Translate

الخميس، 27 أبريل 2023

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد باب حد السرقة

بسم الله الرحمن الرحيم


إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد     باب حد السرقة

355 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ } - وَفِي لَفْظٍ : { ثَمَنُهُ - ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } .

 

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ ، أَصْلًا وَقَدْرًا ، أَمَّا الْأَصْلُ : فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ، وَشَذَّ الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَقَالُوا بِالْقَطْعِ فِيهِمَا ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّهُ حِكَايَةُ فِعْلٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فِعْلًا - عَدَمُ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ نُطْقًا . وَأَمَّا الْمِقْدَارُ : فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى أَنَّ النِّصَابَ رُبْعُ دِينَارٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي يُقَوَّمُ مَا عَدَا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ النِّصَابَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَيُقَوَّمُ مَا عَدَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ ، وَمَالِكٌ يَرَى : أَنَّ النِّصَابَ رُبْعُ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، وَكِلَاهُمَا أَصْلٌ ، وَيُقَوَّمُ مَا عَدَاهُمَا بِالدِّرْهَمِ . وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ : فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَنَّ الدِّينَارَ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَرُبْعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَعْنِي صَرْفَهُ ، وَلِهَذَا قُوِّمَتْ الدِّيَةُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْوَرِقِ ، وَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْفِضَّةَ أَصْلٌ فِي التَّقْوِيمِ فَإِنَّ الْمَسْرُوقَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَقُوِّمَ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ : دَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَصْلٌ فِي التَّقْوِيمِ وَإِلَّا كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الذَّهَبِ - الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ - أَوْلَى وَأَوْجَبَ ، عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّقْوِيمَ بِهِ . وَالْحَنَفِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيمَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " الْقَطْعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " يَقُولُونَ - أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ - فِي التَّأْوِيلِ مَا مَعْنَاهُ : إنَّ التَّقْوِيمَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ تَخْمِينِيٌّ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عِنْدَ عَائِشَةَ رُبْعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَيَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهَا أَكْثَرَ . وَقَدْ ضَعَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَشَنَّعَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا مَعْنَاهُ : إنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ لِتُخْبِرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ ، إلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ ، لِعِظَمِ أَمْرِ الْقَطْعِ . وَ " الْمِجَنُّ " بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ : التُّرْسُ ، مِفْعَلٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ وَالِاخْتِفَاءُ ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ " الْجِنُّ " ، وَكُسِرَتْ مِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الِاجْتِنَانِ ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَمَّا يُحَاذِرُهُ . قَالَ الشَّاعِرُ : فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أَتَّقِي ثَلَاثَ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ وَالْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ : مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ ، وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ ذِكْرِ " الثَّمَنِ " فَلَعَلَّهُ لِتَسَاوِيهِمَا عِنْدَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، أَوْ فِي ظَنِّ الرَّاوِي أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ ، وَإِلَّا فَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مَالِكُهُ لَمْ تُعْتَبَرْ إلَّا الْقِيمَةُ .

 

356 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا . }

 

هَذَا الْحَدِيثُ اعْتِمَادُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا وَقَوْلًا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَوْلٌ وَهُوَ أَقْوَى فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ فِي مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ - اتَّفَقَ أَنَّ السَّارِقَ الَّذِي قُطِعَ سَرَقَهُ - أَنْ لَا يُقْطَعَ مَنْ سَرَقَ مَا دُونَهُ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي الْقَطْعِ : فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي إبَاحَةِ الْقَطْعِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ فِيمَا دُونَهُ ، وَأَيْضًا : فَرِوَايَةُ الْفِعْلِ يَدْخُلُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ الْمُسْتَضْعَفِ فِي أَنَّ التَّقْوِيمَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ إلَى آخِرِهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَوِيٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي صَرِيحُهُ الْقَطْعَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يَقُولُونَ بِجَوَازِ الْقَطْعِ بِهِ . وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ النُّطْقُ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ ، وَمَرْتَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ .

 

357 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، فَقَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَاَيْمُ اللَّهِ : لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا } . وَفِي لَفْظٍ { كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا } .

 

قَدْ أُطْلِقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَفْظُ " السَّرِقَةِ " وَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ إطْلَاقُ جَحْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا رِوَايَةً وَهُوَ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ الْإِشْعَار الْعَادِيُّ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ ، اُخْتُلِفَ فِيهِ : هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَذْكُورَةُ سَارِقَةً ، أَوْ جَاحِدَةً ؟ وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي صُورَةِ جُحُودِ الْعَارِيَّةِ ، عَمَلًا بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ ، فَإِذَا أُخِذَ بِطَرِيقٍ صِنَاعِيٍّ - أَعْنِي فِي صَنْعَةِ الْحَدِيثِ - ضَعُفَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجُحُودِ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْجُحُودِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّهَا كَانَتْ جَاحِدَةً " عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " أَنَّهَا كَانَتْ سَارِقَةً " . وَأَظْهَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ النَّكِيرَ وَالتَّعَجُّبَ مِمَّنْ أَوَّلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ - الَّذِي رُوِيَ فِعْلًا - بِأَنْ اعْتَمَدَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ قَوْلًا فَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفًا ، فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَإِنَّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ حِينَئِذٍ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ فِعْلًا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ . وَالثَّانِي : يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَأْوِيلُ احْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي التَّقْوِيمِ ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا ، فَفِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْآنَ ، إلَّا أَنَّهُ هَهُنَا قَوِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاوِي ، إذَا كَانَ سَمِعَهُ لِرِوَايَةِ الْفِعْلِ أَنْ يُغَيِّرَهُ إلَى رِوَايَةِ الْقَوْلِ ، فَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْمُحَابَاةِ لِلْأَشْرَافِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظَةُ " إنَّمَا " هَهُنَا دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَصْرِ الْمُطْلَقِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِيهِمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِي الْإِهْلَاكَ ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَصْرٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ ، فَلَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِّ الْمَخْصُوصِ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا } عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ هَذَا الْمَخْرَجَ ، مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ ، وَقَدْ شَدَّدَ جَمَاعَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا . وَمَرَاتِبُهُ فِي الْقُبْحِ مُخْتَلِفَةٌ .

 

بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ

 

358 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ } .

 

قَالَ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ . لَا خِلَافَ فِي الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ أَرْبَعُونَ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُهُ : أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ : خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ : الْجَوَازُ . وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَحُدَّهُ بِالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ ، تَعْلِيلًا بِعُسْرِ الضَّبْطِ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ " أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ : هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ . } وَفِي الْحَدِيثِ " قَالَ : فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ ؟ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ ، فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ " فَفَسَّرَهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَالَ : أَيْ قُدِّرَ الضَّرْبُ الَّذِي ضُرِبَهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَال وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ : فَكَانَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ ضَرْبَةً لَا أَنَّهَا عَدَدًا أَرْبَعُونَ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي ، إنَّمَا قَايَسَ مِقْدَارَ مَا ضُرِبَهُ ذَلِكَ الشَّارِبُ فَكَانَ : مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ عَصًا ، فَلِذَلِكَ قَالَ " فَقَوَّمَهُ " أَيْ جَعَلَ قِيمَتَهُ أَرْبَعِينَ وَهَذَا عِنْدِي خِلَافُ الظَّاهِرِ . وَيُبْعِدُهُ : قَوْلُهُ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ } فَإِنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرْبِ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ . وَتَسْلِيطُ التَّأْوِيلِ عَلَى لَفْظَةِ قَوَّمَهُ " أَنَّهَا بِمَعْنَى " قَدَّرَ مَا وَقَعَ " فَكَأَنَّ أَرْبَعِينَ - أَقْرَبُ مِنْ تَسْلِيطِ هَذَا صِدْقَ قَوْلِنَا " جَلَدَ أَرْبَعِينَ " حَقِيقَةً . وَقَوْلُهُ " فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ " وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ " أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ " أَيْ اجْعَلْهُ ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَالْقَوْلِ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ . وَقِيلَ : إنَّ الَّذِي أَشَارَ بِالثَّمَانِينَ : هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْقِيَاسِ أَوْ الِاسْتِحْسَانَ . وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ وِلَايَةِ عُمَرَ ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ ثَمَانُونَ ، عَلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ .

 

 

359 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ . }

 

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا : إثْبَاتُ التَّعْزِيرِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا ، لِمَا يَقْتَضِيه مِنْ جَوَازِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونِهَا . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَيُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ هَذَا . وَفَوْقَ الْحُدُودِ عَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ وَصَاحِبِهَا ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ وَعَلَى هَذَا : فَفِي الْمُعْتَبَرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَدْنَى الْحُدُودِ فِي حَقِّ الْمُعَزَّرِ فَلَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ عَلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ضَرْبَةً لِيَكُونَ دُونَ حَدِّ الشُّرْبِ وَلَا فِي تَعْزِيرِ الْعَبْدِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَر أَدْنَى الْحُدُودِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ أَيْضًا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا أَيْضًا . وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ : أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَدِّ الْأَحْرَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ تَعْزِيرُ الْعَبْدِ عَلَى عِشْرِينَ ، وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشَرَةٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ : أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ وَاخْتَلَفَ الْمُخَالِفُونَ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْعُذْرِ عَنْهُ فَقَالَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ . وَفِعْلُ بَعْضِهِمْ أَوْ فَتْوَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ : فِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ ، أَوْ مِنْ مِائَةٍ " وَصَبِيغٌ هَذَا - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَآخِرُهُ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ . وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى الْخُصُوصِ . وَمَا ذَكَرَهُ مُنَاسَبَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ التَّخْصِيصِ . قَالَ هَذَا الْمَالِكِيُّ : وَتَأَوَّلُوهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ " أَيْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرَةِ حُدُودُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ . وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَصْرِ : أَنَّهُ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْحَدِّ بِهَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ فِقْهِيٌّ ، وَأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ : لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ - هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ - فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا التَّأْدِيبَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ عَنْ مُحَرَّمٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا - أَوَّلًا - خُرُوجٌ فِي لَفْظَةِ " الْحَدِّ " عَنْ الْعُرْفِ فِيهَا . وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْعَصْرِيُّ : يُوجِبُ النَّقْلَ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ . وَثَانِيًا : أَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَجَزْنَا فِي كُلِّ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ : أَنْ يُزَادَ لَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَخْتَصُّ الْمَنْعُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إذْ مَا عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا الَّتِي لَا تَجُوزُ فِيهَا الزِّيَادَةُ لَيْسَ إلَّا مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ فِيهِ مَمْنُوعٌ . فَلَا يَبْقَى لِخُصُوصِ مَنْعِ الزِّيَادَةِ مَعْنًى وَهَذَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمَالِكِيُّ فِي إطْلَاقِهِ لِحُقُوقِ اللَّهِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَنْهُ بِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا التَّأْدِيبَاتُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَمَعَ هَذَا فَيُحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهَا عَنْ كَوْنِهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ . وَثَالِثًا - عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ وَمَا قَالَهُ الْعَصْرِيُّ ، فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ - مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ " فَإِنَّهُ يَقْطَعُ دَابِرَ هَذَا الْوَهْمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُصْطَلَحَهُمْ فِي الْحُدُودِ : إطْلَاقُهَا عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْحَدِّ " فَإِنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَنْتَهِي إلَى مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ، فَهُوَ ثَمَانُونَ وَإِنَّمَا الْمُنْتَهَى إلَيْهِ : هِيَ الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَاتُ ، وَقَدْ ذَهَبَ أَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ . وَالْحَدِيثُ مُتَعَرِّضٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ ، وَيَبْقَى مَا دُونَهَا لَا تَعَرُّضَ لِلْمَنْعِ فِيهِ وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ فِيهِ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يُفَوَّضُ إلَى الْوُلَاةِ : تَخْيِيرُ تَشَهٍّ ، بَلْ لَا بُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ . وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ مُؤَدِّبَ الصِّبْيَانِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ . فَإِنْ زَادَ اُقْتُصَّ مِنْهُ ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ يَبْعُدُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ الْمَتِينِ عَلَيْهِ . وَلَعَلَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ أَنَّ الثَّلَاثَ : اُعْتُبِرَتْ فِي مَوَاضِعَ وَهُوَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ ، وَفِي ذَلِكَ ضَعْفٌ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - مِنْ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ هُوَ هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ - مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ .

