمقدسات الصالحة لا غير، وقد جاء في الحديث النبوي المروي عن الإمام‏الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها)(8) بمعنى أن‏البلاد التي تنعدم فيها القيم والقوانين ستتحول بمرور الزمن إلى أرض خاوية، فكان لابد من فكرة وقانون ونظام‏ورؤية وإيمان تحول دون التفكك وتحفظ للمجتمع ذمته واحترامه وأمنه واستمراره في الحياة؛ أي إن الناس إذا اجتمعواوحضروا لمجرد وجود الماء دون إطار قانوني أو محتوى فكري، فإن اجتماعهم هذا سرعان ما ينتهي إلى الاختلاف‏والتناحر والتفرق والخراب، فتصبح البلاد بلقعاً.

ومن هذه الفكرة استمد علماء التاريخ والحضارة كابن خلدون وتوينبي وآخرون مقولة إن الحضارة أساسها فكرة قبل‏أن تكون مصلحة مادية، أو إن المصلحة المادية تحتل مرتبة متأخرة عن الأساس الفكري للحضارة.

ونحن نقول: إن الحضارة كلمة طيبة مصدرها اللَّه تبارك وتعالى، لأن اللَّه هو الطيب وهو الخير، وهو الذي يخلق الخيروالجمال، أما الإنسان فهو ربيب الدنيا والشهوة والمصلحة إذ منع على نفسه الخير والجمال.

إذن؛ فالكلمة الطيبة من اللَّه سبحانه وتعالى، واجتماع الناس لابد أن يكون حول شي‏ء ينزل من السماء ليسمو بهم إلى‏الأعلى، ونسمي ذلك بالمائدة السماوية التي لا تعني مجرد الأكل والشرب، حيث قد يتحققان بمجرد تناول قرص رغيف‏وجرعة ماء.. بل المائدة المقصودة سفرة ممدودة وخوان متسع يجتمع الناس حوله ليأكلوا ويشبعوا من طيبه السماوي‏المقدس.

مائدة من السماء

ولذلك نجد أن سورة قرآنية كاملة، وهي آخر سور القرآن الكريم التي نزلت على صدر نبينا محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي‏تنسخ سائر السور ولا ينسخها شي‏ء، قد سميت باسم سورة المائدة، وذلك لقصة تأريخية محورها نبي اللَّه عيسى بن مريم‏عليهما السلام والحواريون الذين نصروا نبيهم وكانوا بيضاً في ظاهرهم وباطنهم، حيث اجتمعوا حول نبيهم قائلين له:(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآء). وهذه المقولة رمز لتلكم الفكرة الجميلة التي تتنزل من‏السماء فيجتمع الناس حولها.

ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن تساؤل الحواريين بقولهم هل يستطيع ربك لا يعني تشكيكهم أو كفرهم بقدرة اللَّه‏سبحانه وتعالى، بقدر رغبتهم في معرفة هل أن ما يطلبونه مناسب إلى اللَّه...

وكان أول شي‏ء واجههم به النبي عيسى‏عليه السلام هو قوله: (اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ‏) أي أنكم إذا كنتم تريدون‏مائدة من السماء فعليكم بالتمحور حول مبدأ وثقافة التقوى التي هي أفضل مائدة وأطيب كلمة.

ولم يكن أمام الحواريين الذين تربوا في ظل الرعاية النبوية إلاّ التسليم لهذه الحقيقة الربانية، ولكنهم في الوقت نفسه‏تمادوا في الاستكثار من الطلب، حيث طلبوا إلى نبيهم أن يسأل اللَّه لأن ينبئهم بقبول تقواهم وعبادتهم فينزل عليهم‏المائدة لكي تتجسد التقوى في شي‏ء ملموس يرونه، فكان أن قالوا:

1/ (نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا) ومن الطبيعي أنهم لم يكونوا جياعاً حتى يطلبوا أكلاً لمجرد إشباع بطونهم، بل إن‏الأكل من المائدة السماوية الإلهية ليتجسد لديهم رمز المحبة بينهم وبين اللَّه. وبعبارة أخرى؛ إنهم طلبوا من النبي‏عيسى‏عليه السلام أن يحملهم إلى ضيافة اللَّه بشكل مباشر وملموس، تماماً كما يستضيف اللَّه أمة نبيه محمدصلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان‏الكريم، حيث يضاعف اللَّه على المسلمين بركاته ونعمه ورحماته في شهر الصيام.

2/ والأهم من الأكل الظاهري هو أنهم قالوا: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) إذ نحن - الحواريون - مؤمنون بأنك روح‏اللَّه وكلمته وأن الكتاب والحكمة قد أنزلها اللَّه عليك، ولكننا نريد تكريس هذا الإيمان. فأن يسعى المرء إلى حقيقةيطمئن إليها قلبه، فإنه في واقع الأمر يسعى إلى هدف مقدس.

3/ وبعد اطمئنان القلب؛ قلب الحوارين لنبيهم (قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَاوَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ‏)(المائدة/113) فإنك - يا نبي اللَّه - حينما بشرتنا بالجنة، نريد أن نرى شيئاً منهاعلى هذه الأرض، وهذه كلها رموز لها مصاديقها، تماماً كما بشر رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالجنة وبشرهم أيضاً بأنهم‏سيكونون ملوكاً في الأرض أيضاً، وقد تحقق لهم ذلك، فصدقهم الرسول.

4/ وحينما يطمئن القلب، ويتضاعف الإيمان بمزيد من العلم، وتشبع البطن، ويقوى الجسم، هنالك يتوجب على المرءأكثر من أي وقت مضى أن يقوم بدوره التأريخي، فيكرس كل جهده ليرفع راية كلمة السماء الطيبة، فيشهد لها بين‏الناس ويحثهم على اتخاذها محوراً في حياتهم.

5/ وحينما اطمأن النبي عيسى‏عليه السلام إلى عهدهم دعا ربه بقوله: (اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَاعِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ‏) نظراً إلى أن إطمئنان القلب وتضاعف الإيمان وقوة الجسم يعني تجدد الحياة،وهذا هو معنى العيد والعودة إلى ممارسة الواجبات وتحقيق المسؤوليات. وها هم المسلمون حينما يلتزمون بواجبات‏شهر الصيام ويستوعبون القدر الممكن من حكمته فإنهم يحتفلون بالعيد، ليس لانتهاء أيام هذا الشهر الكريم، وإنمإ؛ّّلأنهم تزودوا منه بخير الزاد، فتراهم يعودون إلى تحقيق وتطبيق ما تعلموه من مفاهيم ربانية طيلة الشهور القادمة حتى‏يحل عليهم شهر رمضان آخر فيعيدون الكرة من جديد...

ولم يكن طلب النبي عيسى‏عليه السلام - الناطق باسم الحواريين - من ربه مجرد طلباً مؤقتاً، بقدر كونه طلبه أبدياً يعم أول‏المؤمنين كما يعم آخرهم إلى يوم القيامة، حيث تكون قصة نزول المائدة مبعثاً للأجيال لأن يتذاكرونها فيزداد ايمانهم‏وحيويتهم.

6/ (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ‏)(المائدة/115) وهذا قانون سماوي صارم لا يقبل التغيير والتبديل مطلقاً.

بعد هذه الاطلالة القرآنية على ما دار بين النبي عيسى‏عليه السلام وحواريه، لابد أن نقول: إن النبي عيسى‏عليه السلام وقصته ليس‏للمسيحيين فقط، كما أن النبي موسى‏عليه السلام وسيرته ليسا حكراً على اليهود؛ بل وحتى رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم ليس للمسلمين‏فقط، وإنما هو رحمة للعالمين.

إن أساس الحكمة الربانية من بعثة النبي عيسى خصوصاً والديانة المسيحية عموماً إنما يكمن في التبشير بخاتم الأنبياءوالرسل محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال اللَّه تعالى في ذلك: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَآئِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم‏مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌمُبِينٌ‏)(الصف/6). فكان دوره الأول البشارة ودوره الأخير هو البشارة أيضاً، حيث سيأتي يوم ينزل اللَّه‏فيه النبي عيسى‏عليه السلام من جديد ليبشر الناس بظهور الإمام الحجة المهدي عجل اللَّه فرجه الشريف، وهذه هي حكمةخلقة وبعثة النبي عيسى‏عليه السلام.

وعليه فإن الديانة المسيحية ليست إلاّ تمهيداً للديانة الإسلامية؛ أي ان الديانة المسيحية كلما توسعت كلما تضاعفت‏فرص انتشار الدين الإسلامي، لذلك تجد القرآن الكريم يذكرنا بأن أقرب الناس إلى المسلمين هم. (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّالنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارى ذلِكَ بِاَنَ‏مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون‏)(المائدة/82) لأن فيهم قسيسين يقرأون الكتاب ويصبحون‏من ذوي العلاقة بالإسلام.

الحضارة الحقيقية

إن الحضارة الحقيقة هي الحضارة الإلهية، ولم يتبق من نماذج هذه الحضارة سوى حضارتين، وهي المسيحيةوالإسلامية، وقد أثبتت حقب التاريخ أن ما لم يتصل بالسماء مصيره إلى الفناء الحتمي، وقد قال غورباتشوف -آخررئيس سوفياتي- لدى انهيار الاتحاد السوفياتي: إن سبب هذا الإنهيار هو أن الإتحاد السوفياتي لم يكن يؤمن باللَّه.والمهم هو أن هذا الكيان السوفياتي قد عاد مرة أخرى إلى الإسلام والمسيحية، وقد سبق أن قلنا بأن المسيحية مقدمةلانتشار الإسلام.

من هنا أدعو إلى حوار الحضارتين المسيحية والإسلامية دون غيرهما، لأنهما هما المسيطرتان على الفكر البشري، كماأدعو إلى أن يكون جوهر هذا الحوار حول السعي نحو اقناع المسيحيين بفكرة أنهم مبشرون للإسلام؛ فالإسلامي هوالدين الناسخ لكل الديانات، لأنه الخاتم، ولأنه الأحدث، ولأنه الديانة الوحيدة التي أمنت من التحريف بفضل اللَّه‏ورحمته.

اقول: لما كان من الخطأ على المسلم أن يطلق تسمية الحضارة على الوجودات التاريخية غير القائمة على أفكار السماء،فإنه من الخطأ أيضاً أن يطلق على حواره معها تسمية حوار الحضارات، فهل الحضارة هي إهرامات مصر، أم قلاع‏بعلبك، أم بقايا آثار بابل وسومر وجدار الصين؟

كلا؛ فهذه مجموعة من نماذج البناء البشري الذي سرعان ما تهدم... وتهدم لأنه لم يقم على أساس الفكر الإلهي، وإنما قام‏على أساس ظلال وآثار ذلك الفكر المقتبس من الآخرين.

فأية حضارة هذه التي تعتمد عبادة البقر في الهند؟

وأية حضارة هذه القائمة على مبدأ العنصرية كما في اليونان؟

وأية حضارة هذه القائمة على أساس استغلال الضعفاء والفقراء كما حصل في الصين القديمة؟

وأية حضارة هذه ا لتي تجبر الناس على عبادة الملك من دون اللَّه كما كان شأن مصر الفرعونية؟

فإذن؛ العقل البشري لا يسمح مطلقاً بأن يسمي صفحات التاريخ المليئة بالظلم والطغيان والقتل والاستعباد والعنصريةبالحضارة والمدينة.

==============

#الفصل‏الثاني -في السلوك‏ الحضاري‏

التعارف منطلق الحضارة الإيمانية

(يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ‏عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ‏وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏)(الحجرات/14-13)

لا شك أن الإنسان بحاجة ماسة إلى هزة عنيفة، أو إلى هزات عنيفة متواصلة لئلا يصاب بداء الخلود إلى الأرض؛الأرض ذات الجذب الشديد، بما فيها من الرغبات الجامحة إلى إبقاء ما كان على ما كان، واستصحاب التراث،واستصعاب التغيير والتحول والتطور، والبقاء على ما هو عليه.. تبعاً إلى أن حقيقة التغيير والتطور بحاجة إلى ثمن‏مناسب، عادةً ما يبخل المرء في بذله..

ولعل الفرق الأساسي بين الإنسان من جهة، والحيوانات والنباتات والجمادات من جهة أخرى يكمن في أن ابن آدم ذوقابلية وقدرة على التطور، بل وذو فطرة تدفعه إلى التحول.. ولكن انجذابه إلى الأرض هو الذي يؤثر فيه ويحاول قمع‏تلك الفطرة النزيهة. ولكن المخلوقات الأخرى المشار إليها مجبولة على الثبات والبقاء والمراوحة في مكانها؛ فالجماد -كماهو واضح ومعروف- يبقى في مكانه ما شاء اللَّه، حتى يأتي من يحركه ويزحزحه عن مكانه الذي هو قابع فيه.

إن الإنسان السويَّ الأصيل معابٌ عليه أن يبقى على حاله، لأن رأس ماله الوحيد هو عمره وأيام حياته في الدنيا، فإذالم يحصل على الفائدة المرجوة -التي لا تتحقق أبداً دون تغيير وتطور- والمغنم الجديد، سيكون كمن قدّم ما لديه دون‏قبضه شيئاً وثمناً لذلك أبداً.

لقد ورد في الرواية الكريمة عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخريومه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان‏أقرب فالموت خير له من الحياة)(9). فالعمر يتجه إلى الانقضاء، ولا توقف - أبداً - في هذا التوجه والمسيرة،في حين أن ابن آدم قد يصرف عمره ولا يحصل على ما ينفعه، وهو إن لم يحقق التطور والتغيير والتحول في كيانه وفيماحوله، فإن حياته ستكون إلى غبن وخسران وهباءٍ..

واستناداً إلى هذا المنطلق وهذه الاستراتيجية السامية نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يحدّث الإنسان كأكرم مخلوق - أوهكذا يفترض فيه-، يبعث في ضميره صاعقةً تجري في دمه كما التيار الكهربائي القوي، ليوقظه من غفلته، ولينفض عنه‏غبار الكسل والجمود.

وقد أخذ القرآن الكريم عيّنة مثيرة وجديرة بالتوجه لإثبات هذه الحقيقة، وهي قصة الأعراب الذين قالوا آمنا ولم‏يكن الإيمان قد دخل إلى قلوبهم بعد .. نظراً لأنهم يعيشون في الصحراء ويتنقلون بين منازلها، بحثاً عن الماء والكلأ، فلايجدون فرصة لتحصيل العلم والمطالعة والتثقف.. حتى أن اللَّه سبحانه وتعالى قال عنهم في كتابه: (الاَعْرَابُ أَشَدُّكُفْراً وَنِفَاقاً)(التوبة/97)، ولعلهم كانوا من بني سليم الذين نزلوا المدينة فوجدوا أهل المدينة أناساً متثقفين‏بثقافة الإسلام على يد رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم، ويقرؤون القرآن ويتداولون الأحاديث النبوية الشريفة.. فظنوا جهلاً أن‏القضية قضية يسيرة؛ لا تعب ولا نصَب فيها.. ف (قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا). فقال لهم اللَّه عز وجل: (قُل لَمْ‏تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ‏غَفُورٌ رَحِيمٌ‏). إذ الإيمان أمر بحاجة لئن تستوعبه الأفئدة وتمارسه الجوارح.

ففي هذه القصّة والعيّنة القرآنية أوضح اللَّه تبارك أسمه مجموعة حقائق تمثل محور الإسلام ونظرته إلى ما ينبغي أن يكون‏عليها الإنسان، وأكد القرآن عبر ذلك أن للإيمان شروط ثلاثة:

1- القول وتلفظ الشهادتين، كمدخل إلى الإيمان، في حين أن الأعراب اكتفت -جهلاً- بهذا المقدار.

2- العقد بالقلب، وهذا هو أصل الإيمان وجوهره.

3- العمل، وأشار إلى ذلك قوله سبحانه: (لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً). فقولٌ بلا قلبٍ، وقلبٌ بلا عملٍ، لايعني شيئاً أبداً، إذ الكل جزءٌ لا يتجزأ مهما تقلبت الأحوال واختلفت الظروف.. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏)(الزلزلةِ/8-7)، و(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَاسَعَى‏)(النجم/39)، وكفى بالعمل شعاراً رفعه الإسلام على مدى التاريخ.. العمل الذي يقف خلفه قلب نظيف.

وهذه هي الهزة العنيفة والصعقة التوحيدية التي نزل بها الوحي المقدس على قلب الإنسان ليحرك فيه فطرته، ويبعث‏فيه روح التطور والتحول إلى الأحسن.

يقول اللَّه تقدست أسماؤه: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا...)فاللَّه لم يخلق الناس بجنسيات أو ضمن حدود جغرافية معينة. فالأرض كانت كلها لآدم وحواء عليهما السلام دون‏حدود أو تمايز أو حواجز، وكان دم الإنسان واحداً وتركيبته واحدة. ثم إن اللَّه سبحانه قسم الناس تقسيماً كانت الحاجةإليه ضرورية لإحراز التكامل الإنساني وبنائه، فجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويعترفوا بالعوامل المكمّلةلبعضهم البعض.

أقول: إن المادة الإنسانية الأولى كانت واحدة، ولكن التقسيمات جاءت على أساس ضروري وعادل لحكمة أخرى.

إن التعارف هو الاعتراف، فضلاً عن المعرفة والتعرف. فيعترف البعض بحقوق الآخرين ويسلّم بوجودهم، فلا يسخرقوم من قوم، ولا يحتقر بعض بعضاً، حتى يكون الجميع على صعيد واحد، ينظرون إلى الحياة على أنها ميدان للتكامل‏من جهة، وللتسابق إلى الكمال والسمو من جهة أخرى.

وهذا يعني امتناع الأغنياء عن احتقار الفقراء، وامتناع الأقوياء عن مصادرة حقوق الضعفاء..

إن الإنسان المسلم لا يعترف بحق المسلمين فحسب، بل هو مأمور وملزم بالاعتراف بحقوق كل إنسان.. والحديث‏الشريف المروي عن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد بهذا الصدد: (لكل كبدٍ حرّا أج)ر؛(10) أي أن المسلم إذا صادف‏كافراً مشرفاً على الهلاك عطشاً في صحراء - مثلاً - عليه أن يسقيه الماء، ليحصل على الثواب والأجر. وهكذا عمل‏أمير المؤمنين‏عليه السلام في معركة صفين، حيث أباح الماء لجيش معاوية الذين جاؤوا لقتاله، وهو الجيش نفسه الذي كان قدمنع على أصحابه الماء بادئ الأمر، رغم أن علياًعليه السلام كان بإمكانه منع جيش معاوية من الماء كردّ المثل بالمثل. وهكذاأيضاً قام الإمام الحسين‏عليه السلام بسقي الذين خرجوا لحربه الماء، رغم علمه بأنهم قاتلِوه لا محالة، ورغم أنه يعلم ويعي‏حقيقة أن الخارج على إمام زمانه محكوم بالكفر، ولكنه سقاهم - حتى بيديه الكريمتين مباشرةً - ليؤكد لهم وللتاريخ‏الأصل الإسلامي الأصيل القائل بضرورة احترام حقوق الإنسان كإنسان. وقد قال الإمام أمير المؤمنين‏عليه السلام في‏معرض عهده لمالك الأشتر النخعي حينما بعثه إلى مصر والياً: (فإنهم (الناس‏) صنفان؛ إما أخٌ لك في‏الدين أو نظيرٌ لك في الخلق‏)(11). وهذا لعمري إقرار تام وصريح ومطلق بحرمة الإنسان، وهو دعوة مباشرةللاعتراف بحقوق الإنسان في المبدأ والعيش .

إن من الواجب الصريح على كل إنسان أن يسعى جهده ليسد أبواب الظلم والبغي والاعتداء والخداع، وليفتح باباًواحدة هي باب التنافس الشريف والمسابقة إلى الخير. فكل منّا ليس له الحق في مصادرة حق جاره أو صديقه، بل على‏الجميع أن يبحثوا عن طريق لاستصلاح الأرض والاستفادة من الإمكانات الواسعة والطائلة في هذه الأرض،فيحصلوا على رزقهم، دون المساس برزق الآخرين عن طريق الغزو والاعتداء والتطاول. وقد قال تبارك وتعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏). فابن آدم في غناً مطلقٍ عن حطام الدنيا والتشاجر من أجله عبر الحروب‏وافتعال الأزمات التي يقع ضحيتها الفقير والضعيف.

ها هو كتاب اللَّه؛ خالق الخلق جميعاً، يخاطبهم بقوله المبارك: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ‏)، ويدعوهم إلى التعارف، لأن‏التعارف والاعتراف ينتجان المحبة والتفاهم، ولذلك كان من الأمور الهامة في الإسلام هو التعرف إلى الناس والسير في‏الأرض. وقد كان من الفوائد الجمة لفريضة الحج هو أن يشهد الناس منافع لهم، لأن الجميع يجب عليهم أن يقصدوا بيت‏اللَّه الحرام ومجمل البقاع المقدسة هناك ليتعارفوا فيما بينهم.

إننا كمسلمين وموالين لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ملزمون بالتعايش السلمي فيما بيننا، وملزمون بأن ندعوالآخرين إلى ذلك، فنعترف ببعضنا، ونتنافس تنافساً شريفاً وكريماً قائماً على أساس التقوى، وليس على أساس‏العدوان. فإذا كانت دعوتنا إلى الناس هي التعايش والتنافس، فيكون من الأحرى بنا أن ندعو أنفسنا قبل ذلك بهذه‏الدعوة.

لقد أضحى من المؤسف جداً أن القاعدة التي تقوم عليها مجتمعاتنا قاعدة هشة مضطربة، إذ ما أن تحدث مشكلة ما، أويقع اختلاف بين مجموعتين أو شخصين مشتركين في العمل، حتى تراهما يفترقان في خضم جوٍ من تبادل التهم‏والافتراءات.. وهذا الواقع المؤسف ليس هو الذي حرضنا عليه ربنا وشريعتنا في الحياة!!

فإلى مَ نعيش مثل هذه الأجواء الموجودة؟ ومتى نحاسب أنفسنا ونقودها باتجاه ما أوصى به القرآن وما دعانا إليه النبي‏وأهل بيته‏عليهم السلام؟

وقد قال الشاعر:

الأممُ الأخلاقُ، ما بقيت بقوا

وإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

أما الحديث الشريف المروي عن الإمام محمد الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران‏الديار بلاقع من أهلها)(12). فترى ما هي العلاقة بين اليمين الكاذبة وبين انهدام المجتمع وتلاشي الحضارة وخراب‏البلاد؟!

والجواب؛ إن ما يجمع الناس هو الثقة، وأن أساس الحضارة هو الثقة المتبادلة بين أفرادها، فإذا تبخرت الثقة تبخرت‏معها الحضارة وتهدمت وتلاشت. واليمين الكاذبة لا تعني إلا محاولة قائلها استغفال الآخرين لاستغلالهم، وحينما تتفشى‏ثقافة الاستغلال هذه تذهب الحرمات. ولا شك أنه لا حضارة دون قوانين وحرمات، والالتزام بالقوانين ورعايةللحرمات..

وبهذا الصدد يقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي كلمة جميلة - رغم تحفظنا عليها من وجهة النظر التاريخيةوالعقائدية-: لقد ارتفعت الأمة الإسلامية وسمت يوم آخى رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنصار والمهاجرين.. ولكن العدالعكسي لهذا الارتفاع سرعان ما بدأ حينما اقتتل المسلمون في حرب صفين، فأصبح مجتمعاً بلا أُخوّة.

ورغم ذلك أقول: نحن لدينا - بتوفيق اللَّه - بقايا من آثار الوحي، وبقايا من أخلاق أجدادنا وآبائنا، ولدينا بقايا من‏تعاليم ديننا.. ولكن هذه البقايا لم تعد تكفي لبناء حضارة، والأمر الملحّ هنا هو تعميقها وتكريسها وتوسيعها ووضعهاعلى أسس واضحة.. فلا يكون أكبرُ همِّ أحدنا التفكير بنفسه، بل لابد من التفكير بالآخرين ومطالبهم واحتياجاتهم‏وحقوقهم وحرماتهم. ومن طريف ما يذكر نتيجة الإحصائية التي أجريت في الولايات المتحدة الأميركية، حيث علم‏أن معظم الكلمات المتبادلة عبر الهاتف هي كلمة (أنا) مما يعني تصاعد حدة الأنانية في هذا البلد ذي المظهرالقوي..

نعلم وتعلمون أن الحضارة تعني التقدم والازدهار، ولكن هذا التقدم والازدهار ليس له أن يحدث في ظل السعي‏الفردي البحث، إذ اليد الواحدة عاجزة على التصفيق..

فتعالوا إلى البدء بالضد من ذلك، فنفكر بالفقراء في مقابل كل مرة نفكر بأنفسنا، ولنسعَ إلى نجدة المحتاجين إزاء ما نوفرلأنفسنا المستلزمات، ولننظر إلى من هو أدنى منا، كما نتمنى مواقع من هم أعلى منّا.. وقد قال رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم:(من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم‏)(13). فإن كنا عاجزين عن تقديم خدمات إلى‏الناس، فلنهتم بهم ونتعاطف معهم على الأقل، لأن ذلك ينتهي إلى أن ننصفهم من أنفسنا من جهة، وإلى أن اللَّه سبحانه‏وتعالى حينما يرانا نهتم بالآخرين، فإنه سينزل علينا رزقه الكريم ويفتح علينا أبواب رحمته إن شاء اللَّه تعالى.

==============

#التوكّل وقود الحضارة

هناك نظريات عديدة تقول: إنّ أمام المجتمعات دورات عديدة يجب أن تمرّ بها قبل أن تصل إلى ذروة الحضارة، فكما أن‏الإنسان لابد أن يمرّ بدورات حتى يصل إلى مرحلة الكمال في النموّ، فكذلك الحال بالنسبة إلى المجتمعات فإنها تعيش‏هي الأخرى ضمن دورات حياتية؛ فتترعرع كما يترعرع الأطفال ثم تنمو حتى تدخل مرحلة المراهقة، ثم تنمو أكثرلتعلن عن حضارتها، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تعيش في حالة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم لتزول بعد ذلك وتنهار.

وهناك البعض يرى أن تحديات معيّنة تعيشها الشعوب، تبعث فيها الحضارة، وإذا كانت هذه التحديات عنيفة غايةالعنف فإنها تتسبب في إلحاق الهزيمة النفسية بهذه الشعوب، وخصوصاً إذا كانت ضعيفة خائرة الهمّة.

أما إذا كانت التحديات بقدر همة الإنسان فلا هي ضعيفة، ولا قوية، فحينئذ ستبدأ الحضارة. والقائلون بهذا الرأي‏يضربون أمثلة تاريخية عديدة على نظريّتهم هذه.

فيتامين الحضارة

وفي الفترة الأخيرة اكتشف بعض العلماء والباحثين ما أطلقوا عليه اسم (فيروس التقدم‏)، وأنا شخصياً لايروق لي هذا المصطلح كثيراً، لإن كلمة (الفيروس‏) تستخدم عادة في الجوانب السلبية، فهي كلمة تسبب في‏أذهاننا تداعياً إلى حكمة المرض، ولذلك فإني سأحاول أن أغيّر هذا المصطلح لاستعيض عنه بمصطلح (فيتامين‏التطوّر أو الحضارة).

إنّ أولئك العلماء والباحثين يقولون: إنهم عندما درسوا تاريخ اليونانيين القدماء رأوا أن ثقافتهم كانت في بداية نهضتهم‏مليئة بهذا الفيتامين، ثم قلّت نسبة هذا الفيتامين بالتدرج مع هبوط مستوى الحضارة في اليونان حتى انعدم تقريباً من‏ثقافتهم.

ثم إن هؤلاء الباحثين أخضعوا بعض العيّنات التاريخية الأخرى للدراسة، فبحثوا في تاريخ الحضارة البريطانية أوالمجتمع البريطاني خلال أربعمائة عام، ثم بدؤوا يقيسون نسبة وجود هذا الفيتامين، فلاحظوا أنه كلّما كانت نسبته تزدادفي أفكار وثقافة وأدبيّات المجتمع البريطاني، فإن ازدهاراً في الاقتصاد كان يحدث؛ والعكس صحيح.

ثم بحث هؤلاء العلماء في مختلف الحضارات البشرية، حتى أنهم درسوا حياة بعض الشعوب البطيئة، فقد كانت هناك -على سبيل المثال- قبيلتان؛ إحداهما متحفزة دوماً للتقدم، ولديها من القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية ماهو أفضل من القبيلة الأخرى، وعندما بحثوا في ثقافة القبيلة الأولى وجدوها غنية بفيتامين الحضارة، في حين أن نسبةهذا الفيتامين كانت معدومة تقريباً لدى ثقافة وآداب القبيلة الثانية.

على أن الباحثين لم يكتفوا عند هذا الحدّ من الدراسات والتجارب، فاختاروا عيّنة من الأشخاص من مدينة هندّيةتسمى (كاكينادا)، وأجروا على هؤلاء الأشخاص تجارب عملية، فزوّدهم بهذا الفيتامين ضمن دورةمركّزة خلال عشرة أيام، ثم درسوا حياتهم بعد سنتين، فلاحظوا أن تطوّراً حضارياً كبيراً حدث في حياتهم بسبب‏وجود هذا الفيتامين.

حقيقة هذا الفيتامين ومواصفاته‏

ولعل سائلاً يسأل، ترى ما هي حقيقة هذا الفيتامين، وما هي مواصفاته؟

ولم يكن هذا الفيتامين إلا الشعور بالحاجة إلى النشاط، والتحرّك، والانبعاث، فهذا الشعور عندما يكون سائداً في‏آداب بلد من البلدان، أو شعب من الشعوب فإننا سنرى فيه حالة من النهضة المتصاعدة.

وفي المقابل؛ فإن هناك ظاهرة أخرى تمثل السبب الرئيسي في التخلّف والجهل ألا وهي ظاهرة التردّد، والإحجام،وعدم المبادرة؛ فهناك شعوب تقول عندما تريد أن تقوم على عمل ما: (دعنا ننتظر ونبحث ونستسف)ر كماكان الحال بالنسبة إلى بني إسرائيل بعد أن أمرهم اللَّه جل وعلا أن يقتلوا أنفسهم بعد حادثة العجل المعروفة لكي‏يطهّروا أنفسهم، فما كان منهم إلا أن نفذوا الأمر الإلهي، وبعد فترة خرج بنو إسرائيل من التيه، وسكنوا منطقة أخرى‏بعد أن فقدوا تلك الحالة من الحيوية، المبادرة إلى تنفيذ الأوامر، فوصلوا إلى حالة جديدة، هي حالة التساؤلات‏والاستفهامات عندما أمرهم اللَّه سبحانه أن يذبحوا بقرة، فما كان منهم إلا أن انهالوا على نبيهم موسى‏عليه السلام السيل من‏الأسئلة والاستفسارات العديمة الجدوى حول نوع تلك البقرة، ولونها، وعمرها...

وللأسف؛ فإن أكثر الناس يعيشون اليوم حالة أصحاب البقرة، فبمجرد أن يطلب منهم القائد أن يفعلوا شيئاً فإنهم‏يبدؤون بطرح الأسئلة والاستفسارات عليه حول فلسفة هذا الشي‏ء، والحكمة من ورائها ، وما إلى ذلك، فتراهم‏يفتقرون إلى (الفيتامين‏) الذي سبقت الإشارة إليه.

مصدر فيتامين التقدّم‏

وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال المهم التالي: ما هو مصدر هذا الفيتامين، وأين نجده؟ ولماذا نجد أنّ أمة من الأمم‏تحتوي على كميّة هائلة منه وتبدأ على ضوء ذلك انطلاقتها الحضارية في حين نجد أن أمة أخرى تفتقر إليه فتبقى متخلفة؟

لا يغيب عنا أن الحضارة هي - أساساً- فطرة الإنسان؛ أي أن فطرة الإنسان الأولية تدعوه إلى التحرك، والنهضة،والانبعاث، والتكامل؛ في حين أن الأغلال الاجتماعية، والأصر الثقافية، والمثبطات والمعوّقات هي التي تجعل الإنسان‏يخلد إلى الأرض، وإلا فإن الإنسان هو في الأصل كائن متحضّر. وهنا قد ينبري إلى الأذهان السؤال التالي: أين‏الإسلام من هذا (الفيتامين‏)، ولماذا يوجد في أمة من الأمم لفترة من الفترات ثم ينعدم في فترة أخرى؟؟

ومن أجل أن نجيب إجابة مفصلة عن هذه التساؤلات، فإننا نذكر النقاط التالية:

1/ إن الفكرة الحضارية المتمثلة في شعار (دعنا نبدأ) إنما تنبعث من ضمير الإنسان بسبب الثقافة الدينية.

2/ إن هذه الفكرة قد تنبعث في ضمير شعب عبر انتقال الثقافة الدينية إليه؛ أي قد يوجد شعب يتحضّر بالثقافة الدينية،كالمسلمين الذين نقلوا هذه الفكرة إلى الأوروبيين بواسطة الأندلس، فأخذ الأوربيون هذه الفكرة، وبدؤوا حضارتهم‏بها.

3/ قد تواجه أمة من الأمم التحديات، ولكي تعرف كيف تتعامل مع هذه التحديات فإنها تتوصل بالثقافات‏الحضارية الأصيلة، وتتمسك بها وتبدأ حضارتها على هذا الأساس، وأنا - هنا - أوافق (آرنولد تويمبى‏) في‏بعض أبعاد نظريته ليس كلّها.

4/ والأهم من كل ما سبق أن الإنسان عندما يحمل قضية، وهدفاً، ورسالة، فإن فكره وثقافته سيفرزان بشكل طبيعي‏فكرة (دعنا نبدأ). فالإنسان إنما يبقى ويحيى وينمو بقضيته، أما الذي لا قضية له فإنه يعيش في الفراغ بدون‏أي أساس يستند إليه، ولذلك نجد أن أصحاب المبادئ والثوريين هم أكثر نشاطاً من غيرهم، لأنهم أكثر تمسّكاً بفكرة(دعنا نبدأ العمل‏).

5/ فكرة التوكّل على اللَّه جل وعلا، فالتطلّع والهمة والطموح، هذه الشعلة الأبدية المتوقدة في ضمير الإنسان، والتي‏تدعوه أبداً إلى التسامي والتكامل والعروج هي غريزة فطرية موجودة في داخل كل إنسان.

وفي المقابل؛ فإن هناك فيروساً مضاداً للتطلع والأمل والطموح ألا وهو اليأس. فهناك من الناس من يمتلكون التطلع‏ولكنّ حاجز اليأس بحجبهم في نفس الوقت، علماً أن اليأس هو من الأسلحة الفاعلة الفتاكة التي يستخدمها الشيطان في‏قتل روح الحياة والنشاط في الإنسان.

التوكّل سبيل مقاومة اليأس‏

وبناءً على ذلك؛ فإن حاجز اليأس هو الذي يحول دون أن نحقق تطلّعاتنا، فكيف نستطيع أن نقاوم حاجز اليأس هذا؟

الجواب: إن السلاح الفاعل الذي نستطيع بواسطته القضاء على اليأس هو التوكّل على اللَّه تبارك وتعالى، ولذلك؛ فإن‏التوكل يتمثل أعظم فضيلة من الممكن أن يمتلكها الإنسان.

وإليك نموذجاً بارزاً في باب التوكل على اللَّه عز وجل، ذكره اللَّه تعالى لنا في سورة الأنفال، إذ قال: (يَسْاَلُونَكَ عَنِ‏الاَنْفَالِ قُلِ الاَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ‏يَتَوَكَّلُونَ‏)(الأنفال/2-1).

فالقرآن الكريم يصرّح في الآيات السابقة بأن من صفات المؤمنين المتوكلين أنهم إذا تليت عليهم آيات اللَّه زادتهم‏خشوعاً ، ثم يذكر بعد ذلك قصة تاريخية هي خروج النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لقتال المشركين، ولكن عناصر من المسلمين‏عارضت هذا الخروج واعتقدوا أنه سيؤدي إلى حدوث مذبحة، أوحرب إبادة، فما كان من النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن استشارأصحابه، فأشار عليه بعضهم بعدم الخروج لعدم امتلاكهم للإمكانيات اللازمة للقتال، ولكن الأمر الإلهي نزل صريحاًبضرورة الخروج لمحاربة الكفار والمشركين، فما كان من النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن خرج متوكلاً على اللَّه جل وعلا، وبالفعل فقدحقق الانتصار في معركة بدر.