 

كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ

 

 

360 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ . }

 

فِيهِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَةَ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ مُطْلَقًا ، وَالْفُقَهَاءُ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ ، فَمَنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْوِلَايَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا إنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ ، وَطَلَبُهَا إنْ لَمْ تُعْرَضْ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَنَعْنَا وِلَايَةَ الْفُضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَلَمْ نَمْنَعْ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ فَهَهُنَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْوِلَايَةِ ، وَأَنْ يَسْأَلَهَا ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ الطَّلَبَ وَكَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَهُ ، وَقَالَ : إنْ وَلَّاهُ انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ ، وَقَدْ اُسْتُخْطِئَ فِيمَا قَالَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكَرَاهِيَةِ الْقَضَاءِ ، لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِيهِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَانَ خَطَرُ الْوِلَايَةِ عَظِيمًا ، بِسَبَبِ أُمُورٍ فِي الْوَالِي ، وَبِسَبَبِ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهُ كَانَ طَلَبُهَا تَكَلُّفًا ، وَدُخُولًا فِي غَرَرٍ عَظِيمٍ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِعَدَمِ الْعَوْنِ ، وَلَمَّا كَانَتْ إذَا أَتَتْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا هَذَا التَّكَلُّفُ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالْعَوْنِ عَلَى أَعْبَائِهَا وَأَثْقَالِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَلْطَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَبْدِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى إصَابَةِ الصَّوَابِ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ ، تَفَضُّلًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ وَالْهِدَايَةِ إلَى النَّجْدَيْنِ ، هِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ ، كَثُرَ فِيهَا الْكَلَامُ فِي فَنِّهَا ، وَاَلَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْآن .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لِلْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ ، وَمَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْبُدَاءَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، وَالْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ . وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّ الْفَاءَ تَقْضِي التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ مُسْتَعْقِبًا لِرُؤْيَةِ الْخَيْرِ فِي الْحِنْثِ ، فَإِذَا اسْتَعْقَبَهُ التَّكْفِيرُ تَأَخَّرَ الْحِنْثُ ضَرُورَةً ، وَإِنَّمَا قُلْنَا " إنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ " لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاوِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا " فَكَفِّرْ ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَبَيْنَ قَوْلِنَا " فَافْعَلْ هَذَيْنِ " ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ تَرْتِيبًا وَلَا تَقْدِيمًا ، فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِالْوَاوِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ ، وَقَالَ : إنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ غَسْلِ الْوَجْهِ ، بِسَبَبِ الْفَاءِ ، وَإِذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْوَجْهِ وَجَبَ التَّرْتِيبُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ اتِّفَاقًا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : يَقْتَضِي الْحَدِيثُ تَأْخِيرَ مَصْلَحَةِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ إذَا كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا ، بِنَصِّهِ . وَأَمَّا مَفْهُومُهُ : فَقَدْ يُشِيرُ بِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْخَيْرِ فِي غَيْرِهَا مَطْلُوبٌ ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : ( ) { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا } وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ، وَيَكُونُ مَعْنَى " عُرْضَةً " أَيْ مَانِعًا ، وَ " أَنْ تَبَرُّوا " بِتَقْدِيرِ : مَا أَنْ تَبَرُّوا .

 

361 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي وَاَللَّهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَتَحَلَّلْتُهَا . }

 

فِي هَذَا الْحَدِيثِ : تَقْدِيمُ مَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَتَحَلَّلْتُهَا " التَّكْفِيرَ عَنْهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إتْيَانَ مَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ فَإِنَّ التَّحَلُّلَ نَقِيضُ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ : هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِنْ مُوَافَقَةِ مُقْتَضَاهَا ، فَيَكُونُ التَّحَلُّلُ الْإِتْيَانَ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا ، فَإِنْ قُلْتَ : فَيَكْفِي عَنْ هَذَا قَوْلُهُ " أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " فَإِنَّهُ بِإِتْيَانِهِ إيَّاهُ تَحْصُلُ مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا فَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَئِذٍ " وَتَحَلَّلْتُ " فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ " أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " - قُلْتُ : فِيهِ فَائِدَةُ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى كَوْنِ مَا فَعَلَهُ مُحَلِّلًا . وَالْإِتْيَانُ بِهِ بِلَفْظِهِ يُنَاسِبُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ صَرِيحًا ، فَإِذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ مِمَّا إذَا أَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِلْزَامِ . وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَرْجِيحِ الْحِنْثِ عَلَى الْوَفَاءِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَهَذَا " الْخَيْرُ " الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ الْحِنْثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَفْعُولِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ مَثَلًا . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ سَبَبٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ " .

 

362 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ . } 363 - وَلِمُسْلِمٍ { فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت } . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ " فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهَا ، ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا " .

 

يَعْنِي : حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا . الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَبِالصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ ، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ : فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمَنْعِ هَلْ هُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ ، أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؟ وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : مَا يُبَاحُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ . وَالثَّانِي : مَا تَحْرُمُ الْيَمِينُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، كَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ ، وَاَللَّاتِي وَالْعُزَّى ، فَإِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَهُوَ كُفْرٌ كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُعَلِّقًا لِلْقَوْلِ فِيهِ ، حَيْثُ يَقُولُ " فَإِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَكُفْرٌ ، وَإِلَّا فَحَرَامٌ " . الْقَسَمُ بِالشَّيْءِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَسَيَأْتِي حَدِيثٌ يَدُلُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْكُفْرِ لِمَنْ حَلَفَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِدَلَالَةِ الْيَمِينِ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْظِيمِ لَهُ . الثَّالِثُ : مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْتَضِي تَعْظِيمُهُ كُفْرًا . وَفِي قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا " مُبَالَغَةٌ فِي الِاحْتِيَاطِ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى اللِّسَانِ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا .

 

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمْ يَقُلْ ، فَطَافَ بِهِنَّ ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : نِصْفَ إنْسَانٍ . قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ : لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ . }

 

قَوْلُهُ " قِيلَ لَهُ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " يَعْنِي قَالَ لَهُ الْمَلَكُ فِيهِ دَلِيلٌ : عَلَى أَنَّ إتْبَاعَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ بِالْمَشِيئَةِ : يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَمْ يَحْنَثْ " وَفِيهِ نَظَرٌ . وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُرَدَّ الْمَشِيئَةُ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ مَثَلًا " لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَأَرَادَ : رَدَّ الْمَشِيئَةِ إلَى الدُّخُولِ أَيْ إنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ ، وَلَا يَحْنَثُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ . الثَّانِي : أَنْ يَرُدَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ إلَى نَفْسِ الْيَمِينِ فَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ ، لِوُقُوعِ الْيَمِينِ ، وَتَيَقُّنِ مَشِيئَةِ اللَّهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُذْكَرَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } لَا عَلَى قَصْدِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ . وَلَا تَعَلُّقَ لِلْحَدِيثِ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ ، وَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَالِكٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَيُوقِعُ الطَّلَاقَ ، وَإِنْ عُلِّقَ بِالْمَشِيئَةِ ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ قَدْ شَاءَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لِتَقْرِيرِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي الْيَمِينِ مَعَ النِّيَّةِ ، كَالصَّرِيحِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ " لَأَطُوفَنَّ " لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ ، لِأَجْلِ اللَّازِمِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى قَوْلِهِ " لَأَطُوفَنَّ " ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْيَمِينَ تَلْزَمُ بِمِثْلِ هَذَا فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، فَيُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ ، وَتَقْدِيرِ اللَّفْظِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صَرِيحًا فِي الْمَحْكِيِّ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي الْحِكَايَةِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي الْحِكَايَةِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ " وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ " فَقَدْ قَالَ " لَأَطُوفَنَّ " فَإِنَّ اللَّافِظَ بِالْمُرَكَّبِ لَافِظٌ بِالْمُفْرَدِ . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ " يُرَادُ بِهِ : أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ مَا أَرَادَ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ : جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ ، فَإِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ - أَعْنِي قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا " - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَحْيٍ وَإِلَّا لَوَجَبَ وُقُوعُ مَخْبَرِهِ . وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ فِي الْمَاضِي وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَضْعَفَ مِنْ هَذَا وَأَجَازَ الْحَلِفَ فِي صُورَةٍ ، بِنَاءً عَلَى قَرِينَةٍ ضَعِيفَةٍ . وَأَمَّا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : فَإِنَّهُ دَلَّ لَفْظُهُ عَلَى احْتِمَالٍ فِي هَذَا الْجَوَازِ وَتَرَدُّدٍ ، أَوْ عَلَى نَقْلِ خِلَافٍ - أَعْنِي الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ - ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّنَّ كَذَلِكَ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْيَمِينِ فِي اللَّفْظِ : أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ " قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لَمَا أَفَادَ قَوْلُهُ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ تَأَدُّبًا ، لَا لِرَفْعِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ . وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَمْ يَحْنَثْ } مَعَ احْتِمَالِهِ لِلتَّأْوِيلِ .

 

 

365 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } وَنَزَلَتْ { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ " .

 

" يَمِينُ الصَّبْرِ " هِيَ الَّتِي يُصْبِرُ فِيهَا نَفْسَهُ عَلَى الْجَزْمِ بِالْيَمِينِ وَ " الصَّبْرُ " الْحَبْسُ ، فَكَأَنَّهُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَهِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ . وَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ " الْغَمُوسُ " أَيْضًا . وَفِي الْحَدِيثِ : وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِفَاعِلِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ : يَقْتَضِي تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى . وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَبَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ : طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُلُ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحُفُّ بِالْقَضَايَا .