والقرآن الكريم لا يكتفي بنقل هذا المقطع؛ بل يبين لنا جانباً آخر من التوكل. فعندما خرج المسلمون قبل معركة بدر،فإنهم كانوا يستهدفون السيطرة على قافلة تجارية، وكانوا يمنون أنفسهم بالحصول على الغنائم. ولكن اللَّه سبحانه‏ابتلاهم وجعلهم يواجهون جيشاً قوامه ألف مسلح جاؤوا للدفاع عن القافلة التجارية وعن مصالح قريش، وهذا مايشير إليه قوله عز من قائل: (وإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ اَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ اَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ‏وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ‏)(الأنفال/7).

فقد أنبأهم اللَّه تعالى بأنهم سيحصلون على شي‏ءٍ، في حين أنهم فكروا بأنهم سيحصلون على الغنائم، وقد كانوا مؤمنين‏بأن اللَّه قد صدقهم وعده، ولكنهم كانوا يرغبون في الحصول على غنائم سائغة يحصلون عليهم من القافلة التجارية، ولوكانوا حصلوا بالفعل على القافلة التجارية لما استطاعوا أن يحققوا نصراً خدم الرسالة الإسلامية كل الخدمة وأعظمها،ولكن اللَّه تعالى ساقهم في اتجاه استطاعوا فيه أن يكسروا شوكة الجاهلية ، فانتصر الإسلام في بدر، وانتهت المعركة في‏يوم بدر لمصلحة المسلمين إلى الأبد. وبعبارة أخرى؛ فإن الخالق تعالى أراد لهم أن يحققوا انتصاراً حضارياً، في حين‏أنهم كانوا يريدون أن يحصلوا على الغنائم، والمتع الزائلة.

ترى لماذا ابتلى اللَّه تقدست أسماؤه المسلمين الأوائل بهذا البلاء؟

الجواب نجده في الآيات السابقة نفسها حيث يقول عز شأنه: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ‏الُْمجْرِمُونَ‏)(الأنفال/8)، فإذا ما حصل الإنسان على مغنم بسهولة فإن إيمانه وتوكله لا يمكن أن يزداد، ولكن‏اللَّه جل وعلا كان يريد لهم أن يواجهوا قوة عسكرية هائلة لينتصروا عليها فيتضاعف توكلهم على الخالق، وترتفع‏ثقتهم به. وبالفعل فإن المسلمين حصلوا على معنويات عالية في بدر أكثر مما حصلوا على مغانم.

التوكل في الأحاديث‏

وعلى هذا الأساس؛ فإننا بحاجة إلى روح التوكل، لأنها أعظم من المكاسب المادية ومن الأمور التافهة الأخرى،والإسلام يؤكد كثيراً على موضوع التوكل، والأحاديث في هذا المجال غزيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما روي عن‏الإمام موسى الكاظم‏عليه السلام إذ قال: (إن الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بمواضع التوكل أوطنا)(14).

وقال الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (أيما عبد أقبل قِبَلَ ما يحبُّ اللَّه عز وجل أقبل اللَّه قِبَل ما يحبُّ، ومن‏اعتصم باللَّه عصمه اللَّه، ومن أقْبَل اللَّه قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلةنزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة كان في حزب اللَّه بالتقوى من كل بليّة، أليس اللَّه عز وجل يقول:(إن المتقين في مقام أمين‏))(15).

وقال‏عليه السلام: (من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً؛ من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي‏الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية)(16).

وروي عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام أنه قرأ في بعض الكتب أن اللَّه تبارك وتعالى يقول: (وعزتي وجلالي‏ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس أمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلةعند الناس، ولأنحيّنه من قربي، ولأُبعدنه من وصلي. أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجوغيري، ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ فمن ذاالذي أمّلني بنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي‏عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممّن لا يمّل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقواالأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدغيري إلاّ من بعد أذني، فمالي أراه لاهياً عني؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني‏ردّه، وسأل غيري. أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة، ثم أُسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني‏عبدي، أو ليس الجود والكرم لي، أوليس العفو والرحمة بيدي، أولست محل الآمال فمن يقطعها دوني، أفلايخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟؟ فلو أن أهل سماواتي ، وأهل أرضي أملوا جميعاً ثم أعطيت كل واحدمنهم مثل ما أمل الجميع، ما نقص من ملكي مثل عضو ذرّة ، وكيف ينتقص ملك أنا قيّمه؟! فيا بؤساًللقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني‏)(17).

==============

#التحدي مصنع الحضارة

ربما يسأل سائل: لماذا أُوتينا السمع والبصر وسائر الحواس؟ وهنا يأتي الجواب مباشرة: لكي نكيّف حياتنا مع الطبيعةالمحيطة بنا؛ فلولا البصر لتعثّر الإنسان في كل يوم ألف عثرة وعثرة، ولسقط في كل حفرة، وارتطم بكل جدار، ولولاالسمع لما استطاع الإنسان أن يفهم ما يريده الآخرون منه، وأما حاسة الذوق فمن خلالها نتذوق الأشياء، ونميز بين ماهو لذيذ وغيره، وبين الضار والنافع. وكذلك الحال بالنسبة إلى الخلايا الحسيّة في الجلد؛ فهي التي تشعرنا بالبرد والحر،ولولاها لمات الإنسان لأنه في هذه الحالة سوف لا يشعر بهما، وبالتالي فإنه سوف لا يبادر إلى التوقّي منهما.

عدم التكيف يعني الانقراض‏

إن هذه الحواس التي منحها اللَّه تعالى إيّانا إنما هي من أجل أقلمة وتكييف أنفسنا مع الطبيعة من حولنا، وفي حالة عدم‏استخدام الإنسان وتجاهله لهذه الحواس فإن حاله سيكون سواء مع الجماد. فالإنسان الذي يمتلك عينين بصيرتين ثم‏يمشي ولا ينظر إلى سبيله، فعند سقوطه في حفرة فإنه سيكون أشدّ عمىً من أي أعمى، وكذلك الذي أوتي السمع ثم‏يتجاهل الخطر الآتي بالصوت والسماع فإنه أكثر صمماً من الأصم. وهكذا الحال عندما يسمع ما فيه خير وهدىً له ثم‏يسدّ أذنيه فإن حاله سيكون كحال أي جماد أو نبات، بل هو أكثر ضلالاً وبعداً عن الهدى من الأصمّ. فكلّما كانت قابليةالتكيف، والقدرة على التأقلم لدى الإنسان مع الطبيعة والحياة أكثر، كلّما استطاع هذا الإنسان أن يحفظ نفسه، ويقيهاالأخطار، ويدفع عنها المشاكل والصعاب.

ومن هذه الحقيقة الموضوعية تنبثق الحضارات، وتنطلق في مسيرها نحو التقدم لدى جماعة من الناس، بينما ينهارآخرون ويضمحلّون أمام الأخطار، وبكلمة بسيطة فإن حضارة الإنسان إنما هي وليدة قابليته وقدرته على التكيف مع‏الظروف المحيطة به.

مثال من التاريخ‏

ولنضرب مثلاً على ذلك من واقع التاريخ؛ ففي الهلال الخصيب (بلاد الرافدين والشام‏) كان الإنسان يعتمدفي زراعته على الديم؛ أي الأمطار. فالأرض خصبة، ومياه الأمطار متوفّرة، ولكن وبمرور الزمن حدثت تغيرات‏جوية سببت موسمية الأمطار، وانحسار كمياتها، فلم يكن أمام المزارع في هذه الأرض سوى طريقين، عليه أن يختارأحدهما؛ إما أن يجلس في بيته ويستسلم لخطر الجفاف الذي يهدد حياته، وإما أن يستمرّ في ممارسة الزراعة، ويتحدى‏بذلك الأخطار الطبيعية. ولكن ابن هذه الأرض اختار السبيل الثاني، فراح يعتمد طريقة الإرواء، وتنظيم قنوات‏المياه، ولعلّ الحضارة الأولى التي أقيمت في الكرة الأرضية كانت في هذه المنطقة كما يستشف من المعلومات والآثاروالاكتشافات التاريخية، فإنسان بلاد الرافدين استطاع بهذا الأسلوب أن يتحدى أخطار الطبيعة، ويبني الحضارةوالوجود الإنساني.

مثال من الحاضر

واليوم تواجه بعض بلدان أفريقيا مشكلة تهدد الوجود الإنساني فيها، ألا وهي مشكلة الجفاف أو ما يسمى‏ب(التصحّر)؛ فقد غدت هذه الظاهرة شبحاً لا يقّل خطراً عن الآفات الزراعية التي تقضي على المحاصيل‏والنباتات، فقد راح هذا الأخطبوط يزحف نحو الأراضي والمقاطعات الزراعية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن‏عشرات الكيلو مترات المربّعة من الأراضي الخصبة تتعرّض للجفاف سنوياً.

ترى كيف تُعالج هذه المشكلة؟

إن بعضاً من بلدان أفريقيا تحدّى هذا الخطر بأن قام بإنشاء غابات اصطناعية يمكنها أن تتصدّى لظاهرة التصحّروزحف الكثبان الرملية المتحركة نحو المناطق المستغلّة زراعياً، وقد نجحت في ذلك بالفعل. وفي المقابل نرى أن البعض‏من هذه البلدان - وربما بسبب أنظمتها التي لا تهتم بشعوبها، وتعمل على إبقائها استهلاكية غير إنتاجية - يستسلم‏لمخاطر الجفاف والتصحّر، الأمر الذي يؤدّي إلى حدوث المجاعات وسوء التغذية.

والمستفاد من هذه الحقائق المعاشية أن اللَّه سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً، وزوّده بالحواس، ويبقى عليه - أي على‏الإنسان- أن يعرف كيف يستغلّ هذه النعمة في مواجهة وتحدي الأخطار المحدقة به.

وفي هذا المجال يحدثنا التاريخ بأن كائنات تتمتع بالوعي والإحساس كانت تعيش على هذه الأرض قبل هبوطالإنسان عليها، وقد كانت هذه المخلوقات تشبه البشر، وتتمتع بالحواس كما هو الحال لدى الإنسان، ولكن كانت لهم‏ملامح خاصة به، وكان عيبهم أنهم لم يكونوا قادرين على مقاومة الأخطار ولذلك تعرضوا للانقراض .

والتاريخ العلمي يضرب لنا مثلاً على هذه المخلوقات فيقول: إنهم لم يكونوا يفكرون ببناء بيت، أو يتوجّهوا نحو الكهوف‏عند نزول المطر، بل كانوا يحفرون حفراً في الأرض، ويدخلونها، وبسبب برودة الجو فيها، وانعدام وسائل التدفئة فإنهم‏كانوا يموتون فيها، وبذلك انقرض هذا النوع من الكائنات، ولعل السبب في انقراض هذه الأحياء وغيرها من‏الحيوانات كالديناصورات يعود إلى ضعف التحدي لديهم. من هذا المجال يقول تاريخ الأحياء: إن الدايناصورات‏والأنواع المنقرضة الأخرى كانت قوة إبداء ردود الفعل لديها ضعيفة.

لا خير فيمن لا يتحدى‏

وهنا نعود لنتحدث عن الإنسان الذي يقول عنه رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اللَّه حرم الجنة على كل فاحش بذي،قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان‏)(18)، فمثل هذاالإنسان لا قيمة له، لأنه لا يفكر، ولا يظهر رد فعل إزاء ما يقال فيه، فلابد لابن آدم من غيرة وهمّة، وإلا فما هي ميزته‏عن الحيوان؟

وفي الحقيقة فإن هذا النموذج من البشر متواجد في كل المجتمعات، فعندما تُشْتَم مقدساته ويُساء إليها تراه ضعيف‏الإرادة خائر العزيمة، لا أبالياً، سرعان ما يتراجع ويستسلم ويدخل في نفق التبريرات.

وإذا ما دققنا النظر فإننا سنلمس حقيقة أن حالة الإنسان النفسية والروحية إذا انعدمت فيها تلك الخصال الحميدة،وهي الغيرة وروح التحدي، ومقاومة الأخطار المداهمة، فلا جدوى بعد ذلك من التضحيات والمزيد من العطاءوالدمار. أما إذا توفّرت فيه تلك الخصال، فإنه ومن خلال مبادرته إلى التحدي سيكون بمقدوره منذ أول مرة أن يبعدالعدو ويجنّب نفسه المخاطر دون أن تكون هناك حاجة لأن يبذل المزيد من التضحيات والعطاء.

التحدي سبيل الحضارة

إن العامل الذي يغير وجه حياة الإنسان ويرتقي به إلى الحضارة، هو التحدي والإرادة، والثقة بالنفس. وفي هذا الإطاريذكر التاريخ أنه في عهد آل عثمان قام وفد تركي بزيارة إلى فينا، وكان هذا الوفد يتألف من خمسين خبيراً اطلعوا على‏ما يجري هناك من تقدم، ورأوا بأم أعينهم عظمة ذاك التقدم، ولكنهم كانوا فاقدين للغيرة والحمية، فرجعوا إلى بلادهم‏ميتي الإرادة، عديمي الثقة بالنفس، ولم يعملوا على تغيير واقعهم المرير، واستمروا على ذلك الحال الذي يرثى له، ولذلك‏استطاع الأوروبيون غزو الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، فتقاسموها فيما بينهم، وسبّبوا تلك المآسي التي‏مازلنا نعاني من آثارها إلى اليوم.

إن السبب الحقيقي في هزيمتنا لا يعود إلى قوّة الغرب وتقدمه فحسب، بل ربّما يكون النصيب الأوفر منه عائداً إلينا نحن؛فالكل له نصيب في التقصير، وما نعانيه اليوم ونقاسيه ما هو إلا حصيلة التقاعس وانعدام الإرادة والاهتمام، فالجميع قدقصّر بحق هذه الأمة المطعونة من كل جانب.

ترى بماذا نختلف عن اليابانيين الذين كانوا هم أيضاً متخلفين وجاهلين بأنواع العلوم والتكنولوجيا؟ إن السر يكمن في‏أنهم اتصلوا بالغرب، واطّلعوا على الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها، فأخذوا هذه التكنولوجيا، والمعرفة العلميةالمتقدمة، حتى أصبحت اليابان اليوم المنافس الأول للبلدان الغربية، بل وربما فاقتها بالتقدم العلمي والتقني، إذ استطاع‏اليابانيون أن يصنعوا عقولاً إلكترونية بإمكانها إجراء مائتي مليون عملية حسابية خلال ثانية واحدة.

فياترى ماذا ينقصنا نحن الذين نستورد من الغرب حتى إبرة الخياطة، ولم كل هذا التخلف والانهزام؟ فاليابانيوين لم‏يصلوا إلى تلك الدرجة من التقدم والحضارة عبر البترول.

حاجتنا إلى التحدي والتصدي‏

إن السبب الحقيقي هو الإرادة والتحدي لا غير، وهذه الصفة هي التي تنفعنا، وبسبب عدم وجودها فينا، حشرنا في‏زاوية المتخلّفين. فنحن بحاجة إلى تلك الإرادة، وذلك التحدي والهمّة والغيرة التي كان أسلافنا يتمتعون بها في العصورالسابقة، وأما أحرى بنا أن نقرأ قول الإمام علي‏عليه السلام ونستوعبه عندما يقول في خطبته الجهادية المعروفة:(واغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا)(19).

فكيف يمكن للإنسان أن يركن إلى الجلوس في بيته تاركاً العدو يغزوه، ويدخل عليه بلاده، أو ليس هذا العدو سيدخل‏البيت بعد أن يدخل البلاد؟

إن روح الإسلام هي روح التحدي، وعلى سبيل المثال، كان رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم يأمر السرية بأن تهاجم قافلة قريش‏خلف مكة، والمسافة آنذاك بين مكة والمدينة كانت شاسعة قياساً بوسائط النقل آنذاك، ومع ذلك لم يترددوا من تنفيذهذه المهمة، فراحوا يداهمون قوافل قريش التجارية، كخطوة لفرض لحصار الاقتصادي على المشركين، ومن ثم عادواإلى المدينة المنورة مع الغنائم!

إن هذا هو إحساس التحدي والعطاء، والشعور بالمبادرة، والغيرة، والنظرة الى المستقبل البعيد.. إن أعداءنا يزعمون‏الآن أن بإمكانهم بدء الهجوم المضاد علينا حسب تحليلهم ونظرتهم إلى أوضاعنا؛ فالمستكبرون كانوا قد أصيبوابالهزيمة النفسية بالإضافة إلى الهزيمة السياسية من خلال التراجع أمام المدّ الإسلامي عند انطلاقته، ولكنهم بدؤوا اليوم‏بوضع حسابات جديدة وفق تصوّر وتحليل تبلورا في أذهانهم.

ونحن علينا أن نتحدى ونقاوم كل هذه الحسابات والمخططات الجديدة من خلال الإمساك بزمام المبادرة، وعدم‏الاستلام والضعف والهزيمة وخوار الهمة، لأن استسلامنا يعني - بالتأكيد- موتنا، واندثار قيمنا ومبادئنا وحضارتنا،وهذه سنة إلهية لا تغيير ولا تبديل فيها.

===============

#الرؤية الشاملة في الحضارة

لكي نستفيد أكثر فأكثر من تعاليم ديننا الحنيف لابد أن نكوّن في أذهاننا تصوّراً شاملاً لهذا الدين، وتلك التعاليم، ونحن‏إذا ما حصلنا على هذه النظرة الشمولية إلى الإسلام، وهذه البصيرة التفاعلية إلى مجموع الدين، فإننا سوف نتقيّدبتعاليمه تقيداً أكثر، لأننا نعلم أن المجموع سيظل ناقصاً بفقدان أي جزء منه.

وبناء على ذلك؛ فإن خللاً بسيطاً في أي عمل من أعمالنا العبادية من الممكن أن يؤدي إلى انهيار عباداتنا كلها، وعدم‏قبولها من قبل الخالق تبارك وتعالى، فكلمة غيبة واحدة من الممكن أن تذهب بصومك فلا تحصل من هذا الصيام سوى‏على الجوع والعطش. فعلينا أن لا نستهين بهذه الكلمة إذ مثلها كمثل قطرة دم سقطت في حوض ماء الورد فجعلته نجساًمهما كان حجمه كبيراً.

فقد روي عن جابر، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر)عليه السلام قال: أتاه رجل فقال: وقعت فارة في خابية فيهاسمن أو زيت فماترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفرعليه السلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك‏طعامي من أجلها. قال: فقال له أبو جعفرعليه السلام:(إنّك لم تستخّف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك‏)(20).

وهكذا؛ قد يؤدي ذنب صغير كالعجب، والكبر، والاستهزاء بالناس، وإفشاء أسرار الآخرين إلى ضياع عمر من العمل‏الصالح. وعلى العكس من ذلك فقد تؤدّي كلمة طيبة، أو نصيحة مخلصة، أو عمل صادق، وبالتالي الاهتمام بالجانب‏الديني إلى محو صحيفة سوداء من الأعمال السيئة.

وروي في هذا المجال عن الحسن ابن الجهم، قال: سمعت أبا الحسن‏عليه السلام يقول: إنّ رجلاً في بني اسرائيل عبد اللَّه‏أربعين سنة، ثم قرّب قرباناً فلم يقبل منه، فقال لنفسه: وما اُوتيت إلاّ منك، وما الذنب إلاّ لك. قال: فأوحى اللَّه‏تبارك وتعالى إليه: ذمّك لنفسك أفضل من عبادتك أربعين سنة(21).

العبادات بأهدافها

إن المطلوب منا لدى صلاتنا هو إيجاد حالة الخضوع في أنفسنا، أما الصلاة التي لا تزيدني خشوعاً، والصوم الذي لاينمّي ملكة التقوى في نفسي، والحج الذي لا يزيد من انسجامي مع سائر المسلمين ولا يجعلني أتبرّأ من الكفار، والجهادالذي لا يؤدي إلى إعلاء كلمة الدين.. كل ذلك لا نفعَ من ورائه.

ومن هنا؛ فإن علينا أن ندرس الدين دراسة جديدة، وأن ندرس تعاليمه من خلال الحكم، والأهداف، والغايات‏المرجوّة منها؛ والتي جعلت لكل واحدة من فرائض الدين، ولكل تعليم من تعاليمه، وأن ننظر إليه ككلّ ومجموع. فنحن‏إنما نريد من الدين الإسلامي أن يحملنا إلى المجد في الدنيا، والعظمة، والرقيّ والتطور، ونريد منه في الآخرة أن يكون‏جسراً للوصول بنا إلى الجنة.

سورة الحضارة

ونحن إذا نظرنا مثل هذه النظرة الشمولية إلى التعالم الاجتماعية في الإسلام، فإننا سوف نحصل على المفهوم الصحيح‏للحضارة؛ هذا المفهوم الذي يمكننا أن نستقيه من القرآن الكريم، وخصوصاً سورة المائدة التي هي أساساً سورةالحضارة الإسلامية، والحكم الإسلامي، وهي السورة التي تبيّن لنا بوضوح الأسس المتكاملة للمدنية الإلهية في‏الأرض، كما تبيّن من جهة أخرى صفات الجاهلية بكل أبعادها.

ولو تدبّرنا في هذه السورة الكريمة فإننا سنحصل بالتأكيد على آفاق جديدة من المعرفة وعلم الحضارات.

ولقد قمت سابقاً بتفسير هذه السورة، وأشرت إلى أنها تحدثنا عن معالم المجتمع الإسلامي، ولكنني لم أتوصل إلى الخيطالذي يربط بين مختلف تعاليمها؛ أي التصور الشمولي لهذه السورة. وهذا يعني أننا لم نصل بعد إلى مثل هذا التصورالشمولي فيما يتعلق بالمجتمع الإسلامي، فنحن لا نعرف بالضبط لماذا حرّم الإسلام الغيبة والتهمة والنميمة، ولماذا فرض‏علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولماذا أمرنا بالتواصي والتحابب، وقول الكلمة الطيبة، والتشجيع على عمل‏الخير. لأننا ننظر إلى كل واحدة من هذه المفردات الأخلاقية والتبريرية لوحدها؛ دون أن نحاول الربط بينها بخيطواحد لكي نرى صورة المجتمع الإسلامي المتكامل فنحصل من خلال ذلك على مجموعة من القوانين والسنن الإلهية التي‏يجب أن تتحكم في المجتمع.

وهذه الظاهرة هي مشكلة المسلمين في جميع المجالات؛ أي مشكلة الفكر المتخلّف الذي لا يصل بين مفردة وأخرى،والذي لم يستطع بعد أن يتوصّل إلى الأسلوب الأمثل لفهم الآيات القرآنية. فنحن نقرأ كلّ آية لوحدها دون أن نطرح‏على أنفسنا السؤال التالي وهو: ما هي صلة هذه الآية بما سبقها من الآيات، وبماذا تهتم هذه السورة، وما هو إطارهاالعام؟ إلى درجة أن بعض العلماء ما يزالون يطرحون التساؤل التالي: هل هناك ارتباط وعلاقة بين الآيات القرآنية في‏السورة الواحدة؟

وتوجد في الفقه نفس هذه المشكلة؛ فمن المعروف عند الفقهاء أن هناك مجموعة كبيرة من التعاليم التي تصبّ كلّها في خانةواحدة هي خانة الصلاة، وبناء على ذلك فإن القبلة، والوضوء، والتطهّر، والمكان المباح، والنيّة ، والأذكار وما إلى ذلك‏من واجبات وأركان تشكّل كلّها وحدة واحدة نطلق عليها اسم الصلاة. ولكن هل نعلم أنه ما ذكرت الصلاة في القرآن‏إلا وذكرت معها الزكاة، فلماذا - إذن - نربط بين قراءة سورة الحمد في الصلاة والركوع، ولا نربط بين الصلاة والزكاة،مع أن القرآن ذكرهما معاً؟

وعلى هذا؛ فلابد من أن نكوّن في أذهاننا تصوّراً شاملاً للصلاة والزكاة معاً ولجميع العبادات بشكل عام، وكذلك الحال‏بالنسبة إلى الجانب التربوي، والاجتماعي، والاقتصادي.

أهداف التعاليم الاجتماعية في الإسلام‏

وإذا ما تعمّقنا في التعاليم الخاصة بالمجتمع الإسلامي نجد أن هذه المجموعة من التعاليم يُتوقّع تحقيق أهداف كثيرة؛ منها أن‏يكون المجتمع الإسلامي متماسكاً أكثر فأكثر، فهناك العديد من الفرائض والتعاليم والمستحبات تشكل كلها وحدةواحدة تدعونا إلى المزيد من التماسك في المجتمع الإسلامي، وفيما يلي سأبيّن هذه التعاليم بشكل مختصر.

إن القرآن الكريم يأمرنا ببناء الأسرة، لأنها تمثل الوحدة الاجتماعية الأولى في صرح المجتمع الإسلامي، وبعد الأسرةيأمرنا بصلة الرحم، والاهتمام بالجار، والفقراء، والمستضعفين، والأيتام، ويأمرنا باحترام الذين نتعلّم منهم، والتواضع‏لمن نعلّمهم، وبالتالي فإنّه يأمرنا بمجموعة من التعاليم يجمعها الإمام زين العابدين‏عليه السلام في رسالته المعروفةب(رسالة الحقوق‏).

وجميع هذه الأوامر تؤدي إلى نتيجة واحدة؛ هي إيجاد مزيد من التماسك في المجتمع الإسلامي، ومن جهة أخرى، فإن‏الإسلام يريد أن ينشئ مجتمعاً متماسكاً حيوياً؛ أي أن يكون من خصائص هذا المجتمع بذل المزيد من الحركة والنشاطكما كانت حالة هذا المجتمع في العصر الإسلامي الأول، وإذا ما أردنا أن نعقد مقارنة بين مجتمعنا الآن وبين ذلك المجتمع‏لوجدنا أن الفرق بينهما هائل يشبه إلى حد كبير الفرق بين المدينة الأثرية القديمة، والمدنية الجديدة المتطوّرة!!

وبناء على ذلك فإننا لسنا بحاجة إلى عملية ترميم فحسب، بل نحن بحاجة إلى بناء صرحٍ جديد في كل الحقول‏والمجالات. فتعاليم الإسلام موجودة اليوم بيننا، وكذلك في عهد الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن شتّان بين تطبيقنا لهذه التعاليم‏وبين تطبيق أصحاب الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم لها.

لقد قدم النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم المدنية المنوّرة التي كانت لحين مجيئه قرية موبوأة متخلّفة، يسيطر عليها التخلّف والجمود، وما أن‏وطأت قدماه المباركتان هذه المدينة حتى دبّ فيها النشاط والحركة، وإذا بمجتمعها يصبح حيوياً، وإذا بالزراعة وحركةالتجارة والاقتصاد تحيى، وفي خلال سنين معدودة تحوّلت إلى مدينة حيويّة متطوّرة تُشع الحضارة إلى جميع أرجاءالعالم، وحتى اليوم فإننا نقتبس نور الحضارة من هذه المدينة التي بناها الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم بيديه المباركتين.

الكلمة الطيّبة من دوافع الحضارة

إن الإسلام هو دين النشاط والحيوية، ومن أهم تعاليمه في هذا المجال نشر الكلمة الطيبة، فإن رأى الواحد منا صاحبه‏يقوم بعمل حسن فعليه من خلال الكلمة الطيبة أن يشجّعه، لأن هذه الكلمة - رغم بساطتها - من شأنها أن تترك‏تأثيراً بالغاً في نفسيّة هذا الإنسان إلى درجة تجعله يندفع إلى العمل بصورة غريبة.

أما المجتمع المتخلّف؛ فعلى العكس من ذلك تماماً، فترى الكلمات السلبية المثبّطة منتشرة فيه؛ فإذا ألفَ أحد ما كتاباًونشره، قالوا له: إنك نشرته رياءً، وإن صعد الخطيب المنبر تراهم يبحثون في كلماته عن النقائص والعيوب لينشروهابين الآخرين. ففي بعض الأحيان لا يرى أحدنا الفضيلة، والخير، والعمل الصالح الذي يقوم به طرف من الأطراف، بل‏تراه ينظر إلى السلبيات والأخطاء فحسب، وهذه الظاهرة ناجمة عن جلوس أولئك المثيرين للسلبيات في زاوية من‏الزوايا ليكتفوا بالحديث ضد العاملين في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى. فهم لم يعملوا لكي يفهموا معنى العمل، ولكي يعرفواكيف يواجه العاملون التحديات والصعوبات، والظروف المعاكسة، بل إن قصارى جهدهم أن يسلّطوا الأضواء على‏الأخطاء والسلبيّات - إن وجدت -، وبسبب هذه الروح التثبيطية نرى أن عدد العاملين ينقص يوماً بعد آخر.

هذا في حين أن القرآن الكريم يقول: (اَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَافِي السَّمَآءِ)(إبراهيم/24). فالإسلام يوصينا بنشر الكلمة الطيبة، ويأمرنا بالتواصي بعمل الخير، وإشاعةالحسنة، وينهانا عن إشاعة الفاحشة.. وكل ذلك ليكون المجتمع حيوياً ومتفاعلاً، ولكي يتحوّل إلى مجتمع حضاري يبني‏صرح الحضارة الشامخ من خلال التحلّي بأخلاقيات المجتمع المتحضّر التي تقف في مقدّمتها النظرة الشمولية إلى الدين‏الإسلامي الحنيف، واجتناب النظرة التجزيئية الضيّقة التي تعتبر سبباً رئيسياً من أسباب الجهل والتخلف، والتي كانت‏وما زالت السبب الكامن وراء عدم فهمنا الصحيح للمفاهيم والتعاليم والأحكام الإسلامية، وخصوصاً تلك المرتبطةببناء المجتمع المتحضر، الذي تسوده روح التضامن والتكافل والتعاون..

==============

#الحس الجمالي في الحضارة

لا ريب أن الحسّ الجمالي يشكّل جانباً مهمّاً من جوانب الحضارة، وهذا الحسّ يتجلّى - أول ما يتجلّى - في الطهروالنقاء والنظافة، ولكنّه يمتلك بالإضافة إلى ذلك أبعاداً أخرى.

إن في الإسلام تشجيعاً مستمرّاً ومتواصلاً على الجمال وما يؤدّي إليه؛ وعلى سبيل المثال فإن من المستحب في الإسلام‏أن ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة لكي يهندم نفسه، ويضفي مسحة من الجمال عليها، كما أنّ من المكروه أن يهمل هذاالإنسان شعر رأسه ويتركه دون حلاقة إلا إذا تعهّده بالنظافة المستمرّ،، ومن المستحب أيضاً أن يمشّط الإنسان شعررأسه ولحيته بشكل متواصل، حتى أنه روي عن أبى بصير عن أبي عبد اللَّه (الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام‏)، قال:سألته عن قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلُ مَسجِد)(الأعراف/31) قال: (هو المشط عند كل‏صلاة فريضة ونافلة)(22).

الجمال من سمات الحضارة؟

إن علينا أن نسأل أنفسنا في هذا المجال: ترى لماذا هذا التأكيد المستمر والمتواصل على يكون الإنسان ذا مظهر حسن‏وجميل، ولماذا هذه المجموعة الكبيرة من التعاليم الإسلامية حول النظافة والأمور الجمالية.؟

الجواب على ذلك: لأن تلك التعاليم هي من سمات الحضارة التي هي تكامل في وعي الإنسان، وفي نفسه. ومن المعلوم‏أن من الأبعاد الحقيقية لوعي الإنسان هو الحس الجمالي، فالإنسان المتكامل هو الذي يتحسّس ويتذوّق، وهو الذي‏يبحث عن الجمال ويتلذّذ به.

وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: (يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ‏لايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏)(الأعراف/31). وهذه الآية تعني أن على الإنسان المسلم أن يكون متزيناً بأفضل الثياب،وأن يكون في حالة عالية من الطهر والجمال عندما يريد أن يدخل المسجد لأداء الصلاة.

وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن من المستحب في الإسلام التطيّب، لأن الطيب يمثل جانباً من الحسّ الجمالي لدى الإنسان إلى‏درجة أن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديثه المعروف: (أحب من دنياكم ثلاثاً؛ الطيب، والنساء، وقرّة عيني‏الصلاة)(23). ملخّصاً جميع أبعاد الجمال النفسي والروحي في هذه الكلمة القصيرة.

من هنا يجب تنمية الحس الجمالي في أنفسنا، وفي وعينا، وأن نكون ممن قال عنهم الإمام علي‏عليه السلام: (إنّ اللَّه عزّوجلّ جميل يحبّ الجمال‏)(24)، وأن نعمّم الجمال على جميع جوانب حياتنا؛ فتكون بيوتنا جميلة، وكذلك الحال‏بالنسبة إلى مساجدنا، وثيابنا، ووجوهنا، والمدينة التي نعيش فيها... وبالتالي يجب أن يكون لدينا الحسّ الجمالي،والبحث الدائم عن الجمال، لأننا عندما نزرع الجمال في كلّ بقعة من بقاع بيوتنا أو مدينتنا، فإنّ قلوبنا - أيضاً - ستكون‏جميلة، وحينئذ سنعرف معنى الصدق والوفاء وحبّ الآخرين، لانّ قلوبنا ستتألق - في هذه الحالة - بالجمال، فقد تربّت‏ونمت، وتكاملت من قبل بالجمال.

جمال الكلمة والتعبير

والجمال قد يتجسّد في جانب آخر غير الطهر والنظافة، هو جانب الكلمة. فعندما تجد أمامك مجموعة من المفردات،فحاول أن تبحث عن أفضلها، وأروعها، وأكثرها تأثيراً من الناحية الجماليّة في الطرف الآخر، وأن تحترز من اختيارالكلمات النابية الثقيلة على السمع، بل عليك أن تختار الكلمات الجميلة الحسنة الوقع على الآذان والنفوس، كما يقول عزّمن قائل: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ‏)(الإسراء/53). أي إنّ على‏الإنسان أن يبحث دوماً عن الأحسن لا الأفضل، فحتّى لو كانت هناك كلمتان أحدهما حسنة والأخرى أحسن، فإنّ‏علينا أن نختار الثانية على الأولى.

إنّ هذا الإحساس الجمالي ينمّي في ذاتنا روح الجمال؛ فالكلمة الطيّبة والخلق الحسن هما انعكاس لجمال الروح، وجمال‏الروح يفرزه الجمال الظاهري. فعندما يكون الإنسان في جو مشبع بالطهارة والنظافة والجمال، فإن روحه ستكون أيضاًجميلة، كما إن أخلاقه التي هي انعكاس لروحه التي تكون هي الأخرى ذات أخلاق جذابة وجميلة، ولذلك يقول رسول‏اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (اطلبوا الخير عند حسان الوجوه‏)(25) لأن ذوي الوجوه الحسنة هم - عادة- أبناء النعمةوالجمال، وبناء على ذلك، فإن الخير منهم مأمول، والشر مأمون.

القرآن آية الجمال الكبرى‏

وفي الآيات القرآنية هناك الكثير من المفردات والأساليب الجمالية، التي لا أريد أن أتوسّع فيها كثيراً، ولكنني اكتفي‏بالإشارة إلى أن البيان القرآني مبني أساساً على جمال التعبير، والتصوير إلى درجة أنه يقع في أعلى مستويات الحسن‏والجمال. وهذه الظاهرة دليل على أننا كجيل قرآني، وكأناس نتبع القرآن يجب أن نختار في أحاديثنا مثل تلك الكلمات‏والتعابير الرائعة والجذابة التي من شأنها أن تزيد الطرف الآخر بهاءً وإشراقاً، بل أكاد أن أقول: إن المفترض فينا أن‏نحاول تعويد ألسنتنا على الطريقة الجميلة في أداء الألفاظ.

فإذا كان الواحد منا ذا أدب رفيع، ومستعملاً للكلمات الجميلة الطيبة، حارصاً على أن يختارها اختياراً سواء في بيته أومع الذين يتعامل معهم في المجتمع، فإنه سرعان ما سيتعود على تلك الأساليب والتعبيرات الجميلة حتى تكون منسجمةمع عاداته وسلوكياته. وكذلك الحال عندما يريد الواحد منّا أن يؤلف كتاباً، فإن هذا الكتاب سوف يعكس هو الآخرروحه الجمالية، والأدب الرفيع الذي يتحلى به.