 

366 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شَاهِدَاكَ ، أَوْ يَمِينُهُ قُلْت : إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ . }

 

هَذَا الْحَدِيثُ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ كَالْأَوَّلِ وَفِيهِ شَيْءٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ ، وَهُوَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى غَرِيمِهِ شَيْئًا ، فَأَنْكَرَهُ وَأَحْلَفَهُ ثُمَّ أَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْلَافِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ فِي تَرْكِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَتَوَجَّهُ لَهُ . وَرُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَاهِدَاكَ ، أَوْ يَمِينُهُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ } . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ ، فَلَوْ أَجَزْنَا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ التَّحْلِيفِ : لَكَانَ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا - أَعْنِي الْيَمِينَ ، وَإِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ - مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي : أَنَّ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا . وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ نَفْيُ طَرِيقٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ ، فَيَعُودُ الْمَعْنَى إلَى حَصْرِ الْحُجَّةِ فِي هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ - أَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ - إلَّا أَنَّ هَذَا قَلِيلُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَاظَرَةِ . وَفَهْمُ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ نَافِعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّظَرِ . وَلِلْأُصُولِيَّيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَحْثٌ ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذَا حَقَّ التَّنْبِيهِ - أَعْنِي اعْتِبَارَ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ - وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِيهِ إلَّا أَحَدُ مَشَايِخِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ قَبْلَهُ بَعْضُ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الْمَالِكِيِّينَ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ . وَهُوَ عِنْدِي قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ ، نَافِعَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي نَفْسِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنَاظِرَ الْجَدَلِيَّ : قَدْ يُنَازَعُ فِي الْمَفْهُومِ وَيَعْسُرُ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ } عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ .

 

حديث من حلف على يمين بملة غير الإسلام

 

367 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ { ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ ، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ . } وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ . } وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ، لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا قِلَّةً . }

 

فِيهِ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَلِفُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَة هُوَ الْقَسَمُ بِهِ وَإِدْخَالُ بَعْضِ حُرُوفِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ " وَاَللَّهِ ، وَالرَّحْمَنِ " ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّيْءِ يَمِينٌ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى كَذَا ، وَمُرَادُهُمْ : تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهِ وَهَذَا مَجَازٌ وَكَأَنَّ سَبَبَهُ مُشَابَهَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ الْحِنْثِ أَوْ الْمَنْعِ . إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَنَقُولُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ " كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا " وَالْكَذِبُ يَدْخُلُ الْقَضِيَّةَ الْإِخْبَارِيَّةَ الَّتِي يَقَعُ مُقْتَضَاهَا تَارَةً ، وَتَارَةً لَا يَقَعُ . وَأَمَّا قَوْلُنَا " وَاَللَّهِ " وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَيْسَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهِيَ لِلْإِنْشَاءِ - أَعْنِي إنْشَاءَ الْقَسَمِ - فَتَكُونُ صُورَةُ هَذَا الْيَمِين عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ " . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَاضِي ، مِثْل أَنْ يَقُولَ " إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " . فَأَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ - فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً ، وَجَعَلَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ " هُوَ كَمَا قَالَ " . وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَ بِالْمَاضِي : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ . فَقِيلَ : إنَّهُ لَا يُكَفَّرُ ، اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ وَقِيلَ : يُكَفَّرُ ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ مَعْنًى ، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ " هُوَ يَهُودِيٌّ " ، قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُكَفَّرُ بِالْحَلِفِ يُكَفَّرْ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ ، حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } هَذَا مِنْ بَابِ مُجَانَسَةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِلْجِنَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ . وَيُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إلَّا أُذِنَ لَهُ فِيهِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ ، عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ الْقَاتِلِ بِمَا قَتَلَ بِهِ ، مُحَدَّدًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحَدَّدٍ - خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - اقْتِدَاءً بِعِقَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَاتِلِ نَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْيَهُودِيِّ ، وَحَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ . وَهَذَا الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَاسُ بِأَفْعَالِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَشْرُوعٍ لَنَا فِي الدُّنْيَا ، كَالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ ، وَإِلْسَاعِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ ، وَسَقْيِ الْحَمِيمِ الْمُقَطِّعِ لِلْأَمْعَاءِ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَمَا لَنَا طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إلَّا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا ، أَوْ قِيَاسٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ عِنْد الْقِيَاسِيِّينَ وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ حُكْمًا ، أَمَّا مَا كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا وَلَيْسَ مَا نَعْتَقِدَهُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَيْضًا بِالْمُبَاحِ لَنَا فَإِنَّ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ بِعِبَادِهِ ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ بِهِمْ إلَّا مَا أُذِنَ لَنَا فِيهِ ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : التَّصَرُّفَاتُ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ لِلشَّيْءِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَصَرُّفَاتُ التَّنْجِيزِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ ، أَوْ بَاعَهُ ، أَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُتَعَلِّقًا بِهِ فَهَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ لَاغِيَةٌ اتِّفَاقًا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي الْعِتْقِ خَاصَّةً ، أَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا : يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ . الثَّانِي : التَّصَرُّفَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْكِ ، كَتَعَلُّقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ مَثَلًا ، فَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَالشَّافِعِيُّ يُلْغِيه كَالْأَوَّلِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرَانِهِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُقَارِبُهُ ، وَمُخَالِفُوهُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى التَّنْجِيزِ ، أَوْ يَقُولُونَ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّ التَّنْفِيذَ إنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْمِلْكِ ، فَالطَّلَاقُ - مَثَلًا - لَمْ يَقَعْ قَبْلَ الْمِلْكِ ، فَمِنْ هُنَا يَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ . وَهَهُنَا نَظَرٌ دَقِيقٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ - أَعْنِي تَعْلِيقَهُ بِالْمِلْكِ - وَبَيْنَ النَّذْرِ فِي ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ . وَاسْتَبْعَدَ قَوْمٌ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ وَمَا يُقَارِبُهُ بِالتَّنْجِيزِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا تَقُومُ بِهِ فَائِدَةٌ يَحْسُنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَتْ جِهَةُ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ بِقَوِيَّةٍ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا : فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً ، وَفِي أَثْنَائِهَا فَائِدَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الشُّيُوعُ وَالشُّهْرَةُ لِبَعْضِهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي حُصُولَ الْفَائِدَةِ عِنْدَ تَأْسِيسِ الْأَحْكَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } فِيهِ سُؤَالٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ كَقَتْلِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، أَوْ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ؟ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحْكَامَ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَلَعْنَهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ : فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّسَاوِي فِي الْإِثْمِ ، أَوْ فِي الْعِقَابِ ؟ وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَفْسَدَةِ الْفِعْلِ ، وَلَيْسَ إذْهَابُ الرُّوحِ فِي الْمَفْسَدَةِ كَمَفْسَدَةِ الْأَذَى بِاللَّعْنَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْجَرَائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ ، بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَإِنَّ الْخَيْرَاتِ مَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدَ شُرُورٌ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ الْإِمَامُ - يَعْنِي الْمَازِرِيَّ - : الظَّاهِرُ مِنْ الْحَدِيثِ تَشْبِيهُهُ فِي الْإِثْمِ ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ قَطْعٌ عَنْ الرَّحْمَةِ ، وَالْمَوْتَ قَطْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَالَ الْقَاضِي ، وَقِيلَ : لَعْنَتُهُ تَقْتَضِي قَصْدَهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْعَهُمْ مَنَافِعَهُ ، وَتَكْثِيرَ عَدَدِهِمْ بِهِ كَمَا لَوْ قَتْلَهُ ، وَقِيلَ : لَعْنَتُهُ تَقْتَضِي قَطْعَ مَنَافِعِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَنْهُ ، وَبُعْدَهُ مِنْهَا بِإِجَابَةِ لَعْنَتِهِ فَهُوَ كَمَنْ قُتِلَ فِي الدُّنْيَا ، وَقُطِعَتْ عَنْهُ مَنَافِعُهُ فِيهَا ، وَقِيلَ : الظَّاهِرُ مِنْ الْحَدِيثِ : تَشْبِيهٌ فِي الْإِثْمِ ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : اسْتِوَاؤُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ ، وَأَقُولُ : هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَلْخِيصٍ وَنَظَرٍ . أَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الْإِمَامِ - مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ - فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ التَّشْبِيهُ وَالِاسْتِوَاءُ فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ وَالْإِثْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقَعَ فِي مِقْدَارِ الْإِثْمِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ - قَلَّتْ أَوْ عَظُمَتْ - فَهِيَ مُشَابِهَةٌ أَوْ مُسْتَوِيَةٌ مَعَ الْقَتْلِ فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ ، فَلَا يَبْقَى فِي الْحَدِيثِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ : تَعْظِيمُ أَمْرِ اللَّعْنَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالْقَتْلِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ وَهُوَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَفْسَدَةِ بَيْنَ إزْهَاقِ الرُّوحِ وَإِتْلَافِهَا ، وَبَيْنَ الْأَذَى بِاللَّعْنَةِ ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الْإِمَامِ - مِنْ قَوْلِهِ : إنَّ اللَّعْنَةَ قَطْعٌ عَنْ الرَّحْمَةِ ، وَالْمَوْتَ قَطْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ - فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَنْ نَقُولَ : اللَّعْنَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْإِبْعَادِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّشْبِيهُ . وَالثَّانِي : أَنْ تُطْلَقَ اللَّعْنَةُ عَلَى فِعْلِ اللَّاعِنِ ، وَهُوَ طَلَبُهُ لِذَلِكَ الْإِبْعَادِ بِقَوْلِهِ " لَعَنَهُ اللَّهُ " مَثَلًا ، أَوْ بِوَصْفِهِ لِلشَّخْصِ بِذَلِكَ الْإِبْعَادِ بِقَوْلِهِ " فُلَانٌ مَلْعُونٌ " وَهَذَا لَيْسَ بِقَطْعٍ عَنْ الرَّحْمَةِ بِنَفْسِهِ ، مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَابَةُ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَسَبُّبًا إلَى قَطْعِ التَّصَرُّفِ ، وَيَكُونُ نَظِيرُهُ : التَّسَبُّبَ إلَى الْقَتْلِ ، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّسَبُّبَ إلَى الْقَتْلِ بِمُبَاشَرَةِ الْحَزِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ : مُفْضٍ إلَى الْقَتْلِ بِمُطَّرِدِ الْعَادَةِ فَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةُ اللَّعْنِ مُفْضِيًا إلَى الْإِبْعَادِ الَّذِي هُوَ اللَّعْنُ دَائِمًا : لَاسْتَوَى اللَّعْنُ مَعَ مُبَاشَرَةِ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ الْإِيرَادُ عَلَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي ، مِنْ أَنَّ لَعْنَتَهُ لَهُ : تَقْتَضِي قَصْدَهُ إخْرَاجَهُ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فَإِنَّ قَصْدَهُ إخْرَاجَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَهُ كَمَا يَسْتَلْزِمُ مُقَدِّمَاتُ الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا حَكَاهُ مِنْ أَنَّ لَعْنَتَهُ تَقْتَضِي قَطْعَ مَنَافِعِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَنْهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ : إنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ ، وَقَدْ لَا تُجَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَحْصُلُ انْقِطَاعُهُ عَنْ مَنَافِعِهِ ، كَمَا يَحْصُلُ بِقَتْلِهِ وَلَا يَسْتَوِي الْقَصْدُ إلَى الْقَطْعِ بِطَلَبِ الْإِجَابَةِ ، مَعَ مُبَاشَرَةِ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ ، وَيُحْتَمَل مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ ، أَوْ بَعْضِهِ : أَنْ لَا يَكُونَ تَشْبِيهًا فِي حُكْمٍ دُنْيَوِيٍّ ، وَلَا أُخْرَوِيٍّ ، بَلْ يَكُونُ تَشْبِيهًا لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ كَالْقَطْعِ . وَالْقَطْعُ - مَثَلًا فِي بَعْضِ مَا حَكَاهُ - أَيْ قَطَعَهُ عَنْ الرَّحْمَةِ ، أَوْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ حَيَاتِهِ وَفِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرَ بِهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي اسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْمِ : أَنَّا نَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَفْسَدَةَ اللَّعْنِ مُجَرَّدُ أَذَاهُ ، بَلْ فِيهَا - مَعَ ذَلِكَ - تَعْرِيضُهُ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِيهِ ؛ بِمُوَافَقَةِ سَاعَةٍ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ لَا تُوَافِقُوا سَاعَةَ } - الْحَدِيثَ " وَإِذَا عَرَّضَهُ بِاللَّعْنَةِ لِذَلِكَ : وَقَعَتْ الْإِجَابَةُ ، وَإِبْعَادُهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ قَطْعًا ، وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : أَعْظَمُ ضَرَرًا بِمَا لَا يُحْصَى ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ مُسَاوِيًا أَوْ مُقَارِبًا لِأَخَفِّهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ . وَمَقَادِيرُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ وَأَعْدَادُهُمَا : أَمْرٌ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِهِ .

 

بَابُ النَّذْرِ

 

368 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْمًا - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ . }

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَالنُّذُورُ ثَلَاثَةُ أَقْسَام : أَحَدُهَا : مَا عُلِّقَ عَلَى وُجُودِ نِعْمَةٍ ، أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ فَوُجِدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ . وَالثَّانِي : مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ لِقَصْدِ الْمَنْعِ أَوْ الْحَثِّ كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا . وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " . وَالثَّالِثُ : مَا يُنْذَرُ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِشَيْءٍ كَقَوْلِهِ " لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا " فَالْمَشْهُورُ : وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي أَرَدْنَاهُ بِقَوْلِنَا " النَّذْرُ الْمُطْلَقُ " وَأَمَّا مَا لَمْ يُذْكَرْ مَخْرَجُهُ ، كَقَوْلِهِ " لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ " هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ مَالِكٌ : إنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ . وَقَدْ تَصَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْعِبَادَاتِ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ لَازِمًا بِالنَّذْرِ عِنْدَهُمْ ، فَتَكُونُ فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ : عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ " لَيْلَةً " وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ وَقَدْ أُوِّلَ قَوْلُهُ " لَيْلَةً " عَلَى الْيَوْمِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِاللَّيْلَةِ عَنْ الْيَوْمِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " يَوْمًا " .

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنْ نَذْرَ الْكَافِرِ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ ، وَيَحْتَاجُ - عَلَى هَذَا - إلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِعِبَادَةٍ تُمَاثِلُ مَا الْتَزَمَ فِي الصُّورَةِ ، وَهُوَ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا وَفَاءً بِالنَّذْرِ ، لِمُشَابَهَتِهَا إيَّاهُ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ .

 

369 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ ، وَقَالَ : إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ . وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } .

 

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ أَنَّ نَذْرَ الطَّاعَةِ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا ، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : يَقْتَضِي أَحَدَ أَقْسَامِ النَّذْرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ غَرَضٍ ، أَوْ دَفْعُ مَكْرُوهٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ " وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " وَفِي كَرَاهَةِ النَّذْرِ إشْكَالٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةِ : تَقْتَضِي أَنَّ وَسِيلَةَ الطَّاعَةِ طَاعَةٌ ، وَوَسِيلَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ ، وَيَعْظُمُ قُبْحُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَكَذَلِكَ تَعْظُمُ فَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ ، وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ وَسِيلَةً إلَى الْتِزَامِ قُرْبَةٍ لَزِمَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً ، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقِسْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِ النَّذْرِ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ - فَذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَوْجُودُ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ : لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ طَلَبِ الْعِوَضِ ، وَتَوْقِيفِ الْعِبَادَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْغَرَض ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الْتِزَام الْعِبَادَةِ وَالنَّذْرِ بِهَا مُطْلَقًا ، وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الْبَخِيلَ لَا يَأْتِي بِالطَّاعَةِ إلَّا إذَا اتَّصَفَتْ بِالْوُجُوبِ فَيَكُونُ النَّذْرُ : هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ فِعْلَ الطَّاعَةِ ، لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْوُجُوبُ لَتَرَكَهُ الْبَخِيلُ ، فَيَكُونُ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا : مِمَّا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلُ ، إلَّا أَنَّ لَفْظَةَ " الْبَخِيلِ " هُنَا قَدْ تُشْعِرُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ : فَاتِّبَاعُ النُّصُوصِ أَوْلَى . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ : أَنَّ الْبَخِيلَ لَا يُعْطِي طَاعَةً إلَّا فِي عِوَضٍ وَمُقَابِلٍ يَحْصُلُ لَهُ ، فَيَكُونُ النَّذْرُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي اسْتَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الطَّاعَةَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا يَأْتِي بِخَيِّرٍ " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " الْبَاءُ " بَاءَ السَّبَبِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَا يَأْتِي بِسَبَبِ خَيْرٍ فِي نَفْسِ النَّاذِرِ وَطَبْعِهِ فِي طَلَبِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ ، وَهُوَ فِعْلُ الطَّاعَةِ الَّتِي نَذَرَهَا وَلَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْخَيْرِ : حُصُولُ غَرَضِهِ .

 

370 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ : لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ . }

 

نَذَرَ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ : لَازِمٌ عِنْدَ مَالِكٍ مُطْلَقًا وَتَعْلِيقًا فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " وَلْتَرْكَبْ " فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَةِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَشْيِ فَإِنَّهَا تَرْكَبُ وَفِيمَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ الرُّكُوبِ : تَفْصِيلٌ مَذْهَبِيٌّ عِنْدَهُمْ .

 

371 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ { اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاقْضِهِ عَنْهَا } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْمَنْذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَقَوْلُهُ " فِي نَذْرٍ " هُوَ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ : مَا كَانَ النَّذْرُ . وَقَدْ انْقَسَمَتْ الْعِبَادَةُ إلَى مَالِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ : وَالْمَالِيَّةُ : لَا إشْكَالَ فِي دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهَا ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْمَيِّت وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ : فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ ، كَالصَّوْمِ .

 

 

372 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : { عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي : أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي ، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ إخْرَاجِ كُلِّهِ فِي الصَّدَقَةِ . وَقَدْ قَسَّمُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَاقَةِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْبِرُ : لَمْ يُكْرَهْ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا شُرِّعَتْ الْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ . وَفِيهَا مَصْلَحَتَانِ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَصْلُحُ لِلْمَحْوِ إحْدَاهُمَا : الثَّوَابُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهَا وَقَدْ تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَازَنَةُ ، فَتَمْحُو أَثَرَ الذَّنْبِ . وَالثَّانِيَةُ : دُعَاءُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ } . وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُلِّ مَالِهِ : اكْتَفَى مِنْهُ بِالثُّلُثِ . وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَتَى بِهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ بِتَنْجِيزِ صَدَقَةٍ ، حَتَّى يَقَعَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ عَنْ نِيَّةِ قَصْدِ فِعْلِ مُتَعَلَّقِهَا وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَأَنْ يَمْسِكَ بَعْضَ مَالِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ إيقَاعِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْ هُوَ مُحْتَمَلٌ لَهُ ، وَكَيْفَمَا كَانَ : فَتَضْعُفُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ ، وَهُوَ تَنْجِيزُ الصَّدَقَةِ بِكُلِّ الْمَالِ نَذْرًا مُطْلَقًا ، أَوْ مُعَلَّقًا .

 

بَابُ الْقَضَاءِ

 

373 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي لَفْظٍ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . }

 

هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْكَانِ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ ، لِكَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَقَوْلُهُ " فَهُوَ رَدٌّ " أَيْ مَرْدُودٌ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ . وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَمْنُوعَةِ ، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتِهَا . وَاسْتُدِلَّ بِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ : يَقْتَضِي الْفَسَادَ . نَعَمْ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا يَقْتَضِيه الْحَدِيثُ مِنْ الرَّدِّ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ أَمْرَانِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَيَكُونُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ فِي أَحَدِهِمَا كَافِيًا وَيَقَعُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْآخَرِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ ، فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ .

 

374 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ . فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ . }

 

اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَفِيهِ ضَعْفٌ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَتْوَى ، بَلْ نَدَّعِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِلْفَتْوَى ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ السَّبَبِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْفَتْوَى ، وَرُبَّمَا قِيلَ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ الْحَاضِرِ فِي الْبَلَدِ ، مَعَ إمْكَانِ إحْضَارِهِ وَسَمَاعِهِ لِلدَّعْوَى عَلَيْهِ ، فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ وَجْهٌ يُبْعِدُ الِاسْتِدْلَالَ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَهَذَا يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ بِحَالِ حُضُورِهِ . نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ ، وَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنْ الْجِنْسِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ . وَمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْإِطْلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا : يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي الْجَمِيعِ . وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى تَعَذُّرِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ . وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ هِنْدًا كَانَ يُمْكِنُهَا الرَّفْعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذُ الْحَقِّ بِحُكْمِهِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِالْكِفَايَةِ ، لِقَوْلِهِ { مَا يَكْفِيكِ وَبَنِيكِ } .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهَا فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى : أَنَّ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهَا ، مِنْ حَيْثُ إنَّ صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، أَوْ تَمْلِيكَهُ لَهُ : يَحْتَاجُ إلَى وِلَايَةٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِوُجُودِ الْأَبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابُ عَنْ هَذَا التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ ، فَقَدْ يُقَالُ : إنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْأَبِ أَوْ غَيْرِهِ ، مَعَ تَكَرُّرِ الْحَاجَةِ دَائِمًا يَجْعَلُهُ كَالْمَعْدُومِ . وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُذْكَرُ فِي الِاسْتِفْتَاءِ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ ، إذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَذَى الْغَيْرِ : لَا يُوجِبُ تَعْزِيرًا .