أما إذا أراد الإنسان أن يقسّم ويوّزع شخصيته؛ كأن يتكلم فوق المنبر بطريقة، وحين الكتابة بطريقة أخرى، ويتكلم‏مع أهله بأسلوب، ومع أصدقائه وزملائه بأسلوب آخر، فإن كلامه سوف يتحول إلى تكلّف وتعسّف حتى في التعبيروفي كيفية أداء الألفاظ.

وبكلمة؛ لكي نتمتع بحضارة سامية، لا بد لنا من أن نتحلى بالحس الجمالي في كل مجالات؛ الشخصية والاجتماعية.

===============

#الحضارة وفن الحياة

لا ريب في أن الجزء الأكبر من آيات الذكر الحكيم ينير بصيرة الإنسان ويعلّمه فنّ الحياة، ولكنّ هناك حقائق كبرى‏ينحسر عادة عنها وعي الناس العادييّن، وإنما يرتفع إلى وعيها أولئك الرجال الذين تسامى علمهم، وتعالت روحهم‏وإرادتهم.

ومما لا شك فيه أن استيعاب هذه الحقائق الكبرى هو الذي يمنح الإنسان القدرة على التعامل مع الطبيعة تعاملاً سليماً،وتسخير ما في الكون من أجل مصلحته ومصلحة سائر أبناء البشر.

الطريق الخاطئ مشكلة الإنسان‏

وكثيراً ما يسلك الإنسان طريقاً خاطئاً، ولكننا نراه دائماً يفتش عن أفضل السبل لقطع المسافات، ولكن ماذا ينفعه هذاالتفتيش والاجتهاد إذا كان طريقه لا يوصل إلى هدف؟ فالإنسان إنما يستطيع الاستفادة من تعبيد الطريق، ومن‏البحث عن الوسيلة المناسبة للسير فيه إذا كان هذا الطريق سليماً مؤدّياً إلى هدفه.

إن غالبيّة الناس مثلهم كمثل الإنسان الذي تراه يفتش عن أصغر الأمور، وأدقها ليدقق فيها موظفاً ما يتمتع به من‏وعي وعقل وذكاء، ولكنه لا يكلّف نفسه عناء اكتشاف هل أن الطريق الذي يسير فيه مغلوط أساساً أم لا؟

إن هذه الظاهرة تمثل إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها الإنسان في حضارته؛ فهو يهتم بالحقائق الجزئية الصغيرةدون الاهتمام بالحقائق الكبرى.

والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه الحقائق الكبرى التي لو عرفها الإنسان لنجح في حياته، ومن هذه الحقائق حقيقةالصراع الأبدي بين أهل الحق والباطل، ولكننا للأسف الشديد وعلى الرغم من قراءتنا المتكررة للقرآن لم نستطع أن‏نعي أن هناك صراعاً أبدياً بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن العاقبة ستكون للمتقين.

إن هذه الحقيقة البسيطة يطرحها القرآن الكريم المرّة بعد الأخرى.

بين الدين والحضارة

وقبل أن نتحدث عن علاقة الدين بالحضارة، نذكّر أولاً ببصيرتين أساسيتين؛

الأولى: تتمثل في أن مشكلة الحضارة تتلخص في أنها مبتورة إذا ما قيست بالدين، فالدين يتحرك مع الحضارة لمسافةمعيّنة، ولكنّ هذه الحضارة سرعان ما تتوقف.

والثانية: إن الدين يمضي قدماً إلى النهاية السعيدة، إذ الحضارة تحدثنا عن الوسيلة، بينما الدين يحدثنا عن الهدف بعد أن‏يشير إلى الوسيلة أيضاً؛ والحضارة تبين لنا الجزئيات، بينما الدين يقولب هذه الجزئيات ضمن إطار عام؛ والحضارةتزودنا العلم، بينما الدين يمنحنا فقهاً؛ والحضارة تعلّمنا ما هي الحياة، والدين يعلّمنا كيف ننتفع منها ، ولماذا كانت الحياة،وكيف ينبغي أن تكون..

معرفة فن الحياة

إننا -كمسلمين- لابد أن ينصب جلّ اهتمامنا على المسائل الحياتية، أو بتعبير آخر؛ على معرفة فنّ الحياة، مستلهمين‏ذلك من كتاب ربّنا تعالى ومن منهجه في فهم الحياة. أما أن نبقى نبحث في الجزئيات - سواء كانت هذه الجزئيات‏مرتبطة بالدين أم بالحياة - ونلغي النظر في الكليات، فإن هذه الحالة سوف تؤدّي إلى إصابتنا بهزائم متلاحقة.

إن من مشاكل كل أمة متخلفة أنها تبحث عن الجزئيات دون أن تربط بينها وتحوّلها إلى إطار واحد مشترك، فالغالبيةالعظمى من الناس تكون تصوراتهم عن الحياة تصورات تجزيئية؛ أي تصوّر الأشياء دون ربطها ببعضها.

ومشكلتنا نحن - المسلمين- تتمثل في أن معرفتنا بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية وما إلى ذلك، هي معرفةمتنافرة غير مجتمعة ضمن إطار واحد، ولذلك فإن هذه المعرفة لا تعيننا على فهم الحياة.

ومما لا ريب فيه أننا نمتلك كوادر وأصحاب اختصاصات في مختلف العلوم، ولكن أكثرهم علماء، أمّا الذين أوتواالحكمة، وفنّ معرفة الحياة، ومعرفة الخطوط العريضة فيها؛ فإنهم لا يشكلون إلا أقلية هي أقل من القليل، أما الغالبيةالعظمى فإنهم لم يحوّلوا معلوماتهم إلى رؤية وبصيرة، وهذه هي المشكلة الرئيسية التي نعاني منها نحن المسلمين.

وبكلمة؛ إن القرآن الكريم يعلّمنا فنّ الحياة الحرّة الكريمة، وكيف نتعامل مع الأحداث المختلفة المحيطة بنا، لذا يجدر بنا أن‏نتدبّر في آياته الكريمة ، ونتعمق فيها، ونتدارسها لكي نستوحي منها برنامجاً ومنهاجاً متكاملين نستطيع من خلالهما أن‏نحصل على البرنامج الأفضل والأمثل في الحياة لكي نتمكن من الوصول إلى أهدافنا الحضارية المنشودة من أقصرالسبل وأكثرها استقامة وصحّة، ولكي لا نتيه ونضيع في متاهات الطرق الأخرى التي لا تزيدنا عن أهدافنا إلا بعداًوانحرافاً وضلالاً كما ابتليت بذلك الأمم والشعوب الأخرى، ولم تعرف السبيل الأفضل في الحياة، والطريق الأمثل‏لتحقيق الأهداف بسبب ابتعادها عن بصائر الرسالات الإلهية.

==============

#أصالة الحضارة

عندما اجتمع الكفار واستشكلوا على أهلية الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة متذرعين بأنه يتيم الأبوين، ولا يمتلك من الأموال‏والثروة ما يؤهّله لقيادة العرب، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى آيات بينات تؤكد على أن الرب الجليل هو مقسم الرزق بين‏العباد، وأن الثروة ليست مقياساً للحق والباطل أو المجد والضعة، وبالتالي فإنه لا يحق لأي إنسان أن يقرر على من يجب‏أن تهبط الرسالة، لأن الرسالة أعظم مجد من الممكن أن يحظى به الإنسان، وهي عطاء اللَّه تبارك وتعالى لخيرة عباده.

لقد قال الكفار في هذا المجال كما جاء في القرآن الكريم: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ‏عَظِيمٍ‏)(الزخرف/31)؛ أي على رجل عظيم من مكة أو الطائف، فأجابهم اللَّه تعالى قائلاً: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ‏رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاًسُخْرِيّاً)(الزخرف/ 32).

التفاوت ليس مقياس الأفضلية

إن الدرجات التي يتفاوت بها الناس ما بين فقير وذي ثروة طائلة، وأسير ومأمور، وصحيح الجسم وسقيم... كل ذلك‏ليس دليلاً على أن اللَّه سبحانه وتعالى يفضلّ بعض الناس على بعض دون سبب، بل هي تدبيرات إلهية لتنظيم حياةالبشر. فاللَّه تبارك وتعالى وزّع المعادن فوق كوكبنا بحيث تمتلك بعض المناطق معادن لا توجد في المناطق الأخرى،والحكمة في ذلك أن يحتاج الناس إلى بعضهم البعض، وأن تتشابك مصالحهم، ويتعاونوا في الحياة الدنيا.

ومع ذلك فإن رحمة اللَّه، ورسالاته وقيمه خير من حطام الدنيا الذي يتكالب عليه أبناء البشر، كما يشير إلى ذلك قوله‏عز من قائل: (وَلَوْلآ أَن يَكُونَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَايَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرراً عَلَيْهَا يتَّكِئُونَ‏)(الزخرف/34-33).

فلولا أن اللَّه يعلم أن حيازة الكفّار لمباهج الدنيا وزخرفها تؤثر في الناس، وتجمعهم في ملّة الكفر، لخصّهم بهذه النعم‏الزائلة، كما يقول رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا عنده (عند اللَّه‏) تعدل جناح بعوضة لماسقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء)(26).

التطوّر لا يعني تفوق المذهب‏

إن تلك الآيات والأحاديث تؤكد قضية هامة ترتبط بالتقدم والتخلف، فهناك الكثير من الناس عندما يرون التقدم‏التكنولوجي والعملي، وتكدّس الثروات، وتراكم الإمكانات في الغرب ينبهرون وينهارون أمامها، فيقولون مستندين‏إلى تصوّراتهم الخاطئة هذه: مادام اللَّه قد أعطى اليابانيين - مثلاً - هذه الأدمغة الممتازة التي صنعوا بها المخترعات‏الإلكترونية، ومادام الأمريكيون يمتلكون قوّة هائلة، ويبعثون بمركباتهم الفضائية إلى الكواكب البعيدة، ومادام الروس‏يتمتعون بقوة عسكرية هائلة يستطيعون بها تدمير الكوكب الذي نعيش عليه... فإن دينهم لابد أن يكون هو الأفضل،وأخلاقياتهم وسلوكياتهم هي المثلى، وعليه؛ فلا مناص لنا من أن نخضع لمناهجهم ونتبعها!

إن هؤلاء يتجاهلون التشريعات الإلهية التي تقول أن التقدم المادي ليس دليلاً على سلامة المذهب والمنهج لسببين:

التقدم ليس محكوماً بالإرادة دائماً

1/ إن تقدم أمة ما ليس محكوماً بإرادتها فحسب؛ فالهنود الحمر - مثلاً - لو لم يقعوا لسبب من الأسباب فريسةلمجموعة من العوامل الطبيعية والحضارية المختلفة لكانوا أكثر تقدماً من الشعب الأمريكي، إلا أن الأخير وبسبب توفرالعوامل الخارجية والذاتية فيه، وبسبب هجرة العقول إلى تلك المنطقة، وانعدام الضمير لدى المهاجرين الأوائل إلى‏أميركا استطاع أن يقطع أشواطاً طويلة من التقدم على حساب تخلف السكان الأصليين، ولو كانت تلك العوامل قدتوفرت لهؤلاء السكان لكان التقدم من نصيبهم.

وقد قرر علماء الحضارات أن شعوباً كانت أكثر ذكاءً، وهمّة، وسعياً، وخلقاً فاضلاً، وتعاوناً فيما بينها، ولكنها مع ذلك لم‏تستطع أن تتقدم لعدم اكتمال أسباب وعوامل الحضارة عندها مثل انعدام الخصوبة في الأرض وما إلى ذلك، في حين‏توفّرت عوامل التقدم لشعوب أخرى.

فالإنسان الذي يولد في بلد نفطي تُهيّأ له أسباب المعيشة الرغيدة، ويذرع بطائرته الخاصة عواصم العالم، ثم ينسى رغم‏كل ذلك أن اللَّه جل جلاله هو الذي فجّر في أرضه الآبار البترولية، فإنه لا يؤدي في الحقيقة واجب شكر هذه النعمة التي‏تستلزم التقدم في سائر المجالات، واستثمارها في تقدم العالم الإسلامي.

التقدم ليس خيراً دائماً

2/ ليس من الضروري أن يكون تقدم مجموعة ما خيراً لها، فقدرتها على الوصول إلى القمر، وتمكنها من صنع أكثرالأجهزة تعقيداً، فكل ذلك قد لا يكون في صالحها بقدر ما هو ضرر لها. فقد تكون هذه الوسائل سبباً لدمار الإنسان‏وضياعه، ودافعاً لابتعاده عن قيمه وذاته، وبالتالي قد تكون معبراً لفساد ضميره، فما قيمة إنسان بلا إنسانية؟ إن من‏ينسى اللَّه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه فيصبح كالأنعام؛ لا يبحث في حياته إلا عن سراب وخيالات حتى تنتهي فترةبقائه فيعود إلى بارئه صفر اليدين، كما يؤكد على ذلك تعالى في قوله: (نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ‏الْفَاسِقُونَ‏)(الحشر/19).

وعندما ينبهر الإنسان بأصحاب الثروات، والمسيطرين على الإمكانيات المادية، ويركز جهده على الدنيا وما فيها،فحينئذ تتهيأ نفسه لضلالات الشيطان كما يقول عز من قائل: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَلَهُ قَرِينٌ‏)(الزخرف/36). وكلمة (يعشو) تعني تعامي الإنسان، فمع أن عينه سليمة إلا أنه يتعامى‏بمحض إرادته عن الرؤية. وإذا نسي القلب ذكر الرب، وغفل عن المنعم، وابتعد عن خلقه، فحينئذ ستكون نفسه‏مسرحاًً وميداناً لعمل الشيطان الذي يكون له قريناً في الدنيا والآخرة.

وبمعنى آخر؛ فإن أراد الإنسان الابتعاد عن آثار الإعلام والدعايات التضليلية، فلابد أن يكون قلبه متصلاً بذكر اللَّه‏أبداً.

لنحذر التضليل الإعلامي‏

ومن المعلوم أننا الآن خاضعون لموجة هائلة من التضليل الإعلامي، فينبغي أن ننتبه لذلك حتى لا نقع ضحية الإعلام‏الاستكباري، وذلك من خلال الاتصال قلبياً باللَّه تقدست أسماؤه دائماً وأبداً، لأن الشيطان محدق بالإنسان، فبمجرد أن‏يبتعد الأخير عن ذكر اللَّه ويغفل، فإن الوساوس الشيطانية سوف تقبل عليه، لتعشعش في نفسه، وتبعده عن سواءالسبيل، وتوحي له بأنه على طريق الهدى كما يقول تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم‏مُهْتَدُونَ‏)(الزخرف/37).

وفي أيامنا هذه نستطيع أن ندرك خبث الإعلام وطبيعة مكائده، فقديماً كان أعداء الإسلام في الشرق والغرب يشيعون‏أن الإسلام ضعيف، وأنه قد انتهى، ولم يعد بإمكانه أن ينظم مجتمعاً ويدير شؤونه أو أن يخلق واقعاً سياسياً، ولا يمكن أن‏يكون فاعلاً في الساحة.

وعلى ضوء ذلك؛ برزت في المجتمع الإسلامي تكتلات شرقية وغربية؛ فالمتأثرون بالإعلام الشرقي كانوا يبثون‏ادعاءات تفيد أن الأفكار الإسلامية رجعية، وداعية إلى التخلّف، فدعوا الناس إلى الانتماء إلى أحزاب الكادحين‏والبروليتاريا لزعمهم أنها قادرة على ضمان التقدم للعالم!

أما المتأثرون بالإعلام الغربي؛ فكانوا يوحون بأن الأفكار الإسلامية إنما هي أفكار بالية قد أكل الدهر عليها وشرب،وإن كان لابد من الإسلام فلنأخذ منه بعض الشعائر والطقوس ثم نكون بعد ذلك أحراراً في اقتصادنا وتجارتنا لنكون‏في مستوى العصر!

إذا أردنا أن نتحوّل إلى مسلمين حقيقيين علينا أن ننبذ هذه الأطروحات والمشاريع التي تستهدف القضاء على‏الإسلام، وحسر تأثيره في النفوس، وأن نعود إلى ينابيعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة الشريفة، وبذلك نستطيع‏اللحاق بركب الحضارة، وإذ ذاك سنتحوّل إلى أمة فاعلة تمارس التأثير الأكبر في مسيرة الحضارة البشرية، كما كان ذلك‏ديدننا في العصور السالفة عندما كانت الشريعة الإسلامية في جانبيها العقيدي والتشريعي هي التي تدفع المسلمين إلى‏أداء دورهم في الحياة. وبالفعل فقد أدوا دورهم كأحسن ما يكون الأداء، وإن المطلوب منّا الآن أن نحيي هذا الدور،وأن نعود خير أمة أخرجت إلى الناس.

==============

#الفصل‏الثالث‏ -في البناء الحضاري‏

عوامل النهوض الحضاري‏

إنّ التدبّر في حياة الشعوب يعطينا المزيد من القدرة على صنع مستقبلنا، وفهم واقعنا، والعوامل المسهمة في ضعفنا،وتلك المساعدة على نهوضنا. ومن جملة وقائع التأريخ المهمة نهوض الحضارة الإسلامية، هذا الحدث الذي اريد أن‏استنبط منه ثلاث قيم صعدت من خلالها الحضارة الإسلامية، وعليها قامت، وبسبب انعدامها هوت وتلاشت، وهذه‏القيم هي:

1/ القيم الاخلاقية والروحيّة

إنّ هذه الحضارة كانت مبنية على أساس القيم الأخلاقية والروحيّة، لا على المقاييس المادية. فكانت قيمة (عبادةاللَّه‏) هي السائدة في هذه الحضارة، لا قيمة الخضوع للجبت والطاغوت؛ وعلى قيمة الأخوة وانعدام التفاضل إلاّبالتقوى، لا على العنصريات والعصبيات. فلقد قاد النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم أناساً ينتمون إلى قبائل مختلفة في شبه الجزيرة العربية،فكان القرشيّ إلى جانب الخزرجي، وهذا إلى جانب الأوسيّ وهكذا.. فكانت الافضليّات والأولويات العشائريةمعدومة، بل والأكثر من ذلك إنّ مجموعات أخرى كانت تجاهد جنباً إلى جنب مع العرب ممن تنتمي إلى عناصر أخرى‏كاليهود الذين منّ اللَّه تعالى عليهم بالإسلام؛ والروم، والفرس بعد ذلك.

وهكذا فإنّ الجميع كانوا يُحكمون بعلاقة واحدة، هي علاقة الإيمان وتوحيد اللَّه عز وجل، لا علاقة الدم أو اللغة أوالأرض وما إلى ذلك من علائق طارئة، ولذلك فإنّ العمل الصالح كان ينمو في هذا المجتمع. في حين إذا كانت ورائي‏عشيرة تساعدني وتحميني، سواء كنت خاطئاً أم على حقّ، أو كنت عالماً أم جاهلاً، وعادلاً أم ظالماً.. عندما أعرف أن‏العشيرة ستحميني في كلّ الأوقات والظروف، فحينئذ لا فرق بالنسبة لي بين أن أعمل صالحاً أو طالحاً، ولذلك فإنّ‏الإنسان سيختار في هذه الحالة العمل الطالح، والكسل والجهل، والتقاعس عن العمل الصالح على الهمّة والنشاط والعلم‏والفضيلة.. أمّا عندما أدرك أنّ عملي الصالح هو الذي سيحميني فحينئذ سأتحرّك باتجاه العلم، والعمل، والعدالة.. ومن‏الطبيعيّ إن هذا المجتمع الذي يتسابق فيه الناس نحو الفضيلة والعلم والعمل الصالح سينمو، ويتحرك.

2/ التكامل في الحقّ والعدالة

إنّ هذا المجتمع كان مجتمع التكامل في الحقّ والعدالة، قبل أن يكون مجتمع التنابز والتناقض. فقد كان الجميع فيه يشعرون‏أنّ تقدّم أيّ واحد منهم يعني تقدّمهم، ورفعة أيّ واحد منهم تعني رفعتهم. لذلك كانوا يعملون ليس من أجل أن يرتفعوإ؛77ّّفقط، وإنّما من أجل أن يرتفع الآخرون أيضاً. فكان هذا الشعور هو السائد الذي جعل هذا المجتمع مجتمعاً متكاملاًمنسجماً، يشعر الفرد فيه بانتمائه إلى المجتمع أكثر من شعوره بالأنانيّة والفرديّة.

3/ استبعاد المصالح الشخصية

كانت الدعوة في هذا المجتمع مقصورة على العمل الصالح، لا على المصالح والمنافع الشخصية. فكان الأمر بالمعروف‏والنهي عن المنكر صبغة هذا المجتمع؛ فلم يكونوا يكتفون بأن يقولوا خيراً للآخرين، ويقدّمون النصائح اللفظية لهم، بل‏كانوا يدفعونهم إلى المعروف دفعاً، ويسحبونهم من طريق المنكر سحباً. فكانت الجادّة أمام هذا المجتمع مستقيمةواضحة يعرفها الجميع، ويتواصون بها.

هذه هي الميزات الثلاث في المجتمع الرساليّ، وهي - كما أتصوّر - ملازمة لكلّ مجتمع حين تقدّمه، ونهوضه؛ فلا تستطيع‏أيّ حضارة أن تنمو، وتتقدّم إلاّ بها، وفي حالة انعدامها (أي انعدام هذه المزايا) فانّ مصير هذه الحضارات‏سيؤول إلى الدمار والانقراض.

وقبل أن تدمّر هذه الحضارات يبعث إليها الرسل والأنبياء والمصلحون؛ أي عندما تجنح تلك المجتمعات نحو الانحدارليوقفوا هذا التدهور والهبوط سواء نجحوا في هذه المهمّة أم لم ينجحوا فيها. ولذلك فانّ القرآن الكريم يركّز على هذه‏المراحل الزمنيّة الهامّة والخطيرة، ويطلب منّا أن نعتبر بها. فالقرآن الكريم عندما يتحدّث عن مجتمع قوم نوح فانّه لايحدّثنا عن مرحلة تقدّم هذا المجتمع، بل عن مرحلة تدهوره وطغيانه، وهكذا الحال بالنسبة إلى قوم لوط، وعاد، وثمود،ومدين...

حضارة سادت ثمّ بادت‏

سنتحدّث عن مجتمع مدين الذي يقول عنه القرآن الكريم: (وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً)(الأعراف/85).وكانت الكلمة الأولى التي وجّهها هذا النبيّ إلى قومه أن قال لهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ‏غَيْرُهُ‏)(الاعراف/85). وهذه الكلمة تعني إزالة القيم الاسطوريّة الجاهليّة المتخلّفة، واستبدالها بقيمة واحدةهي قيمة (عبادة اللَّه‏)، والاتّصال به وحده. فنحن عندما نعبد اللَّه تعالى فانّنا سوف نعزف عن عبادة القيم‏الأخرى من مثل الشرف القبليّ، والعنصريّة، والأرض، والدم، والقومية.. من المفترض بنا أن ننبذ هذه الأساطيروالأصنام والأسماء والخرافات، لنعبد اللَّه وحده.

ونلاحظ هنا أن شعيباًعليه السلام يذكّر قومه بالميزة الأولى التي تحدّثنا عنها كواحدة من مزايا مجتمع الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان‏الأنبياء جميعاً يبدؤون دعوتهم بهذه الكلمة التي هي الأساس لتغيير القيم الجاهليّة. كما كان الأنبياءعليهم السلام يستهدفون أوّلاًوقبل كل شي‏ء إزالة السلطة السياسيّة الفاسدة من المجتمع، وإقامة سلطة سياسية إلهية محلّها، ولذلك يقول تعالى بعدذلك: (مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏).

وبعد أن طالب النبي شعيب‏عليه السلام بنسف السلطة السياسيّة، بدء يشير إلى النظام الاقتصادي بما يرتبط بالميزة الثانية في‏المجتمع الحضاري الرسالي، ألا وهي ميزة (التكامل‏) التي تتطلّب من كلّ واحد من أفراد المجتمع الرساليّ دفع‏الآخرين إلى النهوض، والتقدّم، والرفعة، والعزّة.. وعلى ضوء ذلك قال النبي شعيب‏عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ‏وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف/85). وهذه الأمورالثلاثة تدلّ كلّها على التكامل.

وأمّا بالنسبة إلى أمر (الإصلاح‏) فإنّ هناك علاقة متينة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، ألا وهي‏علاقة الإصلاح. فالمجتمع الرساليّ هو المجتمع الذي تكون فيه علاقته ببعض، وعلاقته بالطبيعة هي علاقة التربيةوالتنمية والتقدّم والنهوض.. في حين أنّ علاقة المجتمع المتخلّف تكون علاقة الإفساد والاستهلاك والإسراف والترف.

الإصلاح ميزة المجتمع الرسالي‏

وهكذا فإنّ هذه الميزة (الإصلاح‏) هي ميزة المجتمعات الرساليّة، أمّا الإفساد فيمثّل ميزة المجتمعات‏الجاهلية المتخلّفة، وقد قال النبي شعيب‏عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ‏)؛ أي ليحاول كلّ واحد منكم‏أداء حقوق الآخرين، بل ليحاول إعطاءهم أكثر من حقّهم.

ثم يقول بعد ذلك: (وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ‏)؛ أي ليعترف كلّ واحد منكم بحقوق الآخرين، ومزاياهم،وليحاول الاستفادة من هذه المزايا من خلال الاعتراف بهم. فهذا ما يجعل المجتمع يتكامل ويتعاون ويتبادل المنفعة.وقال أيضاً: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)؛ أي لتكن علاقتك بالآخرين، وعلاقة الآخرين بك‏علاقة التكامل.

ويا ليت شعوبنا الإسلامية تعي المداليل العظيمة لهذه الآية: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)، إذن‏لعرفت أن هذا الاستهلاك المستمر للموارد الطبيعية، واستهلاك الصناعات والمنتوجات الأجنبيّة، إنّما هو مسامير في‏نعش هذه الأمة. فالأمة الرساليّة يجب أن تنتج، لا أن تستهلك، وأن لا تُستثمر؛ بل أن تتكامل مع الآخرين. فيجب أن‏لا يكون همّ الواحد منّا أن يركب سيارة حديثة مستوردة من الخارج وما شاكل ذلك، بل يجب أن تكون جهودنامنصبّة على الصنع لا الاستهلاك، والابتكار لا التقليد..

إنّ هذه الميزة (ميزة الإصلاح‏) كانت موجودة في مجتمع النبي شعيب‏عليه السلام، ولكنّها انتهت وتلاشت، ولذلك‏فإنّ شعيباًعليه السلام قام بتذكيرهم بهذه الميزة.

أمّا الميزة الثالثة التي كان يتمتّع بها مجتمع النبي شعيب‏عليه السلام ثم فقدها، فهي ميزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث‏انعكست هذه الميزة في قوم النبي شعيب؛ فأخذوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، بل ويضعون العقبات أمام‏الذين يريدون أن يعملوا المعروف ويأمروا به.

وللأسف فإن مجتمعاتنا الإسلامية انتهت إلى نفس هذا المصير، فالمصلحون في هذا المجتمعات مطاردون وكذلك الأحراروالمفكّرون، أمّا المفسدون الضالّون فهم الذين أمسكوا بزمام الأمور في هذه المجتمعات، والقرآن الكريم يشير إلى هذه‏الحالة السلبيّة الشّاذة بقوله على لسان النبي شعيب‏عليه السلام: (وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ‏مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُالْمُفْسِدِينَ‏)(الأعراف/86).

انّ القرآن الكريم يصرّح في معرض حديثه عن مجتمع النبي شعيب‏عليه السلام؛ أنّ هذا المجتمع بلغ مرحلة من الفساد والكفردفعته إلى أن يصدّ ويعارض من يريد أن يشيع الخير والمعروف والفضيلة. وهذه هي نفس الحالة التي تسود مجتمعاتنا؛فكلّ الطرق مسدودة على المصلحين، فاذا أرادوا أن يصدروا صحيفة تشيع القيم والأخلاق الفاضلة منعوهم، كما وأنّهم‏لا يفسحون لهم المجال لكي يتحدّثوا في وسائل الاعلام الأخرى، في حين أن هذه الوسائل هي ملكه لا ملك أولئك‏الفاسدين، وإذا أراد الواحد من هؤلاء المصلحين أن يخطب في الملأ العام منعوه كذلك، وإذا أراد أن يصدر نشرة اعتقلوه‏وقدّموه إلى المحاكمة... وباختصار فانّهم لا يفسحون المجال، ويسدّون جميع سبل انتشار المعروف، والخير.

ومن الطبيعي إن مثل هذا المجتمع هو مجتمع فاسد، وأنّ عاقبته الدمار، كما كانت عاقبة قوم النبي شعيب، هذه العاقبة التي‏يحدّثنا القرآن الكريم عنها قائلاً: (فَاَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَاَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَن لَمْ‏يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏)(الأعراف/92-91).

فلنعد إلى هذه القيم، ولنربّها في أنفسنا، ونربّي الآخرين عليها، ولنحاول تكريس تلك المزايا الثلاث في نفوسنا لكي‏نستطيع بناء مجتمع حضاري بإذن اللَّه.

==============

#كيف نخلق البيئة الحضارية؟

هناك ظاهرة برزت في عالمنا الإسلامي في العقود الأخيرة، ألا وهي ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان الإسلامية إلى‏البلدان الأكثر تطوّراً؛ فالإحصائيات تشير في هذا المجال إلى أن عدد الخبراء في مختلف الحقول الذين هاجروا من‏البلدان الإسلامية إلى الغرب قد بلغ خلال عقد الثمانينات فقط مليوني خبير، في حين بلغت خسائر الدول النامية بسبب‏نزيف الأدمغة هذا ما يقرب من ستين ألف مليون دولار خلال عام واحد.

سبب ظاهرة هجرة الأدمغة

إن بعض الخبراء يفسرون هذه الظاهرة بالشلل الإداري السائد في البلدان النامية؛ فالإنسان المتعلّم إنما بذل الجهودالمتواصلة في الدراسة والتخصّص بهدف إفادة بلده وشعبه، ولكنه عندما يتخرّج من الجامعة تراه يُزجّ في دائرة من‏الدوائر، ليجلس وراء المكتب، ويقبض مرتبه، ولكنه في قرارة نفسه يشعر بعدم الارتياح لعلمه بأنه لا يؤدّي خدمة في‏المجال الذي تخصّص فيه، ولأن التخلّف الإداري سدّ أبواب العمل في وجهه، أضف إلى ذلك أن وجود الديكتاتوريةوالاستبداد والضغط الفكري شأنه أن يمنع المتوقد الوهّاج من أن يقدّم خدمة إلى بلده، فتراه يعيش حالة من التناقض‏والانفصام، فيتمزّق داخلياً، ويحاول أن يستغّل أيّة فرصة للهروب والخلاص من بلده إلى البلدان المتقدمة، حيث لايتمتع بوضع معاشي أفضل فحسب، وإنما الفرص متاحة هناك أكثر لتقديم خدماته، والتعبير عن إرادته وأفكاره،وثقافته.

إن هذه الظاهرة هي -في الحقيقة- جزء من مشكلة أكبر، هي مشكلة عدم وجود بيئة للتطوّر في بلداننا.

وعلى سبيل المثال؛ فإن ما أنفقته البلدان العربية خلال عقد من الزمن على المشاريع الإنمائية يفوق أربعمائة وخمسين‏ألف مليون دولار، ولكن أياً من هذه البلدان لا يمكننا أن نصفه بأنه بلد متطوّر ومتقدم، وهذه مشكلة لا أطرحها أنافحسب، فهناك الكثير من الخبراء والباحثين مشغولون بمناقشة هذه المشكلة، للعثور على حلٍ لها، فتشكلت أثر ذلك‏الاجتماعات المكثفة، وعقدت المعاهدات الاستراتيجية للقضاء على هذه المشكلة.

والسبب - ببساطة - هو أن الجو العام السائد في البلدان الإسلامية غير مهيّأ للتنمية الاقتصادية، فعندما ندرس الثورةالصناعية في بريطانيا ونتساءل عن سبب وقوع هذه الثورة في بريطانيا وفي ذلك العصر بالذات، نجد أن الظروف كانت‏مهيأة لذلك. فنحن عندما نريد أن ننمّي الاقتصاد في بلد ما، فإننا بحاجة إلى وقود رخيص، وأيدٍ عاملة،واختصاصات‏في المجالات الفنية والتكنولوجية المختلفة، ونحن أيضاً بحاجة إلى الخبرة المكثفة، والنظام الإداري المتطور، والنظام‏التسويقي المناسب، والتمويل الكافي، وإلى العشرات من الظروف والعوامل المساعدة لكي ينمو البلد اقتصادياً، وإذإ؛؛؛ّّفقدنا شرطاً واحداً من تلك الشروط المتعددة، فإن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو، بل إن الاستثمار في مجال من المجالات‏سيعدُّ نوعاً من الحماقة والسفه.

وعلى سبيل المثال؛ ففي السودان بعض المناطق الزراعية النائية التي تسودها حالة الوفرة والغزارة في المحاصيل، ولكن‏هذه المحاصيل - على وفرتها - منعدمة القيمة بسبب انعدام الطرق التي توصل هذه المنطقة بغيرها من المناطق التي‏تعيش حالة المجاعة والعوز؛ وهكذا فإن الاستثمار في تلك المنطقة، يعدّ أمراً لا جدوى منه.

الحاجة إلى خلق البيئة المناسبة

وبناءً على ذلك؛ فإننا بحاجة إلى أن نرجع إلى قضية هامة في التطوير الحضاري لبلادنا، ألا وهي البيئة المناسبة للنموالحضاري في مختلف الأصعدة والمجالات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ أن نخلق في المجتمع الروح الإيجابية، ومن ثم إيجادحالة التعاون كما يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ‏وَالْعُدْوَانِ‏)(المائدة/2).

وهنا لابد من القول: إن هذه التجمعات المباركة المنتشرة هنا وهناك هي نواة الحضارة، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، ونشرع‏بالعمل الجدّي من خلال خلق الروح الجماعية في أنفسنا في جميع الأعمال التي نؤديها، فنبادر مثلاً إلى إنشاء لجانٍ‏ومؤسسات للتأليف، ومراكز دراسات وأبحاث، وتشكيل فرق العمل العلمي كأن تتخصص كل مجموعة في جانب مابعد أن تعيّن مشرفاً عليها ينسّق بينها وبين مجموعات العمل الأخرى.

وهذا النوع من العمل الجماعي نحن بحاجة إلى ممارسته في جميع المجالات العملية، كالفقه والتفسير والأصول، والفروع‏الأكاديمية في الجامعات.. ليتوسّع إلى أن يتحول إلى نواة للحضارة، وهذه الحضارة إنما تبدأ منّا، وتنطلق من نفوسنا،وتستند إلى مبادرتنا.

والإسلام يأمرنا بالتعاون، لأنّه أرضية الحضارة، فمن المستحيل إن يبني شخص من الأشخاص حضارة أو عملاً كبيراًبمفرده، وعلينا في هذا المجال أن نتأمل حياة الشعوب المتطوّرة التي استطاعت أن تحقق نجاحات باهرة في مجال التقدم‏التكنولوجي، لكي نستفيد من تجاربها وخبراتها في هذا المجال.

ففي فرنسا - على سبيل المثال- كانت واسطة النقل الوحيدة في باريس هي (المترو)، وكانت أكثر تطوّراً من‏وسائط النقل الأخرى، ومع ذلك فقد اجتمع الخبراء ليخترعوا واسطة نقل أخرى أكثر سرعة، فصنعوا(مترو) آخر تحت المترو السابق، وأطلقوا عليه اسم الخط السريع الذي يقطع المسافة بين أقصى نقطة في‏باريس إلى أقصى نقطة خلال دقائق معدودة.

السبيل إلى البيئة الحضارية

إن شعوب العالم المتقدمة تحسب حساب الثواني واللحظات، في حين إننا مازلنا نضيّع الساعات الطويلة في الأمورالتافهة التي لا جدوى منها، والسبب في ذلك أن بيئة التطوّر لدينا غير مهيأة، فكيف السبيل إلى تهيئة هذه البيئة، وكيف‏نصنع البيئة المتحفّزة، والإنسان الحضاري؟؟؟

إن علينا - من أجل الوصول إلى هذا الهدف - أن لا يمنع بعضنا البعض الآخر من التحرّك السريع، وبذل النشاط،والمبادرة إلى تبيّن مشاريع التطوير. فلابد من أن نتخذ مقياساً جديداً في تجمّعنا، وهو مقياس التحرّك، لكي نسرع‏جميعاً في تحرّكنا، فإذا ما أسرعنا معاً، وخلقنا بيئة وظروفاً مناسبة للسرعة فإن هذه السرعة سوف تنفعنا، لأن البيئةكلها غدت متلائمة مع السرعة.