 

375 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : أَلَا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ ، فَأَقْضِي لَهُ . فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَإِعْلَامِ النَّاسِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يَفْتَرِقُ مَعَ الْغَيْرِ فِي إطْلَاعِهِ عَلَى مَا يُطْلِعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْغُيُوبِ الْبَاطِنَةِ ، وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ ، لَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ : أَنَّ الْحَصَرَ فِي " إنَّمَا " يَكُونُ عَامًّا ، وَيَكُونُ خَاصًّا وَهَذَا مِنْ الْخَاصِّ وَهُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ . وَيَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُنَفَّذُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا مُطْلَقًا ، وَأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فِي الْبَاطِنِ . وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْحَنَفِيَّ إذَا قَضَى بِشُفْعَةِ الْجَارِ : لِلشَّافِعِ أَخْذُهَا فِي الظَّاهِرِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي حِلِّ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْحَدِيثُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ . وَاَلَّذِي يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ - أَعْنِي أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ الْحُجَجَ إذَا كَانَتْ بَاطِلَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ إذَا خَالَفَ اعْتِقَادُ الْقَاضِي اعْتِقَادَ الْمَحْكُومِ لَهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي شُفْعَةِ الْجَارِ .

 

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَتَبَ أَبِي - أَوْ كَتَبْتُ لَهُ - إلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ : أَنْ لَا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ . فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ } .

 

النَّصُّ وَارِدٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْقَضَاءِ حَالَةَ الْغَضَبِ وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مِنْ التَّشْوِيشِ الْمُوجِبِ لِاخْتِلَالِ النَّظَرِ ، وَعَدَمِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ . وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى إلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ ، كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ مُشَوِّشٌ لِلْفِكْرِ وَلَوْ قَضَى مَعَ الْغَضَبِ وَالْجُوعِ : لَنَفَذَ إذَا صَادَفَ الْحَقَّ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْغَضَبَ إنَّمَا خُصَّ لِشِدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى النَّفْسِ ، وَصُعُوبَةِ مُقَاوَمَتِهِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ بِالْحَدِيثِ كَالسَّمَاعِ مِنْ الشَّيْخِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ . وَأَمَّا فِي الرِّوَايَةِ : فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : إنْ أَدَّى الرِّوَايَةَ بِعِبَارَةٍ مُطَابِقَةٍ لِلْوَاقِعِ جَازَ كَقَوْلِهِ : كَتَبَ إلَيَّ فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا .

 

 

377 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ - ثَلَاثًا - قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ، وَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ . }

 

فِيهِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : قَدْ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَدُلُّ قَوْله تَعَالَى { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ " كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ " فَالْكَبَائِرُ وَالذُّنُوبُ عِنْدَهُ مُتَوَارِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ : أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الذُّنُوبِ . وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ : أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ : عَلَى خِلَافِهِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَ " الْكَبِيرَة " بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَنَظَرَ إلَى عِظَمِ الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَسَمَّى كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً .

الثَّانِيَةُ : يَدُلُّ عَلَى انْقِسَامِ الْكَبَائِرِ فِي عِظَمِهَا إلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ " وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ : اسْتِوَاءُ رُتَبِهَا أَيْضًا فِي نَفْسِهَا فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ : أَعْظَمُ كَبِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْكَبَائِرَ .

الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ تَعْرِيفَهَا بِتَعْدَادِهَا وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَعْدَادًا مِنْ الذُّنُوبِ ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَلْيَجْمَعْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ الْحَصْرِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ : إنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قِيلَ لَهُ " إنَّهَا سَبْعٌ " فَقَالَ " إنَّهَا إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ " . وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْحَصْرِ بِالضَّوَابِطِ فَقِيلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : إنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ لَعْنٌ ، أَوْ حَدٌّ : فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ : كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ وَكَذَا قَتْلُ الْمُؤْمِنِ ، لِاقْتِرَانِ الْوَعِيدِ بِهِ وَالْمُحَارَبَةُ ، وَالزِّنَا ، وَالسَّرِقَةُ وَالْقَذْفُ ، كَبَائِرُ ، لِاقْتِرَانِ الْحُدُودِ بِهَا ، وَاللَّعْنَةِ بِبَعْضِهَا . وَسَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقًا فَقَالَ : إذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ : فَأَعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ ، فَهِيَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَإِنْ سَاوَتْ أَدْنَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ ، أَوْ أَرْبَتْ عَلَيْهِ فَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَعَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ : شَتْمَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَوْ الرَّسُولِ ، وَالِاسْتِهَانَةَ بِالرُّسُلِ ، وَتَكْذِيبَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَتَضْمِيخَ الْكَعْبَةِ بِالْعَذِرَةِ وَإِلْقَاءَ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ دَاخِلٌ عِنْدِي فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بِالْكُفْرِ إنْ جَعَلْنَا الْمُرَادَ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ : مُطْلَقَ الْكُفْرِ ، عَلَى مَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا - مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَا تُؤْخَذُ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ . أَلَا تَرَى أَنَّ السَّابِقَ إلَى الذِّهْنِ : أَنَّ مَفْسَدَةَ الْخَمْرِ : السُّكْرُ وَتَشْوِيشُ الْعَقْلِ ؟ فَإِنْ أَخَذْنَا هَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ شُرْبُ الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ كَبِيرَةً ، لِخَلَائِهَا عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ ، لَكِنَّهَا كَبِيرَةٌ فَإِنَّهَا - وَإِنْ خَلَتْ عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ - إلَّا أَنَّهُ يَقْتَرِنُ بِهَا مَفْسَدَةُ الْإِقْدَامِ وَالتَّجَرِّي عَلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الْمُوقِعِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَبِهَذَا الِاقْتِرَانِ تَصِيرُ كَبِيرَةً . وَالثَّانِي : أَنَّا إذَا سَلَكْنَا هَذَا الْمَسْلَكَ فَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ بَعْضِ الْوَسَائِلِ إلَى بَعْضِ الْكَبَائِرِ مُسَاوِيًا لِبَعْضِ الْكَبَائِرِ ، أَوْ زَائِدًا عَلَيْهَا ، فَإِنَّ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا ، أَوْ مُسْلِمًا مَعْصُومًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ أَكْلِ مَالِ الرِّبَا ، أَوْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ فِرَارِهِ مِنْ الزَّحْفِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ دُونَ هَذِهِ ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا اللَّعْنُ ، أَوْ الْحَدُّ ، أَوْ الْوَعِيدُ - فَتُعْتَبَرُ الْمَفَاسِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَمَا سَاوَى أَقَلَّهَا ، فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ .

الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : مُطْلَقُ الْكُفْرِ ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ ، لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ ، فَذُكِرَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : خُصُوصُهُ ، إلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ : أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنْ الْإِشْرَاكِ ، وَهُوَ كُفْرُ التَّعْطِيلِ . فَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ .

الْخَامِسَةُ : عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مَعْدُودٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ مَفْسَدَتِهِ ، لِعِظَمِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ إلَّا أَنَّ ضَبْطَ الْوَاجِبِ مِنْ الطَّاعَةِ لَهُمَا ، وَالْمُحَرَّمِ مِنْ الْعُقُوقِ لَهُمَا : فِيهِ عُسْرٌ ، وَرُتَبُ الْعُقُوقِ مُخْتَلِفَةٌ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : وَلَمْ أَقِفْ فِي عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ ، وَلَا فِيمَا يَخْتَصَّانِ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ ، عَلَى ضَابِطٍ أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ . فَإِنَّ مَا يَحْرُمُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ : فَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّهِمَا ، وَمَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ : فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُمَا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ طَاعَتُهُمَا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرَانِ بِهِ ، وَلَا فِي كُلِّ مَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ حُرِّمَ عَلَى الْوَلَدِ السَّفَرُ إلَى الْجِهَادِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ، لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ تَوَقُّعِ قَتْلِهِ ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَلِشِدَّةِ تَفَجُّعِهِمَا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أُلْحِقَ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ يَخَافَانِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَقَدْ سَاوَى الْوَالِدَانِ الرَّقِيقَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَالْفُقَهَاءُ قَدْ ذَكَرُوا صُوَرًا جُزْئِيَّةً ، وَتَكَلَّمُوا فِيهَا مَنْثُورَةً ، لَا يَحْصُلُ مِنْهَا ضَابِطٌ كُلِّيٌّ فَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُسْلَكَ فِي ذَلِكَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْكَبَائِرِ ، وَهُوَ أَنْ تُقَاسَ الْمَصَالِحُ فِي طَرَفِ الثُّبُوتِ بِالْمَصَالِحِ الَّتِي وَجَبَتْ لِأَجْلِهَا ، وَالْمَفَاسِدُ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ بِالْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا .

السَّادِسَةُ : اهْتِمَامُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ شَهَادَةِ الزُّورِ ، أَوْ قَوْلِ الزُّورِ : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ؛ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَرُ ، فَمَفْسَدَتُهَا أَيْسَرُ وُقُوعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَهَا : هُوَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَلَا يَقَعُ فِيهِ مُسْلِمٌ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالطَّبْعُ صَارِفٌ عَنْهُ ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " الزُّورِ " فَإِنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ ، كَالْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا ، وَهُوَ الْإِشْرَاكُ قَطْعًا . " وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ : " الزُّورِ " عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى : الْإِطْلَاقِ : لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكِذْبَةَ الْوَاحِدَةَ وَمَا يُقَارِبُهَا لَا تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَأَسْقَطَتْ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِظَمِ بَعْضِ الْكَذِبِ فَقَالَ : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وَعِظَمُ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبُهُ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ كَبِيرَةٌ ، وَالْغِيبَةُ عِنْدِي : تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقُولِ وَالْمُغْتَابِ بِهِ ، فَالْغِيبَةُ بِالْقَذْفِ كَبِيرَةٌ ، لِإِيجَابِهَا الْحَدَّ ، وَلَا تُسَاوِيهَا الْغِيبَةُ بِقُبْحِ الْخِلْقَةِ مَثَلًا ، أَوْ قُبْحِ بَعْضِ الْهَيْئَةِ فِي اللِّبَاسِ مَثَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

378 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .

 

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ إلَّا بِالْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي رُتِّبَ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي .

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُطْلَقًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ فِي وَجْهِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ : تَصَرُّفَاتٌ بِالتَّخْصِيصَاتِ لِهَذَا الْعُمُومِ ، خَالَفَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ . مِنْهَا : اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ . وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ ادَّعَى سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقِصَاصِ : لَمْ تَجِبْ بِهِ الْيَمِينُ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا فَتَجِب الْيَمِينُ . وَمِنْهَا : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا ، لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ ، قَالَ سَحْنُونٌ مِنْهُمْ : إلَّا أَنْ يَكُونَا طَارِئَيْنِ . وَمِنْهَا : أَنَّ بَعْضَ الْأُمَنَاءِ - مِمَّنْ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - لَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ يَمِينًا . وَمِنْهَا : دَعْوَى الْمَرْأَةِ طَلَاقًا عَلَى الزَّوْجِ . وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا يَسْتَدِلُّ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ .

 

 

كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ

 

379 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ - إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ : اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ : وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } .

 

هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْعِظَامِ الَّتِي عُدَّتْ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ، فَأُدْخِلَتْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جُعِلَتْ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ . وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْوَرَعِ ، وَتَرْكِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الدِّينِ وَالشُّبُهَاتُ لَهَا مُثَارَاتٌ مِنْهَا : الِاشْتِبَاهُ فِي الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ التَّحْلِيلِ ، أَوْ تَعَارُضُ الْأَمَارَاتِ وَالْحُجَجِ وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ " إشَارَةٌ إلَى هَذَا الْمُثَارِ ، مَعَ أَنَّهُ يُحْمَلُ أَنْ يُرَادَ : لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، وَإِنْ عَلِمَ حُكْمَ أَصْلِهَا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ . وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُثَارِ الشُّبُهَاتِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ " أَصْلٌ فِي الْوَرَعِ وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِ شُيُوخِ شُيُوخِنَا بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَصَنَّفُوا فِيهَا تَصَانِيفَ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ سَلَكَ طَرِيقًا فِي الْوَرَعِ فَخَالَفَهُ بَعْضُ أَهْلِ عَصْرِهِ وَقَالَ : إنْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ مُبَاحًا - وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ - فَلَا وَرَعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَعَ تَرْجِيحٌ لِجَانِبِ التَّرْكِ وَالتَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ التَّسَاوِي مُحَالٌ ، وَجَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ تَصْنِيفًا . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عِنْدِي مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَ طَرَفَاهُ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْمُبَاحِ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا الَّذِي رَدَّدَ فِيهِ الْقَوْلَ . وَقَالَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَهُوَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ يَمْنَعُهُ إذَا حَمَلْنَا الْمُبَاحَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ مُنْطَلِقًا عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ ، فَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى التَّسَاوِي ، إذْ الدَّالُّ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِعَيْنِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ ، رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ وَلَا يَتَنَاقَضُ حِينَئِذٍ الْحُكْمَانِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ : فَلَا يَخْلُو هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ نَظَرٍ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ هَذَا الْمُشْتَبَهِ مُوجِبًا لِضَرَرٍ مَا فِي الْآخِرَةِ ، وَإِلَّا فَيَعْسُرُ تَرْجِيحُ تَرْكِهِ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَرْكَهُ مُحَصِّلٌ لِثَوَابٍ أَوْ زِيَادَةِ دَرَجَاتٍ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يُفْهَمُ مِنْ أَفْعَالِ الْوَرِعِينَ فَإِنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ تَحَرُّجًا وَتَخَوُّفًا ، وَبِهِ يُشْعِرُ لَفْظُ الْحَدِيثِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ عَدَمَ التَّحَرُّزِ مِمَّا يُشْتَبَهُ : أَثَّرَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةً فِي نَفْسِهِ ، تُوقِعُهُ فِي الْحَرَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إذَا تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ : وَقَعَ فِي الْحَرَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَمُنِعَ مِنْ تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ لِذَلِكَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ " وَيُوشِكُ " بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنَى : يَقْرُبُ " وَالْحِمَى " الْمَحْمِيُّ ، أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ . وَتَنْطَلِقُ الْمَحَارِمُ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ قَصْدًا ، وَعَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ الْتِزَامًا ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَشْهَرُ ، وَقَدْ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَمْرَ الْقَلْبِ لِصُدُورِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَنْهُ ، وَعَمَّا يَقُومُ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعُلُومِ ، وَرَتَّبَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْمُضْغَةِ ، وَالْمُرَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاحَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ أَوْ الِاعْتِقَادِ بِالْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ .

 

380 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا ، وَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا . فَقَبِلَهُ } .

 

يُقَالُ " لَغَبُوا " إذَا أَعْيَوْا " وَأَنْفَجْتُ الْأَرْنَبَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ ، فَنَفَجَ أَيْ : أَثَرْتُهُ فَثَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ : أَثَرْنَاهُ ، وَذَعَرْنَاهُ فَعَدَا . " وَمَرُّ الظَّهْرَانِ " مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْأَرْنَبِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهَا إذَا ذُبِحَتْ بِالْأَكْلِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَقَبُولِهَا .

 

381 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ { نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ . } 382 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ . } 383 - وَلِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ قَالَ { أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ } .

 

يَسْتَدِلُّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَنْ يَرَى جَوَازَ أَكْلِ الْخَيْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ، أَوْ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ - أَعْنِي بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ - بِأَنْ قَالَ : فِعْلُ الصَّحَابِيِّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ شَكٌّ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ " ثُمَّ إنْ سَلِمَ عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ . وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ : فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِجَابِرٍ . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا " وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ " فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهَا التَّعَلُّقُ . وَأَمَّا الثَّانِي " وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِحَدِيثِ التَّحْرِيمِ - فَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِلَفْظِ النَّهْيِ ، لَا بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ كَلَامٌ يُنْقَضُ بِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَإِنَّمَا أَرَادَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّ الْآيَةَ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ بِذِكْرِ النِّعَمِ ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِامْتِنَانَ بِنِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَتَرَكَ الِامْتِنَانَ بِنِعْمَةِ الْأَكْلِ ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَنْعَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ ثَابِتًا لَمَا تَرَكَ الِامْتِنَانَ بِهِ ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْأَكْلِ فِي جِنْسِهَا فَوْقَ نِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبَقَاءُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، وَلَا يَحْسُنُ تَرْكُ الِامْتِنَانِ بِأَعْلَى النِّعْمَتَيْنِ وَذِكْرُ الِامْتِنَانِ بِأَدْنَاهُمَا ، فَدَلَّ تَرْكُ الِامْتِنَانِ بِالْأَكْلِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَتْ نِعْمَةُ الْأَكْلِ فِي نَظَائِرِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا حَسَنًا - إلَّا أَنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ حَيْثُ قُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ . الثَّانِي : أَنْ يُطَالَبَ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى عَيْنِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّمَا يُشْعِرُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ : أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَتْرُوكًا عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ : عَلَى جَوَازِ النَّحْرِ لِلْخَيْلِ . وَقَوْلُهُ " وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى آخِرِهِ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، لِظَاهِرِ النَّهْيِ ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِالْكَرَاهَةِ الْمُغَلَّظَةِ ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ .

 

384 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ : وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ : نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ ، وَرُبَّمَا قَالَ : وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا } .

 

هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ أَدَلُّ مِنْ لَفْظِ النَّهْيِ ، وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ : مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ لِلُحُومِهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ . وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ عِلَّتَانِ أُخْرَيَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهَا أُخِذَتْ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مِنْ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ وَالسَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ : أَنَّهُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ ، فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا . وَ " كَفَأْتُ الْقِدْرَ " قَلَبْتُهُ ، فَفَرَّغْتُ مَا فِيهِ .

 

385 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ . } 386 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ : أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ، فَقُلْتُ : أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي ، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ ، قَالَ خَالِدٌ : فَاجْتَرَرْتُهُ ، فَأَكَلْتُهُ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ } .

 

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " الْمَحْنُوذُ " الْمَشْوِيُّ بِالرَّضِيفِ ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الضَّبِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ " أَحَرَامٌ هُوَ ؟ قَالَ : لَا " ، وَلِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَكْلِهِ ، مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ أَحَدُ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ - أَعْنِي الْفِعْلَ ، وَالْقَوْلَ ، وَالتَّقْرِيرَ مَعَ الْعِلْمِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعْلَامِ بِمَا يُشَكُّ فِي أَمْرِهِ ، لِيَتَّضِحَ الْحَالُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ ، وَأَنَّهُ ضَبٌّ فَقُصِدَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ ، لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إبَاحَتِهِ ، إنْ أَكَلَهُ أَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَيْسَ مُطْلَقُ النُّفْرَةِ وَعَدَمُ الِاسْتِطَابَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ ، بَلْ أَمْرٌ مَخْصُوصٌ مِنْ ذَلِكَ ، إنْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ ، أَعْنِي الِاسْتِخْبَاثَ ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ .

 

387 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ . }

 

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهَا ذُكِّيَتْ بِذَكَاةِ مِثْلِهَا ، كَمَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ ، مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يَقْتَضِي مَوْتَهَا ، كَقَطْعِ رُءُوسِهَا مَثَلًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ ، وَلَا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَإِنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ وَلَا بَيَانَ لِكَيْفِيَّةِ أَكْلِهِمْ .

 

388 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : { عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ . فَدَعَا بِمَائِدَةٍ ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ ، أَحْمَرُ ، شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي فَقَالَ : هَلُمَّ فَتَلَكَّأَ فَقَالَ : هَلُمَّ ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ . }

 

" زَهْدَمُ " بِفَتْحِ الزَّايِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا وَ " مُضَرِّبٌ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَ " الْجَرْمِيُّ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الدَّجَاجِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ ، فَإِنَّهُ قَدْ بُيِّنَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى : أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَلَّلَ تَأَخُّرَهُ بِأَنَّهُ رَآهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَيَكُونُ أَكْلُ الدَّجَاجِ الَّذِي يَأْكُلُ الْقَذَرَ مَكْرُوهًا ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَكْلِهِ لِلنَّجَاسَةِ ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ ، وَقَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا تَغَيَّرَ لَحْمُهَا بِأَكْلِ النَّجَاسَةِ لَمْ تُؤْكَلْ . " وَهَلُمَّ " كَلِمَةُ اسْتِدْعَاءٍ ، وَالْأَكْثَرُ فِيهَا : أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ . " وَتَلَكَّأَ " أَيْ تَرَدَّدَ وَتَوَقَّفَ .

 

389 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا ، أَوْ يُلْعِقَهَا } .

 

" يَلْعَقَهَا " الْأَوَّلُ : بِفَتْحِ الْيَاءِ مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ . و " يُلْعِقَهَا " الثَّانِي : بِضَمِّهَا ، مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولَيْنِ . وَقَدْ جَاءَتْ عِلَّةُ هَذَا مُبَيَّنَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ } وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّ مَسْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ زِيَادَةُ تَلْوِيثٍ لِمَا مَسَحَ بِهِ ، مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالرِّيقِ وَلَكِنْ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِالتَّعْلِيلِ لَمْ نَعْدِلْ عَنْهُ .

 

بَابُ الصَّيْدِ

 

390 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ وَفِي أَرْضِ صَيْدٍ ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ، وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ . فَمَا يَصْلُحُ لِي ؟ قَالَ : أَمَّا مَا ذَكَرْتَ - يَعْنِي مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ - : فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ، وَكُلُوا فِيهَا . وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ } .

 

" أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ " بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ : مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي خُشَيْنٍ ، بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ وَهُوَ وَائِلُ بْنُ نَمِرِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ تَغْلِبَ - بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إلْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَ " خُشَيْنٌ " تَصْغِيرُ أَخْشَنَ مُرَخَّمًا ، قِيلَ : اسْمُهُ جُرْثُومُ بْنُ نَاشِبٍ ، أَعْنِي : اسْمَ أَبِي ثَعْلَبَةَ . وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغَسْلِ ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ وَذَكَرُوا الْخِلَافَ فِيمَنْ يَتَدَيَّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ الْخَمْرِ ، أَوْ يُكْثِرُونَ مُلَابَسَتَهَا ، فَالنَّصَارَى : لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَتَدَيَّنُ بِمُلَابَسَتِهَا كَالرُّهْبَانِ فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِمْ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ . وَالْحَدِيثُ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى تَرْجِيحِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الْغَالِبِ رَاجِحٌ عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْأَصْلِ .

الثَّانِيَةُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ وَالْكَلْبِ مَعًا . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّعْلِيمِ الْمُشْتَرَطِ ، وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَجَعَلُوا الْمُعَلَّمَ : مَا يَنْزَجِرُ بِالِانْزِجَارِ ، وَيَنْبَعِثُ بِالْإِشْلَاءِ . وَلَهُمْ نَظَرٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ ، وَالْقَاعِدَةُ : أَنَّ مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ حُكْمًا ، وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ حَدًّا : يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ .

الثَّالِثَةُ : فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَشْتَرِطُ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْإِرْسَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَّفَ الْإِذْنَ فِي الْأَكْلِ عَلَى التَّسْمِيَةِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْوَصْفِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ . وَفِيهِ هَهُنَا زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مَفْهُومًا مُجَرَّدًا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ : تَحْرِيمُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَمَا أَخْرَجَ الْإِذْنَ مِنْهَا إلَّا مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ مُسَمًّى عَلَيْهِ ، فَغَيْرُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ : يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ ، دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لِلْمَيْتَةِ .

الرَّابِعَةُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصِيدَ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الذَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فِي إدْرَاكِ الذَّكَاةِ ، فَإِذَا قَتَلَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِظُفْرِهِ أَوْ نَابِهِ حَلَّ ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ ، فَفِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ : جَوَازُ أَكْلِهِ ، وَفِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ أَعْنِي أَخْذَ الْحُكْمِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ .

الْخَامِسَةُ : شَرَطَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَيْرِ الْمُعَلَّمِ إذَا صَادَ : أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاةُ الصَّيْدِ وَهَذَا الْإِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَذْبَحْ فَهُوَ مَيْتَةٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَمَّا يَذْبَحُ بِهِ : لَمْ يُعْذَرْ فِي ذَلِكَ . الثَّانِي : الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ ، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ حُشْوَتَهُ ، أَوْ أَصَابَ نَابُهُ مَقْتَلًا ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالذَّكَاةِ حِينَئِذٍ ، هَذَا عَلَى مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ .

 

391 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ قُلْتُ : وَإِنْ قَتَلْنَ ؟ قَالَ : وَإِنْ قَتَلْنَ ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا . قُلْتُ : فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ ، فَأُصِيبُ ؟ فَقَالَ : إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ ، فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ } . وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ نَحْوُهُ ، وَفِيهِ { : إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ . وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ . } وَفِيهِ { إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ . } وَفِيهِ أَيْضًا { إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ . } وَفِيهِ { وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ . } وَفِي رِوَايَةٍ { الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي : الْمَاءُ قَتَلَهُ ، أَوْ سَهْمُكَ ؟ } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَفْهُومُ شَرْطٍ وَالْأَوَّلَ مَفْهُومُ وَصْفٍ ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ : أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْوَصْفِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَكْلِ مَصِيدِ الْكَلْبِ إذَا قُتِلَ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ هَذَا الْحُكْمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِثِقَلِهِ ، بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي اسْتَضْعَفْنَاهَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَارَكَ الْكَلْبَ كَلْبٌ آخَرُ : لَمْ يُؤْكَلْ وَقَدْ وَرَدَ مُعَلَّلًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ { فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ } .

وَ " الْمِعْرَاضُ " بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ : عَصًا رَأْسُهَا مُحَدَّدٌ ، فَإِنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّهْمِ ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ وَقَدْ عُلِّلَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ وَقِيذٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّهْمِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَجَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُثْقَلَاتِ . وَ " الشَّعْبِيُّ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ اسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ مِنْ شَعْبِ هَمْدَانَ .

وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : لَا يُؤْكَلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَّةِ فَإِنَّ أَكْلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُؤْكَلُ لِحَدِيثٍ آخَرَ وَرَدَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَحُمِلَ هَذَا النَّهْيُ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ عَلَى التَّنْزِيهِ ، وَرُبَّمَا عُلِّلَ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوْلَى وَأَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ كَانَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَأَخَذَ لَهُ بِالرُّخْصَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ عَدَمَ الْأَكْلِ بِخَوْفِ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ لَا تُنَاسِبُ إلَّا التَّحْرِيمَ ، أَعْنِي تَخَوُّفَ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ عُلِّلَ بِخَوْفِ الْإِمْسَاكِ ، لَا بِحَقِيقَةِ الْإِمْسَاكِ . فَيُجَابُ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَيْتَةِ فَإِذَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ الْمُبِيحِ : رَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الصَّيْدَ مَاتَ بِالرَّمْيِ ، أَوْ لِوُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ يَجُوزُ أَنْ يُحَالَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ - لَمْ يَحِلَّ ، كَالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ مَثَلًا . بَلْ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا إذَا غَابَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا ، وَفِيهِ أَثَرُ سَهْمِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ سَبَبٍ آخَرَ ، فَمَنْ حَرَّمَهُ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ تَجْوِيزِ سَبَبٍ آخَرَ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ الْمَنْعِ إذَا وَجَدَهُ غَرِيقًا ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِ الصَّيْدِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ . نَعَمْ ، يُسَامَحُ فِي خَبْطِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ طَائِرًا ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ .

 

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا - إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ ، أَوْ مَاشِيَةٍ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ إلَّا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ - أَعْنِي : الصَّيْدَ ، وَالْمَاشِيَةَ ، وَالزَّرْعَ - وَذَلِكَ لِمَا فِي اقْتِنَائِهَا مِنْ مَفَاسِدِ التَّرْوِيعِ ، وَالْعَقْرِ لِلْمَارَّةِ ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِمُجَانَبَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَحِلِّهَا ، وَمُجَانَبَةُ الْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ شَدِيدٌ ، لِمَا فِي مُخَالَطَتِهِمْ مِنْ الْإِلْهَامِ إلَى الْخَيْرِ ، وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِنَاءِ لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا غَرَضُ حِرَاسَةِ الدُّرُوبِ أَمْ لَا ؟ وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ اتِّخَاذِهَا لِلصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى طَهَارَتِهَا فَإِنَّ مُلَابَسَتَهَا - مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ مَسِّ شَيْءٍ مِنْهَا - شَاقٌّ ، وَالْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إذْنٌ فِي مُكَمِّلَاتٍ مَقْصُودَةٍ ، كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لَوَازِمِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْهُ . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ؛ أَرَادَ ذِكْرَ سَبَبِ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْحُكْمِ ، حَتَّى عُرِفَ مِنْهُ مَا جَهِلَ غَيْرُهُ ، وَالْمُحْتَاجُ إلَى الشَّيْءِ أَكْثَرُ اهْتِمَامًا بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِهِ .

 

393 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلًا وَغَنَمًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ : إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قُلْتُ : يَا رَسُولُ اللَّهِ ، إنَّا لَاقُو الْعَدُوَّ غَدًا ، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى . أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ ؟ قَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلُوهُ ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ ، أَمَّا السِّنُّ : فَعَظْمٌ ، وَأَمَّا الظُّفْرُ : فَمُدَى الْحَبَشَةِ } .

 

خَدِيجٌ " وَالِدُ رَافِعٍ : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ آخِرِ الْحُرُوفِ جِيمٌ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا تَوَحَّشَ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ : يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَحْشِ ، كَمَا أَنَّ مَا تَأَنَّسَ مِنْ الْوَحْشِ : يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَأْنَسِ . وَهَذَا الْقَسْمُ ، وَمُقَابَلَةُ كُلِّ عَشْرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ : قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ بِالْقِيمَةِ وَلَيْسَ مِنْ طَرِيقِ التَّعْدِيلِ الشَّرْعِيِّ ، كَمَا جَاءَ فِي الْبَدَنَةِ " أَنَّهَا عَنْ سَبْعَةٍ " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَ " نَدَّ " بِمَعْنَى شَرَدَ ، وَ " الْأَوَابِدُ " جَمْعُ آبِدَةٍ ، وَقَدْ تَأَبَّدَتْ : أَيْ نَفَرَتْ وَتَوَحَّشَتْ مِنْ الْإِنْسِ يُقَالُ : أَبَدَتْ - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُخَفَّفَةِ - تَأْبِدُ - بِكَسْرِهَا وَضَمِّهَا - أَيْضًا ، أُبُودًا وَجَاءَ فُلَانٌ بِآبِدَةٍ ، أَيْ كَلِمَةٍ غَرِيبَةٍ ، أَوْ خَصْلَةٍ لِلنُّفُوسِ نَفْرَةٌ عَنْهَا وَالْكَلِمَةُ لَازِمَةٌ ، إلَّا أَنْ تُجْعَلَ فَاعِلَةً ، بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ . وَمَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّ مِنْ الْبَهَائِمِ مَا فِيهِ نِفَارٌ كَنِفَارِ الْوَحْشِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ ، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ حَدِيدًا ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُحَدَّدًا .

وَقَوْلُهُ " وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ " دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَّصِلَيْنِ وَقَدْ ذُكِرَتْ الْعِلَّةَ فِيهِمَا فِي الْحَدِيثِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَمَّا السِّنُّ : فَعَظْمٌ " عَلَّلَ مَنْعَ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ بِأَنَّهُ عَظْمٌ وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ . .

 

بَابُ الْأَضَاحِيّ

 

394 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا } .

 

" الْأَمْلَحُ " الْأَغْبَرُ ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ . لَا خِلَافَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُقَدِّمُونَ فِيهَا الْغَنَمَ عَلَى الْإِبِلِ ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا فَإِنَّ الْإِبِلَ فِيهَا مُقَدَّمَةٌ ، وَالشَّافِعِيُّ يُقَدِّمُ الْإِبِلَ فِيهِمَا . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْمَالِكِيَّةُ بِاخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضَاحِيّ لِلْغَنَمِ ، وَبِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي فِدَاءِ الذَّبِيحِ . وَ " الْأَمْلَحُ " الْأَبْيَضُ وَالْمُلْحَةُ الْبَيَاضُ . وَقَدْ اخْتَارَ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّوْنَ لِلْأُضْحِيَّةِ . وَفِيهِ تَعْدَادُ الْأُضْحِيَّةِ . وَكَذَلِكَ الْقَرْنُ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ فِيهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوَلِّي الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُضَحِّي بِنَفْسِهِ ، إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ .

 

كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

 

395 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ عُمَرَ قَالَ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا بَعْدُ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ الْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ . وَالْخَمْرُ : مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ ، وَالْكَلَالَةُ ، وَأَبْوَابٌ مِنْ الرِّبَا } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ " الْخَمْرِ " لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا اُعْتُصِرَ مِنْ الْعِنَبِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ ، خِلَافًا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ . وَقَوْلُهُ " وَهِيَ مِنْ كَذَا وَكَذَا " جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ . وَقَوْلُهُ " خَامَرَ الْعَقْلَ " مَجَازُ تَشْبِيهٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْنَى بِالْمَحْسُوسِ . وَ " الْجَدُّ " يُرِيدُ بِهِ مِيرَاثَهُ ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ ، وَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ . وَ " الْكَلَالَةُ " مَنْ لَا أَبَ لَهُ وَلَا وَلَدَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .

 

396 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْبِتْعِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } .

 

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْبِتْعُ : نَبِيذُ الْعَسَلِ . " الْبِتْعُ " بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ ، وَيُقَالُ : بِفَتْحِهَا أَيْضًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ . نَعَمْ أَهْلُ الْحِجَازِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرَابِ الْجِنْسُ ، لَا الْعَيْنُ ، وَالْكُوفِيُّونَ يَحْمِلُونَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ : يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " أَسْكَرَ " أَنَّهُ مُسْكِرٌ بِالْقُوَّةِ ، أَيْ فِيهِ صَلَاحِيَّةُ ذَلِكَ .

 

397 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَلَغَ عُمَرَ : أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ ، فَحَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا ؟ } .

 

حَمَلُوهَا " أَذَابُوهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ مَا حُرِّمَتْ عَيْنُهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الْقِيَاسَ فِي الْأُمُورِ ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاسَ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْخَمْرِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَى بَيْعِ الشُّحُومِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ قِيَاسٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُ أَمْرِهِ بِأَنْ قَالَ عُمَرُ فِيمَنْ خَالَفَهُ " قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا " وَفُلَانٌ الَّذِي كُنِّيَ عَنْهُ : هُوَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ .

 

كِتَابُ اللِّبَاسِ

 

398 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .

 

الْحَدِيثُ : يَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ الْحَرِيرِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : عَلَى الْخَالِصِ مِنْهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نَهْيُ تَحْرِيمٍ . وَأَمَّا الْمُمْتَزِجُ بِغَيْرِهِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْغَلَبَةَ فِي الْوَزْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الظُّهُورَ فِي الرُّؤْيَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَتَّابِيِّ مِنْ هَذَا . وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّحْرِيمِ : لَعَلَّهُ يَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ وَيَقُولُ : إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَمَّى الْحَرِيرِ ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ حَلَّ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ .

 

399 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ } .

 

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَعَرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ ، بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ } .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى لُبْسِ الْأَحْمَرِ . وَالْحُلَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ : ثَوْبَانِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْفِيرِ الشَّعَرِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخِلْقِيَّةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي هَيْئَتِهَا وَمَا كَانَ ضَرُورِيًّا مِنْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَصْلِهِ اسْتِحْبَابٌ ، بَلْ بِوَصْفِهِ .

 

401 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرْنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ . وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ - أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ - بِالذَّهَبِ ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالْإِسْتَبْرَقِ ، وَالدِّيبَاجِ } .

 

" عِيَادَةُ الْمَرِيضِ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ : مُسْتَحَبَّةٌ بِالْإِطْلَاقِ وَقَدْ تَجِبُ ، حَيْثُ يَضْطَرُّ الْمَرِيضُ إلَى مَنْ يَتَعَاهَدُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَدْ ضَاعَ ، وَأَوْجَبَهَا الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَيْدِ ، لِظَاهِرِ الْأَمْرِ .

وَ " اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : اتِّبَاعُهَا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَإِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ : فَذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالِاتِّبَاعِ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْغَالِبِ : أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَيُدْفَنَ فِي مَحِلِّ مَوْتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاتِّبَاعِ : الرَّوَاحُ إلَى مَحَلِّ الدَّفْنِ لِمُوَارَاتِهِ . وَالْمُوَارَاةُ أَيْضًا : مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَسْقُطُ إلَّا بِمَنْ تَتَأَدَّى بِهِ .

وَ " تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ " عِنْدَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ : مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ ، بِخِلَافِ " رَدِّ السَّلَامِ " فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْكِفَايَاتِ .

وَقَوْلُهُ " إبْرَارُ الْقَسَمِ ، أَوْ الْمُقْسِمِ " فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ مَضْمُومَ الْمِيمِ مَكْسُورَ السِّينِ ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ وَإِبْرَارُهُ : هُوَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ وَعَدَمُ التَّحْنِيثِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ - كَمَا إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ آكَدُ مِمَّا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْلِيفِ كَقَوْلِهِ : بِاَللَّهِ افْعَلْ كَذَا . ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَالِفِ وَفِيهِ تَغْرِيمٌ لِلْمَالِ وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ .

وَ " نَصْرُ الْمَظْلُومِ " مِنْ الْفُرُوضِ اللَّازِمَةِ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِظُلْمِهِ ، وَقَدَرَ عَلَى نَصْرِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِ .

وَأَمَّا " إجَابَةُ الدَّاعِي " فَهِيَ عَامَّةٌ وَالِاسْتِحْبَابُ شَامِلٌ لِلْعُمُومِ ، مَا لَمْ يَقُمْ مَانِعٌ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ : هَلْ تَجِبُ أَمْ لَا ؟ وَحَصَلَ أَيْضًا فِي نَظَرِ بَعْضِهِمْ تَوَسُّعٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُرَخَّصَةِ فِي تَرْكِ إجَابَةِ الدَّاعِي . وَجُعِلَ بَعْضُهَا مُخَصَّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ ، بِقَوْلِهِ " لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْفَضْلِ التَّسَرُّعُ إلَى إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ " ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَجُعِلَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّبَذُّلِ بِالْإِجَابَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْفَضْلِ مُخَصَّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ .

وَ " إفْشَاءُ السَّلَامِ " إظْهَارُهُ وَالْإِعْلَانُ بِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْمَوَدَّةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } .

وَلْيُتَنَبَّهْ ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا لَفْظُ الْأَمْرِ ، وَإِيجَابُ بَعْضِهَا : كُنَّا قَدْ اسْتَعْمَلْنَا اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا إذَا جَعَلْنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَحَيَّلَ فِي هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، بِأَنْ يُقَالَ : نَخْتَارُ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ، وَهُوَ مُطْلَقُ الطَّلَبِ فَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ - الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ ، أَوْ النَّدْبُ - فَتَكُونُ اللَّفْظَةُ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ . وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الرِّجَالِ وَدَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ . وَهُوَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ضَعِيفٌ : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ . وَالْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ لَمْ يَقْصُرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الشُّرْبِ وَعَدُّوهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ ، لِعُمُومِ الْمَعْنَى فِيهِ .

" وَالْمَيَاثِرُ " جَمْعُ مِيثَرَةٍ - بِكَسْرِ الْمِيم - وَأَصْلُ اللَّفْظَةِ : مِنْ الْوَاوِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوِثَارِ فَالْأَصْلُ : مِوْثَرَةٌ : قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَهَذَا اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، مُفَسَّرٌ فِي غَيْرِهَا . وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مَيَاثِرُ الْأُرْجُوَانِ " وَ " الْقَسِّيُّ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ - ثِيَابُ حَرِيرٍ تُنْسَبُ إلَى الْقَسِّ وَقِيلَ : إنَّهَا بَلْدَةٌ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ .

وَ " الْإِسْتَبْرَقُ " مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ . وَذَكَرَ الدِّيبَاجَ بَعْدَهُ : إمَّا مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ ، لِيُسْتَفَادَ بِذِكْرِ الْخَاصِّ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ ، وَمِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ : زِيَادَةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ ، أَوْ يَكُونُ ذِكْرُ " الدِّيبَاجِ " مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْعَامِّ عَنْ الْخَاصِّ وَيُرَادُ بِهِ : مَا رَقَّ مِنْ الدِّيبَاجِ لِيُقَابِلَ بِمَا غَلُظَ وَهُوَ " الْإِسْتَبْرَقُ " وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " الْإِسْتَبْرَقَ " لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ انْتَقَلَتْ إلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ الِانْتِقَالُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّغْيِيرِ ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ عِنْدَ التَّعْرِيبِ .

 

402 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ : إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ ، فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ } ، وَفِي لَفْظٍ " جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى " .

 

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ لِبَاسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ ، وَأَنَّ لُبْسَهُ كَانَ أَوَّلًا ، وَتَجَنُّبَهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ " اللُّبْسِ " عَلَى التَّخَتُّمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ النَّاسَ نَبَذُوا خَوَاتِيمَهُمْ ، لَمَّا رَأَوْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَذَ خَاتَمَهُ ، وَهَذَا عِنْدِي لَا يَقْوَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي تُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا التَّأَسِّي عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ ، لَوْلَا التَّأَسِّي لِقِيَامِ الْمَانِعِ مِنْهُ فَهَذَا يُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فِي مَحَلِّهِ . وَالثَّانِي : مَا لَا يُمْنَعُ فِعْلُهُ ، لَوْلَا التَّأَسِّي ، كَمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ : أَنْ يَكُونَ لُبْسَهُ حَرَامًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْأُمَّةِ وَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَطْرَحَهُ مَنْ أُبِيحَ لَهُ لُبْسُهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى التَّأَسِّي فِيمَا الْأَصْلُ مَنْعُهُ لَوْلَا التَّأَسِّي : فَلَمْ يَفْعَلْ جَيِّدًا لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ الْفَرْقِ الْوَاقِعِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخَتُّمِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ هَذَا فِعْلٌ مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْهُ : جَوَازُ اللُّبْسِ ، بِخُصُوصِ كَوْنِهِ ذَهَبًا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخُ الْوَصْفِ ، وَهُوَ التَّخَتُّمُ فِي الْيُمْنَى بِخَاتَمٍ غَيْرِ الذَّهَبِ .

 

الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا ، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصْبُعَيْهِ : السَّبَّابَةَ ، وَالْوُسْطَى } . 404 - ، وَلِمُسْلِمٍ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثٍ ، أَوْ أَرْبَعٍ } .

 

هَذَا الْحَدِيثُ : يَدُلُّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ مَنْعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ فِي هَذَا ، وَاعْتَبَرَ غَلَبَةَ الْوَزْنِ ، أَوْ الظُّهُورَ ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الِاعْتِذَارِ عَنْهُ : إمَّا بِتَأْوِيلٍ ، أَوْ بِتَقْدِيمِ مُعَارِضٍ .

 

 

------------- أنتهى ------------

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟

الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال  المستقبل (4) الباب الرابع كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟ الباب الخامس قيم التقدم   في ا...