وللأسف؛ فإن أكثر ظواهر تضييع الوقت السائدة بيننا سببها أن علاقاتنا الاجتماعية غير قائمة على الأسس الصحيحة،وفيما يلي سنذكر بعضاً من الظواهر السلبية التي يفرّط من خلالها أبناء مجتمعاتنا بأوقاتهم.

1/ مجالس البطالة التي تقام أساساً لتضييع الوقت، في حين أن الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسين‏عليه السلام يقول:(يابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم ذهب بعضك‏)(27)، فالوقت هو جزء من طبيعة الإنسان، وهوخطانا نحو الموت كما يقول أمير المؤمنين‏عليه السلام: (نفس المرء خطاه إلى أجله‏)(28).

فلنلغِ -إذن- مجالس البطالة لأن هذه المجالس تسهم بشكل فاعل في تأخرنا عن مسيرة التقدم في الحياة، والتي ستكون‏سبب حسرتنا يوم القيامة، لأننا أهدرنا أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه، وإذا ما اضطررنا بسبب الظروف المختلفة أن‏نشترك في مثل هذه المجال فلنمرّ عليها مرّ الكرام، أو لنحاول أن نبدّل وجهة الحديث فيه من خلال طرح بعض الأفكاروالمقترحات، وإثارة جو النقاش في القضايا المهمة والساخنة والمصيرية...

2/ المواعيد غير المنتظمة والدقيقة، فإنها مضيعة للوقت، كأن تواعد أحد أصدقائك بأن تأتيه إلى المكان الفلاني في‏الساعة الخامسة - مثلاً- ثم يأتي صديقك حسب الموعد أما أنت فتسوّف في هذا الموعد فلا تأتي إلاّ في الساعةالسادسة، أو قد ينعكس الأمر، فيكون المتأخّر هو صديقك، وهذه الظاهرة في تضييع للوقت تنتهي بالإضرار بكلاالطرفين، في حين أن القرآن يؤكد علينا في أن نكون دقيقين ومنضبطين في مواعيدنا، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى بشأن‏النبي إسماعيل‏عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)(مريم/54)، وعن سبب نزول‏هذه الآية يقول المفسرون: إن هذا النبي العظيم انتظر رجلاً سنة كاملة في نفس المكان الذي وعده فيه لكي يثبت‏للآخرين أهمية وقدسيّة الوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه بالنسبة إلى الآخرين، والمثل المعروف يقول في هذاالمجال: (وعد الحرّ دين‏) أي إن الوعد هو بالنسبة إلى الإنسان الحر دين عليه أن يؤدّيه.

وبناءً على ذلك فإذا أردنا أن نصوغ المجتمع المستعد للتطور الحضاري وإذا أردنا أن نهيئ أرضية التقدم والتحضّر فيه،فلابد من الالتزم بجميع القيم والعناصر والتعاليم الحضارية التي ذكرتها نصوصنا ومصادرنا الدينية، والتي كان‏المسلمون الأوائل ملتزمين بها أشد الالتزام.

==============

#العمل طريقنا إلى بناء الحضارة

من السهل على الإنسان أن يحمل هدفاً ورسالة، أما أن يحقق ذلك الهدف وتلك الرسالة فإنه أمر شاق للغاية، كما يؤكدعلى ذلك الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (إن أمرنا لصعب مستصعب لا يحتمله إلاملك مقرب، أو نبيٌّ مرسل، أو مؤمن أمتحن اللَّه قلبه للإيمان‏)(29).

وفي هذا الصدد تثار أسئلة عديدة تفرض نفسها، وتطالب بالجواب عليها بإلحاح وهي:

1/ ما هي المسافة بين العمل ونجاحه؟

2/ ما هي المسافة بين الهدف والرسالة وتحقيقها؟

3/ كيف يمكن لنا أن نقطع هذه المسافة؟

الاعتقاد وحدة لا يكفي‏

وفي إطار الإجابة على التساؤلات السابقة نقول: إن الكثير منا يزعم أن مجرد اعتقاده بالحق وإيمانه بقيم الرسالة يكفيانه‏في تقديم إجابات مقنعة على تلك الأسئلة، غافلاً عن خطأ هذا التصوّر، فقد جاء عن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً)(30)؛ أي إن الإيمان الذي لا يتحول إلى عمل، والعقيدةالتي لا تفرز واقعاً حضارياً حياً، لا قيمة لهما.

ونحن الذين نؤمن بالإسلام؛ رغم أن إيماننا هذا هو إيمان لفظي، ولكننا عندما نراجع أوضاع المسلمين نجد أنهم يمثلون‏أكثر شعوب العالم تبعية وتمزقاً، وقد تفشى فيهم الفقر، والمرض، وسائر الظواهر الدالة على التخلف والانحطاط.فالإنسان، والقيم، والعدالة، والحرية، والكرامة.. كل ذلك بات من أرخص القضايا في البلدان الإسلامية.

أما في الأنحاء الأخرى من العالم؛ فإننا عندما نراهم يتحدثون عن الطفولة - مثلاً- وعن ضرورة الاهتمام بالطفل، نجدأن أطفالهم مكرّمون ومحترمون بالفعل، ففي بلدان العالم نجد منظمات عديدة تهتم بالطفولة، ومن أبرز هذه المنظمات‏منظمة (اليونيسيف‏) التي تولت مؤتمراتها وبحوثها في العقود الأخيرة ضرورة الاهتمام بالطفل، حتى خصصواله عاماً هو عام الطفل.

انعدام الكرامة

إن كل ما حدث ويحدث في بلداننا من انتهاك لحقوق الإنسان، وهدر لكرامته، وعدم إعطائه مكانته الإنسانية اللائقةبه؛ كل ذلك سببه الكرامة التي نزعت عن الأمة، لأن الأمة المفرغة من القوة والوحدة والحرية.. التي لا وجود حضاري‏لها في هذا العالم، هذه الأمة لا كرامة لها. فالطفل، والرجل، والمرأة - والإنسان بصورة عامة - ليسوا مكرمين فيها،وبالتالي فإن الإنسان والقيم أصبحا رخيصين فيها، بل إن كل شي‏ء فيها أضحى تافهاً لا أهمية له.

ترى هل هدانا اللَّه عز وجل للدين الإسلامي لكي نكون على هذه الشاكلة، وهل يعني الإسلام التمرق والتخلّف‏والتبعية والكبت والدكتاتورية؟

كلاّ؛ ليس هذا هو الإسلام الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى لعبادة؛ فهو لا يطلب لنا سوى الرحمة والكرامة، وقد جاءبالإسلام ليسعدنا ويرحمنا ويكرمنا به، وليرزقنا الفلاح في الدارين بواسطته، وبناءً على ذلك فإن المسلمين هم‏المسؤولون - دون غيرهم - عما يعيشونه من تردد وتخلّف وتراجع.

أساس البناء الحضاري‏

إن الكسل لا يفرز إلا الفشل ، والأنانية لا تفرز غير التبعية، والجهل لا يولد سوى التخلف.. وهذه الصفات السلبيةوغيرها لا يمكن أن تعطينا سوى التمزق، والتباغض، فلا يسعها أن تفرز وحدة أو حضارة، أو تهب للمجتمع التقدم‏والرقي.

فالإنسان لا يستطيع تغيير وحلحلة الوضع المتخلّف الذي يعيشه إلا بسعيه ومثابرته، لا بالكسل والأنانية والجهل‏والجبن، كما يؤكد ربنا عز وجل ذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأنفُسِهِمْ‏)(الرعد/11)، وقوله سبحانه: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى‏)(النجم/39).

فالدين الإسلامي يؤكد على أساس البناء الحضاري للأمة، والقرآن الكريم صريح في ذلك، فهو - على سبيل المثال-يقول بصراحة فيما يتعلق بالإيثار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وفي قضية العلم يوجدفي القرآن ما يقرب من ثلاثمائة آية تتحدث حول العلم كقوله تعالى:(وَقُل رَبي زِدْني‏عِلما)(الكهف/20). وهكذا الحال بالنسبة إلى العمل الصالح، حيث يأمرنا القرآن الكريم في مائة وعشرين‏آية بضرورة القيام بالعمل الصالح وربطه بالإيمان:(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏). وكذلك يدفعنا هذاالكتاب العظيم إلى التوكل على اللَّه، كما يدفعنا إلى التسلح بسائر الصفات الحميدة والرفيعة كقوله:(وَعَلَى اللَّهِ‏فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏).

وعلى هذا؛ فإننا لا نجد في القرآن ما يحثنا على الكسل ، والجبن، والتبعية، والعجز... بل إن الأمر على العكس من ذلك‏تماماً، حيث تأمرنا آياته المباركة بالاستقلال، والطموح، والعمل الجاد، والتطلّع نحو الأفضل.

ولما كان القرآن داعياً إلى انتهاج النهج السليم، والاتصاف بالصفات المثلى بهذا الوضوح والصدق، بات حتماً على‏المسلمين - بعد اتضاح هذه الحقائق - أن يلقوا باللائمة على أنفسهم، وعلى الطريقة الخاطئة التي فهموا القرآن من‏خلالها؛ فهم لم يدركوا من القرآن ولم يفهموا منه إلا حروفاً ورسماً، فتركوا معانيه وحقائقه وبصائره؛ فهم لا يؤمنون إلابالقرآن الذي يتلى بصوت حسن جميل في المناسبات، ولعلّهم يفخرون عندما يقرؤون عشر آيات منه في كل صباح!

وهنا أتساءل: هل إننا نقرأ القرآن بصفته برنامج عمل يوميّ، وهل نقرأه من أجل تغيير أنفسنا، أم إننا نتلوه لكي نفسره‏حسب أهوائنا وآرائنا، فنعمد إلى الآية التي تحثنا على العطاء، وتدفعنا إلى العمل، فنحرّفها إلى آية للكسل والتقاعس؟

فالآية القرآنية التي تقول:(وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة/195)، تأمرنابالعطاء والإنفاق، ولكننا نجد البعض يفسرها بالجبن والتخاذل، ليبرر هزيمته، غافلاً عن أن القرآن لا يبرر الهزيمة، ولايدعو إليها، بل يأمرنا بالصمود والاستقامة والتحدي.

القرآن تعاليم حياتية

إن القرآن عبارة عن مجموعة تعاليم حياتية وقيم رفيعة؛ تعلّمنا كيفية العيش بكرامة وسعادة في هذه الدنيا، وكيف ينبغي‏لنا أن نحيى لنسعد في الدنيا والآخرة معاً. وهذه هي خلاصة محتوى القرآن ورسالته.

وهكذا، وبعد أن علمنا أن الفهم الخاطئ للقرآن هو السبب الرئيس الكامن وراء تخلف المسلمين وانحطاطهم وتبعيتهم‏أصبح لزاماً علينا أن نحذر من تكرّر هذه الحالة التي ستؤدي بنا - إن استمرّت- إلى ما لا يحمد عقباه.

إننا لو أخذنا الجانب الاقتصادي لوجدنا أن القرآن يأمرنا بأن نسلك مسلكاً سليماً لا تبذير فيه ولا إسراف، بل يدعوفيه إلى الاقتصاد والإنفاق المعتدل، كما تشير إلى ذلك الآية: (وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ‏ذَلِكَ قَوَاماً)(الفرقان/67). فلا إفراط ولا تفريط ولكننا إذا نظرنا إلى طريقة تعاملنا الاقتصادي في حياتنالوجدنا أن حياتنا بعيدة كل البعد عمّا اختطّه الإسلام، وأراده القرآن لنا، فهي حياة تبذير وإسراف، إذ أن حياةالاقتصاد والإنفاق المعتدل تعني - على سبل المثال- أن لو كان مرتبك الشهري خمسين دولاراً فإن عليك أن تنفق‏خمسة وعشرين دولاراً منه لاحتياجاتك، وتهب عشر دولارات منه للفقراء والمساكين، وتدّخر الباقي ليوم الحاجة،أما إذا أخذت مرتبك وأنفقته بأكمله، واستقرضت بالإضافة إلى ذلك مبلغاً آخر ولم يكن ذلك من أجل الإنفاق في‏سبيل اللَّه، وإنما في سبيل الاستهلاك، فحينئذ ستكون حياتك حياة إسراف وتبذير.

وللأسف فإننا - بصورة عامة- مستهلكون أكثر منا منتجون، في حين أن القرآن يأمرنا أن نعطي أكثر مما نأخذ، وأن‏ننتج أكثر مما نستهلك، كما تشعر بذلك الآية التي تقول: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاًوَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الُْمحْسِنِينَ‏)(الأعراف/56). فحياتنا العملية قائمة على أساس الإسراف‏والتبذير، ولعل طريقة تعاملنا مع الماء الذي نتوضأ به، والطعام الذي نأكله، والملابس التي نرتديها، وسائر الأدوات‏والأمتعة التي نقتنيها ونستعملها، ليست طريقة إصلاح؛ بل هي طريقة إفساد. وبمعنى آخر؛ فإن حياتنا استهلاكية رغم‏إننا ندّعي بأننا دعاة إلى اللَّه سبحانه، وأدلاء إلى سبيله، ومبلّغون لرسالاته، فما بالك بالأشخاص العاديين!

أهمية معرفة لغة القرآن‏

إننا نحمل اليوم رسالات أنبياء اللَّه على عواتقنا، وما علينا سوى أن نصوغ شخصياتنا بهذه الرسالات المقدسة قبل أن‏نصوغ شخصيات الآخرين بها، وأهم أمر في صياغة أنفسنا أن نبدأ من تعرّفنا على لغة القرآن العميقة، وكيفية تطبيقهاعلى أنفسنا؛ فعندما تخاطبنا آيات الذكر تذكّرنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان يُجزَ به، وإن كان مثقال ذرة: (وَمَن‏يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيراً يَره، ومَن يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّة شَراً يَرَه‏)(الزلزلة/8-7).

فما الذي يريد أن يقوله لنا القرآن، ويوصله إلى أذهاننا عبر هذه الآية؟

إن القرآن الكريم يريد أن يوجد فينا عبر لغته الراقية والدقيقة حبّ العمل الصالح، والوله به. فآيات القرآن واضحة في‏هذا المضمار، وهي تبعث دوماً على النشاط، والعمل، والجهاد، ولكنّ هناك من لا يفهم لغة القرآن، فيعمد في البدء إلى‏تنفيذ العمل الملقى عليه برغبة منه أو دون رغبة، إجباراً أو اندفاعاً، وفي المرة الثانية تراه يتردد قائلاً: ألا يوجد أحدغيري يقوم بهذا العمل؟، أما في المرّة الثالثة؛ فإنه يهرب نهائياً من العمل!!

وفي هذه الحالة يهاجم الشيطان الإنسان بالتبريرات الجاهزة، ليقعده عن القيام بالعمل الصالح، ويلقي بالأعذار في ذهنه‏من قبيل التذرّع بالتعب، أو عدم جدوى القيام بهذا العمل... في حين أن الإنسان الذي يعمل وهو مرغم، أو لا يعمل‏أساساً لأنه يقدم جملة من التبريرات سلفاً، فإنه لا يمكن أن ينجح في الحياة، ولا يكن أن تنجح رسالته التي يحملها، لأنه‏ليس مخلصاً ومتفانياً في سبيل تحقيق أهدافه.

أما المؤمنون الحقيقيون؛ فإنهم يعشقون العمل الصالح، ويعلمون أن لكل شي‏ء حسابه الخاص به في يوم القيامة، ولذلك‏فهم يجتهدون ويتنافسون في أعمال الخير، لأنهم عرفوا ووعوا منذ البداية لغة القرآن، ومعانيه العميقة الواسعة.

ونحن جميعاً ينبغي أن نعمل، لأننا نؤمن بيوم الحساب، ونعلم بأن الدار الآخرة هي دار حساب ولا عمل، والدنيا دارعمل ولا حساب، وأن العمل الصالح هو الشي‏ء الوحيد الذي يجب أن نتسابق إليه، ونتنافس فيه قبل حلول الأجل‏وفوات الفرصة.

الأهداف لا تتحقق بالشعارات‏

وعليه؛ فإن الأهداف العظيمة التي نحملها لا يمكن تحقيقها بالشعارات والهتافات، لأنها - أي الأهداف- بحاجة إلى‏تربية ذاتية، تغيّر من خلالها الشخصية تغييراً كاملاً. فالتراخي والتوالي والأنانية هي أمور لا يمكن أن تصنع حضارة أوتحقق تقدماً وازدهاراً؛ وأن الشي‏ء الوحيد الذي تحتاج إليه شخصية الإنسان هو الاجتهاد؛ أي بذل المزيد من الجهدوالعطاء.

ونحن عندما ننظر إلى ما أنجزه الغربيون من التقدم، علينا أن نتأكد بأنهم لم يسبقونا ويتفوّقوا علينا بالكلام والشعارات،بل كان سر تفوقهم هو العمل والمساعي العلمية والاقتصادية.

وكما أسلفنا؛ فإن السعي والعمل يتّمان عبر تربية النفس على حب العمل الصالح، وأن نقرأ القرآن لنقاوم به ضعف أنفسنا،وجبننا، وكسلنا، وأنانيتنا، وفشلنا، وجميع المظاهر السلبية في حياتنا لنصنع - بالتالي- جيلاً قرآنياً يزرع النجاح‏والأمل والتفاؤل في كل مكان.

===============

#السبيل إلى الإصلاح الحضاري‏

من أين بدأت بإصلاح المجتمع أو إصلاح الحياة، فإنك لابد أن تصل إلى سائر الأبعاد، لأن في الحياة عوامل متكاملة متفاعلة وذات تأثير متقابل.

ترى من أين نبدأ عملية الإصلاح الحضاري في الأمة؛ من الفرد لإصلاح المجتمع، أم من المجتمع لإصلاح الفرد، وهل نبدأمن المجال الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي؟

للجواب على ذلك نقول: إنّه ليس المهمّ تحديد نقطة الانطلاق في عمليّة الإصلاح الحضاري، فجميع مساعينا في هذاالمجال تصبّ في قناة واحدة؛ فإن أصلحنا الفرد فإنّه سيكون الّلبنة الأولى لبناء صرح المجتمع، وسيبث روحاً جديداً فيه.وإذا بدأنا بإصلاح المجتمع فإن قوانين هذا المجتمع وديناميكية نظامه ستؤثّران بشكل مباشر في إصلاح الفرد أيضاً، وإذاأصلحنا الاقتصاد فإن السياسة هي الأخرى سينعكس عليها الإصلاح، وإذا أصلحنا الأخلاق أثّر هذا الإصلاح‏مباشرة على الثقافة.

وبناءً على ذلك؛ فإننا نستطيع من خلال بيان هذه الحقيقة أن نحسم الجدال الذي استهلك جهود وأوقات الكثير من‏الخبراء والعلماء حول تعيين منطلق عملية الإصلاح الحضاري، بل إنّ هذا الجدال جعل البعض منهم يعيش ضمن دائرةمفرغة لا يعلم من أين يدخل فيها، ومن أين يخرج منها، فالمهمّ ليس معرفة هذا البعد أو ذاك بقدر ما هو الانطلاق‏والمبادرة .

ونحن -كمسلمين- نصاب في بعض الأحيان بشلل الإرادة ، وقد ينعكس هذا الشلل في تأخير اتخاذ القرار؛ متذرّعين‏بأنّنا لا نعرف من أين نبدأ عملنا، وكيف نتحرك، ومن الذي سيساعدنا.. في حين أنّ من الواجب علينا أن نتوكّل في هذاالمجال على اللَّه تقدّست أسماؤه، الذي يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(العنكبوت/69).

وثمة سؤال لا يصح التغافل عنه؛ ما هو السبيل إلى إنشاء مؤسسات اجتماعية حضارية فاعلة، وكيف نحوّل مساجدنا إلى‏جامعات، ومنتديات علمية ومراكز اجتماعية وخدماتية..؟

من أجل أن نقوم بكلّ ذلك وغيره، علينا أن نتّبع الخطوات التالية:

إسقاط الحواجز

1/ لابد أن نسقط الحواجز بيننا كأفراد؛ فنحن نعيش فيما بيننا سواء في الأسرة، أم في المسجد أو حتى في التنظيمات‏السياسية، ولكن هذا التعايش هو تعايش مادّي بحت، أمّا الأرواح فإنها متنافرة، فكل واحد منّا يعيش في وادٍ،والآخرون في وادٍ آخر.

ترى كيف السبيل إلى إسقاط هذه الحجب، وتجاوز هذه الحواجز والعقبات؟ من أجل العثور على إجابة شافية على هذاالسؤال، لابد أن نعود إلى كلمة نبينا الأعظم محمدصلى الله عليه وآله وسلم التي يقول فيها: (إنما بُعثت لأتمّم مكارم‏الأخلاق‏)(31)، إلا أننا عادة لا ننظر إلى التعاليم الأخلاقية باعتبارها قضايا أساسية. فنحن قليلاً ما نتأثّر بالنصائح‏والمواعظ الأخلاقية، فالكثير منّا عندما يجلس في مجالس الوعظ والإرشاد فإنّه يسمع المواعظ والإرشادات بإذن‏ليخرجها من الأذن الأخرى، فترى كل واحد ينظر إلى ساعته ليرى متى ينتهي المجلس، في حين أن هذه الدقائق‏محسوبة عليه، وهذه المجالس نحن مسؤولون عنها يوم القيامة، فلعلّ حديثاً نسمعه في هذا المجلس أو ذاك من شأنه -إذا لم‏نطبّقه- أن يقف أمامنا يوم القيامة ليمنعنا من دخول الجنّة، فهذا الحديث يعتبر بالنسبة إلينا نذيراً وبشيراً. صحيح أن‏الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم ليس بيننا، ولكن كلامه ما يزال بيننا، فالخطيب إنما يتحدث إليك بالنيابة عن القرآن وعن النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم،وعندما لا يترك فيك هذا الحديث الأثر المطلوب فإن هذا يعني أنك لم تأت لكي ترتفع، وتحدث تحوّلاً حقيقياً في‏نفسك، وتتغيّر تغيراً جذرياً، ولذلك فإن الحديث سوف لا ينفعك، ولا ينفذ إلى أعماقك لأنك لم تكن مستعداً له من‏الناحية الذهنية والنفسية.

إن التربية الأخلاقية تمثّل عملية متطورة، وهي بإمكانها أن تحدث قفزة هائلة في حياتنا، ونحن إذا أردنا أن نتمسك‏بتعاليم النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته‏عليهم السلام الخلقية، فإننا نحتاج إلى عزيمة تشبه عزيمة الإنسان الذي يريد أن يقتلع جبال الهملايامن جذورها، والسبب في ذلك أن نفس الإنسان بتجبّره متكبرة، طاغية، كما أن الوساوس الشيطانية، والثقافةالجاهلية، وغفلة الإنسان وشهواته تزيد من تلك الصفات السلبية في النفس.

إن الحواجز التي تفصلنا عن بعضنا لابد وأن نهدّمها لكي نبني المجتمع الحضاري من خلال تصوّر أن هذه الحواجزستمنعنا أولاً من دخول الجنة لقول الإمام موسى الكاظم‏عليه السلام في وصيته لهشام بن الحكم في إطار بيانه للأثر الذي‏سيتركه في يوم القيامة حاجز من تلك الحواجز: (وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائدألسنتهم‏)(32)، فالكلمة الواحدة من الممكن أن تهوي بالإنسان في نار جهنم سبعين خريفاً، ولكننا - للأسف‏الشديد- ترانا نجلس لنخوض مع الخائضين، ولنوزّع التثبيطات يميننا وشمالاً، في حين أن الكلمات المثبطة التي نتفوّه بهامن الممكن أن تصبح بالنسبة إلى الطرف المقابل بمثابة فرامل توقف مسيرته. فقد تكون هناك عشرات البرامج في ذهن‏هذا الإنسان يريد أن يطبّقها، ولكنّ تلك الكلمات أوقفتها.

هذا في حين أننا مسؤولون عن الكلمات التي ننطبق بها، وسوف نحاسب عليها يوم القيامة حساباً عسيراً؛ فالغيبة،والتهمة، والنميمة... كل ذلك نحن مسؤولون عنه، وفي القرآن الكريم آيات عجيبة تتوفر على معالجة أمراض النفس‏شريطة أن يعي الإنسان هذا العلاج، كقوله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ‏)(الأنعام/120). ففي‏بعض الأحيان قد لا يغتاب الواحد منّا إنساناً آخر بشكل مباشر، وقد يرتكب ذنوباً لفظية أخرى فتترك آثارهاالضارة والسلبية على الآخرين دون دخولنا الجنة، وتمنعنا بذلك من الوصول إلى أفضل ما نصبو إليه.

الصفات السلبية سبب المأساة

2/ لنتصوّر أن هذه المآسي التي تحلّ بنا - نحن المسلمين- بما فيها من فظاعة وآلام قد كان السبب فيها تلك‏الأخلاقيات السيئة التي نعاني منها، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

ترى ما هي هذه الصفات السلبية التي تكّرست فينا وسبّبت هذه المآسي والأزمات؟ لابد أن هناك أنواعاً أخرى من‏الذنوب، ألا وهي الذنوب التي نستهين بها ونستصغرها والتي تعتبر أخطر الذنوب على الإطلاق، لأن الذنب الذي‏يستصغره الإنسان لا يمكن أن يغفره اللَّه جل وعلا؛ فكلّ واحد منّا يتصوّر امتيازه عن الآخرين ببراءة خاصة، فيقرّرأن جميع الناس كفار، ومنافقون، وأن عليه أن يحطّمهم.. ومثل هذا الإنسان سوف يعذبه اللَّه تعالى مرتين؛ مرّة لأنه‏ارتكب ذنباً، ومرّة ثانية لأنه استحلّ حرمة إنسان مؤمن.

وأنا أرى في هذا المجال أن الذنوب التي تنزل نقمات الرب، وتحول بيننا وبين معالجة وإصلاح أوضاعنا، هي نوع من‏الذنوب الخفيّة؛ مثل سوء الظنّ، والتكبّر، والتفاخر، والاستهزاء بالآخرين، والحط من شأنهم.

فلنقرأ - مثلاً- سورة الحجرات، ولنطبّقها على أنفسنا، ولنتدبر في هذه الآية: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ‏مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ‏)(الحجرات/11). فكيف‏يحق لنا أن نقرّر أن جماعتنا هي أفضل من تلك الجماعة، وكيف استطعنا أن نضمن خلاصنا من نار جهنم لكي ندخل‏الآخرين فيها؟

إن هذه الصفات السلبيّة المذمومة هي حواجز بيننا كأفراد، وهذه الحواجز تمنعنا من التعاون، وعندما ينعدم التعاون‏سيوجد الذل والفقر وسائر الصفات السلبية الأخرى.

وللأسف؛ فإنّني قد أرى اثنين من الإخوان المؤمنين الملتزمين بالتعاليم الدينية لا يستطيعان أن ينسجما مع بعضهما في‏مشروع واحد، رغم أن هذا المشروع هو مشروع دينيّ ليس من ورائه مصلحة شخصية، في حين أن الأعمال الحضاريةهي - عادة- أعمال جماعية، ومثل هذه الروحية لم تنمُ فينا بعد، لأنّنا نعاني من تلك الأخلاقيات السلبية، وقد يكون‏الواحد منا اكتسب هذه الأخلاقيات منذ الطفولة.

توظيف الاختلاف في التكامل‏

إن القرآن الكريم يقول صراحة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏)(المائدة/2)، ولكن الواحد منّا لا يريدأن يعمل مع الآخرين بحجّة أنه لا ينسجم معهم! في حين أن القضية ليست قضية هوى نفس، فالأيادي لابد أن تتلاحم‏مع بعضها، والتجارب والخبرات لابد أن تتجمّع مع بعضها. صحيح أن اللَّه تقدست أسماؤه قد خلق كل إنسان على‏شاكلة معيّنة، وأن الاختلاف من طبيعة كل إنسان، ولكنّ هذا الاختلاف يجب أن يُوظّف لمصلحة التكامل، من أجل أن‏نشكل به المجتمع الواحد المكتفي من خلال ذلك الاختلاف اكتفاء ذاتياً. فاللَّه تبارك وتعالى لم يخلقنا مختلفين لكي نتنافرونتصارع مع بعضنا، فهو يقول: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَ‏أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏)(الحجرات/13).

وعلى هذا فإن الحكمة من الاختلاف هو الوحدة، والتكامل، والتفاعل. أما أن نتمسك بالاختلاف الذي بين نفوسناوطبائعنا، وأن يبغي كل واحد منا أن تكون له مؤسسة خاصة به لا يدخل فيها عليه أحد، فإن هذه الظواهر هي من‏صفات المنافقين الذين يعصون من فوقهم، ويظلمون من تحتهم، فلا يستطيعون التوحّد والانسجام مع من هو أعلى‏منهم، ولا مع من هو أصغر منهم.

إن علينا أن ننتزع هذه الصفات السلبية من نفوسنا، وعندما نتخلّص منها فإننا سنستطيع أن نبدأ مسيرة الحضارة.

وكذلك الحال بالنسبة إلينا فإن من الواجب لكي نصل إلى تلك المستويات الرفيعة أن نلتزم بجميع الأخلاقيات‏الإيجابية، وأن لا ندّعي أننا مبرّؤون من الآثام والذنوب؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك بعضاً من الذنوب تصدر من‏العقل الباطن، ومن بعض المؤثرات غير الشعورية دون أن نحس بها، ومثل هذه الذنوب يجب أن نتخلص منها وأن لاندّعي إننا منزّهون عنها.

حسن الخلق في الروايات‏

وفيما يلي سأنقل للقراء الكرام بعض الروايات التي تتحدّث عن فضيلة حسن الخلق، هذه الفضيلة التي تقود إلى أعلى‏المستويات الحضارية:

- قال رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق‏)(33).

- وقال الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (أربع من كنَّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم‏ينقصه ذلك وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق‏)(34).

- وقال‏عليه السلام: (ما يقدم المؤمن على اللَّه عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبُ إلى اللَّه تعالى من أن يسع‏الناس بخلقه‏)(35).

- وقال رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم‏)(36).

- وقال‏صلى الله عليه وآله وسلم: (.. وأكثر ما يدخل به الجنة، تقوى اللَّه، وحسن الخلق‏)(37).

- وقال الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد)(38).

- وقال‏عليه السلام: (إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في‏سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح‏)(39).

- وقال‏عليه السلام: (إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك عليه العليافأفعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له خلق حسن، فيبلّغه اللَّه بخلقه، درجةالصائم القائم‏)(40).

وهذا يعني إن الأخلاق الحسنة تسدّ، وتكمل النواقص الموجودة في أعمال الإنسان.

فالتمسك بالأخلاق الحسنة، وطرد الأخلاق السيئة، وخصوصاً الاجتماعية منها، من شأنه أن يرفع ويحطّم الحواجز بيننا،تلك الحواجز والعقبات النفسية التي تحول دون سيادة حالة التكافل والتعاون والانسجام والحضور الضرورية لتشييدصرح الحضارة الشامخ. فمن دون أن نتسلح بالأخلاقيات الحضارية التي تقف الروح الجماعية في مقدمتها سنظل نرسف‏في أغلال الجهل، والتخلّف، والانحطاط، وسنبقى تابعين لغيرنا.

=============

#الثقافة منطلق المسيرة الحضارية

مما يؤلم كل ضمير حيّ في هذه الأمة، ويحز فيه هو حالة التخلف والجهل والفقر التي تعيشها أمتنا الإسلامية منذ أمدطويل وإلى حد الآن، فالواحد منا ينام ليله وهو يحلم في رغيف الغد كيف سيحصل عليه، ويأتي به إلى أطفاله لكي يسدبه رمقهم ورمقه. فإلى متى -يا ترى- سنظل نعيش حضيض التخلف، في حين أن العالم الآخر يخطو خطوات واسعة،ويقفز قفزات عملاقة في دنيا التكنولوجيا المتطورة، والاقتصاد المزدهر؟

بين البلدان المتخلفة والبلدان المتطوّرة

في بعض البلدان الفقيرة قد لا يمر العام الأول على الأطفال فيموتون خلال أشهرهم الأولى ولم يحتفلوا بعد بعيد ميلادهم‏الأول، في حين توقد الشموع لأطفال أوروبا وأميركا واليابان كل عام حتى يهرموا، وإذا افترضنا أن أولادنا قد كتبت‏لهم الحياة فإنهم سينمون نحيفين أو مشوّهين لأنهم لم يزودوا في صغرهم بلقاح بسيط لا تتعدى كلفته الدولار الواحد،فيكونون عندئذ ضحايا الشلل، أو الجدري وغير ذلك من الأوبئة والأمراض، بينما توضع برامج التغذية الخاصة لأطفال‏العالم الصناعي بالإضافة إلى الدواء والعلاج الذي قد لا يحتاجونه، لأن الأمراض والأوبئة قد رحلت من بين أوساطهم‏منذ زمن ليس بالقصير.

ترى لماذا تعصف ببلداننا أمواج الفقر والكوارث، فيموت أبناؤها ضحايا الأمراض والجفاف والجوع الذي يسحق‏الألوف المؤلفة؟

منذ مئات السنين والعيش الرغيد الهني‏ء حسرة على كثير من الشعوب المسلمة وقلوب أطفالهم، ولو كان هناك جهدمن الإنسان الغني في هذه المنطقة الإسلامية أو تلك لما وصل الفقر إلى هذه الدرجة المتأزمة الحادة التي عليها الآن،ولكن الصبغة العامة - للأسف- ليست هي صبغة الغنا والرفاهية والازدهار، بل هي صبغة التخلف والفقر والهوان‏والذل والتبعية، وما إلى ذلك من الظواهر السلبية المقيتة.

ترى هل خُلقنا لكي نعاني ونتألم... أم لأننا مسلمون فكان قدرنا هذا الواقع المرير، أم أننا زهدنا في الدنيا وابتغيناالآخرة ورجوناها، فكان الازدهار والتقدم والنعيم في هذه الدنيا من نصيب الآخرين؟

كلا؛ فحاشى للَّه تبارك وتعالى أن يكون قد قدّر لنا كل ذلك، بل لابد أن نفتش عن أسباب وجذور واقعنا المظلم‏المتخلف، فإذا أردنا معالجة أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية علاجاً آنياً وموقتاً دون البحث في‏العمق، ودون دراسة خلفيات وجذور هذه الأوضاع وما يسفر عنها من نتائج، فإن بحثاً وعلاجاً كهذين إنما هما عبث‏في عبث.

لابد من علاج جذري‏

إن مثل التخلف في أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كمثل جبل الثلج الذي يطفو فوق البحر، فلا يظهر إلاجزء يسير من حجمه فوق سطح المياه لا يتجاوز المعشار، أما النسبة الباقية فهي غائصة لا تبدو للعيان. وهكذا الحال‏بالنسبة إلى أوضاعنا، وخصوصاً الاقتصادية منها، فإن النسبة الأعظم منها غائصة في بحر التخلّف.

لقد بلغ التخلف والتردي في أوضاعنا الاقتصادية والسياسية درجة بات لا ينفع معها العلاج الموقّت، لأن العلة ستبقى‏متأصلة تكبر وتستشري بمرور الزمن، فلابد - والحالة هذه- من المعالجة الجذرية ما دامت العلل والأسباب متأصلةوجذرية هي الأخرى.

وقد يعلّل البعض تخلّفنا وتقهقرنا بأنهما قدر إلهي كتب علينا، وحاشا للَّه -جلت قدرته- أن يجعل ذلك قدراً يقدره دون‏سبب، فهو تعالى ينفي ذلك عن ذاته المقدسة بشدة في قوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(فصلت/46)،فكيف يكتب الفقر على عباده وقد خلق كل ما في الوجود مسخراً لهم، ولأجل منفعتهم، وقد خلق هذه الأرض وماعليها من خيرات وما في جوفها من كنوز وثروات، والسهول، والجبال، والبحار والأنهار، والحقول والمراعي،والطيور والثروات الحيوانية.. وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى؟

نحن أغنياء ولكن...!

إن بلداننا الطويلة العريضة ما من واحد منها إلا وتجده غنياً مليئاً بالكثير من الموارد والثروات الطبيعية المختلفة؛ من‏نفط، وغاز، وحديد، ونحاس، وذهب ، ومياه عذبة، وتربة خصبة، وغابات .. ولعل هذه الموارد نجدها تتركز عادة في‏المناطق الإسلامية كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي والصين فضلاً عن البلدان الإسلامية نفسها.

إن اللَّه تقدست أسماؤه لم يكن ليقدّر لنا -نحن المسلمين- أن نعيش فقراء معوزين محتاجين إلى غيرنا، وكيف يقدّر لناالفقر وفي بلدان الخليج وحدها خمسون بالمائة من احتياطي النفط العالمي؟

وفي الوقت الذي لم يجعل اللَّه تعالى الفقر قدرنا وقضاءنا، فإنه لم يأمرنا أن نركن إلى زوايا بيوتنا لنقعد، وننتظر أن يرفدنابكل ما نحتاجه من المعاجز والإمدادات الغيبية، بل إنه تعالى أمرنا بالانطلاق في رحاب هذه الأرض، والابتغاء من‏فضله ونعمه.

فما هو - إذن- سبب فقرنا وتخلفنا بعد أن اتضح لنا أن الفقر ليس من اللَّه جل جلاله، وأين تكمن علّة الفقر؟

للجواب على ذلك: إن السبب هو القيود والأغلال التي كُبّلت بها أيدينا، فلم تعد قادرة على الاستثمار، والإنتاج،والإبداع، وانعدام الحرية الاقتصادية. فعلى الرغم مما تزخر به بلداننا من كنوز وثروات، ولكن استثمارها والانتفاع‏منها ممنوعان على أهلها وأصحابها؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أراضي خصبة بكراً تملأ الآفاق، وهناك مياه عذبةغزيرة من شأنها أن تجعل من تلك الأراضي جناناً خضراً تحمل لنا ثماراً طيبة عبر استصلاحها، وحرثها، وزراعتها،ولكنك عندما تعزم على تعزم على تنفيذ مشروعك لابد أن تصطدم بألف قانون وقانون يحول بينك وبين تحقيق هذاالهدف الاستثماري.

نعم؛ إن القوانين التي من الأحرى أن نسميّها بالموانع والعراقيل تظل تلاحق آمالنا وأحلامنا، ونحن لو أمعنا النظر في‏هذه القوانين لوجدنا أنها ليست إلا تركة استعمارية مقيتة.

التخلّف في المجال الزراعي‏

وللأسف فإن الزراعة في معظم بلداننا التي كانت في يوم من الأيام تتمتع بالاكتفاء في هذا المجال، شبه ميتة؛ فأراضيهايقتلها البوار، والمياه العذبة تذهب إلى البحار هدراً دون استغلال صحيح لها، حتى بتنا نستجدي ونطلب الصدقات من‏أميركا وأوروبا لتزودنا بشي‏ء من القمح واللحم والبطاطس بعد أن نهبوا نفطنا، وثرواتنا المعدنية، فأضحى اقتصادناأسيراً للعملات الأجنبية.

ترى أين نحن اليوم من أمسنا؟ فأرض العراق التي كانت تسمى (أرض السواد)، حيث لم تكن بقعة منهاتخلو من الزراعة والخضرة، أصبح أبناؤها اليوم يموتون جوعاً، كما أن هذه الأرض كانت في يوم ما ملجأ لكل جياع‏العالم عندما يصيبهم القحط، في حين نرى الآن أن مخزون القمح فيها لا يكفي إلا لمدة أسبوعين، وإذا ما بحثنا عن السبب؛حدثنا عنه التاريخ؛ فالبريطانيون عندما جاؤوا إلى مصر منعوا وحاربوا زراعة القمح واستبدلوها بزراعة القطن‏ليزودوا به مصانعهم في بريطانيا، حيث بلغت الثروة الصناعية أوجها، وكانت المصانع في أمسّ الحاجة إلى المواد الخام‏ومن ضمنها القطن الذي يعتبر المادّة الأولية الأساسية في صناعة النسيج.

إن معظم القوانين الاستعمارية المستوردة التي يُعْمَل بها في بلداننا الإسلامية إنما وفدت علينا في إطار مؤامرة غربيةلتدمير اقتصاد المسلمين، وعرقلة عملية نموّهم وتطوّرهم؛ بل ومن أجل تجويع شعوبنا، وهدم البنى التحتية لاقتصادها؛فأماتوا زراعتنا، وزودونا بالمكائن والآلات غير الأساسية لنضيّع أوقاتنا في صناعات التجميع.

وفي الحقيقة؛ فإننا لو نظرنا إلى البلدان المتقدمة صناعياً نجد أن تقدمها هذا لم يحدث إلا من خلال التطوّر الزراعي،وزيادة الإنتاج. فالأولى بكل بلد نامٍ - إذن- أن يطوّر زراعته أولاً، ويؤمن إنتاجه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المجال‏الصناعي. ولعل من الأسباب التي فجّرت الثورة الصناعية في عالم الغرب - وخصوصاً بريطانيا، وكما يرى ذلك بعض‏المؤرّخين - هو الفائض في الإنتاج الزراعي الذي شهدته بريطانيا، والدول الأوروبية الأخرى آنذاك.

ومن أجل علاج تلك المعضلات لعلنا نقول: حسناً؛ لنعط الزراعة حقها، فهذه الأرض مفتوحة لمن أراد أن يستثمرها،وبالإضافة إلى ذلك لنعط الحرية في الصناعة، ولنشيّد المعامل، وننتج.

غير إن هذا وحد لا يكفي؛ فالحرية بدون ضوابط وتنظيم لا تكفي، بل إنها ستتحول بهذا الشكل العشوائي إلى طبقيةمقيتة؛ فالبعض يستخدمون دهاءهم ولا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة، وإذا بهم يشكلون كتلاً وتجمعات اقتصاديةخاصة، ويمتصون من خلال هذه التشكيلات دماء الغالبية المسحوقة من أبناء شعوبنا، فيزدادون - بالتالي- ثراءًوترفاً، بينما يظل المسحوقون في فقرهم وفاقتهم، وتضحى الحركة الاقتصادية عبارة عن سيطرة مجاميع من البرجوازيةالكبيرة والصغيرة، والرأسمالية، والكارتلات على مقدراتنا.

الحرية الاقتصادية والسياسية معاً

وخلاصة القول؛ إننا نسلّم بحاجتنا الماسة إلى الحرية الاقتصادية، ولكن هذه الحرية لا تكفي لوحدها، إذ لابد من حريةسياسية تؤازر الحرية الاقتصادية وتوجهها، لأن الحرية الاقتصادية وحدها ومن دون خلفية سياسية تكون بمثابةضابط وموجه لها، لا تلبث أن تتحول إلى ذئب ضارٍ ينهش في جسد الأمة، ويمتص دماءها. فالضوابط والتنظيم‏والإدارة الحازمة التي تتولاها القوة السياسية في البلاد تعني الحيلولة دون انتشار المفاسد الاقتصادية، كالاستغلال‏والاحتكار والجشع والغلاء والرشوة والاختلاس. فما أهمية القانون وما معناه إذا شاعت الرشوة في البلاد أو استفحل‏الاستغلال والاحتكار؛ فهذه العوامل التي تشلّ اقتصاد البلد تتحوّل إلى مجموعة كارتلات تسيطر، وتخطط، وتنفذ.

وفيما يتعلق بالحرية السياسية نتساءل: هل أن هذه الحرية ينتهي عندها كل شي‏ء، فتسير الأمور في مجراها الطبيعي؟

هنا نقول: إن الحرية السياسية لا تكفي - هي الأخرى- لوحدها، وليست قادرة على منع انتشار عوامل الفسادالاقتصادي، ذلك لأن للحرية السياسية منافعها ومضارها، فمن ضمن منافعها أنها تجعل الواحد منا حراً في أن يبوح‏ويعبّر عما يريد ويمارس ما يرغب، ومن مضارّها أيضاً إفساد الرأي العام من خلال حدوث الانشقاق بين الأفراد،فإذا بكل واحد يبغي إسقاط الآخر؛ فيتكلم عنه بما فيه، وما ليس فيه. وهذا هو الجذر الأساسي للمشاكل التي نعاني‏منها، وهو الذي يجب علينا أن نسعى جاهدين لاجتثاثه من خلال نشر ثقافة رسالية إيمانية وتعامل أخلاقي فاضل.

الثقافة الرسالية؛ إطار الحرية

وإذا ما أُطرت الحرية السياسية بإطار إيماني، وأخلاق إسلامية فاضلة ، فإننا سنكون أهلاً لضبط وتوجيه الحريةالاقتصادية التي هي من جملة الأسباب الرئيسية للنمو والازدهار والتقدم.

إن الثقافة الرسالية هي التي تصنع الإنسان المتقي الورع الذي يكون أهلاً لإبداء الآراء، والبحث على صعيد الاجتماع؛فلا يقول شيئاً، ولا يرى رأياً إلا بعد تمحيص ودراسة ودراية، ولا يفعل فعلاً إلا بعد إحاطة بالنتائج، فيصدر كل ذلك‏منه في إطار مخافة اللَّه سبحانه وتعالى وتقواه، فلا يقول ولا يعمل شيئاً من باب العبث.

وهكذا فلابد من ثقافة رسالية توجه التيار السياسي في هذه الأمة، وإذا ما انتشرت في أوساط الأمة ثقافة رساليةصادقة، وعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، وأحسنوا التعامل معها، فحينئذ ستكون الحرية السياسية مجدية ونافعة،وستؤتي الحرية الاقتصادية بعد ذاك ثمارها، وتزدهر الأمة، وتمضي قدماً في مسيرة التقدم.

ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكد على محور الثقافة الرسالية باعتبارها العنصر الأهم في عملية التقدم؛ فلابد -أولاً- من‏أن يزكى عقل الإنسان، وينمو ويتفتح، وإلى هذه الحقيقة يشير السياق القرآني في قوله: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ‏لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ‏)(الزمر/22).

فالإنسان المؤمن عندما يفتح قلبه، ويجعله منشرحاً للإيمان، فإن اللَّه سبحانه يغدق على قلبه فيضاً من نوره السرمدي،وعندئذ سيدرك صاحب هذا القلب ماله وما عليه في هذه الحياة سواء إزاء نفسه، أو أمام أسرته، ومجتمعه، وأمته.

والإمام السجادعليه السلام يبيّن في رسالته المعروفة ب(رسالة الحقوق‏) أن علينا في هذه الدنيا حقوقاً، وعلى سبيل‏المثال؛ فإن لنفس الإنسان وجسمه ولكل جوارحه حقوقاً لابد من أن يوفيها، وإذا ما خرج هذا الإنسان من إطار ذاته‏لاقته حقوق أخرى؛ كحقوق الوالدين، والأولاد، والزوجة، والجار، ثم تتعدى إلى الأصدقاء والأقرباء والمجتمع حتى‏تشمل الأمة كلها. وإذا ما حافظ الإنسان على هذه الحقوق والواجبات وعمل بها، فإنه سوف لا يحتاج إلى قانون‏خارجي يؤطر حركته ويوجهها في الحياة، ذلك لأن القانون قد وجد - مسبقاً- في ذاته وضميره؛ أي أن وازعاً داخلياًهو الذي سيحرّكه.

أما الذين قست قلوبهم، ومات الضمير والوجدان فيهم، فإن هؤلاء لا تنفع معهم جميع القوانين، مهما تعدّدت وتفرعت‏بنودها، مادام ذكر اللَّه جل وعلا لا يدخل إلى أعماقهم ولا يتغلغل إلى قلوبهم الميتة القاسية. ثم يمضي السياق القرآني‏الكريم مؤكداً على هذه الحقيقة قائلاً: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ‏يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشآءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ‏هَادٍ)(الزمر/ 23).

وعلى هذا الأساس؛ فإننا بحاجة إلى هدى اللَّه، ومجتمعاتنا بحاجة - هي الأخرى- إلى أن تقتلع جذور التبعية والتخلّف‏والتمزق وجميع الأمراض المستعصية المعششة في مجتمعاتنا الإسلامية، مادام القرآن بين أيدينا.

فلنتلُ القرآن الكريم حق تلاوته، ولننشر مبادئه، وتعاليمه بين أفراد المجتمع، ولندعُهم إلى أن يكونوا قرآنيين. وإذا ماوصلنا إلى هذا المستوى، فحينئذ سوف تحلّ جميع مشاكلنا. ففهم القرآن، وتدبّره يعنيان أننا قد عالجنا مشكلتنا الثقافية؛أي تزودنا بزاد الثقافة الرسالية التي هي مفتاح علاج مشاكلنا، ومعضلاتنا السياسية، ومن ثم الاقتصادية، وبذلك‏سوف نبني أمة خلاقة، مبدعة تحب العمل المؤطر بالإخلاص، وترغب في التحرك والنشاط.

فلابد - إذن- من أن نتسلّح بسلاح الثقافة الرسالية، وندع الجمود، والخمول، وروح الاتكال جانباً، ولابد لنا من ان‏نتشبع بالثقافة القرآنية، ونعيها وعياً تاماً، ونبثها في مجتمعاتنا لكي نخطو الخطوات الأولى في معالجة مشاكلنا، وتغييرواقعنا المتردي نحو الأفضل والأحسن، وبالتالي نسير بأمتنا إلى مستقبل حضاري مشرق ومزدهر.

=================

#بناء المؤسسات ضرورة حضارية

إذا كانت هناك ميزة يتميز بها عصرنا الحديث، فإنها -ولا ريب- ميزة (المؤسسات‏). فجميع البحوث‏والدراسات التي تبحث في تطوير المجتمعات وتحضيرها، لابد أن تؤدي إلى هذا المحور وهو: كيف نتجاوز عصر الفردإلى عصر المؤسسة، والحالة الفردية إلى الحالة الاجتماعية؟

الحضارة هي الحضور

إن كلمة (الحضارة) و(المدنية) وما يراد منها من مصطلحات وتعابير تؤدي كلها معنى حضورالإنسان واجتماعه وتفاعله معه، بل إننا عندما نريد أن نعرّف الإنسان تعريفاً يميزه عن سائر الأحياء، فلا مناص لنا من‏القول بأنه كائن اجتماعي سياسي، وقد ظهر هذا التعريف مؤخراً في مؤلفات المفكرين والعلماء.

البيان والعلم ميزة الإنسان‏

وعندما بيّن القرآن الكريم الصفة الأساسية للإنسان، فإنه ركز على صفة البيان والعلم، وذلك في الآية الكريمة التي كانت‏باكورة وحي اللَّه تعالى إلى النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ‏الأََكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏)(العلق/5-1).

وفي سورة الرحمان التي تتجلى فيها رحمة اللَّه عز وجل نقرأ قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ‏الإِنسَانَ‏)(الرحمن/3-1)، وفي سورة القلم تطالعنا الآيات الكريمة القائلة: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ *مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏)(القلم/2-1)، فلماذا كان القلم أداة العلم، والبيان وسيلته، ولماذا كان العلم‏والبيان ميزة الإنسان؟

الجواب: لأن العلم والبيان يتولان مسؤولية نقل الخبرة من إنسان إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، في حين إن هذه القدرةمعدومة تماماً لدى سائر الكائنات الحيّة، ولذلك فإنها متوقفة عند حد معين من الفهم والمعرفة.

فالبيان وسيلة لنقل التجربة من إنسان إلى آخر، السمة الأساسية له هي سمة الحضور، فالإنسان كائن حيّ متحضّر،اجتماعي، مبيّن ناطق، ولكن الناس مع ذلك يختلفون في مستويات تحضّرهم، فهناك بعض الحضارات متقدمة، وهناك‏حضارات متوسطة في التقدم، في حين أن هناك حضارات بدائية متخلّفة.

مقياس التحضّر

إن القيمة التي نقيس بها الحضارة ونحكم على ضوئها بأنها متقدمة، أو متوسطة، أو متخلفة، هي مدى‏(الحضور) فيها؛ فنحن قد نحضر عند بعضنا حضوراً مادياً بحتاً كما تجتمع أعواد الثقاب إلى بعضها في العلبة،ولكن ترى هل هناك تفاعل بيننا في هذه الحالة؟ الجواب بالنفي طبعاً، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نسمّي علبة أعوادالثقاب بحضارة الثقاب، لأن الحضور في هذه الحالة هو حضور فيزيائي صرف وليس حضوراً معنوياً.

والآن فإن من الوسائل التي يستطيع بها العلماء معرفة مدى تحضّر شعب ما هي مفردات اللغة التي يتعامل بها، فهناك‏بعض الشعوب البدائية لا تمتلك مفردات لغوية كثيرة، فالجمل عندها بسيطة التركيب، لأن أفرادها لا يتمتعون بخبرةكبيرة لكي يحتاجوا إلى نقلها إلى بعضهم البعض، فنقل الخبرة بحاجة إلى البيان، والبيان بحاجة إلى تطوير للفهم، ولذلك‏نجد أن معلوماتهم بسيطة، وحضارتهم محدودة رغم أنهم يعيشون سوية.

إن الحضارة روح، وتفاعل معنوي يؤدي إلى التعاون، ونحن إذا أردنا أن نبني الحضارة الإسلامية فعلينا أن نعود إلى‏الجذور، وإلى الفكرة الأساسية في الحضارة، وإلى المحتوى فيها، ونفكر في الطريقة التي نجعل بها حضورنا إلى بعضناالبعض حضوراً معنوياً فاعلاً وقادراً على صنع الواقع المتقدم، وإيجاد الأرضية المشتركة للعمل.

إن علينا -نحن المسلمين- أن نعود إلى حضارتنا، أي أن نجعل حضورنا عند بعضنا البعض حضوراً حيوياً فاعلاً لكي‏نصل إلى الحقيقة، ولكننا - للأسف الشديد - ترى كل واحد منا يعيش في زنزانة نفسه، فإذا أراد أحدنا أن يدرس أويعمل، فإنه يخطط لنفسه، ويبرمج وينفذ لها فقط، فكل تفكيرنا منصب على أنفسنا كأفراد.

حياة المؤسسات لا الأشخاص‏

إننا عاجزون عن أن نتقدم بوصة واحدة إن لم نخرج من زنزانة أنفسنا كأفراد لندخل في رحاب التجمعات، ونعيش‏حياة المؤسسات لا حياة الأشخاص، وأن نحذر من أن تكون قياداتنا شخصية مستندة إلى أفراد معينين فإن ذهبت،فإن علينا أن نبنيها من جديد من ألفها إلى يائها.

وعلى سبيل المثال؛ فإن المؤسسة المرجعية التي تمتلك تاريخاً عريقاً يمتد إلى أكثر من ألف سنة، هي المؤسسة الشرعيةالوحيدة التي تستطيع أن تنوب عن الإمام الحجة عجل اللَّه فرجه في عصر الغيبة، ورغم ذلك فإني -حسب معلوماتي-لم أجد حتى الآن كتاباً ألف حول تجربة المؤسسة المرجعية خلال ألف عام من الخبرات والجهات، والعطاء العلمي‏والحضاري في مختلف الأمور.

إن السبب في ذلك أن المؤسسات لم يكن لها وجود في ذلك العصر، ولذلك فإن التاريخ لم يكتب، ولم تنتقل الخبرات‏والتجارب إلا من خلال الألسن والأفواه... وفي مثل هذه الحالة تسود جميع مجالات حياتنا. فنحن نعيش أفراداً ولم‏نستطع بعد أن نعي ضرورة ظهور المؤسسات في حياتنا.

إن الإسلام عندما قال لنا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏)(المائدة/2) فإنه لم يأمرنا أن نرفع الأذى عن‏طريق المسلمين فحسب، بل إن اللَّه تعالى أعطانا بذلك الأستراتيجية العامة في حياتنا؛ أي أن حركتنا لابد أن تكون‏حركة تعاونية، وفكرنا يجب أن يكون فكر التشاور وتبادل الآراء والخبرات كما يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوالِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ‏)(الشورى/38)، كما أن خططنا يجب أن تكون خططاً مشتركة،وأن تسود حالة التعاون حياتنا.

مجتمع الجمع والحضارة

والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: كيف نحوّل مجتمعنا من مجتمع الآحاد إلى مجتمع الجمع والحضارة؟

للإجابة على هذا السؤال المهم هنا أفكار كثيرة تتزاحم عليّ لبيانها، ولكنّي أريد أن أخصص حديثي للتطرّق إلى جانب‏واحد، وهو أننا نمتلك مؤسسات اجتماعية غير فاعلة لابد أن نبعث فيها الروح والحيوية والنشاط لكي تصبح بذلك‏مؤسسات فاعلة. ونحن في هذا المجال بحاجة إلى مؤسسات جديدة تستطيع أن تجاري العصر الذي نعيشه، ومن أجل‏تحقيق هذا الهدف علينا أن نقوم بوظيفتين؛ الأولى هي بعث الروح في المؤسسات القائمة، والثانية بناء مؤسسات جديدةحسب مقتضيات العصر.

الأسرة هي المؤسسة الأولى‏

ومن أولى وأهم المؤسسات التي يجب أن نعمل على إحيائها، وبعث الروح فيها هي مؤسسة (الأسرة).فللأسف الشديد فإن التفاعل والحضور غير قائمين في أسرنا، فهناك الكثير من الحواجز والاختلافات بين أفراد الأسرةالواحدة؛ فالصراحة، والتعاون، والروح الجماعية المشتركة... كلها صفات تفتقر إليها الغالبية العظمى من أسرنا، وهذه‏حالات سلبية يجب أن نبادر إلى معالجتها.

فمن الظواهر المشهودة في هذا المجال هي أن الأبناء يعملون -وبمجرد وفاة أبيهم- على هدم الشركة التي تعب الأب‏وبذل الجهود المضنية من أجل إنشائها، في حين أنهم في الحقيقة يجمعهم مصير مشترك، وحياة واحدة.. وهذه الظاهرةإن دلّت على شي‏ء، فإنما تدل على أن الروح الجماعية مفقودة تماماً في أسرنا.

إننا -كمسلمين- مكلّفون بإعادة الروح إلى أسرنا، لكي تعود الروح إلى المؤسسات والكيانات الأخرى في المجتمع.

مؤسسة المسجد

ومن المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي يجب أن نصبّ اهتمامنا عليها هي مؤسسة (المسجد). فالتجمع‏الذي يحضر في مسجد من المساجد ينبغي أن يكون لمجيئهم فائدة، وأن يعرف كل الواحد منهم السبب الذي جاء من‏أجله إلى المسجد، وأن يتعرّف على روّاد المسجد، وينشئ علاقات اجتماعية معهم، ويسعى من أجل أن يشترك مع‏الآخرين في تأسيس صندوق مشترك للتعاون، والقيام بالأنشطة الاجتماعية والسياسية.

إن المسجد هو -بعد الأسرة- اللبنة الحضارية الأولى في الأمة الإسلامية، فلابد من الاعتناء به؛ فهو ليس محلاً لأداءالعبادات فحسب، بل هو مكان من الممكن أن تمارس فيه الكثير من الأنشطة في مختلف مجالات الحياة.

وعلى هذا؛ فلابد من أن نعيد الروح إلى مؤسسة المسجد، فإن كانت لدينا بعض المشاكل فلا بأس من أن نطرحها في‏المسجد مع الآخرين أو مع إمام هذا المسجد، لكي يتعاون الجميع من أجل حلّها كما كان يحدث ذلك في عصرالرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم، فكثيراً ما كان عقد الزواج -مثلاً- يتمّ في المسجد، وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال نستنتج منهاأن النبي‏صلى الله عليه وآله وسلم كان يحل مع أصحابه الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والجهادية في المسجد.

مؤسسة الحيّ‏

المؤسسة الاجتماعية الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها هي مؤسسة (الحىّ‏)، فالإسلام يأمرنا بأن نهتم بجيرانناليكوّن الواحد منا هو وجيرانه مؤسسة اجتماعية فاعلة ونشطة، كأن تقام الاجتماعات والجلسات الدورية بين سكان‏الحيّ الواحد، أو أن يكون لهم تنظيم بلدي لإدارة شؤون محلّتهم لكي لا يضطرّوا إلى ترقّب القوانين الإدارية حتى تحل‏مشاكلهم، فمن المفروض أن نكون نحن المبادرين إلى القيام بهذه الأعمال، فعلى أهل الحارة الواحدة أن يجتمعوا فيما بينهم‏ليحدّدوا احتياجات حارتهم، مثل بناء مسجد، أو تأسيس مستوصف، أو صندوق للقرض الحسن..

إن هذا هو المعنى الحقيقي للجيرة التي يربطها مع بعضها عمل مشترك، ومصير واحد، وهناك مؤسسات أخرى أمرالإسلام بإقامتها، وقد ذكرت تلك الأمثلة البسيطة من أجل بيان أن المؤسسات التي أمر الإسلام بها، وبرمج التعاون من‏خلالها يجب أن نبعث فيها روحها الأصيلة؛ وعلى سبيل المثال، فإن اللَّه تبارك وتعالى قد أمرنا بالتعاون فقال:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏)(المائدة/2)، فقد بيّن لنا هنا قنوات‏التعاون مثل الأسرة، والجيران، والمسجد.

مؤسسات حسب الظروف‏

أما بالنسبة إلى المؤسسات الحضارية؛ فإننا لا نستطيع أن نكتفي بالمؤسسات الموجودة، بل لابد من أن نشكل مؤسسات‏حسب الظروف المتطوّرة، فنحن -مثلاً- بحاجة إلى حزب سياسي، وإلى مؤسسة تهتم بأمر البيئة.. وعلى سبيل المثال‏فإذا كان يوجد في منطقتنا حمّام يسهم في تلويث البيئة من خلال الدخان المتصاعد منه، فلنفكر حتى نعثر على الطريقةالتي نتخلّص بها من هذا الدخان، وإذا كانت هناك أرض متروكة قد تحوّلت إلى مكان لتجتمع النفايات ومرتع خصب‏للجراثيم فعلينا أن نحثّ مالكها لكي يضع لها الحلّ المناسب، ذلك لأننا جميعاً مشتركون في الهواء الذي نتنفس منه،وليس لأي واحد منا الحق في أن يفسد هذا الهواء ويلوّثه، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: (وَلا تُفْسِدُوا فِي‏الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا)(الاعراف/56). فهذه الآية توحي إلينا بضرورة المحافظة على البيئة، كما أن هناك‏قاعدة شرعية تقول: (لا ضرر ولا ضرا).

إن هذه الأنشطة من السهل علينا القيام بها حسب مقتضيات الظروف المحيطة بنا، وحسب احتياجاتنا، وذلك من‏خلال التغلّب على الحواجز والعقبات النفسية التي تمنعنا من أداء تلك الأعمال من مثل الفرديات، والأنانيات، والتفكيرفي المصالح الشخصية.

=============

#من معالم الحضارة الإسلامية

من معالم الحضارة الإسلامية -كما رسمها لنا ربنا تعالى في سورة المائدة- الطاعة والتسليم، فالطاعة للَّه ورسوله وأولي‏الأمر الشرعيين الذين اختارهم اللَّه، وأوصى بهم الرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم، والوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الخالق جل وعلاعلى الإنسان، واعترف به الإنسان نفسه، والتسليم يكون للحق.

الفصل العملي بين الحق والباطل‏

إن معرفة هذه الحقيقة، وهي أن هناك حقاً وباطلاً، تبدأ في بادئ الأمر قضية بسيطة وواضحة؛ فالجميع يعترف بوجودالحق، ويقرّ بأن الباطل -بدوره- موجود، وأن من الواجب اجتنابه، ولكن المشكلة لا تكمن هنا؛ أي في الاعتراف‏الفطري بوجود الخط الفاصل بين الحق والباطل، بل في الاعتراف العملي، والتمييز بين هاتين الجبهتين؛ الحق والباطل.

والسبب في ذلك أن النفس البشرية تميل إلى خلط الأوراق وعدم الوضوح، ذلك لأن الوضوح يضع الإنسان وجهاًلوجه أمام مسؤوليته، ويجعله أمام ضميره، وأمام حقائق الحياة، في حين أن الغموض يتيح له فرصة الالتفاف حول‏الحق والتبرير.

ولذلك؛ فإن من أهم وأعظم ما تقدّمه لنا رسالات اللَّه، هو إيجاد هذا الفصل في داخل نفس الإنسان بين الحق والباطل،ولذلك نقرأ في الدعاء: (وأرني الحق حقاً فأتبعه، والباطل باطلاً فاجتنبه، ولا تجعله عليَّ متشابهاًفأتبع هواي بغير هدى منك‏)(41).

إن هذه الفكرة؛ أي وجود حق وباطل، وأن هناك فاصلاً بينهما، وأنه لا يمكن أن يختلطا، هي فكرة حضارية أساسية في‏رسالات اللَّه تبارك وتعالى، لأن هذه الفكرة تفرز فكرة أخرى وراءها وهي: أن الحق مادام حقاً فإنه سوف يكون‏ثابتاً، وأن اللَّه هو الذي يضمن تطبيقه، وهو الذي يقف وراءه بكل قوته وعظمته.

ضرورة البحث عن الحق وأصحابه‏

إن على الإنسان أن يبحث عن الحق، فترى كيف يجده، وما هو المنهج السليم للوصول إليه، ومن هم أصحابه؟

فالذي لا يعترف بأن هناك حقاً وباطلاً، وأنهما مختلفان ولا يمكن أن يختلطا، لا يبحث عن الحق، ولا يتعب نفسه في‏التفكير به، أو البحث عنه، وسيعجز عن أن يميز بين أهل الحق وأهل الباطل، وسوف ينظر إلى الناس نظرة واحدة، لأن‏هؤلاء الناس سواء في ظاهر الخلق، فلماذا -إذن- يتعب الإنسان نفسه في البحث عن أصحاب الحق، وأين يجدهم؟إنهم قد يكونون مجموعة ضعيفة، وقد يمثلون فئة تتناقض مصالحهم مع مصالحه، بل إن التفكير أساساً عملية صعبة،فالغالبية العظمى من الناس يهربون منه، ويفضّلون أن ينساقوا في تيار الأحداث كما هي، وأن يخوضوا مع الخائضين.

ولولا وجود بواعث شديدة تدفع الإنسان إلى التفكير والبحث والتنقيب، فإنه يحجم عن التفكير، ولذلك قيل:(الحاجة أم الاختراع‏) فإذا كان هناك شخص محتاج فلماذا لا يبادر إلى الابتكار والاختراع؟

وفي مجال الطاعة التي سبقت الإشارة إليها، يقول عز من قائل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم‏بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(المائدة/7) ، فالطاعة لصاحب الحق، ولمن‏يحمل رايته، ويبحث عنه.

أدوات البحث عن الحق‏

والإنسان عندما يريد أن يبحث عن الحق، فإنه يفكر أولاً في أدوات هذا البحث؛ وعقل الإنسان هو أحد هذه‏الأدوات، فكيف نستثير هذا العقل ونستغلّه ونستضي‏ء بنوره، وكيف نتجنّب الهوى؟

إن بداية الطريق إلى ذلك هي أن ننطلق مستندين إلى المنطق السليم، لأننا نهدف الوصول إلى الحق، وطريقنا إلى الحق‏هو عقلنا، والعقل يجب أن يبحث عن الطريق المناسب الذي يوصلنا إلى الحق، وهذه هي المرحلة الأولى.

أما المرحلة الثانية من استخدام أدوات البحث عن الحق، فهي التحرّك. فنحن إذا لذنا بالصمت والسكون فإنّنا لا يمكن‏أن نصل إلى نتيجة، إذ عندما نريد التعرف إلى أصحاب الحق، علينا أن نتحرّك، ونسأل عنهم، ونتحقق في صفاتهم؛وبالتالي فإن الإنسان لابد أن يحمل مشعلاً يستطيع بواسطته العثور على أهل الحق، وذلك بأن يتحرّك، ويسير في‏الأرض كما يحثنا على ذلك القرآن الكريم في قوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ يُنشِئُ‏النَّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت/20)

فالقرآن يبيّن لنا بوضوح أن طريقنا إلى الحق طريق شاق يستدعي التحرّك، والسير، والبحث.

الحضارات تشترك في العقلانية

وهناك فكرة يطرحها المؤرخون وعلماء الحضارة، وهي أن الحضارات تختلف عن بعضها؛ فهناك حضارات جمالية،وأخرى قانونية، وثالثة علمية أو تقنية.. ولكن هذه الحضارات جميعها تشترك مع بعضها في خصوصية واحدة هي‏(العقلانية)؛ فأي حضارة لابد أن تبحث عن العقل، وتعمل بالعلم والمعرفة، وتولي لهما الاحترام والتقدير،فمثلاً؛ كان الاغريق القدماء يتمتعون بحضارة راقية تميّزت بتقديس العقل والعلم والعمل ومنهجية التفكير، وكذلك‏الحال بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية فقد كانت تتميّز هي الأخرى بالعقلانية والعلمية،ونفس الشي‏ء يمكن أن يقال عن الحضارة الغربية الحديثة.

أمّا الإسلام؛ فعندما يأمرنا بالحق والطاعة له ولأهله، فإنه في الواقع يرسي الحجر الأساس لبناء الحضارة، والقرآن‏الكريم هو الذي يبيّن لنا برنامج اتباع الحق وطاعته، فعلينا -إذن- أن نولي الاحترام الأكبر لهذا الكتاب العظيم لأننا إذاكنا نمتلك شيئاً من العلم فهو من القرآن الكريم، وكلّما زاد احترامنا له كلّما اتّسعت واتضحت آفاقه أمامنا، فعلينا أن‏نصغي له عند تلاوته لأننا في هذه الحالة نتبادل الحديث مع ربنا.

العدالة من صميم الحق‏

إن الحق قد ينطلق مما يربط بينك وبين الطبيعة، وقد يتصل فيما يربط بينك وبين الناس، وحينئذ يسمّى ب(العدل‏). والفرق بين العدل والحق هو أن الحق أكثر شمولاً، فقد يكون الشي‏ء بينك وبين اللَّه تبارك وتعالى حقّاً،ولكن قد لا يكون بالمصطلح الدقيق هو العدل. أمّا الحق الذي بينك وبين الناس فإنه هو الذي يسمى ب(العدل‏). وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِوَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَاتَعْمَلُونَ‏)(المائدة/8).

ومن معالم الحضارة الإسلامية والمدنية الربانية؛ العدالة. والعدالة تمثل مطلباً يسعى كل إنسان وخصوصاً إذا كان في‏مصلحته، ولكن من الذي يطبق العدالة؟ إن الحضارة ليست الدعوة إلى العدالة وطلبها لنفسك بقدر ما هي حمل رايةالعدل، وأن أنت قواماً به، وأن تطلب المزيد من القيام بالحق بالمعنيين التاليين:

1/ الكثرة الكمّية؛ أي أن تقوم بالدعوة إلى الحق وتكرّس لهذه المهمة جميع أوقاتك، وتوجّه الآخرين للعمل في سبيل‏اللَّه والحق. وبالطبع فإن هذه المهمة صعبة للغاية؛ فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يجعلانك في مواجهة الآخرين،ويضطرانك إلى أن تتخذ موقفاً اجتماعياً.

2/ النوعية؛ ففي بعض الأحيان قد نأمر شخصاً أن يترك الغيبة، ونأمر شخصاً آخر باجتناب البهتان، ونطلب من ثالث‏أن يؤدي صلاة الليل، أو يدفع الصدقة، وما إلى ذلك.. وفي أحيان أخرى نحمل راية العدالة الاجتماعية في مقابل‏طاغوت، وفي هذه الحالة سنعتبر قوّامين بالعدل، لأن محاربة الطاغوت لا يمكن أن تتم بمجرد كلمة، وبمجرد الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، بل إننا نحتاج في هذه الحالة إلى أن نصنع حركة حضارية تعمل لفترة طويلة حتى نستطيع‏إسقاط الطاغوت بأنفسنا أو نمهد الطريق للأجيال القادمة لأن تسقطه، والذي يقوم بهذه المهمة يطلق عليه أسم‏(القوّام‏) كما جاء في قوله تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ).

وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى ضرورة أن يكون القيام للَّه؛ أي إن علينا أن نبتعد عن المصالح الشخصية والحزبيةوالفئوية، وأن نشهد بالقسط، وعندما يكون المجتمع على هذه الشاكلة سيكون مجتمعاً نشيطاً متحفزاً يحاول دائماً أن‏يقتحم الصراع. فالإنسان المتحضر هو الإنسان الذي يمتلك رغبة خوض الصراع، والتدخل في القضايا والعلاقات‏الاجتماعية، لأن انحراف أو صلاح الأفراد الآخرين في المجتمع يمثلان مفردة تعنيه.

أزمة العدالة والقسط

والقرآن الكريم يمثل كلاماً حقيقياً يتوفّر على معالجة المشاكل بواقعية.. وأزمة العدالة هي عدم تطبيق الإنسان لها،ومشكلة القسط هي عدم الشهود. فالظالم عندما يظلم فإنه يبرّر ظلمه للناس، ويحاول أن يقنع نفسه بالظلم وأن يختلق‏التبريرات لنفسه، ثم يعمل على نشر هذه التبريرات بعد أن يتأكد من أن قابلية تقبّل هذه التبريرات موجودة في المجتمع،ويعرف أن هناك أشخاصاً يلوذون بالصمت والسكوت. أما إذا ارتكب الإنسان الظالم الظلم وهو يعلم أن المجتمع مجتمع‏شاهد بالحق، فقبل أن يردعه العقاب الرسمي، تردعه ملامة أفراد المجتمع.

وهناك نقطة أخرى يؤكد عليها القرآن الكريم، وهي أن أكثر الناس يظلمون، ويبررون ظلمهم للآخرين بأن هؤلاءالآخرين يظلمونهم، ولكنّ القرآن الكريم ينهى عن هذا السلوك في قوله: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّتَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏)، وقوله على لسان (هابيل‏) الذي حاول أن يرد إساءة أخيه بالحسنى:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاََقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَ‏الْعَالَمِينَ‏)(المائدة/28)

التحلّي بروح العدالة أبداً

ولكي نكرّس العدالة في المجتمع لابد أن نتحلّى بروحها حتى أمام الظالمين، فمن أجل أن نصنع واقعاً حضارياً في أمتنإ؛پپّّفإننا بحاجة إلى العدالة، والعدالة بحاجة إلى أن يلتزم الإنسان بها حتى في مقابل من يبغضه ويعاديه، وهذا -بدوره-بحاجة إلى القيام للَّه بشكل متواصل، ومن خلال نوعيّات وكيفيات معينة.

إن علينا في مجال ضمان تطبيق العدالة أن نلتزم بالتسلسل التالي:

1- القيام للَّه‏

2- الشهادة بالقسط

3- الالتزام بالعدالة، حتى مع العدو

4- العدالة التي هي أقرب إلى التقوى.

وفي الختام؛ ينبغي لنا توطين أنفسنا على تطبيق البنود السابقة، فالمآسي التي تتوالى علينا إنما سببها عدم تطبيقنا للآيات‏القرآنية، فلنحوّل شخصيتنا التي ورثناها من المجتمع المتخلف إلى شخصية نصوغها -بأنفسنا- وفق البصائروالتوجيهات القرآنية.

==============

#من أجل حضارة إسلامية

يختلف الإنسان عن سائر الكائنات الحية أنه أوتي نزعة في داخله تدعوه إلى السمو والتقدم والتكامل، وهذه النزعة لانجدها في جميع المخلوقات؛ فالماء - مثلاً - لا يتحرك إلى الأعلى، بل هو أبداً ينجذب إلى الأسفل باحثاً عن منحدر ثم‏عن حفرة ليستقر فيها، بينما الإنسان يبحث عن القمم والتقدم والرقي ، إنه يهدف إلى أن يكون يومه خيراً من أمسه،وغده خيراً من يومه، وهو يطمح أن يكون أكثر مالاً وأكثر علماً وأكثر شهرة. ولولا هذه النزعة المتأصلة في ذاته لكان‏واقعه يشبه واقع الأحياء الأخرى؛ كما القرود والقطط والأسود ... وغيرها مما يعيش ضمن واقع راكد ومتخلف‏وبدائي.

لكن الإنسان يفكر ويحاول ويسعى فيتقدم ، وهذا هو الذي دفع به إلى أن يطور مراحله التاريخية، فتكون التالية أتقن‏وأرقى من التي سبقتها. فهو ينتقل من العصر الحجري إلى عصر اكتشاف النار ثم الزراعة ثم البخار ثم الماكنة ثم إلى‏عصر اكتشاف الذرة؛ حيث يغزو فيه الفضاء ويرسل الصواريخ والأقمار الصناعية والسفن الفضائية بحثاً عمّا يجري في‏المريخ والمشتري، حتى وصل به الأمر إلى استطلاع الكواكب وأخبارها وهو جالس على مقعده في مركزه الأرضي هنا.

إن هذه النزعة وهذا الطموح هو الدافع للبشرية في الاستمرار ضمن عملية التنافس، ونجد في التنافس صفة عميقةالجذور في النفس الإنسانية.

شي‏ء من تأريخ الإسلام‏

ففي يوم من الأيام وعهد من العهود كانت فيه الأمة الإسلامية تمثل القمة والتألق بالنسبة للحركة العالمية ولسائرالشعوب والدول والحضارات ، إذ كانت تجد في الحضارة المدنية الإسلامية كعبتها وقدوتها. فالعالم كله كان شديدالفضول والتطلع إلى الكشف عن تفاصيل حياة المسلمين ؛ كيف يفكرون وكيف يتعاملون وكيف يتقدمون وكيف وكيف... وسبب ذلك كله كان المسلمون القمة في التشريعات والتطبيقات؛ في الحركة والتعاون، في المال والاقتصاد، في القوةوالحرية. وليس عجباً أن نرى المؤرخين يؤكدون روعة التقدم الحضاري للمسلمين، ويصورون أجمل الصور وأروعهاعن طبيعة حياتهم، حتى أن أحد المؤرخين لم يغفل عن إحصاء عدد الحمامات في بغداد، حيث وصل إلى زهاء الألف،وكذا المساجد والمدارس والمستشفيات والحوزات العلمية، وكانت أهمها الحوزة التي يشرف على إدارتها زعيم الشيعةونقيب الطالبيين والأشراف السيد الشريف المرتضى الملقب ب( علم الهدى ) ومن بعده شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي، اللذان كانا يهتمان كل الاهتمام بالطلبة والدارسين ، وكان من أمر علم الهدى أن صنع لكل واحد من‏طلابه مفتاحاً خاصاً به لأخذ ما يحتاجه - من دون حرج - من بيت المال الخاص بالحوزة العلمية المشار إليها آنفاً،حيث تجمع فيها المخصصات والنذورات والهدايا والحقوق الشرعية ، وما كان أحد من طلابه يأخذ أكثر من حاجته‏اليومية. ولعمري إن في ذلك المصداق الأكبر في الأمانة من جهة، والاهتمام بالتطور العلمي، وما ذاك إلاّ صورة مصغرةللغاية عن عظمة ما وصلت إليه العقلية الإسلامية المخلصة والطامحة للتطور، وسبق الأمم الأخرى من جهة ثانية.

لقد كان العالم يجهل حياة وطبيعة المسلمين، ولكن الأمر قد انعكس تماماً في الزمن الحاضر، وإذا الحضارة والقوةوالقدرة قد انتقلت إلى مناطق أخرى، فالمسلم أينما يولي وجهه فهو يسمع خبراً علمياً صادراً من أوروبا أو أميركا أواليابان، فاليوم تم اكتشاف علاج مرض السل، وخبر آخر يشير إلى غزو الفضاء، وآخر يتحدث عن التطور الصناعي‏و .. و ..

بلى؛ إن تطور وتقدم المسلمين آنذاك كانت له أسبابه، واضمحلالهم - فيما بعد - كانت له أسباب أيضاً. وكذلك العالم‏الغربي محكوم بنفس القانون ، فإذا كانت القوة والقدرة والرقي موجوداً اليوم في الحضارة المدنية الغربية؛ فإن ذلك كله قديتلاشى - وهو في طريقه إلى التلاشي - لمجرد ظهور أسبابه .

هزيمة المجتمع الغربي‏

وحيث كانت أطماع وأنانية معظم من حكموا بلاد المسلمين أحد أهم أسباب التراجع والنكسة والهزيمة التي حلت‏بالمجتمع الإسلامي، فإن الخواء الروحي يعد في طليعة أهم عوامل الانحدار الغربي. وللأسف الشديد فإن غالبية الشباب‏المسلم في مجتمعاتنا لا يتصورون الغرب إلا عالماً متماسكاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ يعتقدون فيه قمةالتطور الإنساني أو نهاية التاريخ وحافته! متغافلين عن أن الغرب فيه ما فيه من المساوئ ما يندى لها الجبين؛ على‏الأقل لو تم فضحها في الوسائل الإعلامية والخبرية؛ فضلاً عما لو أخذت ونوقشت مناقشة منطقية أو فلسفية تأريخية.

فمصادقة معظم برلمانات أوروبا الغربية على قانون إباحة الشذوذ الجنسي، أو بنسبة فوز الرئيس الأميركي بيل كلينتون‏بعد حصوله على أصوات الشاذين وسماحه لهم بالانخراط في صفوف الجيش، أو المصادقة في معظم الولايات الأميركيةعلى قانون حرية الإجهاض وقتل النفس المحترمة.. فهذه مجرد عيّنة مصغرة من طبيعة الانحدار الخلقي وتآكل البنيةالتحتية للمجتمعات الغربية، ولعل السر في بقاء أنظمة هذه الدول في الحياة، يكمن في عدم نهضة الشعوب الأخرى‏لإبادة هذا التفسخ، لا غير ..

ثم إن هذه الفوضى الإعلامية التي ملأت أسماع وأنظار العالم برمته بداعي مصرع زوجة ولي عهد إنكلترا المطلّقة تعددليلاً دامغاً آخر على تفاهة العقلية - إن كان ثم عقل - الغربية ، فالقتيلة توفيت وهي ملاحقة من قبل الإعلاميين‏الذين كانوا يتحينون فرصة التقاط صور فاضحة مع عشيقها الجديد المليونير المصري ، وكأنهم - الإعلاميين - لم‏يكتفوا بالمغامرات العديدة السابقة للأميرة، فهي وزوجها ولي العهد ليسا إلاّ رمزاً تافهاً للتفكك العائلي والانحطاطالخلقي والمغامرات غير الشريفة. ومن فداحة الخطب أن القارئ المسلم والشاب الشرقي المتطلع يواجه يومياً ولمرات لاحصر لها بأنباء هذا الحادث التافه، وهذا بالذات ما يثير الشكوك تلو الشكوك حول ما إذا كانت هناك ثمة مؤامرةومخطط صهيوني - تبعاً لما يمتلك اليهود من سيطرة شبه مطلقة على الصحافة العالمية - لتحويل الأميرة القتيلة إلى رمزللحرية والانطلاق المزعومين لزوجة كان من المقرر أن تكون ملكة لبريطانيا، اختارت عدم التقيد بالأخلاق - التي‏تصورها أبواق الدعاية والفضائح - على أنها من مخلفات الماضي ورجعية الإنسان القديم.

وإذا كانت العقلية والسلوك الغربيان الحاليان وليدَي نوع من الاستهتار بالقيم والأخلاق ومتطلبات الروح، فإن الجيل‏الأوروبي والأميركي في المرحلة الراهنة يعاني وسيعاني أكثر بكثير مما عاناه سلفه؛ فالطفل يعيش التمزق بما تعنيه‏الكلمة، هذا الطفل الذي خلق اللَّه فيه غريزة الحب والحنين لأمه وأبيه أضحى كدمية ملقاة في زاوية غرفة خربةمتروكة، فهو لا يعرف أباه أو أمه ولم يشاهدهم منذ لحظة ولادته نتيجة الطلاق والتشرد..

وهذا الواقع بالذات ما دعا البابا إلى الحديث عنه لدى إحدى زيارته لباريس، حيث تناول في خطابه قضية حقوق‏الإنسان والكرامة الإنسانية المهدورة في العالم الغربي، وعن مسألة الإجهاض، وعن التماسك العائلي المفقود ..

إننا في مجتمعنا المسلم إذا سمعنا نبأ طلاق حدث بين زوج وزوجته في منطقتنا أو محلتنا فإن الأفواه ستفغر، والاستياء أوالاستنكار سيكون محور ردود أفعالنا وأحاديثنا، مهما كان السبب لذلك الطلاق أو الانفصال. أما في المجتمع الغربي فإن‏الانفصال هو رد الفعل الأول، أو يكون هو الفعل بذاته لدى حدوث أي اختلاف في وجهات النظر على أبعد احتمال.

تفعيل الجانب الحضاري‏

والسؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة في المرحلة الراهنة هو : كيف نقلب الصورة والواقع ونعود بالمجد والتقدم إلى‏مجتمعنا المسلم؟ أو على الأقل كيف نجعل الأحداث الدائرة في وطننا الإسلامي الأولى من حيث الصدارة لدى الرأي‏العام العالمي؟ ولماذا نسمع دوماً أنباء الاكتشافات من أميركا وأوروبا وليس من بلداننا، فهل التقدم العلمي والصناعي‏محرَّم على المسلمين، أم أن اللَّه سبحانه وتعالى قد خلق الفكر والعقل والتقدم لأناس دون غيرهم - والعياذ باللَّه - ؟!فأين يكمن السر؟ وكيف نغير المعادلة الظالمة هذه؟

إن الواقع يشير إلى أن السر الحقيقي يكمن في أننا - نحن المسلمين - قد أهملنا جانباً أساسياً من الدين؛ وهو الجانب‏الحياتي منه، أهملناه واقتصرنا على مجموعة صغيرة من التعاليم المرتبطة بالعلاقة بين الإنسان وبين اللَّه سبحانه وتعالى.لقد أهملنا تعاليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللَّه، وإرشاد الجاهل، والاهتمام بالمحرومين،وعشرات الأحكام الشرعية قد ألغيت من قاموسنا، حتى أن الكثير من الكتب الفقهية الصادرة عن كبار العلماء لا تعالج‏سوى أحكام النجاسات والطهارات والصلاة والصوم وكيفية دخول دورة المياه، أما الحديث عن كيفية بناء المجتمع،وتحقيق الكرامة للمسلمين، والدفاع عن حقوقهم فهي بحكم المعدوم في الكتابات الفقهية.

ولو أننا عدنا إلى تفعيل الجانب الاجتماعي والحضاري للدين الإسلامي لأخذنا بزمام المبادرة التأريخية من جديد دون‏أدنى شك. فالمسلمون إذا ما اهتموا بقاعدة التعاون والتكافل والعمل الجدي، فإنهم سوف يتقدمون على غيرهم من‏الأمم.

الإيثار وحب الآخرين‏

إن التعاون والاتحاد أمران ليسا بحاجة إلى استدلال، فهما يمثلان البنية التحتية لأي تطور؛ والآن فإننا نسمع في نشرات‏الأخبار الاقتصادية والمالية عن اندماج شركة من الشركات مع نظيرة لها ، أو أن البنك الفلاني أعلن عن اتحاده مع بنك‏آخر، وليس بالضرورة أن يكون هذا الاندماج أو ذاك الاتحاد نابعاً عن عجز في الميزانية أو حدوث فضيحة مالية، بل‏قد يكون العكس في كثير من الأحيان هو الصحيح؛ إذ أن الغالب في عالم الاقتصاد المعاصر هو أن الشركات الكبرى‏تتجنب احتمال حدوث العجز في ميزانيتها وموازنتها بواسطة الاندماج بشركات أخرى؛ أضخم أو أضأل منها، فهي‏تتحد مع شركة أخرى من أجل مواجهة التحديات الجديدة المحتملة.

ولكننا لم نؤمن بالشركات أو التعاونيات أو اندماجهما، بل اقتصرنا على تشكيل هيئات لبناء مساجد أو حسينيات‏ضمن عمل خيري مؤقت تشوبه الكثير من نماذج التمزق وعدم التسامح وعدم الاهتمام بأخلاقيات التعاون والعمل‏المشترك، من قبيل الصبر وسعة الصدر والاستقامة وروح التفاهم؛ علماً أننا نعرف بفضل القواعد والرؤى الدينيةلشريعتنا، إن الناس يتفاوتون في تربيتهم وأخلاقهم وطبائعهم وألوانهم وألسنتهم وبصماتهم؛ ونعرف أيضاً أن الدين قدبيّن لنا ضرورة التوليف بين أمثلة التفاوت هذه، ليتكرس النصر والتقدم؛ وليكون الأجر جزيلاً عند اللَّه سبحانه‏وتعالى.

فمن الضروري جداً أن يعي الإنسان المسلم أهمية الاعتراف بوجود وشخصية أخيه المسلم ، تبعاً لمنطوق ومفهوم الآيةالقرآنية الكريمة القائلة: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ‏خَبِيرٌ)(الحجرات/ 13). وهذا الاعتراف والإيمان يستدعي في نهاية المطاف مزيداً من الحب والاحترام،والاستفادة من القدرات والطاقات والإمكانات.

واللَّه تبارك وتعالى قد بيّن أهم صفة من صفات المؤمنين في سورة الحشر، وهي صفة الإيثار وحب الآخرين النابع من‏الاعتراف بهم.

فلقد استطاع الرسول المصطفى‏صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلق مجتمعاً جديداً في المدينة المنورة بعيد هجرته الشريفة من بين الأنصاروالمهاجرين، وفيهم العرب والعجم والروم والأحباش، إذ صبّ أخلاقهم الدينية الجديدة في بوتقة واحدة لصالح الدين‏ولصالح تفوقهم - كمسلمين مؤمنين - على بقية الأمم. ولعل النماذج في هذا الإطار عديدة وكثيرة، حيث طلق‏الأنصاري إحدى زوجاته وأعتق بعض عبيده وتنازل عن جملة من ماله أو أرضه أو مواشيه لصالح أخيه المسلم‏المهاجر؛ من أجل أن تتكافأ فرص العمل، وليكون التقدم والتفوق أمراً مضموناً، وذلك ضمن عملية المؤاخاة العظيمةبين أصحاب البلاد الأصليين والمهاجرين الجدد الذين قدموا مع الرسول المصطفى. وهي العملية التي لم يتمكن أي قائدعلى مرّ التأريخ من تنفيذها بين أتباعه، فضلاً عن مستوى نجاحها المنقطع النظير، فلقد كان الأنصاري يحرم نفسه من‏الطعام الذي قد لا يكون يملك سواه لإشباع أخيه المهاجر. وبهذه الأخلاق الحسنة والمصداقية الفائقة كان لهم أن‏يوصفوا بقول اللَّه تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ‏الْمُفْلِحُونَ‏)(الحشر/9). فالفلاح في الدنيا رهين بممارسة هذه الأخلاقيات والاتصاف بهذه الصفات المثلى.

والأرقى من ذلك أن الأنصار قد بنوا أساساً متيناً من النجاح لأجيالهم القادمين ، حتى أنها - الأجيال - لم تكن تذكرأسلافها إلاّ بما هو خير (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَابِالإِيمَان‏)(الحشر/10) على العكس مما عليه نحن المسلمين في هذا الزمن، حيث ندفع في مرحلتنا الراهنةالغالي والنفيس ثمناً لتراجع وانهيار وهزيمة رجال المرحلة السابقة لمرحلتنا.

أما القرآن الكريم فإنه يريد منا - كمسلمين - أن نصنع التأريخ ونصوّره كوحدة واحدة متكاملة مضمونها الخيروالصلاح والتقدم نحو الأفضل، على الضد من تلكم الصورة التي تلعن فيها الأمةُ الأمةَ التي سبقتها.

فالإيمان إذاً هو تربية الذات والارتقاء بالمجتمع وصناعة التأريخ. أما النفاق؛ فهو ما امتاز أتباعه بالفرقة والتشرذم‏والفرار من الحقيقة.

يقول ربنا تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ‏لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏)(الحشر/11).ومن خلال هذا الاستعراض الرائع ؛ يبين اللَّه تعالى حقيقة النفاق والمنافقين، فبنيتهم قائمة على التشرذم والكذب‏والغدر، تبعاً إلى أنهم يفتقرون بشكل مطلق إلى أساس يرتكزون عليه. وعلى ضوء ذلك؛ فإن أي إنسان يفتقر إلى‏قاعدة تربوية صالحة وتنعدم فيه سلوكيات الإيمان محكوم بانتمائه إلى جبهة النفاق والمنافقين؛ وإن كان كثيراً ما يرفع‏عقيرته ويدعي الإسلام والإيمان. وبعد ذلك؛ فلا عجب أن يحل بأمتنا ما حلّ بها من ويلات وهزائم، إذ الواقع المسيطرعليها - إلى نسبة كبيرة - هو واقع النفاق وصفاته والابتعاد عن الإيمان وصفاته المسلّم بها قرآنياً.

==============

#الفصل‏الرابع‏ -حضارتان‏ متقابلتان‏

بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية

إذا كان الإسلام قد رفع شعاراً، وجعل منه هدفاً يطمح إلى تحقيقه في المجتمع الإسلامي المتكامل، وهو أن الناس سواسيةكأسنان المشط، وأن لا يكون التفاضل بينهم إلا بالتقوى، وأنهم من آدم وآدم من تراب وأنه لافضلَ لعربي منهم على‏أعجمي إلا بالتقوى، وإذا كان الإسلام ينظر إلى بني آدم هذه النظرة فلماذا - يا ترى- كان الرق، وما الحكمة من‏استمراره رغم تلك الدعوة المبدئية الواضحة؟

الرق ظاهرة شاذة

هذا ما يدور في خلد البعض من تساؤلات تبحث عن إجابة، فالرق -كما يبدو- هو ظاهرة اجتماعية شاذة ظهرت في‏ظروف استثنائية خاصة؛ أبرزها وقوع الحروب التي تمثل حالات غير طبيعية، وإن كانت مستمرة؛ فبعد أن أهبط اللَّه‏سبحانه وتعالى آدم وزوجه إلى الأرض إثر النداء الإلهي: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ‏عَدُوٌّ)(البقرة/36)، وما أن تكوّن أول تجمع بشري فوق هذا الكوكب حتى نشبت الحروب والصراعات،حيث قتل قابيل أخاه هابيل رغم أنهما من أبوين واحدين، ثم تطوّرت من بعد ذلك النزاعات والحروب فصارت‏الكتل والجماعات، وكانت القوة الغالبة الظاهرة لا تستعبد فقط أولئك الذين جاؤوا إلى ميادين القتال، وساهموا فيها ثم‏وقعوا في الأسر بل كل الذين هُزموا، وخضعوا للغالب القوي؛ وعلى سبيل المثال فإن اليونانيين عندما كانوا يهاجمون‏بلداً ما، ويقاتلون أهله، ثم ينتصرون عليهم، فإنهم كانوا يستعبدون النساء والأطفال ويحوّلونهم إلى غلمان وإماءبالإضافة إلى أسر الرجل واستعبادهم إن لم يقتلوهم.

وعندما أشرق الإسلام في سماء هذه الدنيا لم يعمل على تقليص وتحديد ظاهرة الاستعباد والاسترقاق فحسب، بل راح‏يرفع من قيمة العبيد في بعض الأحيان حتى أن قيمة العبيد كانت تفوق قيمة الأحرار في بعض الموارد الفقهية، فالمعروف‏في الفقه - مثلاً- أن المرأة الحرّة لا تحل لزوجها إذا ما طلقت ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر بصريح الآية الكريمة:(فإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏)(البقرة/230)، أما بالنسبة إلى الأمة فإن الطلاق‏مرتان، وبذلك نجد أن حكم هذه الأمة أهم، ونفعها أعظم، وحقها أكبر من حق الحرة.

الحكمة من استمرار الرق‏

ويبقى السؤال: لماذا الرق، وما الحكمة من استمراره في الإسلام؟ يجرّنا هذا إلى التفكير بالحرب، والقوة، وأبعاد هذه‏القوة عبر التاريخ،وبدافع هذا التفكير ننتبه إلى حقيقة مرّة، وهي أن العبودية قد ألغيت في ظاهر الأمر في عالم اليوم كماتنصّ على ذلك وثيقة الأمم المتحدة بهذا الصدد، ولعل بدايات هذا الإلغاء كانت على يد الزعيم الأمريكي‏(ابراهام لنكولن‏)، ولكن واقع الأمر أن هذا الاسترقاق قد انتقل من الطور الفردي إلى الطور الجماعي،فبدلاً من أن يعمد الاستعمار إلى استرقاق الأفراد مضى يسترق الشعوب، حتى غدت شعوب الأرض مستعبدة من‏قبل دولة واحدة تفرض حكمها ورأيها على الجميع.

الرق الجديد

وأنا أذكر في هذا المجال أن هناك وثيقة صدرت عن البنتاغون تتحدث عن النفوذ الأمريكي ومصيره بعد فترة ما بعدالحرب الباردة، وسقوط الشرق، وكان عنوان هذه الوثيقة على شكل استفهام يقول: كيف تحافظ أميركا على مركز القوةالعظمى في العالم كله؟! وتتألف هذه الوثيقة من خمس وأربعين صفحة، خلاصتها أن أميركا لابد من أن تحافظ على قوتهاوجبروتها كي تبقى شرطيّ العالم كلّه، وتتحكم بمصائر ومقدرات شعوبه وبلدانه، ولا تسمح لأية دولة - مهما كانت وفي‏أي منطقة من مناطق العالم- بالنمو والتقدم إلى الدرجة التي تجعلها قادرة على منافسة المارد الأمريكي. ثم تتطرق‏الوثيقة إلى الحديث عن السبيل الذي يجب على أميركا أن تسلكه من أجل أن تمنع أوروبا من أن تتحول إلى قوة عالمية،وأخيراً السبيل للحيلولة دون تنامي وتطور القوة الإسلامية بحيث تصبح قوة عالمية منافسة.

والحديث في هذه الوثيقة البنتاغونية جاء بالتحديد حول منطقة الشرق الأوسط، حيث تقع بلدان العالم الإسلامي، وقدجاء في هذا المجال أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى من أجل أن لا يقفز إلى سدة الحكم من تسمّيهم‏الوثيقة ب(الأصوليين‏). وعلى هذا فإن الذي يستشف من هذه الوثيقة أن هناك قراراً أمريكياً واضحاً لالبس فيه بأن لا تظهر إلى الوجود حكومة إسلامية ثورية في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي، ولذلك لابد أن تكون‏كل مخططات البنتاغون سائدة في منحى منع (الأصوليين‏) من الوصول إلى الحكم.

والسّر في هذا الحرص الأمريكي الشديد على الوقوف في وجه الإسلاميين ومنعهم من الوصول إلى السلطة، هو أن‏بلدان العالم الإسلامي متجاورة مع بعضها، فإذا ما شكلت حكومة إسلامية في بلد منه فإن هذا يعني تبلور القوةالإسلامية العظمى التي يحسب لهما الغرب ألف حساب، ولذلك فإن أميركا تخشى بروز هذه القوة الجبارة التي ستضحى‏خطراً عظيماً يهدد الحضارة الغربية الجاهلية!!

الهلع الأمريكي من الشرق الأوسط

وهناك وثيقة أخرى حول نزع السلاح عن منطقة الشرق الأوسط، ويدور موضوع هذه الوثيقة حول السبل الكفيلةبمنع دول الشرق الأوسط من امتلاك الأسلحة الاستراتيجية، ومما جاء فيها أن هناك جهوداً أمريكية جبارة بذلت من‏أجل منع بلدان الشرق الأوسط - عدا إسرائيل- من امتلاك أسلحة التدمير الشامل، وقد عبّرت الوثيقة عن المنع هذإ؛ج‏جّ‏ّب(الضبط) أي بحث الطرق والوسائل التي تدفع هذه البلدان إلى الانضباط ضمن أطر سياساتهم التسليحية.

وقد عملت أميركا في هذا المجال على دعوة الدول الخمس العظمى في العالم التي تتولى عملية تصدير الأسلحة إلى سائربلدان العالم، وهي روسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا بالإضافة إلى أميركا نفسها إلى الاجتماع والتشاور فيما بينها، وقدأسفر هذا الاجتماع عن تشكيل لجنة يشرف عليها وزير الخارجية الأمريكي نفسه، وقرر المجتمعون في هذه اللجنة العمل‏من أجل الحيلولة دون أن تتسلح دول العالم الأخرى بالأسلحة الذرية، أو الكيمياوية، أو الصواريخ البالستية؛ بل‏وقرروا أيضاً العمل على تدمير الأسلحة الإضافية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط المتأزمة، والتي تهدد الاستقرار- على حد تعبيرهم- علماً أننا لا نعرف ما هو هذا الاستقرار الذي يريدونه، أهو استقرار أميركا، أم روسيا، أم‏أوروبا؟!

ومن المعلوم أنهم عندما يتحدّثون عن منطقة الشرق الأوسط فإنهم يستثنون من ذلك (إسرائيل‏) التي باتت‏اليوم تمتلك قنابل نووية بالإضافة إلى عشرات الرؤوس النووية ومئات الصواريخ الاستراتيجية، كما أنهم يريدون من‏المناطق المتأزمة بلداننا الإسلامية.

حقيقة الهلع الاستعماري‏

ترى ما السر في هذه القائمة على الهلع، وانعدام الثقة، ولماذا لا يخشون - مثلاً- من امتلاك الصين، أو روسيا، أوإسرائيل، أو جنوب أفريقيا للأسلحة النووية، بينما يتهيّبون من أن امتلاك المسلمين ولو لجزء ضئيل منها؟

إن السر في ذلك هو أن الدول الغربية قد استرقتنا ، واعتبر الغربيون أنفسهم سادة، واعتبرونا نحن المسلمين عبيداً لهم،فهم يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا، إذ أيقنوا وعرفوا أن الأمة الوحيدة التي من الممكن أن تتحول في يوم من الأيام إلى‏قوة عالمية عظمى تجرف كياناتهم، وتدمّر بنيانهم هي الأمة الإسلامية بما تمتلكه من خلفية حضارية وتاريخية مجيدةوعريقة، وما تستند إليه من قيم حضارية مشرقة بفضل كتابها المقدّس، القرآن الكريم، ولما لها من القابلية على التوسّع‏والامتداد إلى آفاق الأرض، واستيعاب البشرية مهما كانت جنسياتها وألوانها ولغاتها. وهذا هو سر إمكانية تحولها إلى‏قوة عالمية جبارة، وبعد ذلك كلّه ما تملكه هذه الأمة من قيم جهادية وتضحوية تفتقر إليها سائر الأمم، علماً أن هذه‏القيم هي سر بقائها وعزتها ورفعتها.

وعلى هذا؛ فإن ما يخشاه الأمريكيون ومن يدور في فلكهم من الغربيين هو بروز القوة الإسلامية العظمى في منطقةالشرق الأوسط.

الوجه الآخر للحضارة الغربية

والحقيقة التي هي على غاية من الأهمية والدقة، والتي يجدر بنا أن ندركها نحن العاملين في الساحة، ونرتفع إلى مستواها،هي أن الحضارة الغربية رغم كونها حضارة متطورة، ولها من السبق التقني، والمنهجية العقلية الراقية ما لا تمتلكه الأمم‏المعاصرة الأخرى، إلا أن هناك مجموعة من العادات، والتقاليد، والممارسات الجاهلية التي يندى لها جبين التأريخ‏الإنساني تتكرس في كيان هذه الحضارة؛ على الرغم من تلك النقاط المشعة التي تتميّز بها الحضارة الأميريكية والغربيةمن تطور تكنولوجي وصناعي متفوق، وأن لديهم من القيم الحضارية الراقية ما يزيد تلك النقاط إشعاعاً لتعاونهم،وانسجامهم، واجتهادهم في العمل، وإخلاصهم... إلا أن رائحة الجاهلية المقيتة تفوح من عقليتهم، وتفكيرهم، حيث‏ينطلقون في تعاملهم مع سائر الأمم من منطلق تلك القيم الجاهلية التي تستحوذ على عقلياتهم.

فطموحات السيطرة والاستغلال والنهب في الحروب يجعلهم يدوسون كل قيمة إنسانية نبيلة تحت أقدامهم، والدليل‏على ذلك ما فعلوه وارتكبوه هم وأذنابهم بحق الكثير من شعوب الأرض التي رزحت لفترات طويلة تحت نيرتسلّطهم، أليس هم الذين ذبحوا الآلاف المؤلفة من أبناء الشعب الفيتنامي، وارتكبوا المجازر الجماعية ضدهم بكل‏صلافة ووقاحة، وأليس هم الذين أبادوا ثلاثة ملايين إنسان في كمبوديا، ثم أليس من جاهليتهم أنهم ينافقون في‏تعاملهم، ويخونون ويكذبون ويغدرون؟؟ وكل هذه الصفات الرذيلة يعتبرونها من أسباب قوتهم، وتسلطهم على‏الآخرين.

تأثيرات الحضارة الإسلامية

وإذا ما وجدنا لديهم بعض القيم الحضارية السامية التي يتعاملون بها فيما بينهم، كالصدق، والتعاون، والإخلاص،والتفاني، فإن ذلك إنما استوحوه من المسلمين، وقرآنهم، وحضارتهم الرسالية العريقة بشهادة مؤرخيهم، وفلاسفتهم،ومفكّريهم؛ ولا أحد يستطيع في هذا المجال إنكار حقيقة أن مذهب الرفض المسيحي (البروتستانتية) الذي‏أسسه وتزعمه (مارتن لوثر) قد تأثر إلى حد كبير بموجة المعارف والقيم والآداب الإسلامية الرفيعة، حيث‏يؤكد الجميع على أن هذا المذهب يشبه إلى حدّ كبير المذهب الشيعي في إطار المذاهب الإسلامية. فهو مذهب توحيدي،استوحى أفكاره وقيمه ومنهجيته من روح الإسلام؛ صحيح أنه مذهب مسيحي، ولكنه- في واقعه- يمثل حركةإصلاحية في المسيحية، فهو يرفض مبدأ (التثليث‏) في العبادة، ويدعو إلى الوحدانية.

هذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن تنكر، وهناك حقيقة تاريخية أخرى تكمل الأولى، وهي أن الحضارة الغربية نشأت من‏بعد ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية التي تفجرت في أوروبا، والتي هي بدورها وليدة الحضارة الإسلامية.

وعلى هذا الأساس؛ فإن كل ما لدى الغرب من قيم فاضلة نبيلة وحضارة وتقدم وازدهار إنما هو مستوحى - في‏الأصل- ومكتسب من الانبعاث الإسلامي، وإشراقة أشعته على ربوعهم، وحضارة الأندلس الإسلامية هي خيرشاهد ودليل على ذلك، وقد كان مذهب الرفض المسيحي هو السبب والوسيلة التي نقلت إلى الغربيين القيم الإسلامية،والروح القرآنية الناهضة.

والشعب الأميريكي يدين في مسيحيته بالمذهب البروتستاني، ويلزم أن يكون رئيس الجمهورية من اتباع هذاالمذهب لا من اتباع المذاهب المسيحية الأخرى كالكاثوليكية، والارثوذوكسية، وسائر المذاهب الأخرى.

التأثيرات السلبية للحضارة اليونانية

وما نجده اليوم من قيم جاهلية فضة، وأفكار عدوانية، وظلم وعنصرية، وبعض المعتقدات اليهودية، كالاعتقاد بأنهم‏شعب اللَّه المختار وما إلى ذلك من أفكار خرافية، فإن كل ذلك من آثار الفلسفة اليونانية التي كانوا يعتقدون بها، والتي‏عكّرت صفو مذهبهم؛ حيث خلطوا السم بالعسل، فامتزجت قيمهم الحضارية الرفيعة برواسب جاهليتهم اليونانيةالقديمة، فأضحوا يعيشون الازدواجية في تعاملهم. ولذلك لم يكن غريباً أن تصدر السلوكيات الهمجية الجاهلية منهم في‏تعاملهم مع الأمم الأخرى في نفس الوقت الذي تسود فيه بينهم روح المدنية المتحضرة والديموقراطية، حتى راحوايدافعون عن حقوق (الحيوان‏) ويؤسسون الهيئات والمنظمات التي تدافع لذلك.

إن الإنسان الأميريكي والغربي عموماً يعيشان سلوكين؛ سلوكاً مظلماً قاتماً، مصدره قيم الحضارة اليونانية، وسلوكاًمضيئاً أخذ نوره من شمس الإسلام التي أشرقت على أوروبا في عصورها الوسطى. والحضارة اليونانية - كما هومعروف- هي حضارة الغاب، وحضارة الوثنية والعنصرية التي ولدت في بيئة قادة عسكريين قساة كانوا يجهزون‏الحملات، ويشنّون الهجمات على البلدان الأخرى المجاورة لهم فيحطموها؛ ومثال ذلك الإسكندر المقدوني الذي كان‏يغير على البلدان المختلفة بجيوشه، فيقتل، ويذبح، ويدمر، ثم يصفق له شعبه تأييداً وموالاةً!

هذا في حين لا توجد في الإسلام أية شائبة من هذا القبيل، فالإسلام ما رفع سيفاً إلا دفاعاً عن الحق، ونصرةً للمظلوم،وإعلاءً كلمة الإسلام، وكان آخر ما يفكّر فيه هو السيف والقتال حيث لا يجد سبيلاً آخر. فالحضارة الإسلامية نابعةمن منهل القرآن العذب النقي، فهي حضارة مهذبة من كل أثر جاهلي.

ترى لماذا لا نبادر نحن إلى استثمار الجيد الذي نمتلكه، ولم نخلطه بالردي‏ء الذي كان عندنا أيام الجاهلية الأولى، أو بمانراه الآن عند الغرب من فساد وانحطاط حضاري، لنشيّد حضارة عالمية جديدة نقية من كل جوانبها؟ بالطبع إن هذاشي‏ءٌ مطلوب للغاية، فلقد استطاع أسلافنا بالأمس القريب أن يشيّدوا تلك الحضارة الرفيعة التي انتشرت في أقاصي‏آسيا، وأعماق أفريقيا، وأطراف أوروبا، فهيمنوا على العالم بقيمهم ومبادئهم الإنسانية.

حضارة الرحمة

إن الغربيين يدركون جيداً أن المسلمين لو انتفضوا ونهضوا من أجل بناء حضارتهم من جديد وملكوا أسرار العلم،والتقنية، فإن العالم سوف يتوجه صوبهم، ويضرب بالحضارة الغربية الهمجية عرض الحائط. فحضارة الإسلام هي‏حضارة رسالية تعمل على تحرير الإنسان، وإنقاذه من آلامه، ومعاناته، ولعل أفضل ما يمكن أن نصف به هذه الحضارةهو أنها حضارة الرحمة للعالمين؛ فهي الحضارة الرحيمة والعطوفة على كل إنسان مهما كان لونه، ولغته، ودمه؛ بل وحتى‏عقيدته ومبادئه. فالإسلام كان رحيماً حتى بأعدائه.

ترى أين حضارتنا من حضارتهم الخاوية، وأين الأصيل النقي من الشائب الهجين؟ إن حضارتنا هي حضارة الرحمةكما يقول تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏)(الأنبياءِ/107)، وهي حضارة الحب والسلام والرأفةوالمودّة والإخاء والنخوة، حضارة تتعامل مع الأمم الأخرى انطلاقاً من مبدأ الرحمة الإلهية، هذا المبدأ الذي خطه لنارسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الشريف: (ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع‏)(42)، في حين‏أن حضارة الغرب المهيمنة على العالم لا يستشم منها سوى النفاق والخداع والأنانية وتقديم المصالح والمنافع على القيم‏والمبادئ؛ بل وجعل القيم والمبادئ الإنسانية الخيرة تحت الأقدام عندما تقتضي ذلك المصالح والمنافع المادية؛ فهي‏حضارة القتل والدمار والفساد والإفساد والظلم والقسوة والعنصرية البغيضة.

لابد من استعادة مجدنا

وتأسيساً على ما سبق؛ لابد لنا - نحن المسلمين- من أن نستعيد مجدنا، وحضارتنا الرسالية الأصيلة القائمة على أسس‏العدل والتقوى، وعلى ركائز القسط والإحسان. ويوم نغدو كذلك، فسنكون - حينئذ- أهلاً للغلبة والنصر ودحرحضارة الغرب وهدم بنائها الفاسد. فحريّ بنا - إذن- أن نعمل جهد إمكاننا ووسعنا لاستعادة ذلك المجد الغابر، ولنعلم‏أن خير ذلك سوف يعود علينا، وعلى غيرنا من سائر أبناء البشرية.

فلابد من استنهاض العملاق الإسلامي الحضاري ليقف في وجه الغول الحضاري الغربي - إن صح التعبير- الذي بات‏يهدد مصير البشرية، والحياة على الأرض، وعلى المسلمين أن يواصلوا نهضتهم، وبالفعل فإننا نقف على مشارف قيام‏الحضارة الإسلامية الجديدة، فالإسلام يكاد ينهض في كل بقعة تتشرف به.

ومن خلال التوكل على اللَّه وحده، والثقة به، والاعتماد على قوته وحوله نستطيع أن نهزم أكبر قوة في الأرض. أما إذاأصبحنا اتكاليين، نلقي بالمسؤولية على بعضنا البعض، أو نترك العمل وننتظر من الغربيين أن يفعلوا لنا شيئاً، فإن ذلك‏وهم وسراب علينا أن ننبذهما جانباً، وأن نعتمد بدلاً من ذلك على اللَّه جل وعلا من أجل تحرير بلداننا، مادمنا نحمل‏راية الإسلام التي هي راية العدل والحق والحرية، مادامت دعوتنا هي دعوة الصدق والخير والإحسان.

=============

#الجاهلية الحديثة والحاجة إلى المعنويات‏

(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى‏نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِاَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالَْتمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ‏بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ‏أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَمِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَانَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ‏فَاسِقُونَ‏)(الحديد/16-11)

البشرية اليوم أشبه ما تكون بجسم عملاق رُكّب عليه رأس صغير! إنك لو رأيت رجلاً ضخماً ؛ صدره عريض ويداه‏طويلتان ورجلاه أطول ، ولكن رأسه رأس طفل صغير ، فلا شك أنك ستقول بأن خللاً كبيراً حاكم على خلقته منذالولادة.

إننا اليوم نملك قدرات هائلة، حتى استطاع الإنسان أن يفلق الذرة ويتحكم بالجنين ويهندس الوراثة ويجوب الفضاء،وأصبحت الأرض التي كانت في يوم من الأيام عالماً مغلقاً أمام البشر؛ أصبحت تمسح بالأقمار الصناعية مسحاًجيولوجياً ليكتشف ما في أعماقها من معادن وآثار وأحواض مائية ونفطية وتيارات هوائية عالية التأثير قد تتسبب‏في وقوع الزلازل والبراكين.. وإنسان اليوم يستطيع التحكم حتى بالنباتات، حيث أخذ هذا التحكم وما يقف وراءه‏من تقنية علمية بتوفير مواد غذائية جديدة ، واستطاع العلماء تحسين نطف الحيوانات، فركّبوا بعضها على بعض ... وهاهو العلم الحاضر يسعى إلى زرع خلايا الدماغ، ويتجه إلى صنع أعضاء احتياطية حية لجسم الإنسان عبر الاستعانةبتحسين جينات الحيوانات الذكية.

وهذا التطور العلمي الحاصل لا يعني أن الإنسان قد وصل الذروة ، بل العكس هو الصحيح ، وفي ذلك إشارة واضحةومباشرة إلى أن البشرية قد ضيعت مميزات أبلغ أهمية من التطور العلمي الذي حصلت عليه.

إن باستطاعة إنسان اليوم أن يجلس مستريحاً في بيته مطلق الاستراحة بفضل الخدمات التي ينفذها له الإنسان الآلي،ويستطيع أيضاً تشييد مصنع معقد للسيارات المتطورة، والتفرج على العقول الالكترونية وهي تعمل على قدم وساق لإ؛چ‏چّ‏ّيعوزها نقص؛ واحتمال ارتكاب الخطأ فيها واحد إلى المليون .. فالإنسان الآلي المبرمج من قبل الإنسان الطبيعي ينجزمسؤوليات صانعه بإتقان أشد. ولكن هذا التطور وهذا الإنجاز قد كلف البشرية الكثير الكثير من مصداقيتهاوقابلياتها وروحياتها ومستقبلها.

إننا؛ ومن منطلق مفاهيم ديننا الإسلامي لا نقول بأن السبب في تراجع البشرية هو التطور العلمي والاستفادة من‏طاقات الأرض والكون، بل العكس هو الأصح تماماً. فالنصوص الدينية الواردة فيها من التحريض على استثمارالطبيعة مالم يأت لها شبيه في دين أو عقيدة أخرى ؛ لا كماً ولا نوعاً. إن نظرتنا الدينية تؤكد بأن العلة فيما وصلت إليه‏البشرية من جاهلية وعدم تناسب، هو التفكير المادي المتحكم في التعامل مع الامكانات النهضوية.

فمن الملاحظ أن سجلات وأروقة الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية تزدحم بتسجيل براءات الاختراع‏والاكتشاف، وكل يوم تطالعنا الصحافة العالمية بعشرات؛ بل بمئات الاختراعات العلمية الحديثة الغريبة بحق. ولكن‏كل هذا وذاك لا يعني توفر السعادة للبشرية، بل العكس هو الصحيح تماماً. إذ الجسم البشري أصبح كتلةً مشوهة لاتناسب فيها مطلقاً ، فالتفاوت كبير للغاية بين التطور العلمي وبين درجات كبح هذا التطور. وهناك اختلاف شاسع بين‏الإمكانات الطبيعية للبشرية وبين مستوى الاستقلال الذاتي لأصحاب هذه الإمكانات والموارد الحقيقيين، فالواقع‏الملموس يشير إلى أن الغني يتضاعف غناه والقوي تتضاعف قوته، فيما الفقير يزداد فقراً والضعيف يتكرس ضعفه‏باستمرار. وأن التطور العلمي والاكتشافات الحديثة لم تساعد في حل هذه المشكلة، إن لم نقل إنها سبب رئيسي في‏وجودها واستفحالها. فلقد أصبح مَثل الجسم البشري مَثل الشاحنة المتطور تقنياً ولكن تعوزها الكوابح، فالعالم اليوم‏تعوزه القيادة الحكيمة والحازمة لضبط هذه الحركة هائلة السرعة لتتحكم بها وتوصلها الى شاطئ الأمن والسلام.

إن البشرية اليوم تتسابق مع الزمن لمجرد السباق ، إذ هي تفتقر كل الافتقار الى وجود غاية تسير باتجاهها وإليها؛ بمعنى‏أن حركة البشرية أضحت كحركة كرة الثلج الهابطة من قمة الجبل ، فهي كلما هوت الى الأسفل كلما تضاعفت سرعتهاوكبر حجمها ، ولكنها لا تعي مصيرها ، فالوعي هنا سالب بانتفاء الحياة والروح لديها.

فقد تقدم الإنسان في العصر الراهن تقدماً هائلاً في عالم الماديات، ولكنه تضاءل وتراجع في عالم الروحانيات. ومما لايخفى أن الروح هي الضابط الأوحد للمادة، وهذه الروح إن لم تؤدي وظيفتها على الشكل الصحيح فإن المادة تكون‏ذات مردود سلبي على الإنسان. والرسول‏صلى الله عليه وآله وسلم يقول بهذا الخصوص: (إن العقل عِقال من الجهل‏)(43)؛ أي‏إن الإنسان لا يعدو كونه كتلة من الجهل ما لم يستعن بسلاح العقل الذي يمنعه من الاندفاع نحو الخطأ، ويقول‏صلى الله عليه وآله وسلم‏أيضاً: (والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تُعقل حارت‏)(44)؛ بمعنى أن النفس البشرية حيوان هائج،والعقل والروح والحكمة هو ما يدبّر أمورها.

بينما اليوم نجد الأسلحة الفتاكة التي تصرف لها الأموال الطائلة وتهدر لها الطاقات العلمية الجبارة يطول عنها الحديث‏ويطول حتى ليحس المتحدث والمستمع والكاتب والقارئ بالاشمئزاز منها . فالعلم الحديث استطاع أن يسخر الجراثيم‏لقتل وإبادة الناس ، وهذا السلاح بطبيعة الحال ليس سلاحاً دفاعياً أو رادعاً كما يحلو للبعض أن يقدّم تبريراته الكاذبةفي إطار صناعة ونشر واستخدام الاسلحة الذرية، حيث ضحكت الدول المالكة لهذا السلاح على بعضها البعض وعلى‏بقية الدول طيلة ما كان يسمى الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، حيث كانوا ولا يزالون يعتصرون‏جذوة الجهود البشرية والإمكانات الطبيعية المتاحة في سبيل إحكام سيطرتهم على مقدرات هذا العالم. هذه هي الحياةالتي نعيشها في الحقبة الراهنة مع بالغ الأسف والحسرة!.

والسؤال الهام جداً هنا، هو: كيف نقاوم هذا التوجه ؟ وكيف نستطيع أن نوجّه العالم ونقوده الى الأمن والسلام؟

والجواب يكمن في مسألة واحدة ، وهي العودة إلى الروح وتنمية المعنويات لدى الإنسان. فالمعادلة الطبيعية واليسيرةلدى الإنسان تقول بلزوم الحفاظ على الحالة المعنوية العالية لتتم السيطرة على الجسم والمادة فيه. ولا ريب أن الشريعةالإسلامية مليئة بالوصفات الروحية التي تؤدي دورها في هذا الإطار، من قبيل الصوم والصلاة المستحبين ودفع‏الصدقات ومساعدة المساكين والفقراء.. وبالأخص في أشهر رجب وشعبان ورمضان؛ الأشهر التي جعلها اللَّه بمثابةالفرصة المثالية والهدية للناس.

وهناك أمر على غاية في الأهمية، ألا وهو ضرورة الانتباه إلى الطريقة التي نؤدي بها عباداتنا ؛ بمعنى أننا لابد وأن نسعى‏إلى ممارسة العبادات على الوجه الصحيح والكامل.

إن الدين الإسلامي يرشدنا - في هذا المجال - إلى طريقة ذكية جداً ، تتمثل في أن ننظر في تأدية العمل والعبادة إلى من‏هو فوقنا في ممارسته للعبادة، ليكون بذلك تحريضاً على عزمنا ورغبتنا في الأعمال الصالحة التي من جملتها العبادة ، وأن‏ننظر إلى من هو دوننا من حيث الإمكانات المادية لتتأصل فينا القناعة والرضا بما قسم الرب جل وعلا.

ثم إن الإسلام يقول كما جاء عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس‏بمسلم‏)(45) ويقول أيضاً كما جاء عن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم: (ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناًوجاره جايع‏)(46)، بمعنى أن الشريعة الإلهية تحرضنا وتوجب علينا متابعة ما يجري من حولنا من تطورات، ومن‏ثم نمارس اهتمامنا ونقدم يد المساعدة للمحتاجين. وفي هذا الزمن بالذات، حيث المسلمون أحوج الناس من الجانب‏المادي والمعنوي، فان ثقل المسؤولية يتضاعف ويتضاعف حتى نؤدي ما علينا من توفير الروح المعنوية في الناس‏ونضمن انتفاء انحرافهم، بالإضافة إلى ما نقدم لهم من يد مساعدة مادية منتظمة وهادفة لاستئصال الجوع والفقر من‏بينهم.

إن في الآيات الشريفة السالفة الذكر تصور لنا حالة من حالات ما بعد دخول المؤمنين الجنة، ودخول الكافرين‏والمنافقين النار؛ حيث تتحول أعمال المؤمنين إلى نور يسعى بين أيديهم، يتنعمون في جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها، مبشرين من الملائكة برضوان اللَّه الذي هو أكبر وأشرف من الجنان وما فيها. أما الكفار والمنافقون‏فتتحول أعمالهم الدنيوية إلى عقد نفسية وظلمات، حتى ليستغيثوا بالمؤمنين ليتزودوا من نورهم، ولكن هيهات أن‏يكون لهم ذلك، فالملائكة تواجههم بأشد التقريع، فيقال لهم تعجيزاً: ارجعوا إلى ورائكم - دنياكم - لعلكم تلتمسون‏نوراً . وحين يعترف المنافقون والكفار بالعجز عن ذلك يضرب بينهم وبين المؤمنين حجاب؛ جهة منه فيه الرحمة لأهل‏الجنة، وأخرى فيها العذاب لأهل النار.

إن اللَّه سبحانه وتعالى يستعرض في هذه الآيات جملة من الأعمال التي أدت بالمنافقين الى النار، وهي: فتنة النفس،والريبة بالحقائق، والغرور بالأماني، والتعويل على المادة، وعدم الإيمان والتصديق بالغيب، وقسوة القلب، والفسق في‏الممارسات والمعتقدات، والتسويف بالتوبة مع معرفة الحق.

وعلى هذا الأساس؛ فإن المنافقين سيعيشون - فوق ما يعيشونه ويعانونه من عذاب النار - حالة من العزلة والاحتقارحتى لتكون النار مولىً لهم؛ أي ملجأً يلجؤون منها إليها؛ بمعنى أنهم يدورون في حلقة متكاملة من العذاب الإلهي الدائم‏والشديد. وقد أصابهم هذا كله بداعي رفضهم للروح واكتفائهم بالمادة؛ المادة التي ما أن يستغنى بها عن الروح حتى‏تضيّع الإنسان وتكتب على مصيره العقاب ..

==============

#حضارة الروح تتحدى طغاة المال والقوة

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ‏قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآأَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ‏أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ‏الُْمجْرِمُونَ‏)(القصص/78-76)

هل للثروة والقوة والسلطة قيمة ذاتية مجردة تستحق أن يسعى الإنسان من أجلها أو يوقف حياته للوصول إليها؟

إنك لو سألت طفلاً عن القيمة الذاتية للدرهم أو السكين، لأجابك بكل براءة أن السكين التي تستخدمها أمه في المطبخ،أو تلك التي قد يضطر إلى استعمالها في الدفاع عن نفسه ضد حيوان ما، وكذلك المال الذي يشتري به ملابس المدرسة أوطعاماً يتغذى به، مثل هذه السكين وهذا المال لهما قيمتهما الجيدة، أما السكين التي تجرحه والمال الذي قد يشتري به‏أبوه المخدرات أو الخمرة، فإنهما غير جيدين بالمرّة.

إذن؛ فحسن الثروة والقوة يتحدد بنوعية الهدف الذي من أجله يستخدمان، باعتبار أنهما لا قيمة ذاتية لهما.

وهنا بالذات كانت مشكلة البشرية عبر التاريخ تكمن في تحول الثروة والقوة والسلطة من كونها وسيلة إلى هدف وقيمةذاتية، الأمر الذي أدى بها إلى التصارع والارتطام على أعلى المستويات.. فكان الإنسان يدخل السوق وهدفه الأول‏والأخير أن يصبح ثرياً، ساحقاً كل القيم، متجاوزاً المقدسات والمعايير الإنسانية وأصول التعامل.. فأكل أموال الناس‏والتهام حقوقهم وتعامل بالربا ودفع الرشوة وغش المبتاعين.. وذلك لمجرد اقتناص الدينار والدرهم. وأكثر من ذلك،كنت ترى مثل هذا الإنسان يتجاوز حتى عواطفه ويضيق على أهله من الأبناء والزوجة، بل وعلى نفسه أيضاً، بداعي‏علاقته بالثروة التي تعمقت ووصلت إلى حد العبادة.

وكم من رجل جمع مالاً، ولكنه تركه لغيره؛ وكم كان من الناس من عبد القدرة والسلطة، تاركين المقدسات وراءأظهرهم..

هذا ما كان على المستوى الفردي، أما على مستوى الحضارات، فقد عرفنا أن الكثير من المدنيات قد قامت على أساس‏هذا النوع من التوجه والاهتمام، وهي الآن في عالم العدم - إن صح التعبير - إذ لا أثر لها إلاّ ما جمعته المتاحف أو حوته‏الكتب في اُحدوثاتها، لأنها بدلاً من أن تستخدم الثروة والقوة كوسيلة لما هو سامٍ من الأهداف، اعتبرتها هدفاً ذا قيمةذاتية، فضاعت واندثرت أثناء سعيها وراء مثل هذا السراب المخادع، فامتلكتهم الأموال وتسلطت عليهم القوة، عوضاًعن أن يمتلكوها أو يمسكوا بأعنتها.

ولقد حوى التأريخ أمثلة كثيرة جداً بالنسبة للأفراد أو الحضارات التي درستها الثروة وأصبحت وبالاً عليها.

أما المثال الذي خلده القرآن الكريم في أكثر من موقع؛ فهو مثال قارون ومثال صاحب الجنتين..

.. كان قارون رجلاً بسيطاً من قوم النبي موسى‏عليه السلام، أنعم اللَّه عليه، فنسي نفسه، معتمداً التآمر حتى ضد الرسالة الإلهية.

يقول تبارك اسمه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِاُوْلِي الْقُوَّةِ)، وهي أشبه ما تكون بالصندوق الأسود الذي يحمله الوفد المرافق للرئيس الأميركي ويحرسه أينمايذهب، ولو إلى سرير النوم!!

فنصحه المؤمنون العارفون من قومه، إذ قالوا له: (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَ آءَاتَاكَ اللَّهُ‏الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ‏الْمُفْسِدِينَ‏).

أي إن الفرح والاستعلاء والاستهتار ينتهي إلى الفساد في الأرض، واللَّه لا يحب المفسدين؛ لأن ذلك لا يمر في طريق‏وعقيدة اعتبار الثروة مجرد وسيلة إلى إحراز الفوز بالدار الآخرة، كما أنه يشوش الصورة الحقيقية للدنيا التي أوجدهااللَّه سبحانه وتعالى كمحطة في طريق الدار الآخرة، بالإضافة إلى أن مجرد اتخاذ اكتساب الثروة هدفاً ذاتياً يؤدي‏بصاحبه إلى الطغيان، فينسى أصل الإحسان؛ هذا الأصل الإنساني الكفيل بتحقيق التكافؤ الاجتماعي والتضامن بين‏أفراد الأمة.

ولكن قارون ترجم طغيانه واستعلائه بعبارات لا تنم إلاّ عن الجهل وانعدام التصور الحق، فقال لهم.. (إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ‏عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏). أي أنه نفى حقيقة أن الرزق والإمكانات بيد اللَّه يؤتيهما من يشاء ويمنعهما من يشاء لحكمةوإرادة خاصتين به دون سواه. فقارون لم يكلف نفسه مجرد التفكير في محدوديته، وأن علمه وأسلوبه ومجهوده في سبيل‏جمع الثروة، هو نعمة من اللَّه أيضاً، وأن من دون هذه النعمة الربانية يبقى الإنسان بلا حول ولا قوة.

ثم بدأ يتغافل عن نهاية ومصير كل إنسان، وهو الموت والهلاك، وتناسى كل صفحات التاريخ البشري، وخادع نفسه‏بالبقاء إلى أبد الآبدين.. وقد وصف القرآن الكريم واقعه المؤسف هذا بالقول الشريف: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْأَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ‏).

تُرى هل غاب عن ذاكرة قارون مصير الأثرياء والملوك والدول والحضارات التي سبقت زمنه؟!

أما صاحب الجنتين، فيقول اللَّه تعالى عنه: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَآأَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لاَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي‏خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلآ اُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ‏قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً *فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ‏عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَاُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَاَصْبَحَ‏يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ اُشْرِكْ بِرَبِّي‏أَحَداً)(الكهف/42-35).

لقد تملّكه الطغيان، وتملكته الغفلة عن القيمة الحقيقية لما أنعم اللَّه عليه، فأصبح من النادمين على ما أشرك بربه، إذ تفرق‏عنه أعوانه وحلفاؤه الذين كان قد طغى بهم..

إن السنة الإلهية بهذا الصدد تؤكد أن المالك الحقيقي لكل شي‏ء هو اللَّه عز وجل، وهو صاحب الولاية الأصلية على‏المخلوقات وما في أيديهم، وهم لا يذهبون إلاّ باطلاً في تصورهم بأنهم أصحاب ثروة أو قوة أو سلطة.. فالغرض من كل‏نعمة ينعمها اللَّه على عبد من عبيده، هو الامتحان والابتلاء.

أما بالنسبة الى تاريخ الحضارات فأقول: إن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس القيم والأخلاق ووعي السنن‏الإلهية التي وضعت للتأريخ - رغم أن كثيراً من الحكام المسلمين كانوا حكاماً ظالمين وطغاة - رغم ذلك، فإن الحضارةالإسلامية خلّفت وراءها الأخلاق والتطور والعمران لجميع الشعوب والبلدان التي لاقتها أو دخلتها. أما الحضارات‏القائمة على أساس الاستغلال والطغيان، وآخرها الحضارة الغربية، فصفحات التأريخ البشري الخاصة بها تشير إلى أن‏مثل تلك الحضارات لم تخلف سوى الجهل والتفرقة والاستغلال والدمار في الشعوب التي استولت عليها، وأوضح دليل‏على ذلك هو ما تعانيه الشعوب الأفريقية أو الآسيوية التي أصبحت مسرحاً لفصول الاستعمار الغربي منذ قرون، وهذاكله لم يكن له أن يحدث لو لم تكن الحضارة الغربية قائمة على أساس المادة، ومبنية على أصل اعتبار المال والقوة هدفاًيسعى إليه.. ومثل الحضارة الغربية كانت الحضارة البابلية والمصرية وغيرهما.

لقد عدَّ المؤرخون ك(تويمبى‏) و (ابن خلدون‏) وغيرهما أكثر من عشرين حضارة عبر التأريخ،كما بينوا عوامل تفوقها وأفولها. وقبلهم كانت آيات القرآن الحكيم وروايات النبي وأهل البيت‏عليهم السلام قد بينت جميع السنن‏الإلهية الثابتة في نهاية وسقوط الحضارات.. وكانت كلها قد أجمعت الرأي على أن الحضارات القائمة على أساس الطغيان‏والاستعلاء وعبادة المال والقوة، محكومة بالفشل مسبقاً؛ إلاّ أن الأمر الذي أطال عمر بعضها دون بعض هو مستوى‏الظلم والكبت الذي كانت تمارسه ضد شعوبها، ولكن الأصل في ذلك هو تحقق فشلها الذريع وانكشاف الحقيقة ولو إلى‏حين.

ولتوضيح هذه الحقيقة القرآنية والتأريخ أضرب مثلاً بهذا الصدد فأقول: إن حركة التنمية الاقتصادية لأية حضارةكانت، بمثابة حركة القطار الذي تسيره عربة القيادة، وتجر عدداً من المقطورات. فقد تكون قاطرة ذات تكنولوجيامتقدمة، ولكن في الوقت ذاته تعود بالضرر على الركاب، مما يعني أنهم قد لا يصلون إلى النقطة المرجوّة بداعي‏تسرعهم، وقد تكون القاطرة - عربة القيادة - بمحركات ذات ضجيج مرتفع جداً، إذ لا يصل الركاب إلى هدفهم إلاّبعد فقدهم لأعصابهم. وثمة قاطرة متفاوتة، فهي تتصف بالاتزان والتعادل في الحركة والسلامة في نوعية الوقود أوالحمولة، مع احتمال تأخرها في الوصول.

فقاطرة التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو التأريخي الأفضل والأرقى بحق هي تلك القاطرة التي تقودالناس وتسير بهم بوقود الإيمان والتقوى لتصل بهم إلى الاستقرار والاطمئنان..

إن المدنية الأميركية - مثلاً - قامت على أساس اغتصاب الأرض وقتل وإبادة أصحابها من الهنود الحمر بلذة عارمة،كما أنها قامت على أكتاف مئات الملايين من الأفارقة الذين سرقوا من قارتهم لأداء مراسم العبودية والخدمة، فكانت‏هذه المدنية قائمة على الاستغلال والجشع وعبادة المال والقوة واحتكار الحريات السياسية في حزبين فقط، وهما الحزب‏الجمهوري والحزب الديمقراطي، تحت مظلة الدعاية والإعلام الذي لا يعرض للعالم إلاّ ما يخدعهم ويصور لهم أن جنةالأرض هي الولايات المتحدة، خافياً وراءها كل الجرائم والفساد والكبت والتدمير والنية في القضاء على طموحات‏الشعوب الأخرى وتطلعاتها ومعتقداتها، وكان آخر عمليات الإخفاء هذه، هي محاولات الاستتار وراء إنشاء القريةالعالمية الواحدة، لتتم السيطرة على مقدرات العالم كله.

ولكن تبقى المشكلة نفسها، وهي أن منظري الاستراتيجية الأميركية التي تمثل إلى حدود واسعة طبيعة الفكرالاستعماري الغربي عموماً، هؤلاء يحاولون تجاوز الحقائق التاريخية الثابتة والسنن الإلهية غير القابلة للتبديل أوالتحويل والتحريف، مثل قوله سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ‏قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً)، الذي يشير بوضوح إلى أن المال والقوة وما يحتويه هذان العاملان محكومان بالفناء وعدم‏الخلود، وأن الخالد فقط هو المعتقد والعمل الصالحين والقائمين على أساس الحق والإنسانية النزيهة.

وأبرز مصداق على ذلك قصة أصحاب الفيل الذين تركهم اللَّه كعصف مأكول قرب صحراء مكة، رغم ما جمعوه من‏الفيلة وعوامل القوة الأخرى التي كانت تفوق كل قوة في ذلك الوقت..

إنني لا أريد تشبيه دمار أصحاب الفيل بحادثة الحادي عشر من أيلول - سبتمبر، التي أطاحت ببرجي التجارة العالميةفي مدينة نيويورك، لأن من قام بهذه العملية الأخيرة غير محترم من قبلنا، كما أن هذا العمل لم يكن شريفاً؛ ولكن‏بالإمكان القول بأن لكل حضارة علامة على اُفولها، كما كانت لها علامة الطلوع والظهور.. وقد تأكد العالم بأن انهيارالاتحاد السوفياتي السابق كان له علامته، وهي تفجر المفاعل النووي العملاق الموسوم ب(تشرنوبيل‏)أواخر عقد الثمانيّات، رغم أن السياسة السوفياتية بذلت مساعيها للتكتم على هذه الحادثة التأريخية. وها هم خبراءالتأريخ يرسمون نفس الخط البياني ليؤكدوا أن تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك علامة انهيار النظام الرأسمالي‏الأميركي.

إن الحضارة التي أسلمت زمام قيادتها للثروة والقوة محكومة بالانتهاء والاُفول، ذلك لأن قانون السماء قد جعل الموت‏في صميم الحياة، إلا أن الموت والحياة يتصلان بإرادة اللَّه وتوقيته الحكيم. ولكن يبدو أن طبيعة النظام الغربي الحاكم في‏أميركا يستعجل الفناء، بعدم قراءته التأريخ وعدم تصديقه للسنن الإلهية الثابتة في الحياة.

كما أود - ختاماً - لفت انتباه أنظار الشباب العربي والمسلم عموماً بألاّ ينخدعوا بمظاهر القوة من طائرات عسكرية أوسفن عملاقة أو أسلحة ذرية أميركية.. فهذه كلها عوامل فناء الصرح الأميركي نفسه، فالحق والإنسانية هما الأمران‏الوحيدان اللذان كتب اللَّه لهما البقاء والخلود، فلا ينبغي أن نرهب بشي‏ء فانٍ أبداً، بل علينا تكريس توكلنا على اللَّه‏الباق، وأن نثق بديننا ونتطلع الى ذلك اليوم الذي تتسلم الحضارة الإسلامية العادلة زمام قيادة الأرض على أسس‏القيم المثلى، وليس على أساس الثروة أو القوة أو الطغيان والاستعلاء، وسبحان اللَّه الذي يأبى أن تبقى البشرية تحت‏وطأة الأغنياء وأقوياء المادة الزائلة..

=============

#الحضارات بين الشكر وكفران النعم‏

(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِوَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *وَلِسُلَيَْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ‏الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن‏مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّاقَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلآَّ دَآبَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَالَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ * لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ‏بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ *فَأَعْرَضُوا فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ‏وَشَيْ‏ءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي اِلاَّ الْكَفُورَ)(سبأ/17-10)

يضرب لنا اللَّه جل وعلا في الآيات المتقدمة مثلين من حضارتين عاشتا ثم بادتا، إلا أن أحدهما عاشت عيشة طيبةواستمرت في حياتها حتى قضت أجلها المسمّى لها، فانتهى بذلك وجودها انتهاء طبيعياً. أما الحضارة الأخرى فقددمّرها الخالق سبحانه شرّ تدمير، وأنهى وجودها بشكل مأساوي على الرغم من تمتعها بكافة وسائل العيش الرغيدالتي وفّرها اللَّه سبحانه لها.

الحضارات الإلهية

لقد تمثلت الحضارة الأولى في حضارة بني إسرائيل وخصوصاً في عهد النبي داود وابنه سليمان‏عليهما السلام، فأما النبي داود فقدشملت حضارته الصناعات، حيث ألان له الرب الحديد، وسخّر له الجبال، فلفظت الأرض ما في جوفها من المعادن التي‏كان الحديد من جملتها، فصنع داودعليه السلام من هذا الحديد اللين الدروع المعروفة بالدروع الداودية.

أما النبي سليمان‏عليه السلام؛ فقد اتسعت حضارته، وترامت أطرافها، حيث أنعم اللَّه عز وجل عليه باستجابة الدعاء وجعل له‏ملكاً عظيماً لم ولن يؤتيه لأحد من قبل، ولا من بعد؛ فقد كان‏عليه السلام يمتطي الريح ببساطه المعروف، ومعه مئات الألوف من‏الجنود المجندة، وكانت حركة هذا البساط بالاستناد إلى مقاييسنا الحديثة ما يقرب من ستمائة كيلو متر في النصف الأول‏من النهار، ومثل ذلك عصراً، كما يشعر بذلك قوله تعالى: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)(سبأ/12)؛ أي‏أن الريح كانت تحمل النبي سليمان‏عليه السلام وجنوده مسافة شهر كامل خلال نصف يوم، ثم لا تلبث أن تعود هذه المركبة بهم‏قاطعة نفس المسافة خلال نصف نهار أيضاً! ومما تذكره كتب التاريخ أن سليمان‏عليه السلام كان يصبح في بعلبك، ثم يكون في‏بغداد عند الظهيرة، وفي خاوران عند العصر، ثم يعود إلى قصره في بعلبك!

إن الحضارة الرفيعة التي كانت لنبّي اللَّه سليمان‏عليه السلام لم يستطيع البشر أن يصلوا إلى مستواها حتى اليوم، على الرغم مماحققه الإنسان من تقدم علمي.

وعلى سبيل المثال؛ فإن استخدام الطير لإنجاز بعض المهام ما هو إلا استخدام محدود لدينا، في حين أن النبي سليمان‏عليه السلام‏أوتي منطق الطير كما تشير إلى ذلك بوضوح قصة الهدهد المعروفة. كما أن البشر لم يستطع الوصول إلى مستوى استخدام‏القوى الغيبية العاملة كالجن، في حين أن النبي سليمان‏عليه السلام كان بإمكانه أن يستخدمها لتقدم له مختلف أنواع الخدمات،ومن جملة هذه الخدمات -كما يذكر القرآن- صناعة القدور الراسية، والجفان الكبيرة الحجم.

انتهاء العمر الطبيعي للحضارة

ومع ذلك فإن هؤلاء الجنّ لم يستطيعوا أن يتبينوا موت النبي سليمان‏عليه السلام إلا من خلال (الأرضة) التي أكلت‏منسأته. ففي رواية عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام، أنه قال: إن سليمان بن داودعليه السلام قال ذات يوم لأصحابه: إن اللَّه تبارك‏وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، سخّر لي الريح والإنس والجن والطير والوحوش، وعلمني منطق‏الطير، وآتاني من كل شي‏ء. ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري‏في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلاّ يرد عليَّ ما ينغص علي يومي. قالوا: نعم.

فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره، ووقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراًبما اُوتي فرحاً بما اُعطي، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به‏سليمان‏عليه السلام قال له: من أدخلك إلى هذا القصر، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم؟ فبإذن من دخلت؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربه أحق به مني، فمن أنت؟!

قال: أنا ملك الموت.

قال: وفيما جئت؟

قال: جئت لأقبض روحك‏

قال: امض لما اُمرت به، فهذا يوم سروري، وأبى اللَّه عز وجل أن يكون لي سرور دون لقائه.

فقبض ملك الموت روحه، وهو متكى‏ء على عصاه، فبقي سليمان‏عليه السلام متكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء اللَّه‏)(47).

ولعل النبي سليمان‏عليه السلام ظلّ سنة كاملة على هذه الحالة، والجن ينظرون إليه ، فحسب بعض السذج والبسطاء أن النبي‏سليمان هو الإله، لا من البشر الذي يتعب، ولا يستطيع الوقوف كل هذه المدة، إذ الإنسان بحاجة إلى الأكل والشرب‏والنوم، في حين أن سليمان‏عليه السلام ظل واقفاً لمدة عام كامل وهو مشرف على جيشه ومملكته، فهو إله إذن!

وكان ذلك امتحاناً لرعاياه، وعندما انتهى وقت الامتحان أمر اللَّه تقدست أسماؤه الأرضة أن تنخر منسأة النبي سليمان،فانهارت هذه المنسأة، وأنهار معها سليمان‏عليه السلام، وخرّ إلى الأرض، وحينئذ أدرك الجن أنهم كانوا على خطأ عظيم.

لقد استمرت هذه الحضارة لفترة طويلة حتى بعد وفاة صاحبها بعام، ففي هذه السنة كان وصي سليمان‏عليه السلام، آصف بن‏برخيا هو الذي يقود المملكة، ويدير شؤونها، وقد استمرت هذه الحضارة بصورة طبيعية كما ابتدأت.

الحضارة التي دُمّرت‏

وفي المقابل ذكر القرآن الكريم قصة حضارة أخرى كانت على عكس الأولى تماماً، ألا وهي حضارة (سبأ)التي كانت تمثل قبائل جنوب الجزيرة العربية في منطقة اليمن، وقد استطاعت هذه الأمة أن تشيّد سد مأرب الذي ماتزال معالمه موجودة إلى الآن. ففي ذلك الوقت الذي يتحدث عنه القرآن الكريم والذي شُيّدت فيه الحضارة السبئيةآتى اللَّه سبحانه العرب الحكمة، فبنوا سدّاً في تلك المنطقة حفظوا فيه المياه، ثم شقوا القنوات إلى مناطق شاسعة من‏بلادهم، فغمرت بذلك الأرض واستصلحت، حتى أن الرجل كان يكفيه أن يحمل سلّة فارغة ويمرّ تحت الأشجار المختلفةثم يعود إلى بيته وقد امتلأت سلّته تلك بأنواع الفواكه دون أن يكلّف نفسه عناء قطفها!

واتسعت حضارة سبأ، ولكن أصحابها كفروا بأنعم اللَّه، فأباد عز وجل حضارتهم، حيث سلّط على ذلك السد الفئران‏فهدمته، فانطلق السيل العرم إلى المناطق الزراعية، وأغرقها مع أهلها، فهلك منهم من هلك، ونجا منهم من هرب إلى‏شمال ووسط الجزيرة العربية.

وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحضارة بقوله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوامِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ‏ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي اِلاَّالْكَفُور)(سبأ/17-15)

فالقرآن يشير هنا بوضوح إلى أنهم لم يستحقوا العذاب والغرق والفناء إلا لأنهم أعرضوا وكفروا، فكانت نهايةمأساوية لحضارة لو كانت شكرت أنعم ربها لدامت مئات السنين، إلا أن الكفر هو الذي أدى إلى انقراضها وهي في‏أوج قوتها وعنفوانها.

التاريخ يعيد نفسه‏

والقرآن الكريم يضرب لنا هذه الأمثلة وغيرها ليبين لنا أن التاريخ يعيد نفسه دوماً، لأنه ليس إلا تطبيقاً وتجسيداً لسنن‏اللَّه سبحانه في الأرض، فهو عبارة عن تطبيقات للأنظمة والقوانين التي وضعها البارئ لهذا الكوكب؛ فالقوانين لا يمكن‏أن تتبدل، كقانون الجاذبية الذي كان ولا يزال يجذب الأشياء إلى الأرض، كما أن الحر والبرد يمثلان حقائق وقوانين لم‏تتغيّر منذ الأزل.

وهكذا الحال بالنسبة إلى قانون الحضارات، فإنه هو الآخر ثابت لا يتغيّر؛ فعندما يكفر الإنسان بربّه، ولا يشكر أنعمه‏فإن حضارته لابد أن تنتهي وتزول شر زوال، حتى لو كانت هذه الحضارة في عنفوان شبابها. أما إذا شكر الإنسان ربه،فإن حضارته سوف تدوم وتستمرّ حتى ينقضي عمرها الطبيعي. فكما أن الإنسان يطول عمره إذا اتبع المناهج الصحيةالسليمة ومن ثم يموت موتاً طبيعياً، وكما أن الإنسان الذي يرتكب الفواحش يصاب بالأمراض والشيخوخة المبكرةوالانهيار العصبي وعشرات الأمراض الأخرى، فإن نفس هذه القاعدة تنطبق على الحضارات أيضاً.

إن قانون الحضارات هو قانون يتكرّر ويتجسّد اليوم في واقع الأمة الإسلامية وفي كل مكان، فنحن لو شكرنا اللَّه‏سبحانه وتعالى لدامت نعمه علينا كما يقول عز وجل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَ‏عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم/7). فهذا إعلان إلهي بأن الشكر يؤدّي إلى دوام النعمة، بل وزيادتها.

الشكر وأسلوبه‏

والسؤال المطروح هنا هو: ما هو الشكر، وكيف يكون؟

الجواب: إن الشكر هو شكر كل نعمة من خلال الفيض بها على الآخرين؛ فشكر نعمة المال يكون ببذله، وشكر نعمةالعلم بنشره، وشكر نعمة الجاه باستغلاله في سبيل خدمة الآخرين، وشكر نعمة الهدى يتجسّد في الاستقامة.. فلكل‏نعمة شكر يلائمها، ولكننا عندما أحجمنا عن الشكر فإن حضارتنا انتهت؛ فأصحاب المال بخلوا، وأصحاب العلم‏جبنوا، والعاملين تكاسلوا... وبالتالي فإن الجميع قد انهار، وانهارت الحضارة بانهيارهم. والسبيل الوحيد لنهوضنا،وإعادة أمجادنا السابقة، والحصول على استقلالنا، هو الاعتبار بما جرى للأمم السابقة التي كفرت بأنعم ربها وتنكّرت‏لها، وغفلت عن ذكر اللَّه، فكانت النتيجة أن انهارت حضاراتها، وانقرضت، وتحوّلت إلى خبر يذكر.

ومن أجل أن نحول دون تورّطنا في هذا المصير؛ فإن علينا أن نؤدي فريضة الشكر إلى الخالق تعالى بالمعنى الذي ذكرناه‏سالفاً، وأن نعرف قدر نعمه، ولا يصيبنا البطر والطغيان والغرور، لأن شكر النعمة موجب لدوامها وثباتها؛ بل‏وزيادتها. وهذه سنة إلهية ثابتة لا يمكن أن تتغير، ولن تجد لسنّة اللَّه تبديلاً.

==============

#حضارة في بيت العنكبوت‏

(وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَبَيَّنَ لَكُم مِن مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ *وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الاَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلاًّأَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَاوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ‏اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْكَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْ‏ءٍ وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ‏)(العنكبوت/38-27)

الشرف العظيم والقوة الكبرى والركن الشديد أن يؤمن الإنسان باللَّه وحده، ويعتمد عليه وحده، ويتوكل عليه وحده.فالتوحيد أعظم شرف يتشرف به ابن آدم، وأقوى ركن يعتمد عليه، وأفضل وسيلة يتوسل بها. أما الشرك؛ فهو ضعف‏وذل وهوان.

وعلينا - ونحن نتلو آيات القرآن المجيد- أن نتبصّر ذلك النور الفياض منها؛ ابتداءً من باء (بسم اللَّه‏)،وانتهاءً بسين (والناس‏).

ولعلّ من أعظم أنوار القرآن؛ نور الهداية إلى اللَّه سبحانه وتعالى. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام: (لقدتجلى اللَّه لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون‏)(48).

فإذا كنّا لا نبصر ولا نسمع ولا نعقل، فلماذا وهبنا اللَّه تبارك وتعالى السمع والبصر والفؤاد؟

إنّ القرآن الكريم كتاب التوحيد، ومفتاح فهم هذا الكتاب هو معرفة اللَّه عزّ وجل، ومن ضلّ عن ربّه فقد ضلّ ضلالاًبعيداً، ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور. والشرك هو الضلالة الكبرى والتيه الأكبر..

ومن أجل توضيح هذه الفكرة التي استوحيها من آيات مباركات من سورة العنكبوت، لابد أنّ أضرب لكم مثلاً في‏ذلك، لأن الأمثال تقرب الحقائق، فأقول؛ من يقصد منطقة معينة فيركب صهوة حصان هائج، لن يصل إلى مقصوده،ولن يفلح راكب سيارة ذات فرامل ضعيفة في الوصول بسلام، ولن ينجو الغريق إذا ما توسّل بقشّة..

وكذلك الإنسان إذا ما اعتمد على غير اللَّه، فإنه سيتأكد في نهاية المطاف أنّ (هذا الغير) ليس لن ينفعه فقط،وإنّما سيضره أيضاً. فهذا الغير سيتحول إلى وسيلة هدم لحياته.

فلقد اعتمد فرعون على قدرته الاقتصادية والزراعية وثروته المائية، حتى قال: (وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن‏تَحْتِي‏)(الزخرف/51) إشارة إلى تسلطه المطلق على نهر النيل، وأنّه يسيره كيف شاء. لكن هذا النهر هو الذي‏غرق فيه فرعون وأصبح بذلك آية للعالمين.

وتلك عادٌ الأولى التي كانت قبيلة قوية، ذات شوكة وبطش وجبروت، كانت تقطن في الطرف الشمالي للجزيرة العربية،متشبّثة ببيوتها وصخورها، إذ نحتت من الجبال بيوتاً، فأرست قواعد حضارتها، إلاّ أنها لفرط اعتمادها على صخورهاوحصونها دمّرها اللَّه بذات الصخور.

إذن؛ قانون وسنّة إلهية، مفادها ضرورة فتح الإنسان لعينيه وأذنه وعقله ليرى حقيقة التأريخ، وأنّ من يحجم عن ذلك‏ويريد ابتداع سنّة كونية من عند نفسه، أو يهدف محاربة السنن الإلهية في الكون ، فإن عقاب اللَّه سيقف له بالمرصاد،حيث سيدمّر ويمحق بذات الشي‏ء الذي اعتمد عليه من دون اللَّه.

أتعلمون أن أبا مسلم الخراساني هو الذي أقام حكومة أبي العباس السفاح والمنصور العباسي، ولكنّهما هما اللذان قتلاه.والبرامكة على عظمة صيتهم رفعوا هارون العباسي إلى سلطان الهيبة والاقتدار، فما كان منه إلاّ أن بدأ بهم فقتلهم شرَّقتلة. ذلك لأنهم وأمثالهم ممن يعينون الطغاة، يتغافلون عن الحقيقة الإلهية القائلة: بأنّ من اعتمد على غير اللَّه ذلّ. ولعل‏في صعود وأفول نجم الحضارات البشرية عبر التأريخ أمثلة ومصاديق لذلك.

والمثل الجديد الذي أرغب في إيضاحه لكم هو مَثل الثورة المعلوماتية الجديدة التي تعتمدها الحضارة البشرية الراهنة،وكيف أن هذه الحضارة التي لا تتخذ من الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان مرتكزاً لها، سيكون مصيرها نفس‏مصير ما سبقها من حضارات، وكيف أنّها تعيد عجلة التأريخ على نفسها وكأنّها غير معنيّة بما سبق للبشرية أن ذاقته من‏عذاب إلهي شديد...

أتحدّث معكم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين، حيث مرت علينا سنة الألفين، وعاش فيها العالم أزمةالكومبيوترات الكبرى، المبني نظامها أساساً على رقمين هما واحد وصفر أو صفر وصفر؛ أي صفران. ولما كانت سنةألفين تحوي ثلاث أصفار، فإنّ أجهزة الكومبيوتر الحاوية لمليارات المليارات من المعلومات، والتي أضحت القائدوالموجّه لمعظم الأجهزة التكنولوجية في العالم عموماً والغرب على الخصوص؛ وما فيها من صواريخ وطائرات‏ومطارات وقطارات وبنوك وبورصات وأقمار صناعية وغير ذلك، كلّها عانت الرعب أن تصاب بالعطل، لو لم يعثرعلى حلّ مجدٍ لتلك الأزمة الكبرى.

إن هذا الغلط البسيط كان له أن يتسبّب بحدوث كارثة عظمى، حسب ما أكد رئيس لجنة كارثة الألفين في مجلس‏الشيوخ الأميركي. إذ أكد أنه بعد سنة ألفين ستتوقف القطارات، لأنّها تعتمد على الكومبيوتر، وكان متوقعاً في أول يوم‏من هذه السنة أن تتعطل الأقمار الصناعية وأنظمة الاتصال ومحطات الوقود والطائرات وكل الكومبيوترات مركّبةبطريقة غير صحيحة.

ولقد انكبّ العلماء والمتخصّصون على اكتشاف حلٍّ لهذه المعضلة التأريخية.

ولكنّ العالم المهدّد بسبب بسيط، وهو عدم قدرة الكومبيوتر على التجانس مع قراءة رقم ألفين وما بعده، هذا العالم من‏الممكن جداً أن يتعرض لمشكلة وكارثة أكبر وأخطر إذا ما توقفت كل الأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصال، لأنّه‏يعتمد على نظام شركي، قوامه الأوّل الأمواج التي تثير الأجهزة وتحركها وتمنحها مزيداً من الدقة في الفعل وردّ الفعل.فهذه الصواريخ كلها تتوجّه وتعمل عبر الأمواج، وإذا ما أمكن تعطيل حركة الأمواج، فإنها - الصواريخ- ستنتهي إلى‏احتمالين؛ إمّا التصويب غير الدقيق، وهذا يعني نهاية العالم. واحتمال آخر هو التوقّف عن العمل أساساً.

إنّ عجز الكومبيوتر ليس بالشي‏ء الغريب أبداً، فإن لدينا من القصص والتجارب العديدة ما يؤيد ويسهل هضم هذه‏الحقيقة الملموسة. فهذا العالم الفيزيائي الشهير (البرت انشتاين‏) الذي يقال إن حجم دماغه كان أكبر من‏الأحجام المعتادة بنسبة ثلاثين بالمائة من الأدمغة الطبيعية للناس.. وكان ذا قدرة عجيبة على التحليل واكتشاف‏القوانين والنظريات، وآخرها نظرية النسبية المعروفة. هذا الرجل - على عظمة قدرته الرياضية - كثيراً ما كان يفشل‏في كتابة أو قراءة الرقم (2)، مما كان يتسبب في وقوعه في المشاكل والإزعاجات اليومية. ولما كانت قدرةالعقل البشري المتوسط يفوق بمليارات المرات قدرة أدق وأحدث كومبيوتر مخترع، فما بالك بالفارق الذي لا يوصف‏والذي يميّز عقل أنشتاين عن جهاز الكومبيوتر المشار إليه؟

وما أريد تأكيده هنا، هو القول بأنّ احتمال أو توقع حصول خطأ تكنولوجي في الاختراع أو طريقة الاختراع من قبل‏المخترعين أمر في غاية الصحّة، وأنّ القول بحصول كارثة بشرية تأريخية قول لا يجانب الصواب أبداً، بل القول المعاكس‏هو الخطأ تماماً. وما كانت البشرية لتصل إلى هذا الواقع المرير من القلق والرعب والانفعال، لو كانت اعتمدت على‏أسس أفضل ومعتمدات أرقى. فهي تعمّدت ظلم نفسها باعتمادها على المادة المجردة، وتناسيها آيات خالق المادة. وعلى‏هذا فإن جزاءها العادل، هو استمرار الرعب والقلق والانفعال الشيطاني، ثم حدوث الكارثة فضلاً عمّا ينتظرها من‏عذاب في يوم القيامة، يوم الحساب العادل.

إنّ اللَّه عزّ وجلّ يؤكد سنّته الثابتة بقوله المجيد: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ‏)؛ أي إنّ اللَّه يعاقب كل فرد وكل مجتمع‏وكل حضارة بعقوبة تتجانس والشي‏ء الذي حاولت عبره تحدّيه. وها هي آيات اللَّه العجيبة تترى علينا كل يوم‏ونراها بأمّ أعيننا، فضلاً عمّا قص علينا القرآن الكريم من قصص المدنيات القديمة التي أصيبت بذات السلاح الذي‏اتخذته لنفسها حامياً ودرعاً.

وها هو (فورد) مخترع السيارة الحديثة وصاحب الثروة والنفوذ، ورجل الاقتصاد الأميركي الكبيريواجهه الموت بين دولاراته وصكوكه في صندوق ادّخاره الحديدي، حيث أقفله على نفسه غافلاً عن أن المفتاح في‏الخارج، ولم ينفعه صياحه واستغاثاته.. تماماً كما قضى اللَّه عزّ وجل على قارون الذي كان يتفاخر على قومه بثروته‏وأراضيه الواسعة، فقبره اللَّه في عمق الأرض ليكون عبرة لمن تسول له نفسه وتوسوس له.

إن طغاة المعلومات اليوم يظنون بأنهم توصلوا إلى قمة العلم، وأنه من الصعب التطور أبعد من ذلك. وهذا ما يطلقون‏عليه بنظرية حافّة التأريخ فيما يخص الصراع البشري وتطور البشرية، غافلين عن قول اللَّه تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي‏عِلْمٍ عَلِيمٌ‏)، ومتغافلين أيضاً عن أنهم ما يظلمون إلاّ أنفسهم بنظريتهم هذه.

إنّ هؤلاء الذين اتخذوا من العلم ولياً من دون اللَّه، إنما كيانهم ككيان العنكبوت المعرض للزوال بأدنى ريحٍ وحركة.

وها هي سنّة اللَّه الثابتة نراها تتكرر يومياً وبين لحظة وأخرى؛ إذ من يعتمد على القوّة يهزم بالقوة، ومن يعتمد على‏مؤسسات الأمن والمخابرات تنقلب عليه هذه المؤسسات فتبيده، ومن يعتمد على الإمكانات المادية ينسحق بها.

أمّا الإنسان المؤمن، فإن من شأنه توحيد اللَّه والاعتماد عليه، لأن اللَّه لا يهدي إلاّ الى الخير؛ بل ذلك قانون كتبه اللَّه على‏نفسه، فقال سبحانه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏) سواء كان حاكماً أم محكوماً ، جاهلاً أم مجتهداً..

بلى؛ إن من الممكن أن يتخذ المرء أغراض الدنيا وإمكاناتها وسيلة إلى الكمال والتقرب إلى صاحب الكمال المطلق، وهواللَّه جل وعلا، دون أن تتحول هذه الوسيلة إلى مركز ثقل واعتماد. فالذكاء والخبرة والمادة والجنود كلّها ينبغي أن تكون‏مجرد وسيلة نحو الإقرار بوحدانية اللَّه وقدرته وجبروته وتحكمه بمجريات الأمور.

=============

#العولمة ومستقبل الحضارة الإسلامية

(وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ *رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ‏النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَبَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ‏يَشْكُرُونَ‏)(إبراهيم/37-35)

ها هو العالم يندفع بقوة نحو القرية العالمية الواحدة، وسنشهد بإذن اللَّه تعالى يوماً نجد فيه العلاقة بين إنسان وإنسان في‏أقصى العالم أوثق وأمتن بكثير ممّا هي عليه اليوم؛ علاقات الجيرة وزمالة المدرسة والدرب والعمل... فيا ترى ماذا أعدّالمسلمون لذلك اليوم؟ هل سيبقون حيث هم بانتظار أن تسحقهم عجلات الاندماج العالمي؟ أم سيصبّون اهتماماتهم‏ليكونوا أمّة قائدة لهذا التفاعل والاندماج، أو مشاركين؛ على الأقلّ؟

قبل سنين معدودة، كانت المحطات الفضائية العالمية حلماً، وكان الانترنيت نوعاً من الخيال، وكانت الصحافة القاريةنوعاً من التفكير غير العلمي.. ولكنّ ذلك كله قد تحقّق كلّه، بل وأصبح إنجازاً قابلاً للتطوير الواسع. وها هو النظام‏المدرسي أخذ يخطو خطوات واسعة باتجاه إلغاء البناء المدرسي واكتفاء الطالب بتلقي دروسه عبر أجهزة التلفاز أوالحاسوب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإدارات أو الشركات والمعامل، وذلك كله لتجاوز حاجز المكان واختصار الزمن‏وتوفير أكبر قدر ممكن من التفاهم. أمّا فيما يخصّ القطاع الاقتصادي فهو الآخر سيأخذ الصيغة العالمية ليحلّ محل‏الاقتصاد المحلي المحدود، ومن جملة بوادر تكريس هذا الاتجاه الإعلان عن منظمة التجارة العالمية، حيث سيتم عبرمقرراتها وأساليبها سحق مختلف أنواع العقبات في هذا الإطار.

نعم؛ لقد كنّا نقرأ بالأمس في كتاب (صدمة المستقبل‏) أو كتاب (الموجة الثالثة) أشياء نعتبرهاأحلاماً أو خرافات علمية.. ولكنّها تحقّقت، إذ نلمس ونرى حركة عالمية نحو الاندماج والاندكاك، فماذا أعددنا؟ وهل‏سنكون ضيوفاً على العالم الجديد، علماً أن الضيف فيه لن يكون مكرّماً معزّزاً؛ بل سيكون ذليلاً تابعاً مهاناً محكوماًبالعبودية، شاء أم أبى، فأين نحن من هذا السيل العرم؟!

الإسلام ومبدأ العولمة

إن رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم رفع راية العولمة والعالمية من قبل، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ اِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاس بَشيراًوَنَذيراًِ)(الأحزاب/45)، أو قوله سبحانه: (تَبارَك الَّذي نَزلَ الفرْقَانَ عَلَى عَبْده لِيكونَ لِلْعَالَمِينَ‏نَذِيراً)(الفرقان/1).

إذن؛ فراية العولمة كان قد حملها الرسول الأكرم وبشر بها من بعده الأئمة من أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام،ومنذ ذلك اليوم وحتّى هذه اللحظة، حيث يمر ما يزيد على ألف وأربع مائة سنة، تُرى هل فكرنا - نحن المسلمين- في‏حقيقة هذه العولمة، وكيفيّة التخطيط لها، وهل أنّ موقعنا منها موقع الضيوف أم المساهمين والمشاركين، أم القادة لها؟...

وفي إطار الإجابة على كل هذه التساؤلات أقول: إن هناك ثلاث نظريات في هذا الإطار.

النظرية الأولى: تواجه هذه الحقيقة بالتكذيب التام والعناد لكل ما يطرح ويدعم العولمة - من المنظور الإسلامي- من‏أدلّة واضحة وضوح الشمس، بل ويفضل هؤلاء المكذبون الانطواء على أنفسهم، ليكونوا مصداقاً لقول الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب‏عليه السلام: (وذلك ميّت الأحياء)(49).

أماّ النظرية الثانية: فهي التي يلفها اليأس والقنوط دون التطلع إلى التطور، وذلك بداعي الرهبة ممّا وصل إليه العالم‏وحققه من قفزات علمية هائلة. ومن الطبيعي أن كان هذا الواقع قد سلبهم الثقة بالنفس ومقوّمات الشخصية الكريمة،حتى لم يبق من تعاليم الدين لدى أصحاب هذه النظرية سوى رسوم وأسماء، ذلك لأنّ روح الرسالة الإلهية تتناقض‏تناقضاً كلياً مع اليأس والإحباط وعدم التوكلّ والتشكيك بقدرة اللَّه العلي العظيم على الأخذ بيد المؤمنين بهم‏وتسليمهم زمام المبادرة الإنسانية والحركة التاريخية عموماً.

ولكن النظرية الثالثة تملؤها الحياة والتفاؤل؛ إذ تنظر إلى التاريخ على أنه محكوم بسنن إلهية، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قدأخذ على نفسه أن يتيح الفرصة لمخلوقاته في هذه الحياة لتأخذ دورها وفق ما تبذل من مساعٍ وجهود لإثبات وجودهاوجدارتها في العيش والكدح والتقدم.

فإذا كان الأوربيون - في يوم من الأيام- عبارة عن مجموعة قبائل متناحرة، إلاّ أنّهم بعد ذلك تمكنوا من قيادة العالم،وأصبحت الشعوب والدول مجرّد تابع لها.

وتلك ألمانيا التي كادت أن تسيطر على العالم قد تفككت في ظل قوانين وقرارات الحلفاء، ولكنها عادت مرّةً أخرى‏لتصبح دولة موحدة مسيطرة على مساحة شاسعة من موازنات الاقتصاد العالمي، ولها كلمتها المسموعة في أوربا.

واليابانيون الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منهاري القوى والإمكانات، تحكمهم العزلة الدولية، ها هم اليوم‏قد تحوّلوا إلى رمز التطور ونموذج الإبداع التكنولوجي والمتانة الاقتصادية والتجارية، وتحاول مختلف الشعوب‏والدول التقرب إليهم والاستفادة من تجاربهم.

وليس هذا وذاك - في حقيقة الأمر- إلا مصداقاً لقول اللَّه سبحانه وتعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ‏أَسَأْتُمْ فَلَهَا) وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ‏). فالمسلمون الذين‏يمتلكون هذه المنطلقات الطيبة وأمثالها، كان من المفترض بهم التقدم على غيرهم، وهم إذا ما وجدوا أنفسهم متأخرين‏عن غيرهم بفعل أخطاء التطبيق وظلم الظلمة وتكالب الأعداد.. فليس من الجدير بهم النكوص والتراجع واليأس،لأنهم بذلك يكونون قد خرجوا عن حدود الدائرة الدينية، والعياذ باللَّه، إذ أنّ التكذيب أمر باطل، واليأس من روح‏اللَّه هو داء الكافرين باللَّه. بينما الإقبال على الحياة بإيمان وشجاعة وثقة بالنفس وتوكّل على اللَّه القائل: (إِن‏تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏) هو الكفيل بإعادة الروح إلى جسد الأمة الإسلامية، وهو الكفيل أيضاًبتقدم المسلمين على غيرهم، وما دون ذلك يعني التراجع والذل واستعباد الآخرين لهم، كما هو حاصل بالفعل، ويشعربه المسلمون في كل لحظة وفي كلّ مكان.

عالمية النبي إبراهيم‏عليه السلام‏

لقد أضفى اللَّه سبحانه وتعالى بإرادته القادرة على رسالة وشخصية النبي إبراهيم‏عليه السلام الصفة العالمية، وذلك لعمق‏الشمولية الحاصلة في تفاصيل هذه الرسالة المباركة، بالإضافة إلى كونه قد أصبح بحكمة اللَّه أباً للأنبياء من بعده في منطقةالجزيرة العربية وما حولها، وقد تجلت هذه الحقيقة بصورة أكبر حينما رفع قواعد البيت الحرام ليكون قبلة الناس إلى اللَّه‏ضمن عملية توحيد القلوب إلى خالقها؛ بل وأبعد من ذلك حينما دعا هذا النبي العظيم ربّه سبحانه وتعالى بأن يجعل‏أفئدة من الناس تهوي إلى من خلّفه من ذرية في وادي مكّة المقفر، وذلك في إيحاء مباشر إلى الفكر البشري عموماً، بأنّ‏التوجه إلى القبلة إنمّا هو وسيلة إلى التمحور والولاء لذرية النبي إبراهيم من الأنبياء والأئمةعليهم السلام، وذلك لأنهم يجسدون‏نهج اللَّه الناطق بين الناس، على اعتبار أنّ مهمة النبي إبراهيم والجهد الحثيث الذي بذله في هذا الإطار ليس من أجل أن‏يعاني الحجاج لقصد مجموعة من الأحجار وسط صحراء قاحلة، بل إن ذرية هذا النبي كان مقدّراً لها إقامة الدين، وهذه‏الذرية التي تضمّ رجال اللَّه تدعو إلى ربها بالحكمة؛ أي وفق خطط ومناهج مرسومة من قبل اللَّه نفسه.

ولمّا كان هؤلاء الرجال امتداداً طيباً لرسالة أبيهم إبراهيم‏عليه السلام؛ الرسالة التي من أولى خصائصها العالمية، فقد كان جديراًباتباع هذه الرسالة واتباع أولئك الرجال أن يقتدوا بها وبهم، فيكون نوع تفكيرهم تفكيراً أممياً لا يخضع للوساوس‏الشيطانية والدوافع المصلحية أو العنصرية أو القومية أو الطائفية أو الطبقية. وإنّه لمن المنطقي جداً أن تكون ممارسات‏ووسائل التطبيق لمثل هذا المنهج وهذا التفكير عالمية على مستواه.

المسلمون والثورة الحضارية

حينما أمرنا اللَّه عزّ وجل بالدعوة إلى دينه بين الناس كافّة، كان قد أمرنا بالضمن إيجاد المقدمات والوسائل لإنجاز هذه‏المهمة الكبيرة، وذلك كله لا يغيب عن عناية اللَّه ولطفه ونصره.

فاليوم أصبح من الصعب علينا تصور الاكتفاء بمنبر واحد يدعى فيه إلى اللَّه عز وجل، في وقت يستفيد فيه الأعداء من‏كل وسيلة تقنية كالمحطات الفضائية - مثلاً- لنشر أفكارهم الشيطانية المنحرفة.

بل لقد أصبح من غير المعقول الاقتصار على طريقة الدعوة إلى الإسلام نفسها التي كانت قبل مئات السنين - مثلاً-لاسيما وأنّ قضايا عديدة مستجدة تتطلب أشكالاً أخرى من المعالجة، كما يتبع ذلك توفير الوسائل اللازمة المناسبةللموضوع المراد طرحه وبحثه، والمناسبة لشكل وطبيعة ذهنية المراد توجيهه.

ولنا في هذا المجال التساؤل عن أنّ الأعداء إذا كانوا بصدد توسيع أفق تفكيرهم واستغلال ما يمكن استغلاله من وسائل‏لكسب تأييد وموافقة أكبر كمية من العقول أو الأهواء، بما في ذلك استغلال العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة لضمان‏تحقيق المصالح والنفوذ المباشر، إذا كان كلّ ذلك مفروغاً منه وفق تصريحات الأعداء أنفسهم، فلماذا يمتنع المسلمون‏الاستفادة ممّا أحلّ اللَّه لهم لنشر دين اللَّه بين خلق اللَّه؟! أو لنقل: لماذا يتعمّد البعض تحجيم تفكيرهم ويكتفون‏بالاهتمامات الضيقة رغم الإمكانات الكبيرة التي من الممكن توفيرها؟ فإذا كان توسيع الاهتمامات وتطويرالإمكانات، واستغلال الفرص، والتفكير على مستوى هموم العالم والتاريخ؛ إذا كان كل ذلك حراماً، فما هو الدليل؟!وإذا كان كل ذلك حلالاً أو واجباً، فلماذا هذا الإحجام والتكاسل والتناسي؟!!

أقول: لماذا لا نساهم في بناء حضارة في الثورة المعرفية، وهي الثورة الجديدة لهذا العصر؟ وما هو فعلنا أو ردّ فعلنا -على الأقل- تجاه ثورة المعلومات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية؟ خصوصاً وأن في السيرة النبوية كثيراً من‏الأحاديث والوقائع تشير إلى ضرورة سعي المسلمين نحو التقدم التقني، وعلى كافة الأصعدة؛ بل إنّ الآيات القرآنيةالخاصّة بصياغة شخصية الإنسان المؤمن، كلّها تدعوه إلى النظر إلى الحياة على أنها محطة للآخرة، وأن من المفترض‏الاستفادة من وسائل هذه المحطة لنيل أكبر قدر من الثواب والحسنات.

فنحن المسلمين مطالبون إذن بالقيام بثورة حضارية جديدة كبرى، فننطلق منها ونشارك ونساهم بكل وعي وشجاعةبناءً على ما تمليه علينا مصالح واستراتيجيات ديننا الحنيف، وألاّ نركن إلى التأثر بالجاهليات، وألاّ نبدي خلال ذلك مايحلو لنا من معاذير واهية. فمشكلة تأخرنا وهزائمنا هي مشكلتنا نحن دون غيرنا، ونحن الذين سندفع ثمنها في الدنيا وكذلك في الآخرة.

==============

#الهوامش

1) خصائص الأئمة للشريف الرضي، ص‏115.

2) بحار الأنوار، ج‏8، ص‏170.

3) المصدر، ج‏40، ص‏328.

4) بحار الأنوار، ج‏73، ص‏155.

5) نهج البلاغة، خطبة رقم‏209.

6) بحار الأنوار، ج‏59، ص‏291.

7) بحار الأنوار، ج‏6، ص‏134.

8) بحار الأنوار، ج‏71، ص‏135.

9) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏173.

10) بحار الأنوار، ج‏71، ص‏370.

11) بحار الأنوار، ج‏74، ص‏241.

12) بحار الأنوار، ج‏71، ص‏135.

13) بحار الأنوار، ج‏71، ص‏337.

14) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏143.

15) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏127.

16) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏129.

17) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏131.

18) بحار الأنوار، ج‏60، ص‏207.

19) نهج البلاغة، خطبة رقم‏27.

20) وسائل الشيعة، ج‏1، ص‏149.

21) بحار الأنوار، ج‏14، ص‏500.

22) بحار الأنوار، ج‏81، ص‏329.

23) بحار الأنوار، ج‏73، ص‏141.

24) بحار الأنوار، ج‏10، ص‏92.

25) بحار الأنوار،ج‏67، ص‏9.

26) بحار الأنوار، ج‏9، ص‏273.

27) نهج السعادة للشيخ المحمودي، ج‏7، ص‏398.

28) بحار الأنوار، ج‏70، ص‏128.

29) بحار الأنوار، ج‏2، ص‏71.

30) بحار الأنوار، ج‏96، ص‏262.

31) بحار الأنوار، ج‏16، ص‏199.

32) بحار الأنوار، ج‏1، ص‏150.

33) بحار الأنوار، ج‏7، ص‏249.

34) بحار الأنوار، ج‏64، ص‏295.

35) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏375.

36) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏375.

37) بحار الأنوار، ج‏67، ص‏288.

38) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏375.

39) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏377.

40) بحار الأنوار، ج‏68، ص‏395-394.

41) بحار الأنوار، ج‏99، ص‏77.

42) بحار الأنوار، ج‏74، ص‏191.

43) بحار الأنوار، ج‏1، ص‏117.

44) المصدر السابق.

45) بحار الأنوار، ج‏71، ص‏338.

46) بحار الأنوار، ج‏74، ص‏191.

47) بحار الأنوار، ج‏14، ص‏136.

48) بحار الأنوار، ج‏89، ص‏107.

49) بحار الأنوار، ج‏2، ص‏57.

==================

الفهرس العام

الباب الثالث 1

الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات 1

#المقدمة 1

#الفصل‏الأول‏ -رؤى قرآنية في الحضارة 2

#الإيمان والبواعث الحضارية 10

#أسس الحضارة في القرآن الكريم‏ 18

#بصائر الحضارة في سورة المائدة 24

#الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة 31

#الحوار بين الحضارات الإلهية 34

#الفصل‏الثاني -في السلوك‏ الحضاري‏ 40

التعارف منطلق الحضارة الإيمانية 40

#التوكّل وقود الحضارة 46

#التحدي مصنع الحضارة 52

#الرؤية الشاملة في الحضارة 57

#الحس الجمالي في الحضارة 62

#الحضارة وفن الحياة 65

#أصالة الحضارة 67

#الفصل‏الثالث‏ -في البناء الحضاري‏ 71

عوامل النهوض الحضاري‏ 71

#كيف نخلق البيئة الحضارية؟ 76

#العمل طريقنا إلى بناء الحضارة 80

#السبيل إلى الإصلاح الحضاري‏ 85

#الثقافة منطلق المسيرة الحضارية 91

#بناء المؤسسات ضرورة حضارية 98

#من معالم الحضارة الإسلامية 104

#من أجل حضارة إسلامية 109

#الفصل‏الرابع‏ -حضارتان‏ متقابلتان‏ 116

بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية 116

#الجاهلية الحديثة والحاجة إلى المعنويات‏ 123

#حضارة الروح تتحدى طغاة المال والقوة 128

#الحضارات بين الشكر وكفران النعم‏ 134

#حضارة في بيت العنكبوت‏ 139

#العولمة ومستقبل الحضارة الإسلامية 144

#الهوامش  .149*

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال  المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟ الباب الخامس قيم التقدم   في ا...